الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والصابئين في كتابه في نحو ثلاثين ورقة، وعَدَّها من غرائبه. ويتضحُ منها أنهم كانوا يُنْكِرون طَوْرَ النبوة.
ثم إن المفسرين تكلموا في فضل آدم عليه الصلاة والسلام ورأَوْا أنّ فضله من جهة العلم، وهي عندي عبوديته، لأن الخلافةَ يستحِقُّها باعتبار الظاهر ثلاثة: آدم، والملائكة، وإبليس. أما إبليس فقد علمتَ حالَه، وأما الملائكة فإنهم سألوا ربهم عن سرّ الخلافة لَمّا كان ظاهرُ حال بني آدم يُنبىء عن سَفْك الدماء وغيرها، ولم يُحْسِنوا في السؤال، غيرَ أنهم لمّا لم يُصِروا عليه غُفر لهم. وأما آدم عليه الصلاة والسلام فإنه لم يواجِه ربّه إلا بالتضرّع والابتهال حين ناداه:{أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 22] مع أنه كان عنده جوابٌ أفحم به موسى عليه الصلاة والسلام حين تناظر معه، كما في الحديث، إلا أنه لم يأت بحرف منه حين مواجهة ربه عبوديةً وطاعةً.
ومن ههنا عُلم سر المناظرة بين موسى وآدم عليهما السلام، وإنما أظهر الله تعالى علمه لكونه وصفًا يمكن ظهوره، بخلاف العبودية، فإنها صفة مستورة في العبد لا سبيل إلى العلم بها، لا لكونه مَدَارًا للفضل، فعُلِم أنّ فضل العلم إنما يظهر إذا كان العمل يساعده، كآدم عليه الصلاة والسلام، فإن علمه عُدَّ فضلًا وكمالًا لعبوديته وعَمَلِه حسب عِلْمه. كيف وإنه وسيلة العمل، والوسيلة لا تفوق ما هو وسيلة إليه.
ولعلك الآن ذُقت معنى قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ولا نُنْكِر فضل العلم، فإن مالكًا وأبا حنيفة رحمهما الله تعالى ذهبا إلى أن الاشتغال بالعلم خيرٌ من الاشتغال بالنوافل على عكس ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله. وعن أحمد رحمه الله روايتان: إحداها في فضل العلم، والأخرى في فضل الجهاد، كما ذكره ابن تيمية رحمه الله في «منهاج السنة» ، ولكني أردتُ بيان جهة الخلافة على ما كانت عندي. والله يعلم الحقَّ وهو يَهدي للصواب.
قوله: (قول الله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ}
…
إلخ) فيه أيضًا سابِقِيَّة للإيمان على العلم، والآية سيقت لبيان فضل عامة المؤمنين، ثم للعلماء لا للثاني فقط. ومعنى قوله:{وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} أي الذين آمنوا ومع ذلك أُوتوا شيئًا آخر وهو العلم.
قوله: ({دَرَجَاتٍ}) جمع درجة، يُستعمل في الجنة، كالدَّرَكَات جمع دَرَكَة في النار قال الله تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاْسْفَلِ مِنَ النَّارِ} .
قوله: (وقوله عز وجل: {رَّبّ زِدْنِي عِلْمًا}) دلالته على فضل العلم واضحة.
2 - باب مَنْ سُئِلَ عِلْمًا وَهُوَ مُشْتَغِلٌ فِى حَدِيثِهِ، فَأَتَمَّ الْحَدِيثَ ثُمَّ أَجَابَ السَّائِلَ
59 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ ح وَحَدَّثَنِى إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ حَدَّثَنِى أَبِى قَالَ حَدَّثَنِى هِلَالُ بْنُ عَلِىٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ بَيْنَمَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فِى مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِىٌّ فَقَالَ مَتَى
السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ سَمِعَ مَا قَالَ، فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ «أَيْنَ - أُرَاهُ - السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ» . قَالَ هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ «فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» . قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا قَالَ «إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» . طرفه 6496 - تحفة 14233 - 23/ 1
59 -
قوله: (فإذا ضُيِّعَتِ الأمانة) ومعنى الضياع: أن لا يبقى اعتمادٌ لأحد على أحد، لا في الدِّين ولا في الدنيا. وقد مرَّ مني أن الأمانة صفةٌ متقدمة على الإيمان، فيجيء أولًا لون الأمانة ثم يجيء عليه لون الإيمان. ولذا اشتق منها الإيمان. وفي الحديث تأديب للسائل بأن السؤال ينبغي أن يكونَ بعد الفراغ لا عند الاشتغال. ومَنْ سُئِل عند الاشتغال يَسَعُ له أن لا يقطع كلامه ويَمضي فيه. وفيه ترغيبٌ للمجيب أن يُجيبَ بعد فراغه إن شاء، وفيه إجازةٌ لتحقيق السؤال إذا لم يفهمه.
قوله: (إذا وُسِّد الأمرُ إلى غير أهله
…
) وفي ذلك حكايات عن الأئمة والمحدثين.
فنُقِلَ عن الشافعي رحمه الله أنه لم يكن في سَعَةٍ من ذات يده، وكان الناسُ يُهدون إليه تحائف، إلا أنه لم يكن يُمْسِكُهَا، وكان يُنفقها على الفور، وكان يعيش في عُسرةٍ وتلميذه ابن عبد الحكم كان صاحب الضَّيْعَة والنخيل، فكان يَخْدُمه كثيرًا.
واتفق أن الإمام الشافعي رحمه الله رحل إليه مرة فأمر الطبّاخ أن يهيىء له أنواعًا من الطعام، وكتب أسماءها، فأضاف عليها الشافعي رحمه الله طعامًا آخرَ وكتب بيده، فلما علمه ابن عبد الحكم أعتق عبده من شدة الفرح. فلما كان الشافعي رحمه الله ابن أربع وخمسين، وسمع نداء الرحيل، استفتاه الناس: مَنْ يجلس إليهم بعدَه؟ ومَنْ يتولّى التدريس؟ فجاء ابن عبد الحكم أمامه يرجو أن يُعَيِّن الإمام إياه، إلا أن الإمام الشافعي رحمه الله وَسَّد الأمر إلى أهله وقال: إنّ صاحب الحلقة بعدي يكون إسماعيل بن يحيى المُزَني خال الطحاوي، ولم يُبَالِ بما صنع إليه ابن عبد الحكم من المعروف مُدَّةَ حياته.
وهكذا الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله، وكان صاحب طريقة لم يؤجِّرْ نفسه للتعليم مدة عمره، وكان متوليًا للخانقاه إذ ذاك، وكان يدرّس فيه لوجه الله. وكان يأخذ منه بالمعروف غير مُتَأَثِّلٍ مالًا. وكان مَلِكُ مصر من أكبر معتقديه متى تَعْرُو له حادثة سُئِل عنها، مع كون الحافظ ابن حجر رحمه الله والعينيّ رحمه الله موجودَيْن في زمانه أيضًا، فلما دنت وفاته سأل الناسُ عمن يجلس مجلسه بعده؟ قال: العلاّمة القاسم بن قُطْلُوبُغَا، وإنما انتخبه من بين سائر تلامذته؛ لأنه مع كونه عالمًا كان أورعهم وأتقاهم، ومن أدلة تقواه وورعه: أن علماء المذاهب الأربعة رحلوا لتأييده في مناظرة انعقدت بينه وبين الشيخ عبد البَرِّ بن الشِّحْنَة تلميذ ابن الهُمَام رحمه الله بين حضرة الملك. وبالجملة لما كان العلامة القاسم أهلًا عنده وسَّد إليه الدرس بعده.