الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رِبْعِىَّ بْنَ حِرَاشٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم «لَا تَكْذِبُوا عَلَىَّ، فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ فَلْيَلِجِ النَّارَ» . تحفة 10087
107 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ إِنِّى لَا أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا يُحَدِّثُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ. قَالَ أَمَا إِنِّى لَمْ أُفَارِقْهُ وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ «مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» . تحفة 3623
108 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ أَنَسٌ إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِى أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ تَعَمَّدَ عَلَىَّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» . تحفة 1045
واعلم أنَّ الجمهورَ على أن الكذبَ على النبي صلى الله عليه وسلم عمدًا من أشدِّ الكبائر. وذهب أبو محمد الجُويني - من كبار الفقهاء - إلى أنه كفرٌ. وأيَّده من المتأخرين الشيخ ناصر الدين بن المنير وأخوه الصغير زين الدين بن المنير. وأما من فرق بين الكذب عليه والكذب له تمسكًا، بقوله: من تكذب عليّ فإنه جاهل، فإن الكذب كيف كان ليس له في حال بل هو عليه في كل حال فلا يجوزُ الكذبُ في الترغيب والترهيب أيضًا. والكذب بكسر الذال اسمٌ، وبسكونها مصدرٌ.
قال العيني: من ذكر حديثًا موضوعًا بدون ذكر وضعِهِ أو غَلِط في الإعراب فهو أيضًا تحت هذا الوعيد.
قال الحافظ في «الفتح» : إن هذا الحديث ثابت عن ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قلت: وهو عندي عن خمسينَ منهم. والحاصل: أنه حديثٌ متواترٌ قطعًا.
فائدة
واعلم أني لم أجد أتقن في باب النقل من المحدثين، ثم الفقهاء، ثم أهل اللغة فإنهم لا يأتون بحديث لا يكون له أصلٌ في كتب الحديث. وأما الذين أشربت قلوبهم فنَّ المعقول فإنه تبيَّن بعد الاستقراء أنهم لا عِلم لهم بأن الحديث ما هو؟ وأن البحثَ عن الأسانيد ماذا؟ ولكنهم إذا سمعوا الناس قالوا في كلام: إنه حديث، جعلوا يقولون: إنه حديث وإن كان موضوعًا.
109 -
حَدَّثَنَا مَكِّىُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِى عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «مَنْ يَقُلْ عَلَىَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» . تحفة 4548
109 -
قوله: (مكي بن إبراهيم) وهو حنفيٌ من أصحاب أصحاب أبي حنيفة رحمه الله. وهذا أول الثلاثيات عند البخاري، وهي أزيدُ عند الدارمي منه، فإن الدارميَّ أكبر سنًا منه، وشيء منها عند ابن ماجه أيضًا وليست عند أحد من الصحاح غيرهما. وفي «مسند الإمام أبي
حنيفة» الثنائيات أيضًا. وقد مرَّ أنه تابعيٌ رؤيةً وتبع التابعين رِوَايةً، فإنه ثبتَ رؤيتُهُ أنسًا رضي الله تعالى عنه عند الكل. وادَّعى العيني أنه رأى سبعة من الصحابة. وردها العلامة قاسم بن قُطَلُوبُغَا وقال: إنه لم يثبت له غير رؤية أنس رضي الله عنه. وقال الحافظ رحمه الله تعالى: إن العلامة قاسم مُتقنٌ وهو في اصطلاحهم من لا يغلطُ في إسماء الرواة وألفاظ الحديث. قلت: بل هو حافظ، وإن لم يكن مثل الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى.
ثم إن «مسند الإمام» إنما جُمِعَ بعده، والمتداول في الأيدي هو «مسند الخوارزمي» وهو المشهور ب «مسند الإمام» . وقد كان جَمْعَهَ عشرة من الناس منهم حفاظ، ثم جمعَ الجميعَ الخوارزمي ثم جمع «مسنده» أربعة من الأئمة أيضًا: منهم أبو بكر المقرىء، وأبو نُعيم الأصْبَهاني وهذه المسانيد مفقودة كلها. وأحسن ما يمكن جمع مسنده من أمالي أبي يوسف رحمه الله تعالى، وكان يملي في زمان قضائه. وقد حضرَ في مجلس إملائه أحمد رحمه الله تعالى وابنَ معين أيضًا وعن ابن مَعين عندي أن أبا يوسف رحمه الله تعالى كان يحفظُ في زمن حفظهِ ستين حديثًا في مجلس واحد، وليس في «الجامع الصغير» حصة من الأحاديث. نعم، في «المبسوط» حصة منها، لكن الآفة فيها أن الطابع لم يميز فيما بين كلام محمد وكلام الشارح، وكذا حذف الأسانيد فتعطلت عن الفائدة.
110 -
حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِى حَصِينٍ عَنْ أَبِى صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «تَسَمَّوْا بِاسْمِى وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِى، وَمَنْ رَآنِى فِى الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِى، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِى صُورَتِى، وَمَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» . أطرافه 3539، 6188، 6197، 6993 - تحفة 12852
110 -
قوله: (تسموا باسمي
…
إلخ) كان دأب العرب أنهم إذا دعوا أحد أو أرادوا توقيره، دعوه بكنيته دون اسمه، وعليه ما جاء في الحديث أن رجلًا دعا أحدًا بأبي القاسم، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل: إني لم أردكَ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُكْتَنَى أحد، يكنيته لئلا يحصلَ الالتباس، ولذا قال بعض العلماء: إن النهى مقتصر على زمانه، سواء تَكنَّى منفردًا أو مع اسمه الشريف. وفي المسألة أقوال عديدة ذكرها الشارحون.
قوله: (من رآني في المنام
…
إلخ) والمعنى: من تعلقت رؤياه بي فهو تعلق صحيح، أي من تعلقت رؤياه بي في اعتقاده فهي رؤيا صحيحة، كذا قال صاحب «القوت» .
واعلم أن اختُلف في رؤيته صلى الله عليه وسلم ومراد الحديث.
فقال بعضهم: إنه مخصوصٌ بما إذا رآه في حليته المباركة، واعتبر هؤلاء أطوارَ الحلية ولم يجوزوا المخالفة ولو بشعرة، فإن كان رآه في حليةِ صباه ينبغي أن تطابق بما كانت حليته فيه، وكذا في حلية الشباب والشيخوخة. ونقل البخاري عن ابن سِيرين في كتاب الرؤيا أنه كان يسأل الرائي عن حليته التي رآه فيها، فهذا دليلٌ على اعتباره أطوار الحلية، وهذه الجماعة قليلة.
وعممها بعضهم وقالوا: إن المرئي هو النبي صلى الله عليه وسلم في أي حلية كان إذا كان عنده أنه رآهُ، ولم يعتبروا المطابقةَ بين الحلية المرئية والحلية التي هي حليتُهُ. ولما ضيَّق الأولونَ في رؤيته وقيدوها بتقييداتٍ وسعَوا في اعتبار أقواله الحُلمية، بخلاف الجمهور فإنهم إذا وسَّعوا في أمر الرؤية ضيَّقوا في اعتبار تلك الأقوال، ولكنها تُعرضُ على الشريعة عند جميعهم، فإن وافقت قُبلتِ وإلا لا. وما ذكره النووي رحمه الله تعالى مضرٌ جدًا، لأن ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم به هو في رؤيته، ولم يخبرنا بأنه يقول له ويكلمه أيضًا، فما ثبتَ عنه يقظةً لا يُترك بما رئي منامًا.
وأيضًا النائم ليس على يقينٍ من كلامه ولا من كلام تلك الصورة المُرتبة، وليست تلك صورةٌ بصرية، بل رؤيا حُلمية، وأكثر الناس لا يعرفون حقيقتها، فلذا لا يجبُ الأخذ بها. ولكن إذا لم تخالف حكمًا ظاهرًا من الشرع حَسُن العملُ بها أدبًا مع صورته صلى الله عليه وسلم أو مِثالها. ولا ندَّعي أنه قاله صلى الله عليه وسلم في الواقع، ولا أنه خاطبه، ولا أنه انتقل من مكانه، ولا أنه أحاط علمه الشريف بذلك البتة، وإنما الله أراه إياهُ لحكمةٍ علمها. وراجع له «شرح منهاج السنة» للسبكي.
وفيه حكاية ذكرها الشيخ عبد الحق رحمه الله تعالى: أن رجلًا رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يقول: اشرب الخمر، وكان الشيخ علي المتقي حيًا إذ ذاكَ وهو حنفي، شيخ لمحمد طاهر صاحب «مجمع البحار» ، وهو أيضًا حنفي كما صرح به هو بنفسه في رسالة خطية، وسها مولانا عبد الحي رحمه الله تعالى حيث عده من الشافعية ومن مصنفات شيخه «كنز العمال» رتب فيه كتاب السيوطي رحمه الله تعالى «جمع الجوامع» - فأجابه: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال: لا تشرب الخمر، ولكن الشيطان لَبَّس عليك، والنوم وقت اختلال الحواس. فإذا أمكن في اليقظة أن يسمعَ رجلٌ بخلاف ما قاله القائل لعلة في الخارج أو من جهته، ففي النوم أولى. والدليل عليه أنك تشرب الخمر، فأقر به، وقال: نعم إني أشرب الخمر.
وعندي أنه قال له: اشرب الخمر تعريضًا على حاله القبيح، ويفهم هذا المعنى من لهجة المتكلم وكيفية تكلمه، فاللفظ الواحد قد يكون لمعناه، وقد يكون للتعريض. ثم التعريض قد يكون قوليًا وقد يكون فعليًا، يُعرف ذلك بالقرائن. وقالت هذه الطائفة: إن الحلية تُنبىء عن حال الرائي، فإن كان حاله حسنًا يراه في حالة حسنة، وإلا ففي غير ذلك. وفيه أيضًا حكاية أن رجلًا رآه صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه القَلنسوة الإنكليزية، فاستوحش منه، وكتب إلى مولانا الكنكوهي رحمه الله تعالى، فكتب إليه أنه إشارة إلى غلبة النصرانية على دينه.
ثم التحقيقُ أن رؤيتَه صلى الله عليه وسلم لا تتعين في رؤيةِ عين الذات المباركة، فإن الأحوال في رؤية الشخص مختلفة، فربما نرى شخصًا من الأحياء ولا يكون له علمٌ برؤيتنا ولو كان في المنام عين ما في الخارج لكان عنده شعور بها، فالمرئيُ إذًا والله تعالى أعلم قد يكونُ صورةً مخلوقة لله تعالى على مِثال تلك الصورة، أي أنه تعالى يخلق حقيقة على مثال صورتِهِ وروحانيته أرانا إياها وأوقع في نفسنا مخاطبتها إياها، وقد تكونُ روحه المباركة بنفسها مع البدن المثالي. ثم قد تكون يقظَةً أيضا كما أنها قد تكون منامًا.
ويمكن عندي رؤيته صلى الله عليه وسلم يقظةً
(1)
لمن رزقه الله سبحانه كما نقل عن السيوطي رحمه الله تعالى - وكان زاهدًا متشددًا في الكلام على بعض معاصريه ممن له شأن - أنه رآه صلى الله عليه وسلم اثنين وعشرين مرة وسأله عن أحاديث ثم صححها بعد تصحيحه صلى الله عليه وسلم وكتب إليه الشاذلي يستشفع به ببعض حاجته إلى سلظان الوقت، وكان يوقِّره فأبى السيوطي رحمه الله تعالى أن يشفع له، وقال: إني لا أفعلُ وذلك لأن فيه ضررُ نفسي وضررُ الأمة، لأني زرتُهُ صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا أعرفُ في نفسي أمرًا غير أني لا أذهب إلى باب الملوك، فلو فعلتُ أمكن أن أحرم من زيارتِهِ المباركة. فأنا أرضى بضررِك اليسير من ضررِ الأمة الكثير.
والشعراني رحمه الله تعالى أيضًا كتب أنه رآه صلى الله عليه وسلم وقرأ عليه البخاري في ثمانية رفقة معه، ثم سمَّاهم وكان واحد منهم حنفيًا وكتب الدعاء الذي قرأه عند ختمِه. فالرؤية يقظة متحققة وإنكارُهَا جهلٌ. ثم عند مسلم في لفظ آخر:«فسيراني في اليقظة» ولعله حديث آخر ومضمون آخر يقتصر على حياته صلى الله عليه وسلم وفيه تبشير بالصحابية لمن كان رآه في المنام، ولكن الراوي شك فيه وقال: أو فكأنما رآني، فوقع التردد في أنهما حديثان أو واحد. ونقل العيني رحمه الله تعالى فيه زيادة أخرى «فإني أرى في كل صورة» وهي تضرُ الطائفة الأولى فإنها تُشعر بالتعميم وأن لا تخصيصَ بحلية دون حلية.
أقول وظاهرُ حديث البخاري يؤيد الطائفة الأولى، سيما إذا كان من لفظه: فإن الشيطان لا يتكونني، وحينئذٍ صرفُ هذه الزيادة عن ظاهرها أولى، فإنها لا توازي حديث البخاري. وشرحُهَا عندي دفع استبعاد، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في المنام هو ولم يتمكن الشيطان من تمثله، فكيف تكون رؤيته في زمان واحدٍ لأشخاصٍ عديدة في أمكنة كذلك. والجواب: أنه ممكنٌ لأنه يُرى في كل صورة. أما أن تلك صورة مثالية أو عينه صلى الله عليه وسلم فهو تابعٌ لمنامه قد تكون كذا وقد تكون كذا
(2)
.
(1)
قلت: وقد بحث فيه السيوطي رحمه الله تعالى في رسالته: "تنوير الحَلَكَ في رؤية النبي والمَلَكَ" وملخصه على ما أحفظ الآن: أن عامَة المحدثين إلى النفي وعامة الأولياء إلى إثباتها، وراجع التفصيل منها إن شئت.
(2)
قلت: هذا آخر ما سمعت من شيخي رحمه الله تعالى في هذا الباب. وهو يُشعر أنه اختار مسلكَ ابن سيرين ومن نحا نحوه، ولم يُعمم أمرَ الرؤية، بل قصرها على مطابقتها بما في الخارج، ولذا احتاج إلى تأويل قوله: فإني أرى في كل صورة. وقد كنتُ كتبتُ عنه فيما مضى ما يُشعر بخلاف ذلك، وهو أن السؤال عن حليته ينبغي أن يقتصرَ على الزمان الذي كان فيه أحد ممن رآه صلى الله عليه وسلم حيًا كما في زمن الصحابة رضي الله عنهم، وأما إذا لم يكن بقي فيه واحد منهم فلا ينبغي السؤال عنها كما هو اليوم، وهكذا يفعلون أهل العرف في رؤياهم، فإذا رأيت رجلًا في المنام وقد بقي ممن رآه في حياته يسألونك أنَّك كيف رأيت صورته؟ فلو ذكرت ما خالف حليته يكذبونك ويقولون: إنك ما رأيته، لأنه لم يكن على تلك الحلية.
وأما إذا مضى عليه، برهة من الزمان ولم يبق لأحدٍ ممن رآه فلا يبحثون عن حليته، وهكذا ينبغي، فإن المنازعة إنما تكونُ ممن كان رآه، وأما إذا انقطع أثرُه وذهب ذِكره وفِكره فلا يمكن المنازعة، ويحتاج إلى تصديق رؤياه إلى شهادة قلبه فقط، فإذا ألقى في قلبه أنه رأى فلانًا فإنّه كذلك، ولو خالفت حليته مما في الخارج، فكذلك ينبغي رؤيته النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يُسأل عن حليته اليوم، لأنه لم يبق من الصحابة رضي الله عنهم ولا من رآهم ورأى من رآهم أحد، فمن الباحث عن الحلبة إنما هو شهادة القلب وبُشرى المؤمن، فتحقيقه هذا يعلُق بالقلب ويثلج به الصدر، إلّا أنه فيما أفهم راجعٌ إلى المذهب الثاني أو أمر بين الأمرين.
ثم اعلم أن الأحاديث عامةٌ في الرؤيا تنبىء عن التقسيم الثنائي: الرؤيا من الله، والحُلُم من الشيطان. وشرحه العلماء بأن ظاهرَه إن كان خيرًا فهو من الله، ويَسألُ عن تعبيره. وإن كان مشوهًا فهو تحزينٌ من الشيطان ولا يَسأل عن تعبيره وأمره كما في الحديث. وفي بعض الأحاديث التقسيم الثلاثي أيضًا: تحديث النفس، وتخويفٌ من الشيطان، وبشرى من الله، وقد كنت مدةً طويلةً أظن أن حديث الباب يبنىء عن التقسيم الثنائي، فإذا انتفى الحُلم تعيَّنَ أن يكونَ من الله تعالى، وهذا معنى قوله:«فقد رآني» أي رؤياه صحيحة وحق ومن الله لانتفاء مَدْخليَّة الشيطان منها، لأنه لا يمكنُ أن يتمثل به صلى الله عليه وسلم.
أما الحظورُ بالبالِ أنه رآه أو انتقاشُ صورتِهِ المباكرة بتكررِ الخيال، فهما خارجان عن مصداق الحديث، فلم يدخلا تحت الشرط، فكذا في الجزاء أيضًا وإن كانا واقعين في الخارج. وبين الانتقاش والخطور فرق، فإن الرؤية في الأول متحققةٌ ولو كانت من أجل تصوره، ولا رؤية في الثاني غير الخطور بباله أنه رآه. ثم تبين لي بعد مرور الزمان أنه ينبىء عن التقسيم الثلاثي. والحديثُ لا يصرحُ إلا بانتفاء الحُلم فيه، فلا يمكنُ في رؤيته مَدْخليَّةُ الشيطان. نعم، يمكن أن يكون على طريق تحديث النفس أيضًا وحينئذٍ معنى قوله:«فقد رآني» أي تارة على طريق الرؤيا الإلهية، وأخرى على طور تحديث النفس، فبقي هذان الاحتمالان داخلين تحت مِصداق الحديث. وعلى الشرح الأول لم يكن فيه ألا احتمالُ كونِها من الله، سواءٌ كان ذلك رؤية لشخصه أو مثاله. والآن انفسحَ الأمرُ وأمكنَ أن يكونَ على طريق تحديث النفس أيضًا.
بقي الشق الرابع، وهو رؤيته على سبيل الخُطور، فهو خارجٌ عن قضيةِ الحديث مطلقًا، فإنها ليست برؤيته أصلًا، فلا يدخل تحت الشرطِ فكيف في الجزاء فإن قوله:«فقد رآني» يُصدَّق فيمن تحققَ فيه الشرط، وهو قوله:«من رآني في المنام» ورؤيته على سبيل الخطور ليست من الرؤية في شيء. وهكذا أخرجه السبكي أيضًا. وجملةُ الأمر أن ما بدا لي بعد مضي الدهر هو أن الحالَ في رؤيته صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أنحاء كما هو عندهم في الرؤيا العامة، وإن كنتُ أظن أولًا أنه على خلافها من كونه مبنيًا على التقسيم الثنائي.
وبالجملة أن الرؤية قد تكونُ عنايةً من جهته صلى الله عليه وسلم وتلك هي أعلاها، وقد تكون تلك على المثال دون الشخص بعينِهِ، وكلتاهما داخلتان في قضية الحديث أما الرؤية على طريق الخُطور بالبال، فقد أخرجه السبكي رحمه الله تعالى.
بقي تحديثُ النَّفْسِ فهو داخلٌ بعد كما ظهر آخرًا. وإنما اخترتُ هذا الشرحَ لأني رأيت الحالَ في الخارج كذلك، فلما أمكن شرحُ الألفاظ بما يطابق الخارج رأيته أولى. وتفصيله: أن القوةَ الخياليةَ بتكررِ الخيال، وممارستها قد تُحِدثُ في النفس صورةً، ولا يكون هذا إلا تصرفًا منها كما اشتهر في المثل في بلادنا: أن الهرةَ لا ترى في نومها إلا لحمًا، فإنها تحبُّه وتمارسه حتى لا تكاد تغيب عن ذهنها صورتُهُ، فتلك هي رؤياها في نومها كما هي في اليقظة، فكذلك حالُ من أُغرِمَ بحب النبي صلى الله عليه وسلم وأكثر ذكره وطال فيه فِكرُه، ولم يزل مشغولًا به في اليقظة، فربما