الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موضع، لم يكن موضع الخطأ غضب عليه، وإن كان موضعُ الاجتهاد، أغمض عنه، وستأتي عليك نظائره.
(أعلمكم بالله أنا) فمن كان علمه زائدًا كانت عبادتُهُ أيضًا مَرضِيَّة، لأن العبادةَ اسمٌ للطاعة حسب رضى المطاع، فمن كان أزيد علمًا برضى المطاع، كان أفضلُ عبادةً، فإن التقرب يتوقف على معرفة رضاء المطاع، والزمان، والمكان، لا على تَحمُّل المشقة؛ فإن الشيءَ الواحدَ قد يكون أرضى لأحد، ولا يكون اخر، وكذا يكون أرضى له بزمان، دون زمان. فمعرفة هذه الأشياء هي الأهم، فإن الصلاة مشهودةٌ محضورةٌ، وهي عند الطلوع والغروب. مردودةٌ محظورة، فاعلمه فإن الطبائِعَ السافلة يتحرون الفضل في تحمّلِ المشاق، ولذا قيل: إن بعض الأولياء وإن كانوا أزيدَ طاعة كمًا، لكنهم أنقصَ كيفًا عن الأنبياء بمراتب لا تحصى.
كما عند الترمذي في كتاب الدعوات
(1)
: أن بعضهم كان يسبح الله في كل يوم مئة ألف مرة. وكان أبو يوسف رحمه الله يُصلي مئتي ركعة كل يوم في زمن قضائه، ولا حاجة لنا إلى ذكر ما عند الأولياء من إحياء الليالي وقيامها، وترك الاستراحة، والتبتل إلى الله عز وجل، والاعتزال عن الناس، فإنها أغنى عن البيان.
(وأتقاكم) أي تحرزًا عن الشبهات والمناهي، وتصديًا إلى تقرب الله تعالى.
14 - باب مَنْ كَرِهَ أَنْ يَعُودَ فِى الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِى النَّارِ مِنَ الإِيمَانِ
.
21 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لَا يُحِبُّهُ إِلَاّ لِلَّهِ، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِى الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِى النَّارِ» . أطرافه 16، 6041، 6941 - تحفة 1255
والأَوْلى أن يجعل الجملة بألفاظِهَا مبتدأ، ومن الإيمان خبره. وأراد به البخاري رحمه الله تعالى الردَّ على من ظن أن الاجتنابَ عن الكفر لا يكون إلا بعد تمامية حقيقة الإيمان، كباب المفسدات في الفقه، فإنه يكون بعد باب صفة الصلاة، فهكذا الاجتنابُ لا ينبغي أن يكون بعده، فنبَّه على أنه مع كونه بعد الإيمان من الإيمان.
15 - باب تَفَاضُلِ أَهْلِ الإِيمَانِ فِى الأَعْمَالِ
.
22 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِى مَالِكٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِىِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ،
(1)
رواه في باب ما جاء في الدعاء إذا انتبه من الليل قال: كان عمير بن هانىء يصلي كل يوم ألف سجدة، ويسبح مائة ألف تسبيحة اهـ.
وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ. فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا قَدِ اسْوَدُّوا فَيُلْقَوْنَ فِى نَهَرِ الْحَيَا - أَوِ الْحَيَاةِ، شَكَّ مَالِكٌ - فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِى جَانِبِ السَّيْلِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهَا تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً». قَالَ وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا عَمْرٌو «الْحَيَاةِ» . وَقَالَ «خَرْدَلٍ مِنْ خَيْرٍ» . أطرافه 4581، 4919، 6560، 6574، 7438، 7439 - تحفة 4407
واعلم أن هذه الترجمة لها ارتباط بما تأتي ترجمة أخرى بعدها، وهي: باب زيادة الإيمان ونقصانه
…
إلخ. وأخرج المصنفُ رحمه الله تعالى تحتها حديثَ أنس رضي الله عنه بمعنى حديث الباب، ثم عبّر بالتفاضل ههنا، والزيادة هناك.
وقوله: (تفاضل أهل الإيمان في الأعمال) ههنا على حد قولهم: تفاضل أهل العلم في المعاني والفقه، فلا يردُ أن العملَ إذا كان عينَ الإيمان عنده وداخلًا فيه، كان مآلُ الترجمة إلى تفاضل الإيمان في الإيمان، والمفاضلة بين الشيءِ ونفسه محال، فما معنى التفاضل في العمل؟ فإن الفصاحةَ أيضًا داخلةٌ في العلم، ومع ذلك صح قولهم: تفاضل أهل العلم في الفصاحة، فكذلك صح إطلاق التفاضل ههنا أيضًا، وإن كان العملُ داخلًا في الإيمان، ثم إن لفظ التفاضل يستعمل فيما بين الأنبياء، وسور القرآن، ولا يقال فيها: إن هذه زائدة وتلك ناقصة، وكذلك في الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام أيضًا، ولذا قال تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (البقرة: 253) ولم يقل: زِدْنا لإبهامه التنقيصَ في الجانب الآخر، والأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام ليس فيهم دُون ونقص، بل لم أر لفظَ النقصان في الإيمان أيضًا، إلا في آثار عند السفاريني.
والحاصل: أن التفاضل في الأشخاص، والزيادة والنقصان في المعاني، فالمصنف رحمه الله تعالى نَظَرَ في هذه الترجمة إلى حال العاملين، فوضع التفاضلَ بينهم. وفيما يأتي نظر إلى نفس الإيمان، فوضع لفظَ الزيادة والنقصان؛ لأنهما يُستعملان في المعاني، ثم أقول في تمايز الترجمتين: إنه تعرض في هذه الترجمة إلى تفاضل الأعمال، وإن كانوا في الإيمان سواء، وفي الترجمة التالية إلى زيادة نفس الإيمان، سواء كانوا متفاضلين في الأعمال أم لا. أو بعبارة أخرى: إن الكلام في هذه الترجمة في الموصوفين، أي المؤمنين بحسب الأعمال، وفي الترجمة الأخرى في نفس صفتهم، وهي الإيمان دون الموصوفين، وإن كان ينجز أحدهما إلى الآخر.
وهذا الكلام على مختارِ الشارحين، أما عندي فتلك الترجمة من أشكل التراجم من وجوه.
الأول: أن المصنف رحمه الله فرق في الترجمة على الحديثين، فوضعَ ترجمةَ التفاضل على حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وزيادة الإيمان على حديث أنس رضي الله عنه، مع اتحادِ مادة الحديثين، وإن كانا متعددين على اصطلاح المحدثين، فإن وحدة الحديث وتعدده يدورُ عندهم على وحدَةِ الصحابي وتعددهِ، لا على اتحاد مضمون الحديث واختلافه،
وبهذا المعنى قالوا: إن في مسند أحمد رضي الله عنه ثلاثين ألف حديث.
والثاني: أنه لا ذكر للعملِ في حديث أبي سعيد رضي الله عنه بل فيه ذكر الإيمان فقط، كما يدل عليه قوله:«أخرِجُوا من كَانَ في قلبه حبةُ خردلٍ من إيمان» ففيه ذكر مراتبِ الإيمان فقط، بخلاف حديث أنس رضي الله عنه، فإن فيه ذكرُ الخيرِ، وهو العمل، ولفظه:«يخرجُ من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزنُ شعيرةٍ من خيرٍ» فينبغي أن ينعكس حالُ التراجم، ويترجم على حديث أبي سعيد بزيادة الإيمان ونقصانه، لعدم ذكر الأعمال فيه، وعلى حديث أنس رضي الله تعالى عنه بالتفاضل في العمل، لمجيء ذكر العمل فيه، مع أن المصنف رحمه الله تعالى عكس في التراجم.
والثالث: أن اللفظين إذا وردا في الحديثين، فلم أخرج في الأصل لفظ الإيمان في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه والخيرَ في حديث أنس رضي الله تعالى عنه ولم لم يخرج في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه لفظَ الخير في الأصل، والإيمان في المتابعة. وحاصله: أنه أخرج لفظ الإيمان والخيرِ في الحديثين، وجعل أحدهما أصلًا، والآخر متابعًا، فلم لم يعكس الأمر؟ ولم يجعل التابع أصلًا؟ والأصلُ تابعًا؟
والرابع: أن مسألة الزيادة والنقصان قد كانت مضت مرة، فلم أعادَها مرة أخرى، والشارحان لم يتكلما فيه إلا كلامًا سطحيًا، مع أن المقام يحتاجُ إلى إيضاح وبيان وإتمام والحافظ ابن تيمية رحمه الله وإن تكلم في كتابه على مسألة الإيمان مفصلًا، لكنه لم يلتفت فيه إلى حل تراجم البخاري، ولم يكن ذلك موضوعه، ولو فعل لأحسن.
فأقول: أما الجواب عن الرابع فإنه سهل، وهو أن الترجمةَ السابقة لم تكن في مسألة الزيادة والنقصان قصدًا، بل كانت استطرادًا، ولذا لم يُخْرِّج لها حديثًا هناك، وههنا قصدي، فلذا أستدل عليها على نهج كتابه.
وأما الجواب عن الثالث: فهو أنه من علوم المصنف رحمه الله تعالى ولا ندري ما وجهه.
وأما الجواب عن الأول، والثاني، فلا يتضح إلا بعد المراجعة إلى حديثهما عند مسلم، وسأذكره، ولكن أذكر أولًا جوابَ الحافظ، قال الحافظ رحمه الله تعالى في الجواب عن الأول، والثاني، ما حاصله: إن الحديثين لما كان صالحين لزيادة الإيمان ونقصانه، والتفاضل في الأعمال، ترجم بكل من الاحتمالين، وخصَّ حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه بالتفاضل في الأعمال؛ لأنه ليس في سياقِهِ ذكرُ التفاوت بين مراتبِ الإيمان، فلم تناسب به ترجمةُ الزيادة والنقصان، بخلاف حديث أنس رضي الله تعالى عنه ففيه التفاوت في الإيمان القائم بالقلب، من وزن الشعيرة، والبُرَّة، والذرة.
وأجاب عن الرابع: أن الزيادة والنقصان فيما مر كان في الإيمان، وأراد ههنا أن يتكلم في زيادة نقس التصديق ونقصانه. قلت: ما ذكره الحافظ رحمه الله تعالى لا يغني شيئًا؛ لأن المصنف رحمه الله تعالى لم يتكلم في زيادة الإيمان باعتبارِ نفسِ التصديق بحرف، وإنما اختار تركُّب الإيمان والزيادة فيه، سواء كانت من تلقاء الأجزاء، أو الأسباب، ولذا لم يقابل بين
التصديق، والأعمال، ليقال: إنه أراد في حديث أنس رضي الله تعالى عنه إثبات الزيادة والنقصان في نفس التصديق، وإنما الزيادةُ والنقصان عنده باعتبار المجموع؛ فإذن توجيه الحافظ رحمه الله تعالى من باب توجيه القائلِ بما لا يرضى به قائله.
وكذا جوابه عن الأول، والثاني، غير نافذ؛ لأن تفاوتَ الموزونات وذكرُ المراتب ورد في حديث أبي سعيد رحمه الله تعالى أيضًا كما هو عند مسلم، ولئن سلَّمنا أن تفاوت المراتبِ ليس في طريق المصنف رحمه الله تعالى خاصة، فلا يصح الجواب أيضًا؛ لأنه لا ذكر للأعمال في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه عنده، كما أنه لا ذكر فيه لمراتب الإيمان، فحديثه لا يصلح لترجمة التفاضل، كما أنه لا يصلح لترجمة الزيادة والنقصان، فكيف ترجم بالتفاضل في الأعمال؛ فكلام الحافظ رحمه الله تعالى يصلح جوابًا عن عدم ترجمته بالزيادة والنقصان، لا عن ترجمته بالتفاضل في الأعمال.
وحينئذٍ أقول: إن البخاري رحمه الله تعالى إنما خصص حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه بالتفاضل في الأعمال لأمرين.
الأول: أنه رحمه الله تعالى نظر إلى روايتهما المفصلتين: فحديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أخرجه مسلم في «صحيحه» مفصلًا، وفيه ذكر الأعمال أيضًا. ولفظه:«يقولونَ ربنا كانوا يَصُومون مَعَنَا ويُصلُّونَ ويحُجُّون، فيقال لهم: أخْرِجُوا من عَرَفْتُم» ثم ذكر بعده مراتبَ الخير على الترتيب وفي آخره: «فيقبض الله قبضة من النار فيُخرجُ منها قومًا لم يَعْمَلوا خيرًا قطُّ» وليس فيه ذكرُ الإيمان، وكلمةُ التوحيد، وإن كان معتبرًا قطعًا لكونه مفروغًا عنه؛ فإن الأعمال لا عبرة لها بدون الإيمان. وأما حديث أنس رضي الله تعالى عنه فلم نجد فيه ذكر الأعمال في أحد من طرقه؛ بل فيه بعد ذكر الشفاعة «فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه» ، وليس في آخره ذكرُ العمل، ولعل نظر المصنف إلى هذين المفصلين، وحينئذٍ لا شك أن الطريقَ الأول لاشتماله على ذكر الأعمال يصلح لترجمة التفاضل في الأعمال، وكذا الثاني أيضًا يصلُح لما ترجم به.
والثاني: أنه أخرجَ لفظَ الإيمان في حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وعيَّنَ مُرَاده بذكر المتابعة، «بالخير» وهو العمل، فكأنه نبَّه على أن المراد من مراتبِ الإيمان في حديث أبي سعيد رضي الله عنه، إنما هو مراتبُ الأعمال، فجعل لفظ الإيمان مفسَّرًا، والخير مفسِّرًا «بالكسر» وإطلاقُ الإيمانِ على الخير جائزٌ عنده، بل هو أوضحُ في مراده، وعَكَسَ في حديث أنس رضي الله تعالى عنه، فأخرج لفظَ الخير في الأصل، وعيَّنَ مراده بإخراج لفظ الإيمان في المتابعة، فلما اختلف محطُّ الفائدة في سلسلة أسبابِ النجاة في الحديثين، بكون الأعمالِ في الأول، ومراتبُ الإيمان في الثاني، وضع عليهما التراجم كما ترى، ونبَّه عليه بإخراج المتابعات، شرحًا لما في المتن.
بقي أنه لم جعل الإيمانَ أصلًا والخير متابعًا في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه،
على عَكْسِ حديث أنس رضي الله تعالى عنه؟ فقد مر مني أنه من علوم المصنف رحمه الله تعالى.
والحاصل: أن حديث أبي سعيد لما اشتمل على ذكر الإيمان في الأصلِ، ولا بد أن يكونَ هناك أحدٌ أهلًا للإيمان أيضًا، فأخذ منه لفظَ أهلِ الإيمان، وأخذ من متابعة الخيرِ لفظَ الأعمال، وركَّبَ من مجموعِ الأصل والمتابعة ترجمة، فقال: تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، وفي حديث أنس رضي الله تعالى عنه جعل الخيرُ إيمانًا للمتابعة، ثم أخذَ من المجموعِ ترجمة زيادة الإيمان ونقصانه، وقد مرّ مني أنه لم يكن جرى ذكرُ تلك المسألة، على طريق المترجم له، بل كان ذكرُها استطرادًا، فأراد أن يذكرها على طريق المترجم له أيضًا، كما قاله الحافظ رحمه الله تعالى: هذا كلام على ترجمة المصنف رحمه الله تعالى.
أما الكلام في الحديث ففيه أيضًا غموضٌ ودقة: الأول أن المراد من الخير ما هو؟ والثاني: أن الذين يخرجون في الآخر من هم؟ فاعلم أنه اتفق الشارحون على أن الخير في الحديثين زائدٌ على نفس الإيمان، لقوله تعالى:{أو كسب في إيمانِها خيرًا} (الأنعام: 158) فهذا دليل واضح على أن المرادَ من الخير هو العملُ الزائدُ على الإيمان، وكذا قوله تعالى:{فمن يعملْ مثقالَ ذرةٍ خيرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذرةٍ شرًا يره} وأرادوا بالخير فيهما ما يعم الجوارح والقلب.
قلتُ: أما الخير في حديث أبي سعيد، فالمراد به أعمال القلب فقط، كحسنِ النية، وغيره، لأن فيه ذكر الخير بعد أعمال الجوارح؛ لأن الشفعاءَ لما يخرِجُونَ مَنْ كَان عندهم أعمال الجوارح. يقولون: ربنا ما بقي فيها أحدٌ مما أمرتنا به، وهم أصحاب أعمال الجوارح. فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقالٌ دينار من خير فأخرِجوه إلى آخر المراتب، فلا بد أن يراد من الخير غير أعمال الجوارح، فإنهم أُخرجوا في المرة الأولى، وإنما أذن في هذه المرة فيمن كان عندهم خير على مراتبه، فلا يكون إلا من الأعمال القلبية.
وأما في حديث أنس رضي الله تعالى عنه، فالمرادُ فيه من الخير هو نورُ الإيمان، وانفساحه وانبساطه، دون العملِ القلبي، بل ما هو من آثار الإيمان؛ لأنه لا ذكر في حديث أنس رضي الله تعالى عنه للأعمال أصلًا، بل فيه ذكر مراتبُ الخير من أول الأمر، مع ذكر لا إله إلا الله، فيكون قرينة على أن المرادَ منه ما هو من لواحق لا إله إلا الله، كالنماء مثلًا، ولأن في حديث أنس رضي الله تعالى عنه في بعض ألفاظه:«مثقال حبة برة أو شعيرة من إيمان» ، فهذا دليل على أن تلك المراتب يجب أن تكون من الإيمان، فلذا جعلتُ الخيرَ فيه من لواحقه، وثمراته، بخلاف حديث الباب، فإنه لا ذكر فيه للإيمان في اللفظ، وإن كان معتبرًا قطعًا، فلا علينا أن لا نريد فيه من الخير آثار الإيمان، مع أنه لا إيماء فيه في اللفظ إلى مراتب نفس الإيمان أيضًا.
وحينئذٍ فالتفاوتُ في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه راجع إلى أعمال القلب، والتفاوت في حديث أنس رضي الله تعالى عنه إلى ما هو من آثار كلمة الإخلاص، وعلى هذا
التقرير فالأصل في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه لفظ: الخير وإنما أخرج المصنف رحمه الله لفظَ الإيمان في الأصل، والخيرَ في المتابعة، تنبيهًا على أن المراد من الإيمان ههنا هو الخير، الذي هو من الأعمال، وعكسَ في حديث أنس رضي الله تعالى عنه للتنبيه على أن المرادَ من الخيرِ هو الإيمانُ. فإن قلت: إنك جعلت الخيرَ في حديث أنس رضي الله تعالى عنه من آثار الإيمان، وآثارُ الشيءِ غيره، فلا يثبت الزيادة والنقصان في الإيمان، وهو خلافُ ما رَامَه المصنف رحمه الله تعالى.
قلت: وقد مرّ مرارًا أن آثارَ الإيمان عند المصنف رحمه الله تعالى أيضًا من الإيمان، فلا بأس في تفسيره الخير بالإيمان، والتفاوتُ فيها يكون عين التفاوت في الإيمان. ثم اعلم أن حديث أنس رضي الله تعالى عنه عند مسلم مفصل ومجمل، وليس في المفصل ذكرُ كلمة الإخلاص، إلا في المرتبة الرابعة، وهم الذين يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيهم:«ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، قال: ليس ذلك لك» ، والمراتبُ الثلاثةِ قبلها لا ذكرَ فيها للكلمة، وهي مرادةٌ قطعًا، فإنها مذكورة في الثلاث منها في الطريق المجمل، ولفظه:«يخرجُ من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يَزِنُ شعيرة» إلى آخر المراتب وإنما حَذَفَها من المفصَّل؛ لأن المقصودَ ذكرُ ما به الفرق دون ما هو مشتركٌ في الكل، فحذفَ المشتركَ، وذكرَ المختص.
وعلى هذا الفرقُ بين حديثي أبي سعيد رضي الله تعالى عنه وأنس رضي الله تعالى عنه، أما أولًا: فبذكر الأعمال في حديث أبي سعيد رضي الله عنه، دون أنس رضي الله تعالى عنه.
وأما ثانيًا: فبأن الخير في حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه من أعمال القلب، وفي حديث أنس رضي الله تعالى عنه من متعلَّقات لا إله إلا الله وآثاره، فالخير في حديث أنس رضي الله تعالى عنه من متعلَّقات الكلمة، لا من الأعمال القلبية، وفيه إيماءٌ إليه أيضًا دون حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه، لعدم ذكر الكلمة في حديثه في أحد من طرقِه، ولعلك علمت مما قلنا أن الخيرَ عندي زائد على الإيمان في كلا الحديثين، إلا أنه من أعمال القلب في حديث الباب، ومن متعلَّقات الإيمان في حديث أنس رضي الله عنه؛ بخلاف ما اختاره الشارحون، فإنهم جروا فيهما على طريق واحد.
ثم إن المراتب في الحديثين مشتبكة، والأخيرة مشتركة، فالذين أخرِجُوا في المرة الأخيرة، في حديث الباب، هم الذين أُخْرِجُوا في حديث أنس رضي الله عنه، وهم الذين ليس عندهم عملٌ من عمل الجوارح، ولا عندهم شيءٌ من أعمال القلب، ولا من ثمراتِ الإيمان شيء، وإنما يُخْرِجُهُم أرحمُ الراحمينَ بلا عملٍ عملوه، ولا خيرٍ قدَّموه.
بقي الكلامُ على الأمر الثاني: أي الذين يخرجُون بلا عمل، من هم؟ فالشيخ الأكبر رضي الله عنه لما رأى أنَّ هؤلاء عندهم التوحيد فقط، وليست عندهم الشهادةُ بالرسالة: ذهب إلى أنهم أهل الفترة، وإذ لم يدركوا زمن الرسالة؛ فنجاتُهم تدورُ على التوحيدِ فقط.
أقول: ليس الأمرُ كما قاله الشيخ الأكبر رحمه الله، بل هم الذين عندهم التوحيد
والرسالة، وإنما اكتفى بذكر التوحيد، لأن تلك الكلمة صارت شعارًا للإسلام وعُنوانًا له، فتضمنت الشهادة بالرسالة واستغنت عن ذكرها صراحة. ثم عندي حديثٌ قويٌ في امتحان أهل الفترة في المحشر، بأنهم يُؤمرونَ أن يلقوا أنفسهم في النار، فمن ائتمر منهم نجا، ومن أبى هلك، وكذا من زعم أنهم الذين عندهم القول بها فقط، أي مع ذهولٍ عن التصديق في الباطن، فقد أخطأ، لأنه لا عبرة به عند الشرع، فالمرادُ من هؤلاء الذين عندهم الإيمان والتصديق بالشهادتين؛ إلا أنه ليس عندهم من العمل والخير شيء، فيخرجون بمجرد بركة كلمة التوحيد ولا عمل، ولا خير، ولا شيء، ونحن نجيبُ المصنف رحمه الله تعالى عن استدلاله: أن الخير زائدٌ على الإيمان، فلم يُثبتُ الزيادةَ والنقصانَ في نفس الإيمان، بل في الخير، وقد مرّ أنه عبارة عن نور الإيمان، وهذا أمر زائدٌ على الإيمان، وإن كان المصنف رحمه الله تعالى يَعُدُّه من الإيمان، إلا أنه ليس مما نحن بصدده، وهو الإيمان الذي تدور عليه النَّجاة، ولما أُخرج من النار من لم يكن عنده عمل ولا خير أيضًا تبين أنّ مدار النجاة هو تلك الكلمة، وهي: الإيمان لا يزيد ولا ينقص.
ثم إن النُّكْتَةَ في ذكرِ توحيدهم، وحذفِ شِهادتهم بالرسالة، وانفرادُ أرحمُ الراحمينَ بإخراجهم، أن هؤلأَ ليسوا بمختصين بتلك الأمة؛ بل هم من جميع الأمم، فراعى فيهم جهةَ العبُوديَّة فقط، دون الأممية، فإنها باعتبار الرسل، فحينئذٍ ناسب ذكر التوحيد، فإنه يشترك في الكل، بخلاف الرسالة، فإنها تتبدلُ بحسبِ الأعصار والأزمنة، فلذا ذكرَ الكلمةَ المتقرِّرة، وهي كلمة التوحيد، وحذفَ المتبدِّلة، وهي الشهادة بالرسالة
(1)
. ثم هذا كله إذا كان حديثُ أبي سعيد رضي الله عنه، وأنس رضي الله عنه، متعددًا وأما إذا كان واحدًا، فينبغي أن يستحصلَ مرادُهما بعد جمعِ الطرقِ، ورعاية الألفاظ، وحينئذٍ وجهُ التغايرُ في التراجم عدمُ تعيين اللفظ عنده.
(1)
قلت: وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: 25] فاكتفى بذكر التوحيد مع أنهم قالوا بالرسالة أيضًا. لأن الكلمة التي تتضمنُ الشهادة بالرسالة لم تكن مشتركة فيهم اشتراك التوحيد، فلما أراد الله سبحانه أن ينبِّه على الكلمةِ المشتركةِ، اقتصر على ذكر التوحيدِ لأنه حقه، والشهادة بالرسالة حقُّ الرسول، ثم إنه لما ظهرت شفاعةُ الملائكة، والنبيين، والصالحين، وأخرجَ من شفاعتهم مَن لا يعلمُ عددَهم إلَّا الله، وصل الأمرُ إلى أن تظهرَ رحمتهُ تعالى بحيثُ تفوقُ شفاعاتهم، كيف لا وهو أرحمُ الراحمينَ رحمة، وأبرَّهم بِرًا، وأكرمُهم كرامة، وأجودُهم جُودًا، فخصَّ لنفسه بمن لم يكن عندهمُ من العمل والخير شيء، ولم يأذن فيهم أحدًا، لأن حقَّ الشفاعة بين يدي الملك الجبار يكونُ فيمن عندهم شيء، أما من كان مجرمًا وكان أمرُه فُرُطًا، فإنه يُحشر يومَ القيامة أعمى، ولذا قال عيسى ابن مريم عليه السلام مع كونه أحْنَى على أمته {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] ولم يواجهه بالمغفرة بتًا، وإنما هو الله تعالى يُخرجُ هو بنفسه من حُجزت عنهم شفاعة الشافعين، ليقال: إنهم عُتقاء الله، عْتِقُوا بمجرد بركة اسمه العزيز، ولذا اكتُفي بذكر كلمة التوحيد ليظهرَ وجهُ انفرادِ ذاته الوحيدة، إنه حميد مجيد، هكذا سمعتُ من شيخي رحمه الله تعالى مع بعض تغيير.