الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَنْ أَبِى سَلَمَةَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . أطرافه 35، 37، 1901، 2008، 2009، 2014 - تحفة 15
353
30 -
باب الدِّينُ يُسْرٌ
وَقَوْلُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم «أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ» .
يريد: أن الإيمانَ بعد كونه كاملًا بجميع أجزائه ينقسم: إلى العسر، واليسر، ومع هذا هو إيمان، فصار كالكلي المتكرر بالنوع.
(الحنيفية) واعلم أن القرآنَ جعل اليهودية، والنصرانية، مقابِلًا للحنيفيّة، قال تعالى:{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [البقرة: 135]، فالقرآن يذمُ اليهودية، والنصرانية، ويمدح الحنيفية، ولا يُدرى وجهه، فإنهما أيضًا من الأديان السماوية، نعم، لو كانت المَذَمَّة على المتبعِين لما كان فيه إشكالًا، إلا أنها على هذه الأديان. فالوجه عندي: أن اليهوديةَ والنصرانية في الأصل ألقابٌ لأَتباعِ التوراةِ والإنجيل، ولما حرَّفُوهما وبدلوا كلام الله من بعد ما عَقَلُوه، واشتروا به ثمنًا قليلًا، وباؤا بغضب من الله، صارت اليهوديةُ والنصرانيةُ، ألقابًا لأتباعِ التوارةِ المحرفة، والإنجيل المحرَّف الذي في أيديهم، فذمه القرآن، وقابل بينهما وبين الحنيفيّة لهذا.
والحنيفُ في الأصل لقبٌ لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو الأصل في هذه اللقب، وسائرُ الناس فيه تبعٌ له. لأنه كان مبعوثًا إلى الكفار، بخلاف موسى، وعيسى عليهما الصَّلاة والسَّلام فإنهما كانا مبعوثَيْن إلى بني إسرائيل، وهم مسلمون نسبًا فلم يُلقبَا به، وإن كان حنيفين قطعًا. قالوا: الحنيف: هو المائل عن الأديان الباطلة إلى دين الحقِّ سُمّي به إبراهيم عليه الصلاة والسلام لميله عن الباطل إلى الحق. قلت: الحنيف هو الذاهب إلى الدين الحق بدون التفاتٍ منه إلى الجوانب والأطراف، وإليه أشار الشيخ فريد الدين العطار:
*"از يكى كو وزد وئى يكسوى باش
…
يك دل ويك قبله ويك روى باش"
وقد أمرَ اللَّهُ جميع الناس بالحنيفية فقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5] ثم رأيت في «الملل والنحل» : أن الحنيف مقابل للصابيء، ويعلم منه أن الحنيفَ هو المعترف بالنبوة، والصابىء هو المنكر بالنبوة، ومر عليه الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى في مواضع، ولم يكتب شيئًا شافيًا، وقال: إن قوم نمروذ كان صابئيًا، وكان فيهم الفلسفة، ومن هؤلاء تعلِّمه الفارابي، ثم مر على تلك الآية:{{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} [البقرة: 62] ولمّا لم يدرك حقيقةَ الصابئين غَلِطَ في تفسيرها، ففسر قوله:{مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلخ بالصابئين الذين كانوا مؤمنين، وزعم أن اليهود والنصارى كما أنهم مؤمنين في
زمنهم مع بقائهم على اليهودية، والنصارنية، كذلك الصابئون أيضًا كانوا مؤمنين في زمانهم، مع بقائهم على الصابئية، مع أنهم لم يؤمنوا قط، فإن فريقًا منهم كان يتدينُ بأول المبادىء على طريق الفلاسفة، وفرقة أخرى كانت تتعبدُ بالنجوم في هياكلهم، وأخرى كانت تنحت الأصنام وتعبدها، صرح به في «روح المعاني» والجَصَّاص في «أحكام القرآن» .
وقد بحث العلماء عن شؤون الصائبة، وأحسنُ من بحث عنهم هو الإمام أبوبكر الجصاص، تكلم عنهم في ثلاثة مواضع من تفسيره:«أحكام القرآن» كلامًا جيدًا شافيًا محققًا، وكذا ابن النَّديم في «الفهرست» فليراجع
(1)
، .................
(1)
قال الجصاص في تفسير سحر أهل بابل: إنهم كانوا قومًا صابئين يعبدون الكواكب، السبعة ويسمونها آلهة، ويعتقدون أن حوادثَ العَالم كلها من أفعالها، وهم معطِّلة لا يعترفون بالصانع الواحد المبدعِ للكواكب، وجميع أجرام العالم، وهم الذين بعث الله إليهم، إبراهيم خليله صلوات الله عليه، فدعاهم إلى الله تعالى
…
وكان أهل بابلَ والعراق والشام ومصر والروم على هذه المقالة إلى أيام بيوراسب الذي تسميه العرب: الضحاك
…
وكانت علوم أهل بابَل قَبل ظَهور الفرس عليهم الحيل والنيرنجيات، وأحكام النجوم، وكانوا يعبدون أوثانًا قد عملوها على السماء والكواكب السبعة، وجعلوا لكل واحد منها هيكلًا فيه صنمه، ويتقربون إليها بضروب من الأفعال على حسب اعتقاداتهم موافقة ذلك الكوكَب الذي يطلبون منه بزعمهم فعلَ خيرٍ أو شرٍ فمن أراد شيئًا من الخير والصلاح بزعمه، يتقرب إليه بما يوافق المشتري من الدخن، والرقي والعقدِ، والنفث عليها، ومن طلب شيئًا من الشر والحرب والموت والبوار لغيره، تقرب بزعمه إلى زحل بما يوافقه من ذلك، إلى آخر ما بسطه من خرافاتهم وأباطيلهم كذا في "أحكام القرآن".
وقال في آخر باب تزوج الكتابيات:
قال أبو بكر: الصابئون الذين يعرفون بهذا الاسم في هذا الوقت، ليس فيهم أهل كتاب، وانتحالهم في الأصل واحدٌ، أعني الذين بناحية حرَّان، والذين بناحية البطائح في سواد واسط، وأصلُ اعتقادهم تعظيم الكواكب السبعة، وعبادتها، واتخاذها ألهة، وهم عبدة الأوثان في الأصل، إلّا أنهم منذ ظهر الفرس على إقليم العراق وأزالوا مملكة الصابئين، وكانوا نَبطًا لم يجسروا على عبادة الأوثان ظاهرًا، لأنهم منعوهم من ذلك، وكذلك الروم، وأهل الشام والجزيرة كانوا صابئين فلما تنصَّرَ قسطنطين حملهم بالسيف على الدخول في النصرانية فبطلت عبادةُ الأوثان مِن ذلك الوقت ودخلوا في غِمار النصارى في الظاهر، وبقي كثير منهم على تلك النِّحلة مستخفين بعبادة الأوثان، فلما ظهر الإِسلام دخلوا في جملة النصارى، ولم يميز المسلمونَ بينهم وبين النصارى، إذ كانوا مستخفين بعبادة الأوثان، كاتمين لأصل الاعتقاد، وهم أكتم الناس لاعتقادهم، ولهم أمور وحيل في صبيانهم إذا عقلوا في كتمان دينهم.
وعنهم أخذت الإسماعيلية كتمان المذهب، وإلى مذهبهم انتهت دعوتهم، وأصلُ الجميع اتخاذ الكواكب السبعة آلهة وعبادتها، واتخاذها أصنامًا على أسمائها، لا خلاف بينهم في ذلك، وإنما الخلاف بين الذين بناحية حرَّان وبين الذين بناحية البَطَائح في شيء من شرائعهم، وليس فيهم أهل كتاب، فالذي يغلب في ظني في قول أبي حنيفة في الصابئين أنه شاهد قومًا منهم أنهم يُظهرون أنهم من النصارى وأنهم يقرؤون الإِنجيل وينتحِلُون دين المسيح تقيةٌ، لأن كثيرًا من الفقهاء لا يرون إقرارَ معتقدي مقالهم بالجزية، ولا يقبل منهم إلّا الإسلام أو السيف، ومن كان اعتقاده من الصابئين ما وصفنا، فلا خلاف بين الفقهاء أنهم ليسوا أهل كتاب، وأنه لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم. انتهى. =
وظني: أنهم كانوا يعتقدون بمخترعاتِهِم، وتسويلاتِ شياطينهم، وكان عندهم من أشياءِ النبوة أيضًا، إلا أنهم لم يكونوا يتبعون نبيًا خاصًا، وقال بعضهم: إن المراد من {ومَنْ آمَنَ بِاللَّهِ}
= وتعلَمُ نحوه في باب أخذ الجزية من أهل الكتاب ورُوي في ذلك اختلافًا بين التابعين. وقد بسط ابن النديم في كتابه "الفهرست" في أحوالهم بما لَا مزيد عليه، فذكر في الفن الأول من المقالة التاسعة معتقداتهم، وصلواتهم، وصيامهم، وذبائحهم، وسائر أحكام دينهم مفصلًا، ثم ذكر حكاية أخرى في أمرهم فقال: قال أبو يوسف أيشع القطيعي النصراني في كتابه في الكشف عن مذاهب الحرانيين المعروفين في عصرنا بالصابئة: إن المأمونَ اجتاز في آخر أيامِهِ بديار مصر، يريد بلاد الروم للغزو، فتلقاه الناس، يدعون له وفيهم جماعة من الحرَّانيين وكان زيهم إذ ذاك لبس الأقبية، وشعورهم طويلة بوَفرَات كوَفْرة جدِ سنان بن ثابت، فأنكر المأمون زيهم وقال لهم: من أنتم من الذمة؟ فقالوا: نحن الحرنانية، فقال: أنصارى أنتم؟ قالوا: لا، قال: فيهود أنتم؟ قالوا: لا، قال: فمجوس أنتم؟ قالوا لا، قال لهم أفلكم كتاب أم نبيٌ، فمجمجوا في القول، فقال لهم: فأنتم إذًا الزنادقة عبدة الأوثان، وأصحاب الرؤوس في أيام الرشيد والدي. وأنتم حلالٌ دماؤُكم، لا ذمة لكم فقالوا: نحن نؤدي الجزية
…
فاختاروا الآن أحد أمرين: إما أن تنتحلوا دينَ الإسلام، أو دينًا من الأديان التي ذكرها الله في كتابه، وإلّا قتلتكم عن آخركم، فإني قد أنظرتكم إلى أن أرجعَ من سفرتي هذه، فإن أنتم دخلتم في الإِسلام أو في دين من هذه الأديان التي ذكرها الله في كتابه، وإلّا أمرت بقتلكم واستئصال شأفتكم -ورحلَ المأمونُ يريدُ بلد الروم، فغيروا زِيهم، وحلقوا شعورَهم وتركوا لبس الأقبية، وتنصر كثيرٌ منهم، ولبسوا زنانير، وأسلم منهم طائفة، وبقي منهم شرذِمة بحالهم، وجعلوا يحتالون، ويضطربون، حتى انتدب لهم شيخ من أهلِ حران فقيه، فقال لهم: قد وجدتُ لكم شيئًا تنجون به وتسلمُون من القتل فحملوا إليه مالا عظيمًا من بيت مالهم
…
فقال لهم: إذا رجع المأمون من سفره فقولوا له: نحن الصابئون، فهذا اسم دين قد ذكره الله جل اسمه في القرآن، فانتحِلُوه فأنتم تنجون به. وقضى أن المأمون توفي في سفرته تلك بالبذندون
…
وانتحلوا هذا الاسم منذ ذلك الوقت، لأنه لم يكن بحران ونواحيها قومٌ يسمَون بالصابئة، فلما اتصل بهم وفاة المأمون ارتد أكثر من كان تنصر منهم، ورجع إلى الحرنانية،، وطولوا شعورهم حسب ما كانوا عليه قبل مرور المأمون بهم، على أنهم صابئون، ومنعهم المسلمون من لُبْس الأقبية، لأنه من لُبْس أصحاب السلطان، ومن أسلَم منهم لا يمكنه الارتداد خوفًا من أن يقتل، فأقاموا متسترين بالإسلام، فكانوا يتزوجون بنساء حرانيات، ويجعلون الولد، الذكرَ مسلمًا، والأنثى حرانية، وهذه كانت سبيل كل أهل ترعوز، وسلمسين، القريتين المشهورتين العظيمتين بالقرب من حران إلى منذ نحو عشرين سنة.
كان الشيخان المعروفان بأبي زرارة، وأبي عروبة، علماء شيخ حران بالفقه والأمر بالمعروف، وسائر مشايخ أهل حران وفقهائهم احتسبوا عليهم ومنعوهم من أن يتزوجوا بنساء حرانيات، أعني صابئات، وقالوا: لا يحل للمسلمين نكاحهم، لأنهم ليسوا من أهل الكتاب هكذا في النسخة، وبحران أيضًا منازل كثيرة إلى هذه الغاية بعض أهلها حرنانية ممن كان أقام على دينه في أيام المأمون، وبعضهم مسلمون، وبعضهم نصارى ممن كان دخل في الإسلام وتنصَّر في ذلك الوقت إلى هذه الغاية، مثل قوم يقال له: بنو أبلوط، وبنو قيطران، وغيرهم مشهورين بحران، اهـ. وقد فصل أحوالهم وذكر في خاتمتها- وقد كان هارون بن إبراهيم بن حمَّاد بن إسحاق لما كان يلي بحران وأعمالها القضاء، وقع إليه كتاب سرياني فيه أمر مذاهبهم وصلواتهم، فأحضر رجلًا فصيحًا بالسريانية والعربية ونقله له بحضرته من غير زيادة ولا نقصان، والكتاب موجود كثير بيد الناس، واحتسب هارون بن إبراهيم حملَه إلى أبي الحسن علي بن عيسى وفي ذلك الكتاب مشروح، فلينظر فيه فإنه يغفي عن كثير من الكتب المعمولة في معناه. انتهى.