الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التبعيضية، لتكون له دليلًا على تركب الإيمان. ونقول من جانب الحنفية: إنها ابتدائية كما مر تقريره. «والفتنة» شيءٌ يقع به التمييز بين الحق والباطل وبحث في «الإحياء» أن العُزْلة أفضل أو الخُلْطة؟ قلت: بل هو مختلِفٌ باختلاف الأحيان والأزمان ويُستفاد من الحديث أن العُزْلَة تكون أفضلَ في زمان مخافة أن تجرحَ الفتن دينه. والفتنة هي التي لا يُعلم سوء عاقِبَتِها في أول أمرها، ثم ينكشِفُ بعد حين وغرض البخاريُّ أن صيانتَه دينه من الفتن، وإن كان بعد حصولِ الدِّين، لكن ليس ذلك من الدِّين وأجزائه.
13 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ»
.
وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ فِعْلُ الْقَلْبِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225].
العلمُ، والمعرفةُ، واليقينُ قد يطلق على الأحوال أيضًا، والعلوم لا تكون أحوالًا إلا بعد استيلائها، وحينئذٍ تكون عينَ الإيمان، وهو المراد في قوله صلى الله عليه وسلم «من ماتَ وهو يعلمُ أن لا إله إلا اللَّهُ»
…
إلخ، فالعلم ههنا بمعنى الإيمان، أي يؤمنُ بتلك الكلمة وكذا في قوله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر: 28] وهم المؤمنون الذين رَسَخَ العلم في بواطنهم، وأُشْرِبَ به قلوبهم، وخالطت بها بشاشته، فأوجد فيهم نورًا، وحلاوة، وانبساطًا، فإن أريدَ به هذا النحوُ من العلم الذي هو من الأحوال، وهو الذي يستوجبُ العملَ، فهو عينُ الإيمان، وزيادتُهُ يكون دليلًا على زيادة الإيمان، ونقصانُهَ على نقصانه، وإلا فالاستدلال منه على طريق إلحاق النظير بالنظير، يعني كما أن في العلم مراتب، كذلك في الإيمان أيضًا، فإن العلمَ سببُ الإيمان، فإذا ثبت التشكيك في السببِ، ينبغي أن يثبتَ في مسببِهِ، أي الإيمان أيضًا.
(وأن المعرفة فعل القلب
(1)
) إن كان المرادُ من المعرفة هي الاضطرارية، كما في قوله تعالى:{يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءهُمْ} فهي ليست بفعلٍ بالمعنى اللغوي، لأن أهلَ اللغةِ لا يسمون فعلًا إلا الاختياري، وإن كان المرادُ منها ما تتقررُ بعد التكرر، وتغلبُ على الجوارح، وتكونُ
(1)
وذهب الرازي: إلى أن العلمَ فعل، وُيستفاد ذلك من كلام البخاري أيضًا، حيثُ جعلَ المعرفةَ فعل القلب، والتصديقُ الاختياري الذي هو أحد قسمي التصديق عند صدر الشريعة، هو أيضًا فعل. وأما التفتازاني فقد علمتَ أنه جعلَ التصديق غير الاختياري من أقسام التصور. قلت: وحينئذ كان الواجبُ عليه أن يقيدَ المَقْسَم بالاختياري، لئلا يلزمُ عليه تقسيمَ الشيء إلى نفسه، وإلى غيره، فإن التصور ليس قسمًا من التصديق، ثم لا يكون ذلك الاختياري إلا فِعلًا. وذهب الصدر الشيرازي في "الأسفار الأربعة": إلى أن العلومَ كلها فعلٌ، وهو عندي حاذقٌ، وما يهزأُ به بحرُ العلوم، فلعدمِ اكتناهِهِ كلامَه.
ومن علوم الشيرازي أنه قال: إن الصورَ العلمية ليست قائمةً بالنفس، ولكنها حاضرةٌ عندها حضورَ المصنوعِ عند الصانع، والمخلوق عند الخالق، وإن النفسَ تنشىء الصورَ، كما أن الباري تعالى ينشىء المخلوقات، وإن النفسَ الناطقةَ ماديةٌ في حقيقتها، وإنما تتدرجُ إلى التجردِ بالرياضات. هكذا في تقرير الفاضل عبد القدير الكاملفوري من تلامذة الشيخ رحمه الله تعالى.
مكسوبة، فهي فعلُ القلب قطعًا، وعينُ الإيمان، إلا أن الأوضحَ حينئذٍ أن يقول: وإن الإيمان فعل القلب، لأنه أدلُ على مراده، ولكنه يتفنَنُ في أداء المقصود، فتارة، وتارة. وهو المراد بما نُقل عن إمامنا رضي الله تعالى عنه في «الإحياء»: أن الإيمان معرفة، وهكذا رُوِي عن أحمد رضي الله تعالى عنه أيضًا، إلا أنه إذا نُقل عن الإمام الهُمام رحمه الله تعالى جعلوا يُنكرونَ عليه، وإذا جاء عن أحمد رحمه الله تعالى مروا به كِرَامًا.
*أصم عن الشيء الذي لا أريده
…
وأسمع خلق اللَّه حين أريد
وقد مر نُبذة من الكلام عند تحقيقِ محل الإيمان، وإن الأولى أن يقول المصنف رحمه الله تعالى: وإن الإيمانَ فعلُ القلب، فراجعه. وقد يتخايل أنه أراد منه الردَ على المعتزلة، فإنهم قائلون: بأن المعرفةَ أولُ الواجبات، ثم الإيمان كما مر، فالمصنفُ يردُّ عليهم بأن المعرفة هي فعلُ القلب، فتكون عينَ الإيمان، فهي الواجبُ الأول، لا أن المعرفةَ أمرٌ وراءَ الإيمان، لتكون أولَ الواجبات هي، ثم يكون الإيمانُ بعده واجبًا آخر.
{وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وتقريرُ الاستشهاد على كون المعرفةِ فعلُ القلب، بأن فيها إسنادُ الكسب إلى القلب، فكما أن الكسبَ فعلٌ، كذلك المعرفةُ أيضًا من فعله ومكسوباتِهِ، فمن اعترض عليه بأن الآية في الأيمان لا في الإيمان فهو غافل عن طريقته في الاستدلال.
20 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَرَهُمْ أَمَرَهُمْ مِنَ الأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ قَالُوا إِنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الْغَضَبُ فِى وَجْهِهِ ثُمَّ يَقُولُ «إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا» . تحفة 17074 - 12/ 1
20 -
(أمرهم من الأعمال بما يطيقون) وهو طريق الحكيم، أي التشديدُ على نفسه، والتيسير على غيره، وهو طريق الأنبياء.
(يا رسول اللَّه) ولم أر صيغة الصلاة في كلامهم عند الخطاب، نعم في الغَيْبَة، وهكذا ينبغي أن يُقتفى آثارهم عند القراءة، فلا يَتَلَفظُ بها في مواضع الخطاب، وهو الرسمُ في الكتاب.
…
إلخ وجوَّزَ الأشاعرةُ
(1)
وقوعَ الصغائرِ من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبل النبوة وبعدها، سهوًا بل عمدًا أيضًا، ونفاها الماتُرِيْديةُ مطلقًا. والجواب عن الآية
(1)
قال في عقيدة السفاريني قال الحافظ زين الدين العراقي: النبي صلى الله عليه وسلم معصومٌ من تعمدِ الذنب بعد النبوة بالإجماع، وإنما اختلفوا في جواز وقوعِ الصغيرة سهوًا، فمنعه الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني، والقاضي عياض، واختاره تقي الدين السبكي، قالَ: وهو الذي نَدِينُ اللهَ به. انتهى مختصرًا. وقال العلامة التفتازاني: وفي عصمتهم من سائر الذنوب تفصيل، وهو أنهم معصومون عن الكفر قبل الوحي وبعده بالإجماع، وكذا عن تعمُّدِ الكبائر عند الجمهور، خلافًا للحَشَوِية وأما سهوًا فجوز الأكثرون. قال: وأما الصغائر فيجوزُ عمدًا عند الجمهور، ويجوزُ سهوًا بالاتفاق إلا ما يدل على الخساسة هذا كله بعد الوحي، قال: وأما قبلَه فلا دليل على امتناعِ صدور الكبيرة. انتهى مختصرًا.
عندي: أن الذنبَ غيرُ المعصية، وههنا مراتب، بعضها فوق بعض، ووضع لكلٍ لفظ، فالمعصيةُ عدولٌ عن الحكم، وانحرافٌ عن الطاعة، ومخالفةٌ في الأمر، وترجمته: نافرمانى فهذا أشدها. ثم الخطأ، وهو ضِدُّ الصواب، وترجمته في الهندية: نادرست. ثم الذنب، وهو أخفها، ومعناه: العيب، فالسؤال ساقطٌ من أولِ الأمر، لأن في الآية ذكرُ مغفرة الذنوب، أي ما يعدُّ عيوبًا في ذاته الشريفة، وشأنِهِ الرفيعة. وقد سمعت: أن حسناتِ الأبرار سيئاتِ المقربين، فلعل ذنوبه من هذا القبيل. فالبحث ههنا بالصغائر والكبائر في غير موضعه، فإن هذا التقسيم يجري في المعصية، دون الذنوب بالمعنى اللغوي، بل هو موهم بخلافِ المقصود. ثم ههنا إشكالان.
الأول: أن الأنبياءَ عليهم الصَّلاة والسَّلام كلهم مغفورون، فما معنى التخصيصُ في حقه فقط، مع كونهم مغفورين أيضًا. والثاني: أن مغفرةَ ما تأخر مما لا يُفهم معناه، فإنها تقتضى وجودَ الذنوب أولًا، ولم توجد بعد. والجواب عن الأول: أن الذي هو مختصٌ به هو الإعلان بالمغفرة فقط، أما نفس المغفرة فقد عمتهم كلُّهم، وذلك لأنه قد أبيحت له الشفاعة الكبرى، وقُدِّر له المقام المحمود، فناسب الإعلان بها في الدنيا، ليثبِّتَ فؤادَه يوم الفزع الأكبر، ويسكن جأشه، ولا ترجف بوادره، فلا يتأخر عن الشفاعة الكبرى، التي هي منزلته ومقامه، ولو لم يعلن بها في الدنيا، لتذكَّر ذنوبه أيضًا كما تذكروا، ولما تقدم إليها كما لو يتقدموا، فلما حلت به المغفرة التي لم تغادر شيئًا من ذنوبه، وأعلن بها عن المنائر والمنابر، إلى يوم الحشر، علم أنه هو المأذون فيها. وهو النبي الآسي والرسولُ المُوَاسي: ولهذا المعنى لما عرضت الشفاعة على النبين قالوا: ائتوا محمدًا، فإنه قد غفر له ما تقدم من ذنه، فذكروا هذا الوصف، فالإعلان والاطلاع لهذا، لا لأن المغفرةَ لم تشملهم.
والجواب عن الثاني: أما أولًا فبالمنع بأن يقال
(1)
: إنا لا نُسلِّم أن المغفرة تَستدعي وجودَ الذنوب أولًا، بل المغفرة على ما يأتي، بمعنى أنك إن صدر عنك ذنب لن نؤاخذه منك، فهي بمعنى عدم المؤاخذة. وأما ثانيًا: فبأن الجميع موجودة في علمه تعالى فصحت المغفرة على الجميع دفعة، لعدم التقدم والتأخر في علمه تعالى. وثالثًا: إن المغفرةَ من أحكام الآخرة، وهناك كلها ماضيةٍ، وإن كان في الدنيا بعضها ماضية وبعضها آتية. وحكمة الاطلاع مرّت.
ثم إنه قال الشيخ ولي الله قُدِّس سِرُّه العزيز: إن الوعد بالمغفرة مقتضاه العمل، والاحتياط لا عدم العمل وترك الاحتياط. ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن عبادته مع مغفرة ذنوبه:«أفلا أكونُ عبدًا شكورًا» ، فعُلم أن مقتضى المغفرة هو الازدياد في العمل شكرًا، وهذا يفيدك فيما قيل في البدريين: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
(فغضب) ومَوْجِدَةُ النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لأن سؤالهم كان مخالفًا للفطرةِ السليمة، فكان واجبًا عليهم، أن يفهموه من فطرتهم، وهكذا ثبت منه في مواضعَ عديدة، فإذا أخطأ أحدهم في
(1)
قلت وهذا الجواب على ما أتذكر ارتضى به الحافظ فضل الله التوربشتي في "شرح المصابيح".