الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
6 - كتاب الحَيض
وقول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]
والحيض دم معروف حَدَّده فقهاؤنا، ولا تحديد في الخارج، وإنما يختلف باختلاف الأمصار والأعصار، ولذا ذهب مالك رحمه الله تعالى إلى أنَّه أمكن أن يكون ساعةً أيضًا، وإنما وَقَّتَه في باب العدة فقط، ولم يَرِد في هذا الباب من المرفوع شيء ولو بإسناد ضعيف، ومَرَّ عليه الزيلعي رحمه الله تعالى في تخريج الهداية، فلم يأت إلا بالمناكير - وهو رفيق للحافظ زين الدين العراقي رحمه الله تعالى، وكان يصنِّف في هذه الأيام تخريج الإحياء والزيلعي رحمه الله تعالى «تخريج الهدية» ، وكان يرافق أحدُهما الآخر، فإذا ظَفِر أحدُهما بحديث نادر أرسله إلى الآخر ليستفيد منه في تصنيفه، وظني أن الزيلعي رحمه الله تعالى أحفظُ من الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى. وقد صنف الحافظ رحمه الله تعالى «فتح الباري» في اثنين وعشرين سنة، وصنَّف العيني رحمه الله تعالى «عمدة القاري» في عشرة سنين - وصرح ابن العربي رحمه الله تعالى أنه لا توقيت فيه.
وكنتُ أتمنى أن أرى مثلَه من قلم حنفي أيضًا إلا أني مع التتبع الكثير لم أرَ أحدًا صرَّح به، ثم ذكر ابن العربي رحمه الله تعالى أنه صنف رسالةً مستقلة في هذا الباب، إلا أنها ضاعت منه في سفر فلم يقدر على جمعها ثانيًا. أما في هذا العصر فلا توجد غير رسالة البِرْكِلي وهو معاصر لصاحب «الدر المختار» ، إلا أنها لاشتمالها على الأغلاط قد انقطعت الفائدة منها، لأن المصنِّف رحمه الله تعالى ذكر في خُطبتها أنه جمع هذه الرسالة من كتب مملوءة بالأغلاط، فاجتهد في تصحيحها، ومع ذلك بقيت فيها أغلاط كثيرة.
وقد راجعت تلك الرسالة فوجدتُ فيها أغلاطًا كثيرة، وشرحها ابن عابدين واتَّبَعَ الماتن، فاحتوى شرحه أيضًا على الأغلاط. ونِعْمَ ما فعله المالكية حيث وقَّتوه في باب العِدَّة، أما في معاملة بيتها وصلاتها وصيامها، فاعتبروا فيها رأيَها وفَوَّضوها إليه. والحاصل: أن دم الحيض غير موقت شرعًا وعرفًا، وليت الحنفية كتبوا مثله ولكن:
*ما كلُّ ما يتمنَّى المرءُ يُدْرِكُه
…
تأتي الرِّياح بما لا تشتهي السُّفُنُ
وهكذا الأمر في توقيت مُدَّة الحَمْل، فإنها أيضًا غير مُوَقَّتة، فقد تمتد إلى عشرة سنين
لأجل المرض، مع أن فقهاءنا صرَّحوا أن أكثر مدة الحمل سنتان، ولم يكتب أحدٌ منهم أنها مدة طَبْعِيَّة. وأما بالعوارض فيمكن أن تزيد عليها، فلو كتبوه لاسترحنا.
وكان ينبغي للفقهاء أن يرجعوا إلى الأطباء. في مثل هذه الأمور، فإنّ لكل فنَ رجالًا، ثم إنه تحديد اجتهادي لا تحديد شرعي، والأصل فيما لم يَرِد فيه التعديد أن يرسل على حيالها ولا يقدَّر كما في أصول الفقه: أن نصب الحدود والمقادير لا يجوز بالقياس. ومرادهم من الحدود والمقادير كأعداد الرَّكَعَات ونحوها دون الحدود التي هي زواجر أو سواتر على اختلاف الرأيين، وعليه جرى السَّرخسِي رحمه الله تعالى في تحديد العمل الكثير والقليل، والماء القليل والكثير، ففوَّضه إلى رأي المبتَلَى به، وهكذا فعل في أَجَلِ السَّلَم وتعريف اللُّقَطَة، فأحاله على رأي المبتَلَى به، وإن حدده أصحابُ المتون.
ثم الأصل وإن كان هو التفويض إلا أنَّ نظامَ العالَم لا يستوي إلا بالتقدير، فإن كثيرًا من العوام ليس لهم رأي، ولا ينفع فيهم التفويض أصلًا، فيحتاج إلى التحديد لا محالة، فالتحديد من المجتهد فيما لم يَرِدْ به الشرع إنما هو لقضاء حوائج الناس، كما قالوا في مسألة الطُّهْر: إنه لا حدَّ لأكثره، ومع ذلك حدَّوده عند نَصْبِ العادة في زمن الاستمرار، وفي هذه المسألة ستة أقوال لمشايخنا. والمختار عندي أنها تخرج من عدتها في ثلاثة أشهر، ويُحْسَبُ شهرُها عن طُهر وطَمْثٍ، وهكذا في ممتدة الطهر حيث ليس لها حيلة على مذهبنا إلا بالتربُّص ثلاثة قروء، ولا شك أنه مُعْتَضِد بالنص، فإنها مطلَّقة، وهذه عدتها بالنص إلا أن طُهرها إذا امتدَّ وضاق عليها أمرها لجأنا إلى الإفتاء بمذهب مالك رحمه الله تعالى.
فكما أنهم اضطروا إلى التحديد في هذه المواضع لئلا تتعطل عن حوائجها، كذلك اضطروا إلى تحديد أقل الحيض وأكثره، وإن لم يتوقَّت في الخارج.
والحاصل: أن المجتهد في هذا التحديد مجبور ومأجور، بل أُهَنِّؤُهُم عليه حيث أخرجوا مخرجًا وسبيلًا للخلائق، وخلصوهم عن المضائق، ولعلك ما نسيتَ ما كنتُ ألقيتُ عليك في كتاب العلم أنَّ الحديثَ أيضًا قد يحتاج إلى الفقه في بعض المَلاحِظ، وهي أمثال هذه، فإنه لا يكفي لك فيها الاقتصار على الحديث، ولا يسع لك قطع النظر عن الفقه. فالفقه لا يتم بدون الحديث، لأن المرء إذا مرَّ بالحديث، وجال نظره فيه، وفَهِمَ مداركه ومعانيه، استقر على الفقه وسكن قلبه، حيث لم يجده رأيًا محضًا غيرَ مستنِدٍ إلى دليل سماوي، وكذلك الحديث لا يستقرّ مراده ولا ينقطع محتملاتُه بدون المراجعة إلى أقوال الفقهاء ومذاهب الأئمة. فإذا ادَّراها وأمعن النظر فيها تبيَّن له الوجوه، ولم يبق له فيما سواها مساغ.
فالفقه محتاج إلى الحديث في نفسه، والحديث محتاج إليه للعمل، وهكذا القرآن يبقى معلَّقًا بدون الرجوع إلى ألفاظ الحديث، وأعني بالتعليق أنَّ النظر لا يزال يتردد فيه، ولا يَقْنَع بشيء، حتى إذا رجع إلى الحديث استقر وسكن. وهذا لأن اللغة لم تتكفل إلا ببيان المعاني الموضوعة له دون مراد المتكلِّم، وهو ربما يتعسَّر تحصيلُه في كلام الناس، فكيف بالكلام
المُعْجِز؟ والكلام كلما ارتفع تحمَّل الوجوه واحتمل المعاني، ولذا قال تعالى:{ولقد يَسَّرْنَا القرآنَ للذِّكْرِ فهل من مُدَّكِر} [القمر: 32] وهذا أمر وراء التيسير، فالقرآن يسير ومع ذلك عسير، انقضَّ به ظهر الفحول، ومعنى يُسْرِه قد بَّينَاه.
ثم إنَّ الأمرَ إن كان كما سمعت آنفًا من أنه لا تحديد فيه لا في الخارج ولا في الحديث، وإنما التحديد فيه ضرورة بالاجتهاد، فأبو حنيفة رحمه الله تعالى أَسْبَقُ فيه من الكل، وعنده في ذلك إشارات وعبارات من النصوص، كما في حديث أخرجه الترمذي في خُطبة النبي صلى الله عليه وسلم في أبواب الإيمان وفيها:«فتمكث إحدَاكُنَّ الثلاث والأربع لا تصلي» . اهـ. وتمسَّك به الطحاوي
(1)
في «مشكله» . وما عند ابن ماجه وفيه زيادة: وفي الخارج أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يُضَاجِعُهُنَّ إلى ثلاثة أيام، ثم يُضَاجِعُهُنَّ بعد أن تَتَّزِرْنَ. وهذه كلها تنزل على مذهبنا لأنه لم ينزل فيه عن الثلاث.
ولنا أثر أنس رضي الله عنه صححه في «الجوهر النقي» وإن تأخر عنه البيهقي، وأثر عثمان بن العاص عند الدارقطني. وأورد علينا الشافعية أن الشهر إذا لم يَخْلُ عن طُهْرِ وطَمْثٍ، وتَكَرُّر الطَّمْثِ في الشهر نادرٌ، فيلزم على مذهبكم أن لا يستقيم الحساب، فإن أقلَّ الطُّهر خمسةَ عشرَ اتفاقًا بيننا وبينكم، فلو كان الطَّمْثُ أكثرُه عشرةَ أيام، يلزم أن يبقى خمسة أيام من الشهر مهملًا غير معدود في الطمث ولا في الطهر، بخلافه على مذهبنا حيث قسمنا الشهر عليهما، فجعلنا النِّصف للطَّمْثِ والنصف الآخر للطُّهر.
أقول: أما أولًا: فعن الإمام كما في «النهاية» : أن أكثره عشرة، وأقل الطهر عشرون يومًا، فيستقيم الحساب على مذهبنا أيضًا. وأما ثانيًا: فلأن أقلَّ الطهر ليس عندنا خمسة عشر يومًا مطلقًا، بل هو عشرون يومًا في بعض الصور، كما في المُسْتَحاضة المبتدَأة، فيستقيم الحساب ولو في الجملة. وأما ثالثًا: فلأن تكرُّرَ الطهر وإن كان نادرًا إلا أنه ليس معدومًا محضًا، فينبغي النظر إليه أيضًا. وفي «المواهب اللَّدنية» إسنادًا:«أن الله سبحانه لما أهبط حواء أخبرها أنها تَحْمِل كُرْهًا وتضع كُرْهًا» وفي آخره: «ولأُدْمِيَتَّها في شهرٍ مرتين» ، ومع هذا ذهبوا إلى أن التكرار نادر، وفي إسناده سُنَيْد، وهو من القدماء ومفسِّر للقرآن. وهذه الرواية عند ابن كثير أيضًا إلا أنه ليست في آخره تلك الزيادة، وحينئذ يمكن أن يكون بناؤه على تكرر الحيض وإن كان نادرًا.
ثم إنهم تمسكوا من قوله تعالى: {واللائي يَئِسْنَ من المَحِيضِ فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثةُ أشهر} [الطلاق: 4] حيث حسب فيه الشهر عن طهر وطَمْث، وإذا كان أقلُّ الطهر خمسةَ عشرَ بالاتفاق، فالباقي للطمث لا محالة، وهو خمسة عشر، وبناؤه على تكرر الطمث بعيد لأنه نادر.
(1)
قال الطحاوي بعد سَرْد الحديث المذكور: ولا نعلم شيئًا رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مقدارِ قليلِ الحيض غير ما ذكرنا، فكان هذا مما قد دلَّ على مقداره، وأنه أيام وليال، وأوجب القول به وترك خلافه. والله أعلم، وإياه نسأله التوفيق.
قلت: نعم بناؤه ليس على التكرر، إلا أنَّا علمنا من عاداتهن أن طهرهن في الشهر يكون أغلب من الطمث غالبًا، كما في حديث حَمْنَة، حيث عَدّ طمثها ستة أو سبعة، وهكذا هو المعروف في عادات النساء أن طهرهن يكون غالبًا على أيام حيضهن. ولمّا كانت عاداتهن مختلفة جمع القرآن الحيضَ والطهر في الشهر تخمينًا
(1)
.
قوله: (فلا تَقْرَبُوهُنَّ) واعلم أنه قد مرَّ مرارًا أن أنظار الأئمة ربما تختلف في أخذ مراتب الآية، فيأخذ واحد مرتبتها العليا وآخر مرتبتها السفلى، ويتحير فيه الناظر، فيزعم أن هذا وافقها وهذا خالفها، والأمر أنهم يَتَحَرَّون العمل بها أجمعون، ويجتهدون فيها بما يستطيعون، إلا أنه تختلف أنظارهم في المراتب، والأصوليون وإن بحثوا عن العموم والخصوص والإطلاق والتقييد، ولكنهم لم يبحثوا في مراتب الشيء وكان لا بد منه فقالوا: إن العموم والخصوص يجري في الأفراد والآحاد، والإطلاق يكون في التقادير وأوصاف الشيء، والمراتب بمعزل عنهما.
وظاهر الآية الأمر بالاعتزال مطلقًا، وهو عين ما كان يفعله اليهود، ووجه التفصِّي عنه أن في الاعتزال مراتبَ وهي مجملة فصَّلها الحديث، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها افعلوا كل شيء إلا النكاح، فمن حاملٍ حَمَلَها على الجماع والاتقاء عن موضع الطَّمْثِ خاصةً، ومن حَاملٍ حَمَلَها على الاستمتاع بما دون السُّرَّة إلى الركبة، لأن حريم الشيء في حكمه، فجعل موضع النجاسة وما يتبعها في حكمٍ واحدٍ، وكلاهما نوعٌ من الاعتزال ومرتبةٌ منه. أما أن المراد في النص أيُّ قدرٍ منه وأيُّ مرتبة، فالله ورسوله أعلم. وسيجيء تحقيق المسألة في بابه.
قوله: (يَطْهُرْنَ) قُرِىء بالتخفيف والتشديد، والحنفية يَعُدُّون القراآت كالآيات المستقلة، فيأخدون منها أحكامًا، فحملوا قراءة التشديد على تصرُّم الدم لأقل من العشرة، لأن التَّطَهُّر تَفَعُّل، بمعنى تحصيل الطهارة من فعله وهو الغسل، وحملوا قراءة التخفيف على تصرُّم الدم على العشرة، فإنَّ طَهُرَ لازمٌ، فيحصل الطهور بأمر سماوي بدون صنعه. قالوا: إنه يجامعها في الصورة الأولى بعد الاغتسال، لأن الدم ينقطع مرة ويَدُرُّ أخرى، فيحتمل العَوْد، فلا بد أن
(1)
قلت: كيف تستقيم الآية على مذهبهم مع أن المعروفَ في عاداتهن هو التوسط في الحيض، وقلّما تكون امرأةٌ دمُها إلى خمسة عشر. فإِنْ كان حَمْلُ الآية على تكرُّرِ الحيض بعيدًا لأنه نادر، فَحَمْلُهُ على خمسة عشر يومًا أبعدُ منه بعين هذا البيان، لأن تكرر الحيض ليس بأندَر من فرض الدم إلى خمسة عشر، ثم إن ساغ لهم استيعاب الشهر بأخذ الأكثر من جانبٍ والأقل من جانب، فلِمَ لا يجوز لنا أن نأخذ أكثر الحيض من جانب وأكثر من الأقل في جانب آخر! وإنما لم نأخذ بالأكثر مطلقًا في الجانب الآخر لأن أكثرَ الطهر لا حَدَّ له، فلا بد أن نأخذ أكثر من الأقل، لأن الاقتصار على أقل الطهر أيضًا نادر كما علمتَ من حديث حَمْنَة أن أيام طهرهن تكُون أغلب على أيام حيضهن، فإن كان أخذ الأكثر من الأقل بعيدًا في نظر المحاسب، فهو أقرب في نظر الباحث عن الواقع، وإتباع الواقع أولى، وعليه ورد القرآن والحاصل أن الفصل فيه مشكل. كيف ولم يَرِد فيه تحديد من جانب الشرع، وإنما الأمر إلى عاداتهن وهي مختلفة بحسب عِدَادِهِن.
يعتضد الانقطاع بالاغتسال، بخلاف الصورة الثانية، فإنه إذا انقطع على أكثر مدته فلا خشية لعوده، وتطهر حسًا فيجوز الجماع بدون الاغتسال.
قيل: إن أبا حنيفة رحمه الله تعالى تفرَّد في إباحة الجماع بلا غُسل، لأن القرآن يدلّ على أن الإتيان إنما يُبَاح له بعد الاغتسال فقال:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] أي اغتسلن {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} قلت: والجماع وإن كان جائزًا بدون الاغتسال لكنه يُستحبُّ لها أن تغتسل ثم يجامعها زوجها، ويجب الغُسل للصلاة إجماعًا، فإنها غير طاهرة حكمًا، وإن طَهُرَتْ حسًا. وحينئذٍ جاز لي أن أقول: إن المراد من التطهر في النص هو التطهُّر بنَحْوَيْهِ. ومعنى قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي وجوبًا تارةً واستحبابًا أخرى {فَأْتُوهُنَّ}
…
إلخ، وذلك عندي واسع في اللغة ولا بدع عندي في إدخال مسمًّى واحد وحقيقة واحدة تحت لفظ، وإن اختلفت صفاته من الخارج، كالاستحباب والوجوب، فإن هاتين صفتان تَعْرِضان للحقيقة من الخارج مع بقائها في الصورتين. فإن الصلاة حقيقةٌ واحدة ولا اختلاف في حقيقتها بين الفريضة والنافلة، فإنهما صفتان لها بالنظر إلى لُحُوق الأمر وعدمه، وحينئذ لا ضَيْرَ في إدخال النوعين تحت لفظ واحد، وقد فصَّلناه في رسالتنا «فصل الخطاب» بما لا مزيد عليه.
وبالجملةِ الأقربُ عندي أن القرآن إذا لم يتعرض إلى أقلّ الحيض وأكثره - كما كان غير متعين في الخارج - فلا يُبنى الأحكام على أقله وأكثره. فالذي ينبغي أن يُشترط الغُسل للجماع ولا بُدَّ. نعم إن قام دليل للمجتهد من الخارج على أنَّ الدم لا يتجاوز عن العشرة، فله أن يُجيز به قبل الاغتسال لطهارتها حسًا، ولكن المستحسن للقرآن هو الإطلاق، لأنه ينزل بما هو مطلوب، وللمجتهد هو التفصيل، لأنه يبحث عن الفروع.
وتفصيله أنَّ القرآنَ عَلَّق الإتيان بالأمرين:
الأول: هو الطهارة الحسية، وهو المشار إليه بقوله:{حَتَّى يَطْهُرْنَ} .
والثاني: الاغتسال، وهو المذكور بقوله:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} . وكأنَّ أصل الكلام هكذا: فإذا طَهُرْنَ وتَطَهَّرْنَ فأتوهن من حيث
…
إلخ. وإنما حُذِف أحدُ الفعلين اختصارًا لدلالة ما قبله عليه، وإنما راعى الأمرين لأن من عادة النساء أنهن لا يَطْمَأننَّ في أنفسهن في طُهورهن ما دُمنَ لم يغتسلن، ولا يزال يبقى لهن التردد في عَوْدِ الدم، وإن كان انقطع على عادتهن، فإذا اغتسلن فيطمئن قلبهن، فكما أن الطمأنينة في الخارج لم تحصل لهن إلا بعد الطُّهْر السماوي والاختياري كليهما، كذلك القرآن أخذ مجموع الأمرين على وَفْقِ ما في الخارج.
فهذا الذي مشى عليه القرآن، يعني على الإبهام والإجمال بدون عناية إلى تفصيل بين الأقل والأكثر، وبدون تفصيل في البناء عليهما. ثم جاء المجتهد وقسم هذين الأمرين وقال: إن الدم إن تَصَرَّم لأكثر مدته فالدخيل في أمر جماعها هو الطهارة السماوية فقط، فيباح له الجماع بمجرَّد انقطاعه وإن تَصَرَّم لأقل منه فالدخيل هو الطهارة الاختيارية، أي الاغتسال، فلا يجوز الجماع إلا بعده، فينبغي للقرآن الإطلاق في صورة الإطلاق وتفويض التفاصيل إلى
الاجتهاد. فإن القرآن أطلق في الاغتسال لأنه لم يتعرض إلى الأقل والأكثر لعدم تعيينه في الخارج، فإن عَلِم المجتهد من تحرِبته أنَّ الدمَّ لا يتجاوز عن العشرة، فله أن يُخْصِّص هذا الجزئي من اجتهاده لا بحكم النص. وهذا معنى صحيح لا يخالفه النص أصلًا. نعم لو قلنا: إن القرآن شرط الاغتسال فيما تصرم الدم على الأكثر أيضًا لخالفه وناقضه البتة، ولكنك سمعتَ آنفًا أن القرآن لم يُومِ إليه أصلًا، وإنما جاء على عادتهن في الخارج من اعتبار الأمرين.
وهناك أمر آخر يُعْلَم من كتاب «الناسخ والمنسوخ»
(1)
عن الطحاوي أنَّ الفرقَ بين العَشَرة وبين ما دونها إنما نُقِلَ عن الإمام الأعظم رحمه الله تعالى في حق الرَّجْعَةِ خاصةً، فالمطلَّقة إذا انقطع دمها لأقلَّ من العشرة، وأدركت وقتَ الاغتسال والتحريمة انقطع حق الرجعة عنها، وليس للزوج أن يراجعها بعدمضيِّ القُرْءِ الثالث إذا انقطع لأقلها في الصورة المذكورة. فهذا الفرق إنما كان في حق الرجعة خاصة، ثم انتقل إلى الصلاة وغيرها أيضًا، ولا ريب أن الطحاوي أعلم بمذهب أبي حنيفة رحمة الله تعالى لأنه تحصَّل فقهه بثلاث وسائط، فكان ينبغي أن يُعْتَمَد عليها، ولكني لا أعتمد على تلك النسخة لاشتهار المذهب بخلافه، نعم إن ثبت من طريق معتبرة فيكون له وجه.
ثم إنهم قالوا: إنه إذا انقطع دمها لأقل من عشرة أيام لم يَحِلَّ وطؤها حتى تغتسل، ولو لم تغتسل ومضى عليها أدنى وقت الصلاة بقَدْرِ أن تقدر على الاغتسال والتحريمة حَلَّ وطؤها. وهذا يُشْعِر بأن مدة الغُسْل عندهم معدودة في زمان الحيض، ومثله ما قالوا في باب الرَّجْعَة: أن دمها إذا انقطع لعشرة أيام انقطعت الرجعة وإن لم تغتسل، وإن انقطع لأقلَّ منها لم تنقطع الرجعة حتى تغتسل، أو يمضيَ عليها وقت صلاة كاملة. قلت: وإنما أخذوه من هذه الآية: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} فإنه اعتُبِرَتْ فيها مدة التطهر من زمان الحيض وأُبيح الجماع بعده، إلا أنهم لا يُفْصِحون بأن مسائلهم تلك مأخوذة من القرآن، فعليك أن تتفكر فيه لينجلي لك الحال.
ومن ههنا اندفع ما عرض لابن رُشْد من عدم الارتباط بين الغاية والاستئناف، فقال: إن مَثَلَهُ كمثل قولنا: لا أُعطيك درهمًا حتى تدخل بيتي، فإذا دخلت المسجد فلك كذا. فالغاية غايرت الاستئناف وكذا الاستئناف يغايرها، والصحيح من الكلام أن يقال: فإذا دخلت بيتي
…
إلخ، لاتحادهما فيه. وحاصل الجواب: أن معنى قوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ}
…
إلخ أي حتى يَطَّهَّرْنَ ويَطْهُرْنَ {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} وطَهُرْنَ {فإتوهن من حيث أمركم ا} فأخذ أحد الفعلين من المعطوف عليه، وحذف مقابله من المعطوف ليكون ذكر الآخر قرينة على حذفه من المعطوف عليه، فحصل الارتباط في غايته. والجواب الثاني أن قوله:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} لا يتعلق عندي بالغاية بل
(1)
وهو لأبي جعفر النحاس الشافعي، تلميذ الطحاوي، وكان معاصرًا لابن جرير المفسر، وكان ابن جرير في مصر وأبو جعفر في بغداد. كذا في تقرير الفاضل عبد العزيز.