الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اختياريًا، فالإيمان أيضًا فعلٌ اختياري، ووجه الإشارة أنه قصرَ الإيمانَ على العمل، أي أن الإيمان مقصورٌ على كونه عملًا لا يتجاوزَ إلى صفة أخرى، من كونه علمًا أو غيره، ولا شك في أنه عملُ القلب، وأما من فسره بالمعرفة، فأراد بها ما تستوجبُ العمل، ولا ما تجامعُ الجحود، كما مرّ ولو كان غرضُ المصنف رحمه الله تعالى ما فَهِمُوه لقال: إن الإيمانَ عملٌ بدون القصر، لأن القصرَ إما قصر قلب أو إفراد ولا يصح واحدٌ منهما؛ لأن المعنى على الأول: أن الإيمانَ عملٌ ليس بقول، وعلى الثاني: أنه عملٌ وليس بمجموع القول والعمل، وكلاهما خلافُ المراد. وأما قصر التعيين فلا يحتملُه المقام. ومنه ظهرت المناسبة بين الآيات، والحديث، والترجمة، فإنها أطلقت العمل على الإيمان، بمعنى أن الإيمانَ من أكبر الأعمال، لا أن قوله تعالى:{بِمَا تَعْمَلُونَ} منحصرٌ في الإيمان، وكذا سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأعمال، وأجاب بالإيمان، فاتَّضَحَ أن الإيمانَ عملٌ.
19 - باب إِذَا لَمْ يَكُنِ الإِسْلَامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَكَانَ عَلَى الاِسْتِسْلَامِ أَوِ الْخَوْفِ مِنَ الْقَتْلِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] فَإِذَا كَانَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85].
قالوا: إن هذا الباب كأنه دفع دَخَلٌ مُقدَّر، وهو أنك ادّعيت أن الإسلام والإيمان واحدٌ، مع أن الآيات والأحاديث، تدل على تغايرهما، فأجاب أَن الإسلام على نحوين: الإسلام حقيقة أي شرعًا، وهو المعتبرُ، وهو عينُ الإيمان. والثاني: الإسلام لغةً وهو غيرَ معتبر في الشرع، وهذا الذي أريد في قوله تعالى:{وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا} لأن الآية عنده في حقِ المنافقين كما صرح به في التفسير، وحينئذٍ لم تكن عندهم حقيقة الإسلام، وإنما جيء في الآية بلفظ الإسلام على معنى الاستسلام، وليس على حقيقتهِ، فدعوى الاتحاد إنما هو في الإيمان والإسلام المعتبر، أما الإسلامُ غير المعتبر، فهو غير الإيمان قطعًا، وفي عقيدة السفاريني: أن الإسلامَ من خوف القتل لا يُعتبر عند البخاري، ولعله أخذه من هذه الترجمة.
قلت: وإن كان يتضح منه الدَّخْلُ ودفعه غاية وضوح، فإنه إذا لم يعتبر إسلامَ الخائفِ من القتل، كيف يحكمُ عليه بأن إسلامَه عينُ الإيمان، فلا جَرَمَ يكون مغايرًا للإيمان، أما الإسلام الذي هو عينُ الإيمان، فهو ما يكون من طوع ورغبة قلب، بدون خوف، ولكنه كلام باطلٌ، لأنا نجدُ أقوامًا أسلموا من خوف القتلِ ثم اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم إسلامَهم، نحو إسلام قوم لم يُحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فقالوا: صبأنا، صبأنا فقتلهم خالد ولم يعتبر إسلامَهم، ولما بلغ خبرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه وقال:«اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» ، فهذا صريح في أنه اعتبر إسلامهم، وعلى هذا فنِسبةُ هذا الكلام الباطل إلى المصنف رحمه الله تعالى لا يستقيمُ بحال.
وعندي: غرضُه من هذه الترجمة الفرقُ بين الإسلام المعتبر، وغير المعتبر، لا دفع
الدَّخلَ، وحاصله: أن الإسلام قد يكون حكاية، وإسميًا، ورسميًا، وانتحالًا. بدون استشعار القلب، وهو غير معتبر وغير مُنجي، واستدل عليه بقوله تعالى:{قَالَتِ الاْعْرَابُ ءامَنَّا}
…
إلخ أي هم يدّعون أالإسلام رَسَخَ في بواطنهم وليس كذلك، وإنما عندهم اسم الإسلام، والحكاية، بدون المحكي عنه، وهذا غير معتبر وقد يكونُ الإسلام عن جذر قلب وصدق نية لا حكاية فقط، فهو المرضي عند الله تعالى. وهو المنجي حقيقة، كما قال:{إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَمُ} فجعل الإسلامَ دينًا مرضيًا، وعلى هذا قوله: على الحقيقة ليس مقابِلًا للمجاز، كما فهموه، بل معناه في نفس الأمر. وإذا لم يكن الإسلامُ على الحقيقة بذلك المعنى، يكون حكائيًا واسميًا لا حقيقة له في نفس الأمر.
(أو كان على الاستسلام) من السلم أي الصلح، فمعناه الإسلام صلحًا، يعني على طريق المصالحة مجبورًا، وادِّعاءًا فقط دون الواقع، والاستفعالُ فيه بمعنى الإتيان بشيء بدون سماحة نفس، بل عن كُرْه، وسَخَطٍ في الباطن، وهو أيضًا من خواصِّ هذا الباب، لأني أجدُ فيه هذا المعنى في مواضع، وإن لم يذكره علماء التصريف، كما في قوله تعالى:{إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالاْحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَبِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآء} [المائدة: 44] أي أنهم لم يحملوا كتاب الله ولم يحفظوه برغبةٍ، وطواعيةِ نفس، ولكنه حمل عليهم حفظه على كره، ولهذا المعنى جيء بالاستحفاظ ههنا، كاستأسر أي عدُّ نفسه أسيرًا مجبورًا. يقال: استأسر الرجل إذا أُخِذ في جريرةِ فيسلم إليه نفسه مجبورًا، وكما في قولهم:
إن البغاث بأرضنا يستنسر
مع أنه ليس بنسر، فاستسلم، معناه: أسلم، وليس بمسلم، وقد علمت أن المصنف لم يتعرض إلى دفع السؤال الناشىء من الآية، فإن التقرير المذكور لا يدفع السؤال المذكور، فإن اللإسلام واقعيًا كان أو حكائيًا إلا أن القرآن أباح لهم أن يقولوا: أسلمنا، وإن نفى عنهم اسم الإيمان، فالسؤال باق، ولكنه تعرض إلى المعتبر من الإسلام وغير المعتبر منه.
ولم يدخل في مسألة اتحاد الإيمان والإسلام في تلك الترجمة وإنما تعرض إليها في ترجمة تأتي، وإنما يتبادر دخوله في تلك المسألة من جهة الآية، فإنها تفرق بين الإيمان، والإسلام، والمصنف قائل بالاتحاد، فخيِّلَ أنه توجه فيها إلى جوابه، والظاهر أنه أراد هُهنا بيانَ الفرق بين المعتبر من الإسلام، وغيره فقط، وإنما يتردد النظر في شرح تراجمه، لأنه كثيرًا ما يذكر الشرط، ويحذف الجواب من الترجمة، ويُخرِجُ مادته في الحديث المترجم له، فكأن السؤال يكون في الترجمة، والجواب في الحديث، وإذًا يكونُ الحديثُ محتمِلًا للوجوه، يُحدثُ الترددَ، أنه ماذا أراد؟ كما ترى ههنا
(1)
.
(أو الخوف من القتل) واعلم أن فيه أحوالًا: فمن أسلم كَرْها مع السخط في الباطن فهو
(1)
وكنت أسمع من شرح هذه الترجمة على النحو الذي شرحوا بها أيضًا، إلا أني وجدت فيما كتبت عن الشيخ على خلاف شروحهم، رأيته ألطف فجعلته أصلًا ولكنه سقط منها بعض شيء فانخرم المراد، فعليك أن تتفكر فيه.
كافرٌ قطعًا، لأنه ليس عنده سوى اسم الإسلام شيءٌ، وهو الذي أراده البخاري، والثاني: من أسلمَ وكان عنده أن قبولَ الأديان من الجائزات، فلم يختره لكونهِ حقًا في نفسه، بل كاختيار أحد الجائزات، فهذا حَسَنٌ، وهذا أيضًا حسن، فهذا النوعُ أيضًا كافر، وهذا أيضًا يمكن أن يدرجَ في مراده. والثالث: من أسلم كَرْها، ثم رضي به، كأنه عند الخوف من القتل، يَبْعثُ نفسَه أن ترى الإسلامَ حقًا وتعتقده عن صميم قلب، فهذا مؤمنٌ إجماعًا. ومن نسب إلى المصنف عدمُ الاعتبار بإسلامه، نظرًا إلى ألفاظ هذه الترجمة فقد بَعُدَ بعدًا بعيدًا.
27 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ عَنْ سَعْدٍ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى رَهْطًا وَسَعْدٌ جَالِسٌ، فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا هُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَىَّ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ فَوَاللَّهِ إِنِّى لأَرَاهُ مُؤْمِنًا. فَقَالَ «أَوْ مُسْلِمًا» . فَسَكَتُّ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَعْلَمُ مِنْهُ فَعُدْتُ لِمَقَالَتِى فَقُلْتُ مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ فَوَاللَّهِ إِنِّى لأَرَاهُ مُؤْمِنًا فَقَالَ «أَوْ مُسْلِمًا» . ثُمَّ غَلَبَنِى مَا أَعْلَمُ مِنْهُ فَعُدْتُ لِمَقَالَتِى وَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ «يَا سَعْدُ، إِنِّى لأُعْطِى الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْهُ، خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِى النَّارِ» . وَرَوَاهُ يُونُسُ وَصَالِحٌ وَمَعْمَرٌ وَابْنُ أَخِى الزُّهْرِىِّ عَنِ الزُّهْرِىِّ. طرفه 1478 - تحفة 3891 - 14/ 1
27 -
(مالَكَ عَنْ فلان) قال الحافظ واسمه جُعَيل، وهو صحابي جليل القدر وله منقبة عظيمة. عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر:«كيف ترى جُعَيلًا» قلت: كشكله من الناس - يعني المهاجرين - قال: «فكيف ترى فلانًا؟» قال: قلت: سيد من سادات الناس، قال:«فجعيل خير من ملاء الأرض من فلان» . فهذه من منزلة جعيل المذكور.
(أرى) واتفق أئمة اللغة على أنه معروفًا بمعنى اليقين، ومجهولًا بمعنى الشك، ولعل الأول مأخوذٌ من الرؤية والثاني من الرأي كما صرح به الشيخ ابن الهمام رحمه الله تعالى في باب الصيام، وههنا مجهولًا أولى؛ لأن الحكمَ بمحضر النبي جزمًا إساءةٌ للأدب، وقال قائل: بل الأول متعين للقَسَم، فإنه قال: فوالله إني لأراه مؤمنًا، والقسَمُ لا يناسبه الشك. قلت: ويلزمه أن لا يجوز قولهم: والله لأظنه كذا، وهو باطلٌ قطعًا.
(أو) وقَرَأه الشيخ العيني رحمه الله تعالى بهمزة الاستفهام، وواو العطف (أو) يعني أتقول كذا وهو مسلمٌ، وقيل: بل هو حرف عطف بسكون الواو (أو) والفرقُ بينهما أنه على الأول يكون الحكمُ بإسلامِهِ، بتًا من جهة صاحب الشريعة، بخلاف الثاني، فليس فيه بتٌ وحكمٌ قطعيٌ على إسلامه، ومعناه: مهلًا ما تقول، لعله يكون مسلمًا، ولا يكون مؤمنًا. وقال بعضهم: إنها بمعنى الإضراب. أقول: وإنما يفهم منها الإضراب للمقابلة، لا أنه أصل المعنى. ثم إنه طال نزاعهم في قوله تعالى:{أَوْ يَزِيدُونَ} (الصافات: 147) وسنعود إليه إن شاء الله تعالى في موضع آخر.
فإن قلت: إذا كان أمر جُعيل ما قد وُصِفَ في الحديث، فلا معنى للشك في إسلامه