الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَخْبَرَنِى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ «إِنِّى خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمُ الْتَمِسُوهَا فِى السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالْخَمْسِ» . طرفاه 2023، 6049 - تحفة 5071
49 -
(فتلاحى رجلان) أي تنازع. قال الحافظ: إن المخاصمةَ مستلزمةٌ لرفع الصوت، وهو محبطٌ للعمل بالنص، قال تعالى:{لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} إلى أن قال: {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} وبه يتضح مناسبة الحديث للترجمة. وقد خفيت على كثير من الشارحين.
(فَرُفعت) وفي رواية قويةٍ ما يَدلُ بظاهره على رفعِ أصلها عن هذه الأمة. أقول: بل المرادُ منها رفعُ العلم القطعي بها، لا رفعُ ليلة القدر كما فهمه الشيعة خذلهم الله، لأنا قد أُمِرْنا بالتماسها، ولو كانت رفعت مطلقًا لما كان لطلبها معنًى. ومن هنا ظهرت المناسبةُ للترجمة على وجه آخر أيضًا وهو: أن التنازع صار سببًا لرفع علم ليلة القدر، فكذلك المعصية قد تكون سببًا للحبط.
قوله: (في السبع)
…
إلخ، واعلم أن الشارحين عامّة ذهبوا إلى أن المأمورَ به هو التماسُها في ليلة واحدةٍ من تلك الليالي. والمرادُ عندي أحياءُ كلها لأجل ليلة القدر. وهي وإن كانت في الأوتار دون الأشفاع، لكن القيامَ مطلوبٌ في الكل، فكأنَّ التماسَها يكونُ بالقيام في العشر، أو السبع، أو الخمس، وهو المعهود من حاله صلى الله عليه وسلم وحالِ الصحابة رضي الله عنهم. ثم أقول: إن قَسَمتَ الشهرَ على العشرات فليلة القدر في الأخيرة منها، وإن قسمتَها على الأسابيع فهي في الأسبوع الأخير، وإن قسمتَها على الأخماس فهي في الخمس الأخير، وكيف ما كان تكونُ في وترٍ منها. هذا، وإن لم يُقرعْ سمعُك به من قبل، لكنه هو التحقيق إن شاء الله تعالى.
38 - باب سُؤَالِ جِبْرِيلَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الإِيمَانِ وَالإِسْلَامِ وَالإِحْسَانِ وَعِلْمِ السَّاعَةِ وَبَيَانِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ
ثُمَّ قَالَ «جَاءَ جِبْرِيلُ عليه السلام يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ» . فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا، وَمَا بَيَّنَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ مِنَ الإِيمَانِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85].
والغرضُ منه احتراسٌ مما يشنأُ من قوله: إن الإسلام والإيمان واحد، مع أن هذا الحديثَ يدل على المغايرة. وحاصلُ جوابِهِ على ما قرر الحافظ رحمه الله تعالى: أن الإيمان والإسلام لكل منهما حقيقةٌ شرعية، كما أن لكلٍ منهما حقيقةً لغوية، وكل منهما مستلزمٌ للآخر بمعنى التكميل له. فكما أن العامَل لا يكون مسلمًا كاملًا إلا إذا اعتقد، فكذلك المعتقدُ لا يكون مؤمنًا كاملًا إلا إذَا عمل. وحيثُ يُطلق الإيمانُ في موضع الإسلام أو العكس، أو يطلقُ أحدهما على
إرادتهما معًا، فهو على سبيل المجاز ويتبينُ المرادُ بالسياق، فإن وردا معًا في مقام السؤال حُمِلا على الحقيقة، وإن لم يردا معًا، أو لم يكن المقامُ مقامَ السؤال، أمكن الحمل على الحقيقة، أو المجاز، بِحَسَبَ ما يظهر من القرائن. ومحصَّلُ جوابه أن الإيمانَ والإسلامَ يفترقان إذا اجتمعا على صورة المقابلة، وحيث انفردا يكون أحدهما عينَ الآخر كما هو صنيعهم في المترادِفَات، فإنها إذا اجتمعت يفرَّق بينها في ذلك المقام خاصة.
وإذن فالفرق في حديث جبرائيل مقاميٌّ ولا يدل على أن الإسلام والإيمان متغايران حقيقة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّنَ لوفدِ عبد القيس أن الإيمانَ هو الإسلام، حيث فسَّر الإيمانَ في قصتِهم بما فسرَّ به الإسلام ههنا. وفي ضمن الجواب استدل المصنف رحمه الله لمذهبه بالآية، بأنها صريحة في أن الدينَ والإسلام شيء واحدٌ فظاهر جوابه معارضُة وبعد الإمعان حُلّ. وقد يقرر الجواب بطريق آخر أيضًا: وهو أن الاتحادَ بين الدين والإسلام ثابت من الآية: {إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَمُ} [آل عمران: 19] واتحادَ الإسلام والإيمان ثابتٌ من حديث وفد عبد القيس فثبت اتحاد الكل.
والمصنف رحمه الله تعالى لم يفصِح بالجواب، وهذا دأبه كثيرًا في كتابه، حيث يذكرُ مادةَ الجواب ولا يفصِحُ بمراده.
أقول: وهذا الجوابُ غير مسقيمٍ، لأن التغايرَ المقاميُّ إنما يكون إذا كان اللفظان في عبارةٍ واحدة، وههنا لم يقع السؤال أولًا إلا عن الإيمانِ فحَسب، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعلمُ أنه سائل بعد ذلك عن الإسلام أيضًا حتى يجاب بالتغاير المقاميِّ. وإنما ذكر أولًا حقيقةَ الإيمان على ما كان عنده بدون نظرٍ إلى مفهوم الإسلام، حتى إذا سُئل ثانيًا عن الإسلام أيضًا أجابه كذلك، فالجواب بالفرق باعتبار المقام لا يمشي ههنا.
نعم، لو كان هناك سلسلة الأسئلة في عبارة واحدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أجابَ عنها أيضًا كذلك لكانَ له وجه. فالوجه عندي: أن الجواب إنما يُلقى على السائل بقدرِ علمِهِ وفَطَانته، وسؤالُ جبرائيل عليه السلام وكذا حالُهُ لمَّا دلا على كمال فَطَانته، أجابه مفصلًا بذكر حقيقة كلٍ على حدة، بخلاف وفد عبد القيس فإن ضِمَام بن ثعلبة كان حديثَ العهد بالإسلام، فاكتفى في جوابه على الإجمال ولم يلتفت إلى بيان الحقائق.
وحاصله: أنه راعى حال المخاطُب في كلا الحديثين، كما أن الذي يعظُ الناسَ يراعي ما يحرِّضُ على العمل، فربما يذكر الضَّعاف من الأحاديث عند الترغيب والترهيب ولا يفصِّلُ في كلامه، ويقول: تارك الصلاة كافر، ولا يقول: كافر بكفرٍ دون كفر. بخلاف المعلم الذي يتصدى لإظهار الحقائق فيذكر حقيقةَ الأمرِ ويُنَبِّه على المسامحات، ويفصِّلُ في المتعلَّقات. فحاصل حديث جبرائيل عليه السلام: إعطاء العلم، وبيان الحقيقةِ كما يفعلُ المعلم وهو الأقرب بسياقه، بخلاف حديث وفد عبد القيس فإنَّ حاصِلَه التحريضُ على العمل، وفي مثله يتمشَّى على الإجمال فيُتسامحُ في البيان.
50 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِىُّ عَنْ أَبِى زُرْعَةَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ مَا الإِيمَانُ قَالَ «الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ» . قَالَ مَا الإِسْلَامُ قَالَ «الإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤَدِّىَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ» . قَالَ مَا الإِحْسَانُ قَالَ «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» . قَالَ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ «مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا إِذَا وَلَدَتِ الأَمَةُ رَبَّهَا، وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإِبِلِ الْبُهْمُ فِى الْبُنْيَانِ، فِى خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَاّ اللَّهُ» . ثُمَّ تَلَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) الآيَةَ. ثُمَّ أَدْبَرَ فَقَالَ «رُدُّوهُ» . فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا. فَقَالَ «هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ» .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنَ الإِيمَانِ. طرفه 4777 - تحفة 14929 - 20/ 1
50 -
قوله: (بارزًا يومًا للناس) والبروز: الظهور. وعند الحافظ رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلسُ بين أصحابه، فيجيءُ الغريب فلا يدري أيهم هو. فجعلنا له مجلسًا يعرفه الغريبُ إذا أتاه. قال: فبنينا له دكانًا من طين كان يجلس عليه.
(الإيمان أن تؤمن بالله)
…
إلخ فذكر تحته الأشياءَ الغائبة، كما مر تحقيق الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى: أن الإيمان لا يتعلق إلا بالمغيبات.
(وبلقائه): وهذا هو الجزءُ الذي يتميزُ به الإسلامُ عن سائر الأديان الباطلة.
فإن أهل يونان عقيدتهم أن العلومَ الحقَّة كلها تحصلُ في الأنفس بعد افتراقِها عن الأبدان، وتصيرُ جميعُ الأشياء مشهودةً لها، فيحصل لها بها سرورٌ، وهو جنتها ونعيمها، وإن لم يحصلُ لها العلوم أو حَصَلَتْ على خلاف ما كانت في الواقع، فهذا يكون غمًا عليها أبدًا وهو عذابُها وجحيمُها. وعندهم العقول بدل الملائكة، ولقاءه تعالى عندهم محال.
وأما هنادكة الهند فيقولون: بحلول الألوهية في الجُثْمان ويُسمونَها ديوتا، واوتار ويعبدونَها ويزعمونَ بالتناسخ، فليس أحدٌ منهم قائل باللقاء إلا أهل الدين السماوي، قال تعالى:{فمن كانَ يرجُوا لقاءَ ربه فليعملْ عَمَلًا صالحًا} [الكهف: 110]. ثم اعلم أنه ليس بين الدنيا والقيامةِ مسافةٌ يصلُ إليها بعد قطعها، بل تظهرُ القيامةُ من هذه الدنيا بعد خرابها، كما تظهرُ الشجرة من النواة، فإن النواةَ تنشقُّ، وينفُضَ قِشرهَا، وتفنى صورتُها، ثم تظهر من حاقها الشجرة، كذلك الدنيا بعد الانفطار والاندِكَاكِ تفنى وتنعدِم، ومنها تخرجُ القيامة. وليست القيامةُ في بقعة أخرى وموطن غيرها، بل يسوَّي لها ذلك المكان وذلك الموطن.
ولي قصيدة بالفارسية في تمثل البرزخ والحشر وأطوار الوقائع، ومنها:
"منكشف آن جهان شود كرجه درين جهان بود
زندكى دكر جنان ذره بذره مو به مو
رهكذر نكه نه ديد ديده درين رهـ كذر -
درته خاك خفته جو دشت بدشت سو به سو
تانه شكست صورتي جلوه نزد حقيقتي -
قد ورها شدن ازورنك برنك بو ببو
ظاهر وباطن اندران هم جونوات ونخل دان
نى بعداد يك زدو جنب بجنب دو بدو"
(ولا تشرك به) فيه طردٌ وعكسٌ، أي إحاطة الكلام بطرفيه.
(ما الإحسان) قال الحافظ رحمه الله تعالى: وأشار في الجواب إلى حالتين: أرفعُها، أن يغلبَ عليه مشاهدة الحقِ بقلبه، حتى كأنه يراه بعينه وهو قوله:(كأنك تراه) أي وهو يراك. والثانية: أن يستحضرَ أن الحق مطلع عليه، يرى كل ما يعمل وهو قوله:(فإنه يراك).
وقال النووي: معناه إنك إنما تُراعي الآداب المذكورة إذا كنتَ تراه ويراك لكونه يراك، لا لكونك تراه، فهو دائمًا يراك، فأحسن عبادتَه، وإن لم تره، فتأويل الحديث: فإن لم تكن تَرَاه فاستمرَ على إحسانِ العبادة، فإنه يراك. انتهى ملخصًا
(1)
.
(1)
قلت: وقد تسلسل هذان الشرحان في الكتب، إلّا أنه لم يُنبِّه أحدٌ منهم على الفرق بينهما. وقد كان شيخي رحمه الله تعالى يفرِّق بينهما بعبارة وجيزة ما كنتُ أفهمُها إلى زمن طويل، فلم أزل أتفكرُ فيها وأراجع إليها مرة بعد مرة حتى ظننتُ أني قد فهمتُها، فحاصل الشرح الأول على ما فهمته من كلمات الشيخ رحمه الله تعالى: أن الإحسان ينقسم إلى حال، وعلم، فإن مشاهدةَ الحَق بقلبه كأنه يراهُ حال له، وصفة قائمة به، وليست علمًا.
بخلاف قوله: "فإنه يراك" فإِنه ليس فيه من صفته شيئًا، ولكنه علمٌ وعقيدة بأن الله يراه وبعد غلبته وأن تصير حالًا، لكنه مع هذا يكون أقرب من العلم.
والمعنى أن الحالةَ الأولى إن فاتت عنك فلا تَفت عنك الثانية، فهاتان حالتان مطلوبتان، وإن كانت الأولى أرفع، من الثانية، فإن الأولى حال يدل على كمال الاستغراق، بخلاف الثانية فإنها أقربُ من العلم والعلم أدون من الحال، لأنك قد سمعت منا أن العلم إنما يكون حالًا بعد رسوخه، وصيرورته صفةً للنفس. وإنما قدَّر في المعطوف قوله:"وهو يراك" إشارة إلى أن ذلك أمرٌ لا مناص عنه، ففي الحالة الأولى استحضار لرؤيته إياه مع علمه بكونه مشاهدًا لعبده. وفي الحالة الثانية استحضار لمشاهدته فقط، فتلك الحالة أقرب من العلم.
وحاصل شرح النووي: أن الإحسان: هو العبادة بغاية الخشوع والخضوع، وهي التي تكون في حالة العيان، فاعبد ربك في جميع أحوالك كما كنت تعبده لو كنت تراه، فهذا هو المقصود، ثم الخشوع ومراعاةُ الآداب في حالة العِيان إنما يكون لعلم العبد أن الله مطلِعٌ عليه وُيبصرُه، وهذا المعنى موجودٌ مع عدم رؤية العبد، فإنه وإن لم يكن العبدُ يراه لكنه تعالى يراه، وحينئذٍ وجب عليك أن تستمرَ على عبادتِهِ بغاية الخشوعِ في جميع الأحوال، فإن موجبه وهو رؤيته تعالى متحقق في الأحوال كلها، فالمقصود ليس هو الانصباغ بتلك الحال، بل المقصود هو العبادة بهذة الجهة، فالجهة الأولى حال لكنها مفروضة مقدرة، ولذا قال:"كأنك تراه" ولم يقل: لأنك تراه. =
واعلم أن لفظَ الإحسانِ شاملٌ لجميعِ أنواع البر من الأذكار من الأذكار، والأشغال وغيرها. والأذكارُ تقالُ للأوراد المسنونة، وما ذكرهُ المشايخ من الضربات والكيفيات يقال لها: الأشغال. والنسبة في اصطلاحهم: ربطٌ خاصٌ سوى ربطِ الخالقية والمخلوقية، فمن حصل له ربطٌ سوى الربط العام يقال له: صاحب النسبة.
والطرق المشهورة في التصوف أربعة: السُّهْورْدِية، والقَادِرِية، والجشْتِية، والنَّقْشَبَنْدِية، والسلسلة السهروردية قد تسلسلت في أجدادنا من عشرةٍ متصلةٍ ثم ما نقل إلينا من الأوامر والنواهي، والوعد والوعيد سُمِّي شريعةً. والتخلُّقُ بها يُسمَّى طريقةً، وحينئذٍ تنصَبِغُ الأعمال بصبغ الإيمان كما كان في السلف. أما اليوم فعلمٌ بلا عمل، وإيمانٌ بلا تصديق من الجوارح، «ربَّ تالٍ للقرآن والقرآنُ يلعنُهُ» . ثم الفوزُ بالمقصد الأسنى، والنيلُ بالمأرب الأعلى يُسمَّى حقيقةً. ومن ههنا ظهر أن الطريقةَ والشريعةَ لا تتغايران كما زعمه العوامِّ.
وقد كتب الغزالي أن بعضَ العلمِ لا يُضطرُ العَالِمُ إلى العمل به، وبعضه يغلِبُ عليه، ويستعملُ الأعضاء في الطاعات، وهذا هو الإيمان عند السلف، وهو المرادُ بما قلت: إن الإيمان ينبسِط من الباطنِ إلى الجوارحِ، والإسلام يدخل من الظاهر إلى الباطن. فإن التصديقَ إذا غلب واستعمل الأعضاء صارَ الإسلامُ والإيمانُ متحدين، وهو المراد باتحاد المسافتين، وإلى هذا المقام أشير في قوله:«أن تعبد الله كأنك تراه»
…
إلخ، فإن العبادة التي تتعلقُ
= والجهة الثانية متحققةٌ لكنها علم بحت على هذا التقدير، وليس المقصود تحصيلها، بل المطلوبُ هو عبادتُه من تلك الجهتين.
فالحاصل أن الإِحسانَ على الشرح الأول عبارة عن الحالتين المقصودتين تُثمِّرُهما معرفته تعالى وخشيته. وعلى الثاني عبارة عن العبادة بهاتين الجهتين، فهاتان جهتان للعبادة المطلوبة، لا حالتان مطلوبتان للعبد، فالمطلوب هو العبادة فقط، و"كأنك تراه" جهة لها، بمعنى أن العبادة ينبغي أن تكون بالخشوع بدون العيان كما تكون عند العيان، ومعلوم أنها عند العِيان تكون بغاية حسنِ السَّمتِ والتأدب ظاهرًا وبَاطنًا؛ فينبغي أن يكون عند عدم العِيان أيضًا كذلك، لأن الله تعالى يدرِكَ الأبصار ولا تدركُه الأبصار، فهو غير مُعَاين لكن عبادتَه ينبغي أن تكون كما لو كنتَ تُعَاينُه، لأن العبادة في حالة المعاينة إنما تكون بالخشوع مراعاة لرؤيته تعالى، ولا دخل فيه لرؤيتك، لأنك إنما تخشى المَلِكَ لزعمكَ أنه يراكَ أو يعلَم حالك، وإن كنتَ تزعمَ أنه لا يراكَ أو لا يعلمُ حالَكَ، لا تخاف منه. وإن كنت تراهُ فكذلك عبادتك مع عدم رؤيتك، إياه ينبغي أن تكونَ كما لو كنت تراه ويراك، لأن موجب الآداب والاعتناء بها هو رؤيته، لا رؤيتك، وهو متحقق دائمًا، فهذا أيضًا جهةٌ للعبادة المطلوبة، لا حالة مطلوبة في نفسها. بل عِلْمُ هذه الجهة تورثُ الخشوعَ في العبادة فهذه مؤثرةٌ ومورِثةٌ للخشوع.
وبالجملة المقصود على الأول هو الانصباغ بهاتين الحالتين، وعلى الثاني المقصود هو العبادة من جهة حالة مقدرة وعلم محقق. وشرح النووي هو أقرب عند الشيخ رحمه الله تعالى، وإنما طوَّلتْ الكلام في بيان الفرق بينهما مع التكرار الشديد، بحيث يكادُ أن يملَ الناظر، لأنه تعسَّرَ على الفرق بينهما، وبعد تفكرٍ وتعمقٍ انكشف لي الأمر، فكأنما نَشِطت من عِقال، ودونك بيتين غريبين في هذا المعنى:
كان رقيبًا منك يرعى خواطري
…
وآخر يرعى ناظري ولساني
وإني لأستحييك والبعد وبيننا
…
كما كنت أستحي وأنت تراني
بالجوارح إذا صدرت عنه بذلك الخشوعِ والخضوعِ فقد خَرَجَ إيمانه إلى الأعضاء ودخل إسلامه في القلب واتحدت المسافتان، وحينئذٍ فالإسلام والإيمان شيء واحدٌ، بخلافِ ما أذا بقيَ تصديقهُ في القلب ولم يظهر إلى الأعضاء، أو اقتصر إسلامه على الأعضاء ولم يحصل له الإحسان، فبقيَ إسلامه على الأعضاء فقط ولم يسرِ إلى القلب، فهذا الإسلامُ غير الإيمان، والإيمانُ غير الإسلام، وقد ذكرناه سابقًا أيضًا.
(ما المسؤول عنها)
…
إلخ، ولم يقل: لست بأعلمَ منك، لأن الكناية أبلغُ من التصريح، كقوله تعالى {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا} [يوسف: 23] وذلك لكونه أبلغ.
(إذا ولدت الأمة)
…
إلخ، أي تصير الأصول فروعًا والفروعُ أصولًا. فالمرادُ منه انقلابُ الأمورِ عند إبَّانِ الساعة. وفيه شروحٌ عديدٌ أخرى أكثرها مرجوحةٌ عندي. ويؤيدُ ما قلنا قوله صلى الله عليه وسلم «إذا وُسِّدَ الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة» ، فهو الحريُّ بالأخذ، لأن الحديثَ يفسرُ بعضَه بعضًا. ثم إن التمسك فيه على جواز بيع أمهات الأولاد أو على عدم جوازه في غير موضِعه، فلم نلتفت إليه.
(في خمس)
…
إلخ أي علمُ وقتِ الساعةِ داخلٌ في خمس. ثم اعلم أن هذه الخمسَ لما كانت من الأمور التكوينية دون التشريعية، لم يُظْهِر عليها أحدًا من أنبيائه إلا بما شاء، وجعل مفاتيحه عنده فقال:{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ} [الأنعام: 59] لأنهم بُعِثُوا للتشريع، فالمناسبُ لهم علومُ التشريع دون التكوين. ثم المراد
(1)
منه أصولها. وأما علمُ الجزئيات فقد يُعطى منه الأولياء رحمهم الله تعالى أيضًا، لأن علمَ الجزئيات ليس بعلم في الحقيقة، لكونها محطًا للتحولات والتغيرات، ولأن علمًا جزئيًا لا يوصل إلى علمٍ جزئي آخر فكأنه ليس علمًا. وإنما العلمُ علمٌ يوصِلُ إلى علمِ جميع أفرادِ ذلك النوع، وليس ذلك إلا علمُ أصولِ الشيء.
ألا ترى أن ألوفًا من المصنوعات تُجْلبُ إلينا من ديار الأوربا ونحن نشاهدها ونعلمها، ولكن لا علم لنا بأصولها، فأيّ علم حصَّلناه بتلك الجُزئيات؟ ولكنّ العلمَ هو العلمُ الكُلي يتمكنُ به صاحبه من علمِ الجزئيات من ذلك النوع بأسرها ويطلع على حقائقها، وإليه أشار سبحانه بالمفاتح، فإنك إذا أُوتيت مِفْتَاحًا قَدَرْتَ على فتح المغاليق كُلِّها مهما أردت، وليس
(1)
واستشكله الرازي ثم لم يُجب عنه موضحًا. ومرّ عليه الشوكاني فقال: إنه من زيغ فلسفته فإنه لا علم لأحد منهم يجزِنيِّ من جُزئيات الغيب. "قلت": وإنما يَسمعُ دعواه من لا خبرة له بما دار في الدنيا، ولو طالع التاريخ لعلم أنَّ لأخبار بالمغيبات فنونًا ذكرها ابن خلدون. وقد اشتُهِرَ أن الكهنة أخبروا بشيء ثم وقع كما أخبروا به فليس ذلك من زيغه، بل لعدم وقوف الشوكاني بحقيقة الحال. واعلم أن الشوكاني الذي يُنكرُ على تقليد الأئمة ثم يريدُ هو أن يدعوَ الناس إلى تقليده، قد صنف تفسيرًا سماه "فتح القدير" فجاء نواب صديق حسن خان بعده وألحقَ به مقدمةً من قِبَلِه، وزاد ونقَّصَ فيه وسماه "فتح البيان" هكذا في تقرير الفاضل عبد العزيز الكاملفوري.