الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لأن المرادَ التصديقُ بخبرهم دونَ ذَوَاتِهِم، وفي خلافه يكون التَّضمين، ولم نجد تعديتُهُ بعلى إلا ما عند مسلم:(ما مِنْ نبيَ إلا أُتِي من الآيات ما مثلُهُ آمن عليه البشرُ) أي آمن معتمدًا عليه البشر.
ثم الكفر لغةً: الستر وجَحْدُ النِّعمة وتناسيها، وحينئذٍ لم يبق التقابل بين الإيمان والكفر لغة إلا باعتبار اللازم، فإنّ جحود النعمةِ والتناسي لا يجتمع مع التَّصديق بأحد، وتصديقه لا يجتمع معه جحود نُعمتِهِ، وأما ضِدُّه الصريح فهو الخيانة، كما أن ضِدُّ الكفر هو الشكر. ثم ههنا ألفاظ ينبغي الفرق بينها فالعلم دانستن والتصديق إن كان صفة القضية فمعناه: راست داشتن وإن كان صفة القائل فمعناه: راست كوداشتن وباوركردن والمعرفة شناختن واليقين إزاحة الشَّكِ وتحقيق الأمر، والفِكْر انديشيدن والفهم فهميدن فهذه ألفاظ ميزها أهلُ اللغة أي تمييز، فَرَاعِها تغنيك عن حدودِهِم الطويلة.
الإيمانُ وتَفْسِيْرُهُ عند الشَّرْع
قال عامة الفقهاء والمتكلمين: إن الإيمان تصديق بأمور مخصوصة عُلِم كونُها من الدين ضرورة. فلنتكلم أولًا على معنى التَّصديق وما يتعلق به، ثم لنبحث عن معنى الضرورة فالتَّصديق هو الإذعان عند الحكماء، وهو إما إدراك أو من لواحق الإدراك، والحق عندي هو الثاني ثم التَّصديق قد يجتمع مع الجُحود أيضًا وهو كفرٌ قطعًا قال تعالى:{وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]، وقال تعالى أيضًا:{يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءهُمْ} [البقرة: 146]، وقال تعالى:{فلما جاءهم ما عَرَفُوا كفورا به} [البقرة: 89] فانظر كيف اجتمع اليقين والإذعان، والمعرفة مع الجحود فيلزمُ على التعريفِ المذكورِ أن يجتمع الإيمان مع الجحود، واللاّزمُ باطلٌ، ولذا جعل الفقهاء الإقرارُ شرطًا للإيمان، لإخراج تصديق الجاحدين، فإن الجاحد لا يُقر بلسانه البتة، ومن أقر باللسان لا يمكن منه الجحود، فكأنهم فهموا أن الإقرار مقابلٌ للجحودِ فجعلوه شرطًا، أو شطرًا، احترازًا عن مثل هذا اليقين والمعرفة. وحينئذٍ فالجواب عندهم: إن هؤلاء وإن كانوا مستيقنين به، لكنهم لم يكونوا يقرُّون بألسنتهم، بل كانوا يجحدون، فلم يعتبر تصديقهم، ولم يُحكم عليهم بالإيمان، لأن التصديق المعتبر ما كان مع الإقرار باللسان ولم يوجد، وهو الفاصل في الباب.
واختلف فيه صدر الشريعة رحمه الله تعالى، والعلامة التَّفْتَازَاني رحمه الله تعالى، فقال صدر الشريعة رحمه الله تعالى: إن التصديق المنطقي أعم من الاختياري والاضطراري، والمعتبر في الإيمان هو الاختياري فقط؛ لأن الإيمان مُثَاب عليه، والثواب لا يترتب إلا على فِعله الاختياري، فما هو معتبر في باب الإيمان ليس بجامعٍ مع الجحود، وما هو بجامع معه ليس بمعتبر في الإيمان، وكأنه فَهِمَ أن الرجل إذا صدّق أحدًا عن اختياره وطوعه، بدون إكراه مُكْرِه، لا يتمكّن على الجحود. والذي يجحدُ به لا يُمكنه التَّصديق عن اختياره. نحو أن يقعَ بصركُ على الجِدار، ويحصلُ لك الإذعان بوجوده اضطرارًا، فهذا النوع من اليقين يمكن أن يجامع الجحود، فإنه ليس من فعله، بخلاف ما صدر عن اختياره، فإنه فعله، والظاهر أنه إذا
فعل فعلًا عن اختياره لا يفعل نقيضه إلا أن يكون به جِنَّة، أو يكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا.
وادعى التفتازاني أن تلك المعرفة الحقة اليقينية المجامعة مع الجحود ليست بتصديق، بل هي من التصورات والتصديق اسمٌ لليقين المجامع مع التسليم، فكأنه أخرجَ تصديقَ الجاحدين عن مُسَمَّى التصديق ومتناولاته رأسًا، وحينئذٍ ساغَ له أن يقول: إن المعتبر في الإيمان هو التصديق، وما وُجِد منهم هو اليقين المجامع مع الجحود، وهو تصورٌ وليس بمعتبر في الإيمان، وكأنه فَهِمَ أن التّصديق إذا قارنه التسليم لا يكون إلا اختيارًا. وحينئذٍ فالتصديق عنده مساوٍ للإيمان، بخلافه على الأول، فإنه كان أعم من الإيمان.
والذي يظهر عندي أن الصواب مع صدر الشريعة، فإن أرباب المعقول لعلهم لا يحكمون على تلك المعرفة اليقينية بكونها تصورًا، والظاهر أنها تصديق عندهم ثم العجب من صدر الشريعة كل العجب حيث اعترض على شيخ التسليم في «باب الزكاة» من «شرح الوقاية» بقوله: فانظر إلى هذا الذي أدرج ركنًا زائدًا في الإيمان
…
إلخ كيف، مع أن صدر الشريعة أيضًا قيدَ التصديقَ بالاختياري، وهذا الاختياري ليس أمرًا وراء التسليم، على أنه مصرحٌ به في القرآن أيضًا:{فَلَا وَرَبّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65] فهذا التسليم هو الذي أضافه الشيخ رحمه الله، فلم يكن أمرًا زائدًا، كما ألزمه صدر الشريعة.
والحاصل: أن الفقهاء رحمهم الله شرطوا الإقرار لإخراج مثل هذا التصديق عن مُسمّى الإيمان. والشيخ الهروي: التسليم. وصدر الشريعة وإن عَمَّم التصديق أولًا، لكنه خصصه آخرًا، وأراد منه الاختياري فقط، والتفتازاني خصصه من أول الأمر، وأخرجه عن مُسمّى التصديق ابتداءً، فلم يحتج إلى التخصيص، فالبيت واحدٌ وتلك أبوابه فأته من أيها شئت، ولعلك علمت مما ذكرنا مرامى الفقهاء والعلماء، وأنهم لماذا يختلفون في العبارات وماذا يريدون منها.
ثم رأيتُ حكايةً في «الفتح» عن أحمد رحمه الله تعالى لا أرى في نقلها بأسًا، وأريد أن أنبه على ما استفدت منها. قال أحمد رحمه الله: بلغني أن أبا حنيفة رحمه الله يقول: إن الإسلام يهدم ما كان قبله، وكيف يكون هذا مع أنه رُوي عن ابن مسعود في الصحيحين، أن المرء إذا أسلم فأحسن في إسلامه، فهو كفارة له، وإلا فيؤخَذُ بالأول والآخر، فإنه يدل على أن الإسلامَ لا يهدم ما كان قبله مطلقًا، بل تبقى عليه المؤاخذة بعده أيضًا. واستفدت منه أن الإيمان عند أحمد رحمه الله كالتوبة الكلية، وهي عزمٌ على الإقلاع عن المعصية فيما يأتي، فمن أحسن بعد إسلامه، فقد صحت توبتُهُ وصار إسلامه كفارةً له، ومن أساء بعده ولم يقلع عن المعصية لم تصح توبته، فيؤخذ بالأول والآخر، وإذا كان الإسلام عنده كالتوبة، يكون وسيلة للأعمال، والأعمال مقصودة، فإنها المقصودة من التوبة، وإليه يشير ما نُقل عنه، أن الإيمان