الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بقيَّة يومهم، ألحقنا الصلاة بأخويها، وقلنا: إنه إذا فَقَد الطَّهُورين يتشبَّهُ بالمصلِّين حُرمةً للوقت
(1)
.
336 -
حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلَادَةً فَهَلَكَتْ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً، فَوَجَدَهَا فَأَدْرَكَتْهُمُ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَصَلَّوْا، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ. فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ لِعَائِشَةَ جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا، فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إِلَاّ جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكِ لَكِ وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْرًا. أطرافه 334، 3672، 3773، 4538، 4607، 4608، 5164، 5250، 5882، 6844، 6845 - تحفة 16990
336 -
قوله: (وليس معهم ماءٌ فَصَلُّوا) يعني أنَّ الماءَ إذا لم يكُن عندهم، وحُكْمُ التيمم لم يَنْزِل بعد، فكانوا كفَاقِد الطَّهورين فَصَلّوا، أي أُسَيد بن حُضَير ورفقاؤه الذين كانوا ذهبوا معه لطلب القِلادة، فَعُلِم أنَّ الأداء واجبٌ، والقضاء غير لازم. قلت: وهذا استدلالٌ مِن فِعْلهم ومن التبادر ببلوغ خبرهم إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي كليهما نظر - ولنا في تَرْكِ الصلاةِ ما رُوي عن عمر رضي الله عنه أَنَّه أَجْنَبَ ولم يُصلِّ، على أنَّه قياسٌ لنادرِ الوقوع على كثيرِ الوقوع، فإنَّ فُقْدان الماء مما يَكْثُرُ وقوعُهُ، بخلاف فُقْدان الطَّهورين
(2)
.
3 - باب التَّيَمُّمِ فِى الْحَضَرِ، إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ، وَخَافَ فَوْتَ الصَّلَاةِ
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ فِى الْمَرِيضِ عِنْدَهُ الْمَاءُ وَلَا يَجِدُ مَنْ يُنَاوِلُهُ يَتَيَمَّمُ. وَأَقْبَلَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ أَرْضِهِ بِالْجُرُفِ، فَحَضَرَتِ الْعَصْرُ بِمَرْبَدِ النَّعَمِ فَصَلَّى، ثُمَّ دَخَلَ الْمَدِينَةَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ فَلَمْ يُعِدْ.
ونُسب إلى أبي يوسف رضي الله عنه أنَّه كان يُنكِرُ التيممَ في الحَضَر لوُجْدَان الماء على الأكثر، وندرة فُقْدانه فيه. واعلم أنَّ في الباب ثلاثَ وقائع على اختلافٍ في ألفاظها، ينبغي للباحث أن يراعيها لأنها يتناقض بعضها ببعض، وتُبْتنى عليها مسائل مختلفة، فليحرِّرها قبل أَخْذ المسائل منها، ليعلم أنها متعددةٌ، أو واحدةٌ والاختلافُ من الرواة، وأنَّ اللفظ الراجح ما هو، ليصحَّ بناءُ المسألة عليها
(3)
.
(1)
قلت: ومن العجائب ما حرره الحافظ في قصة التيمم في حديث أبي الجُهَيم أنه قيل: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يُرِد بذلك التيمم رَفْعَ الحَدَث ولا استباحةَ محظور، وإنما أراد الشبه بالمتطهرين، كما يشرع الإِمساك في رمضان، لمن يباح له الفطر أو أَراد تخفيف الحَدث بالتيمم، كما يشرع تخفيف حدث الجُنُب بالوضوء، والمسألة طويلة الأذيال فصَّلناها في تقرير الترمذي.
(2)
قلت: ولعله لا يَرِد على البخاري، لأنه لم ينزل إذ ذاك طهورية التراب، فكان الماء هو الطَّهُورَ، فَفَقْدُ الطَّهور الواحد حال كونه طهورًا فقط كَفَقْد الطهورين عند مشروعية الطهارة بهما، ولا أفهم بينهما فرقا، والله تعالى أعلم.
(3)
قلت: ولا ينكشف الغطاء عن وجه المقصود ما دامت أَلفاظها، وقد جمعتُها مع بيان الفروق بينها وها هو هذا: =
فمنها حديث أبي الجُهَيم، ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنه، ومنها حديث مُهاجر بن قُنْفُذ. أما حديث أبي الجُهَيم ففيه: أنَّ رجلًا سَلَّم عليه وهو مُقْبِلٌ من نحو بئر جَمَل، فكان السلامُ فيه بعدَ البول لا حال البول، وفيه رَدُّهُ صلى الله عليه وسلم عليه بعد التيمم، وليس فيه ذِكْرُ العِلّة.
وأمَّا حديث ابن عمر رضي الله عنه ففيه: أنه سَلَّم عليه حالَ البول، وفيه أنه لم يَرُدَّ عليه السلام. وفيه عند الطحاوي، وأبي داود جواب السلام بعد التيمم، مع ذكر التعليل، والاختلاف في أنَّ السلامَ كان بعد خروجه من غائطٍ أو بولٍ، فاختلف حديثه: ففي الترمذي ومسلم والطحاوي في طريق: أن السلامَ كان حالَ البول، وعند الطحاوي من طريق آخر وأبي داود: أنه كان بعد الخروج من الغائط، أو البول.
أما حديث مهاجر ففيه اختلاف أيضًا، فعند ابن ماجه: أنه سلَّم عليه وهو يتوضأ، فلم يردَّ عليه السلام حتى فَرَغ من وضوئه، مع ذكر التعليل. وهكذا عند الطحاوي في طريق. وعنده من طريق آخَرَ وأبي داود: أنه سلَّم عليه وهو يَبُولُ، وعلى الأول فيه استدلالُ الطحاوي على اشتراط الطهارة للأذكار، كما ذَكَره في باب التسمية على الوضوء، على خلاف مذهب الشافعية.
= الأولى: ما عند ابن ماجه عن المهاجر بن قُنْفُذ قال: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ فسلمتُ عليه فلم يَرُدَّ علَيَّ، فلما فرغ من وُضوئه قال:"إنه لم يمنعني مانع، مِن أن أَردَّ عليك، إلا أني كنتُ على غيرِ وضوء، وهكذا عند الطحاوي بلفظ: "وهو يتوضأ"، مع بعض تغيير في لفظ التعليل. وعنده من طريق آخر عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يَبُولُ، أو قال: مررت به وقد بال، فسلمت عليه فلم يردَّ علي حتى فَرَغ من وُضوئه، ثم ردَّ عليَّ. وعند أبي داود: وهو يبول، بدل وهو يتوضأ.
والثانية: ما عند ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنه قال: مرَّ رجلٌ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلَّم عليه فلم يَرُدَّ عليه، وهكذا عند الترمذي ومسلم بدون ذكر التعليل. وعند الطحاوي عنه: أن رجلًا سلَّم على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو يبولُ، فلم يَرُدَّ عليه حتى أتى حائطًا فتيمم. وعنده أيضًا أنه قال: مرَّ رجلٌ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في سِكَّةٍ من السِّكَك، وقد خَرَج مِن غائطٍ، أو بولٍ فسلَّم عليه فلم يَرُدَّ عليه السلام حتى كاد الرجل أن يتوارى في السِّكَّة فضرب بيديه على الحائط فتيمم بوجهه، ثم ضرب ضربةً أخرى فتيمم لذراعيه، قال: ثم رَدَّ عليه السلام وقال: "أما إني لم يمنعني أن أَرُدَّ عليك السلامَ إلا أَني كنتُ لستُ بطاهر". وفيه التعليل أيضًا. وأخرج أبو داود نحوه - يعني مع بيان التعليل، ثم عَلَّله. قلت: والذي يظهر من كلامه أنه علَّله لحالِ ذِكْر الذراعين لا لحال التعليل، والله تعالى أعلم.
والثالثة: ما أخرجه البخاريّ ومسلم، ولفظ مسلم: فقال أبو الجَهْم (والصحيح مُصَغَّرًا كما في البخاري): أقبل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جَمَل، فلقيه رجلٌ فسلم عليه فلم يردَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار، فمسح وَجْهَهُ وَيدَيْه ثُم ردَّ عليه السلام. وهكذا عند الطحاوي وأبي داود بدون ذِكْر التعليل.
والرابعة: ما عند ابن ماجه عن أبي هريرة قال: مَرَّ رجلٌ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يَبُولُ، فسلَّم عليه فلم يردَّ عليه، فلما فَرَغ ضَرَب بِكَفِّه الأرض فتيمم، ثم ردَّ عليه السلام.
والخامسة: ما عنده عن جابر بن عبد الله: أن رجلًا مَرَّ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو يَبُولُ فسلم عليه، فقال له رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِذا رَأَيْتَنِي في مثل هذه الحالة فلا تسلم عليّ، فإنك إن فعلت ذلك لم أردَّ عليك". ولم أجد هاتين غيرَ عند ابن ماجه، ولا سمعت فيها شيئًا من شيخي، والذي لا أشك فيه -والله تعالى أعلم- أنها قصة مهاجر رضي الله عنه، أو ما ذكره ابن عمر رضي الله عنه. وإذن تحصل من مجموع الروايات ثلاثُ قصص مع مغايرات بينها.
وأورد عليه ابن نُجيم أنه ينتفي منه الاستحباب أيضًا، مع أنها مستحبةٌ في المذهب.
قلت: وهذا غيرُ واردٍ عليه، لأنَّه ذهب إلى نَسْخِهِ وقال: إنَّ الطهارةَ كانت واجبةً للأذكارِ في زمنٍ، ثم نُسِخَت. وذكره في «باب ذِكْر الجُنب، والحائض، والذي ليس على وضوء، وقراءتهم القرآن» عن عبد الله بن علقمة بن الغَفْواء عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أهْرَاق الماءَ إنما نكلِّمُه فلا يكلِّمُنا، ونسلِّمه فلا يردُّ علينا، حتى نزلت:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6]. انتهى وإذا نُسخ الوجوبُ فلا بأس بقول الاستحباب.
قلت: وفيه جابر الجُعْفي وهو ضعيف، وعلى الثاني يعني إذا كان لفظه: وهو يبول، تَحَوَّلَ إلى مسألة أخرى، وهي ما في حديث ابن عمر رضي الله عنه. والذي تبين لي أنَّ قصةَ أبي الجُهَيم، وقصة ابن عمر رضي الله عنه واحدةٌ، لما عند الدارقطني
(1)
«وكنز العمال» في قصة ابن عمر رضي الله عنه كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه، يعني أنَّ السلامَ كان حالَ البول. وما في حديث أبي الجُهَيم ففيه تقديم وتأخير في سرد القصة، فمجيئه من نحو بئر جَمَل كان بعد الفراغِ عن البول، وبعد سلامه عليه، يعني كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَبُول فَلَقِيه ذلك الرجُلُ وسَلَّم عليه فلم يردَّ عليه، حتى إذا أقبل من نحو بئر جَمَل بعد البول تَيَمَّمَ وردَّ عليه السلام.
وأمَّا في حديث مهاجر فإنَّه قِصَّةٌ أخرى، وحينئذ تَحَصَّل أنهما قِصَّتان، غير أنَّ حديثَ مهاجر يتردد بين أَنْ يكونَ فيه مسألةُ اشتراط الطهارة للأذكار، أو عدم رَدّ السلام حالَ البول، على اختلاف لَفْظَيه عند ابن ماجه رحمه الله تعالى، وأبي داود كما عَلِمْتَ، والسلام فيهما حال البول، والجواب: بعد التيمم أو الوضوء مع التعرض إلى التعليل. ويُشْكِل فيه التيمم حال وُجْدَان الماء، وكراهة الذِّكْر بدون طهارة.
والحَل: أنَّ التيممَ للأشياء التي لا تحتاج إلى الطهارة صحيحٌ حال وُجْدَان الماء أيضًا عند صاحب «البحر» ، وإن ردَّ عليه الشامي. والصواب عندي: ما اختاره ابن نُجيم صاحب «البحر» .
وأما حَلُّ المسألة الثانية: فإن كان الأمر فيه أنَّ الوقائعَ كلها تُرَدُّ على مورد واحد وأن السلام فيها كان حال اشتغاله بالبول كما قررت، كان معنى قوله: «إلا أَني كَرِهت أن أذكرَ اللهَ إلا على طُهْر، أي الطُّهر من البول وعدم اشتغاله له، ويكون حاصل التعليل بقرينة وقت السلام:
(1)
قلت: وسياقه عند الدارقطني هكذا: عن ابن الهاد: أن نافعًا حدثه عن ابن عمر رضي الله عنه قال: أقبل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من الغائط فلقيه رجل عند بئر جَمَلَ، فسلم عليه فلم يرد عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الحائط، ثم مسحَ وَجْهَهُ ويديه، ثم ردَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الرجل السلامَ ونحوه في الكنز أيضًا ففيه دليلٌ على أن القصة في حديث ابن عمر رضي الله عنه هي القصةُ عند بِئر جَمَل. وتلك القصة ليست إلا لأبي الجُهَيم، فظهر أن القِصّتان في حديثي ابن عمر رضي الله عنه، وأبي الجهيم واحدةٌ. وإذا تحقق عندك أنها قصةٌ واحدة فما بقي من المغايرات بين الحديثين فهي من تلقاء الرواة، فليطلب لهما مَحْملا كما تفعل عند المغايرة في طُرُقِ حديثٍ واحد، فاعلمه. وإذن تحصَّل من المجموع قصتان فقط: قِصة أَبي الجُهَيم، وقصة مهاجر، وهما على اختلاف ألفاظهما تتلخصان على ما وجهناهما في الصلب، فافهم.
أَني كَرِهت أن أذكرَ اللهَ حالَ اشتغالي بالبول، فلم أرد عليك، وإن كان اللفظ عامًا. وفيه نظر من وجهين:
الأول: لِما في «العمدة» عن الطبراني بزيادة وهي: أنَّه دعا بوَضوءٍ فتوضأ، ورَدَّ عليَّ وقال:«إني كرِهت أَنْ أذكرَ اللهَ على غير وضوء» . فإن كانت محفوظةً ففيها تصريح بأنَّ الكراهةَ كانت لعدم كونه على الطهارة، لا لاشتغاله بالبول.
والثاني: أنَّه لم يجب بعد الفراغ عن البول أيضًا إلا بالتيمم، أو الوضوء، فعاد الإشكال، لأنه إذا صرفنا قوله:«إلا على طُهر» على معنى الطهر عن البول، وعدم الاشتغال له، فنحن وإن خرجنا منه عن عهدة القول، إلا أنَّه لم يزل فِعلُه واردًا علينا، فإنَّه لم يجب بعد الفراغ أيضًا، فدل فِعْله على أنَّ جواب السلام ينبغي أن يكون على حال الطُّهر. ولكن في «العمدة» عن ابن دقيق العيد أنَّه أَعلَّ الحديث لِما في البزَّار بسند صحيحٍ عن ابن عمر رضي الله عنه: أن رجلًا مَرَّ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو يبولُ فسلم عليه الرجل فرد عليه السلام، فلما جاوزه ناداه وقال:«إني رددتُ عليك خشيةَ أن تقولَ سلمتُ ولم يُجِبْني، فلا تسلِّم علي، فإنك أنَّ تَفْعَل لا أردُّ عليك» . فاضطرب الحديث جدًا، وراجع «نصب الراية» .
وما تحرر عندي في هذا الباب: أَنَّ السلامَ كان حالَ البول، والجواب: بعد التيمم مرةً، وبعد أَنْ أَقبل النبيُّ صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جَمَل، كما ذكره أبو الجُهَيم. فإذا رأيت في القصتين إتيانَه صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جَمَل حَكَمْتَ أنها قصةٌ واحدةٌ، بقي الاختلاف بكون السلام بعد البول عند أبي الجُهَيم، وحال البول عند ابن عمر رضي الله عنه، فالأمر فيه سهل ويُحمل على توسع الرواة. ويقال: إن الواقعة على صرافتها الوضوء أخرى، ثم أظن أنَّ ردَّ السلام واجبٌ على الفورِ، فإن تأخر سقط عنه
(1)
إلا أن التأخير ههنا لما كان لمانع شرعي، وهو أنه أراد أن يذكرَ اللهَ حالَ الطهارةِ فيحمل فيه التأخير بقدر الوضوء، أو التيمم، ولم يسقط عنه الجواب وساغ له أن يردَّ عليه بعد الوضوء أو التيمم.
وفي «المسند» لأحمد عن عبد الله بن جابر قال: إني سلمت على النبيِّ صلى الله عليه وسلم ثلاثَ مرارٍ لا يُجِيبُني كلَّ مرةٍ، حتى دخل حجرته وتوضأ مستعجِلًا، وردَّ عليَّ ثلاث مرار. وليس فيه ذِكر البول، ولا ذِكْر البول، ويَخْرُج منه أنَّ العزيمةَ فيما لم يَخَفِ الفَوْتَ وكان بصدد الطهارة، أن يردَّ بعدها، وهو عند ابن كثير أيضًا. وعبد الله بن جابر اختُلف فيه، قيل: إنه بياضي من بني بياضة، وقيل: عبدي.
وحاصل: المسألة عندي أنَّ الذِّكر المختص بالوقت كقوله: غفرانك، يُؤتى به في وقته
(1)
قلت: وترددوا مثله في جواب الأذان أنه إن أجاب المؤذن بعدما تمَّ الأذان، هل يُحْرِز الثواب ويشترك معه في الأَجر أم لا؟ وتعرض إليه السندي في "حاشية النسائي"، والظاهر أنه إن تلافى عقيبه وأجاب على الفور يُرجى له الأجر، وإن أخر بُرْهةً ثم أجاب لا يحصل له هذا الثواب، لأنه فات فيه معنى الإِجابة، وَوَعْد الأجر نيط به، والله تعالى أعلم.
مطلقًا، وأما غير المختص منه، فالمستحب فيه أن يكون على طهارة إلا إذا خاف الفوات، وقد مرَّ عن صاحب «الهداية» في باب الأذان أنَّ الطهارةَ تستحب للأَذكار.
قلت: ومع هذا لا تُكره قراءةُ الأذكار بدونها ولو تنزيهًا، لأنَّه لا يلزم أن يكون كلُّ خلافِ المستحَبِّ مكروهًا تنزيهًا، بل لا بد له من دليل خارج، وهو قد يكون، وقد لا يكون، فلعلَّ الكراهة المذكورة في الحديث طبعي لا فقهي، فإِنَّ الطبائعَ الذكية تَحُسُّ من مثل هذه الأمور كُربة وغُمة، ويفوت عنها الانشراح، فكيف بطبع النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي كان في أقصى مراتب النزاهة والنظافة. ثم ههنا فَرْقٌ بين فراغ البول عقيبه، وبينه بعد برهة، فإِنَّ الإنسانَ إذا بَعُدَ عهدُه بهذه الأشياء وطرأ عليه ذهولٌ ما تزول عنه تلك الكراهة، ويصدِّقه وجدانك إن شاء الله تعالى.
ولي ههنا إشكال آخر لما رواه الترمذي، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يذكر اللَّهَ في كل أحيانه، ومعناه أنَّه لم يكن ممتنعًا عنه في حالٍ. وقد رُوي عنه عن غيرِ وجهٍ أنه لم يكن يَحْجُرُه عن قراءة القرآن شيءٌ غير الجنابة، فإِما أَنْ يقال كما قاله الطحاوي من النسخ، أو يُفَرَّق بين الكراهة قبل الاستنجاء، وبين الكراهة بعده، ولعلَّك لو نظرت على هذه الأجزاء بالغور والإِمعان سَهُل عليك الأمرُ، وعلمت أَنَّ المسألةَ المشهورة لا تُخَالِفُ الأحاديث
(1)
.
وقد علمت أن مولانا الجنجوهي رحمه الله تعالى كان يُفتي بجواز الردِّ حال الاستبراء، أي بعد الفراغ عن البول حال استعمال الحجارة، وكان مولانا محمد مظهر رحمه الله تعالى يمنع منه.
قلت: أما في الفقه فكما اختاره مولانا الجنجوهي رحمه الله تعالى
(2)
.
قوله: (ولا يَجِدُ مَنْ يُنَاولِهُ)
…
إلخ وعندنا يتيمم وإن كان يجده، لأنَّ القدرة بالغير غير مُعتَبرة عندنا.
قوله: (فلم يُعِد) وهو المسألة عندنا.
(1)
قلت: قال السيوطي رحمه الله في "حاشيته على ابن ماجه": إنه ينبغي لِمَنْ سلَّم عليه في تلك الحال أن يدع الردّ حتى يتوضأ أو يتيمم ثم يرد، وهذا إذا لم يخش فوت المُسَلِّم، أما إذا خشي فوته فالحديث لا يدل على المنع، لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم تَمَكَّن من الرد بعد أن توضأ، أو تيمم على اختلاف الرواية، انتهى. قلت: ولعله رحمه الله تعالى أراد منه التوجيه للمسألة المشهورة من أن ردَّ السلام جائز، بدون الطهارة، فقال: ما نطق به النص، هو أن الطهارة مستحبةٌ لردِّ السلام وهذا مسلم. أما إنه لا يجوز وإن لم يتمكن من الطهارة فالحديث ساكت عنه. لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم تَمَكَن من الطهارة، وعلمنا من الخارج أنه جائز فلم يخالف الحديث. قلت: ولعل معنى قوله إلا أني كرهت عنده، يعني عند التمكن بها اهـ.
(2)
قلت: والذي يدور بالبال وإن لم يكن له بال بأن الطهارة لردِّ السلام كالوضوء مما مست النار، ومن لحوم الإبل، ومن مسِّ الفَرْج، ومسِّ المرأة، فكما حمله الشيخ رحمه الله تعالى على مستحب الخواص، كذلك فليحملها على مستحب الخواص ليتسع الأمر، ويقرب بمسائل الفقه، والأحاديث الواردة في التوسيع فيه، والله تعالى أعلم اهـ.