الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
32 - باب تَعْلِيمِ الرَّجُلِ أَمَتَهُ وَأَهْلَهُ
97 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ - هُوَ ابْنُ سَلَامٍ - حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِىُّ قَالَ حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ حَيَّانَ قَالَ قَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِىُّ حَدَّثَنِى أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «ثَلَاثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ، وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ إِذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ {يَطَؤُهَا} فَأَدَّبَهَا، فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ» .
ثُمَّ قَالَ عَامِرٌ أَعْطَيْنَاكَهَا بِغَيْرِ شَىْءٍ، قَدْ كَانَ يُرْكَبُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى الْمَدِينَةِ. أطرافه 2544، 2547، 2551، 3011، 3446، 5083 - تحفة 9107
97 -
قوله: (ثلاثة لهم أجران: رجل من أهل الكتاب)
…
إلخ أجرُ الإيمان بنبيِّهِ وأجر الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم
قوله: (يَطَؤُهَا) أي بملك اليمين. قوله: (أدبها) التأديب تهذيب "دادان".
قوله: (ثم أعتقها) وقد ذكرتُ ههنا أمورٌ فاختلف الشارحون في التعيين - منها: قلت: والأوجهُ أن الأمورَ المذكورة إلى الإعتاق عملٌ واحد والأمورُ بعد الإعتاق عمل آخر. فالأجرانِ على الإعتاق بما فيه وعلى النكاح، لأن الإعتاقَ عبادٌ مستقلةٌ. وسائرُ الأمور المذكورة قبلَه تمهيداتٌ له، وكذا التزوُّجُ بعد الإعتاق أيضًا عبادة مستقلة أخرى، فالأجران على هذين العملين.
ثم ههنا عَوِيْصَةٌ وهي: أن المرادَ من أهل الكتاب ماذا؟ إن كان اليهودُ فهو صعبٌ من حيث أنهم كفروا بعيسى عليه السلام، وصاروا كفارًا وحبطَ إيمانُهُم، فكيف يستحقون الأجرين. لأنه لم يبق حينئذٍ من عملهم غيرُ الإيمان بالنبي وهو عملٌ واحدٌ فلا يستحِقون عليه إلا أجرًا واحد. وإن قلنا: إن المراد منهم النصارى كما يؤيده ما عند البخاري: «رجل آمن بعيسى» بدل قوله: «من أهل الكتاب» فدل على أن المراد منهم النصارى فقط دون اليهود، فهو أصعبُ لأن الحديثَ مستفادٌ من قوله تعالى:{أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 54] وإنه نَزَلَ في عبدِ الله بن سلام وأصحابه باتفاق المفسرين، وكان يهوديًا فعُلِم أن لهم أيضًا أجرين فيدخلون تحت أهل الكتاب أيضًا ولا بد.
قلت: ولا ريب في أن الحديث عام لليهود والنصارى، أما ما ورد في لفظ البخاري:«رجل آمن بعيسى» ، فإنه يجعل تابعًا لما في أكثر الروايات:«رجل من أهل الكتاب» ويحملُ على اقتصارٍ من الراوي. والأصل كما ذكره آخرون ولا ينبغي أن تُدارَ المسألة على ألفاظِ بعض الرواة، سيما إذا وردت مخالفة للأكثرين.
فهذه قضية أبهمت على الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى حتى استقر رأيه على ما نُقِلَ عن الكِرْمَاني أن الأجرينِ لا يختصانِ بأهل الكتاب، بل كل من آمن بنبينا صلى الله عليه وسلم ولو بعد الكفر الصريح حتى المجُوسي والوَثني، فإنه أيضًا يُحْرِزُ الأجرين.
قلت: هذا كلامٌ باطلٌ، فإنه خلاصةَ الحديثِ الوعدُ بالأجرين على العملين، وليس الكفرُ الصريحُ من البرِّ في شيء يستحقُ عليه الأجر، فلم يبق حينئذٍ إلا عملٌ واحد وهو الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو وإن كان من أبرِّ البرِّ وأزكى الأعمال، وأسنى المقاصد، لكنه عملٌ واحد لا يستحقُ عليه إلا أجرًا واحدًا. نعم، أجرُهُ يكون وِزَانُ عمله وهذا أمرٌ آخر.
وعندي حديثٌ صريحٌ في أنَّ الآيةَ عامةٌ، وأن الأجرين بالإيمان بنبيه وبالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم فعند النسائي في تأويل قول الله عز وجل:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] في حديث طويل فقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد: 28] أجرين: بإيمانهم بعيسى وبالتوراة وبالإنجيل، وبإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم .. إلخ، فهذا أوضحُ دليلٍ على أن الأجرين على العملين من إيمانهم بعيسى وبمحمد صلى الله عليه وسلم ولما عجز الحافظ رحمه الله تعالى عن الجواب التزم هذا الباطل.
والذي عندي هو أنَّ عبد الله بن سلام وأمثاله أيضًا يَستحقُّونَ الأجرين، والذين دخلوا تحت النصِّ داخلون في قوله:«أهل الكتاب» أيضًا، ولا يردُ شيءٌ، لأن الذين كفروا بعيسى عليه الصلاة والسلام وحَبِطَ إيمانهم، فإنهم الذين بُعث عيسى عليه الصلاة والسلام فيهم، ودَعَاهم إلى شريعته، أي بني إسرائيل، فلما أبوَا هلكوا كما قصَّهُ اللَّهُ سبحانه، أما يهود المدينة فلم تبلغ دعوتُهُ إليهم، ولا وُجد منهم الانحراف عنها، وإنما أمرُهُم كما في التاريخ أنهم فروا من الشام إلى العرب حين اجتاحهم «بخنتصر» وبعد فرارهم بمئتين سنة بُعث عيسى عليه الصلاة والسلام في الشام.
فالذين تمت عليهم الدعوةُ بالتوحيد والشريعة جميعًا هم يهودُ الشام، أما يهود المدينة فلم تصل إليهم الدعوة أصلًا. كما في «الوفا» أنه وُجِد في جانب من المدينة حجر عند تلَ مكتوبٌ عليه: هذا قبرُ رسولُ رسول الله عيسى عليه السلام، جاء للتبليغ فلم يُقدَّر له الوصول إليهم. وقد وقع فيه تحريفٌ في «تاريخ الطبري» فسقط لفظ: الرسول، وصارت صورته هكذا: هذا قبرُ رسول الله عيسى، وكثيرًا ما يسقطُ اللفظُ المكرر عند الكتابة ويتكرر اللفظ الواحدُ.
فشغب به الطائفة الباغية قاديانية وزعمت أنه أصرحُ دليل لهم على وفاة عيسى عليه السلام. وهذا هو دَيْدَنُ الزائغين من بدء الزمان، يستفيديون من أغلاطِ الرواة وتحريفِ الناسخين، ويتَّبِعُون ما تشابه منه، وأما الرَّاسخون في العلم فيتبعون المحكمات ويأخذون العلم من مكانه، قاتلهم الله ما أجهلهم أيتمسكون بما في الطبري ولا يستحيون أن تلك الواقعة بعينها موجودةٌ في «الوفاء» وفيه رسول رسول الله عيسى، فطاح ما ركبوا عليه من الجهل. وقد حقق أهل أوربا مجيء حواريين في الهند أيضًا، وقالوا: إنهما دُفِنا في بلدة مدارس، وكذلك حواريان مدفونان في إيطاليا، وحواري في تبت. وهكذا ثبتَ ذهابهم إلى يونان وقسطنطينة، أيضًا. والذي يدلك على أنهم لم يذهبوا إليهم من عند أنفسهم بل بعثهم عيسى عليه السلام: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كتب كُتبًا إلى النَّجاشي والمُقَوْقَس ودُومة الجندل وغيرهم قال لأصحابه: «إني أبعثُكم كما بَعثَ عيسى عليه السلام الحواريين» .
فنشأ منه جهلٌ آخر للنصارى، فإنهم استدلوا به على عمومِ بعثة عيسى عليه السلام، وقالوا: إنها لو لم تكن عامة لما بعث الحواريين إلى الأطراف، ولم يعلموا أن الدعوة إلى التوحيد لا تختص بنبي دون نبي، بل تجوزُ لهم الدعوةُ إلى الشريعة أيضًا إذا لم يكن فيهم نبيٌ. فأهل المدينة لم يكن لهم نبيٌ إذ ذاك وكانوا من بني إسرائيل، وهو رسولٌ إلى بني إسرائيل بنص القرآن، فلو كان دعاهم إلى شريعتِهِ لما كان فيه بأسٌ أيضًا، ولكنهم لم تبلغ إليهم دعوته.
وإذا كان أمرُهم ذلك، فالمسألة فيهم عندي أنه لو كان أحد منهم على دينٍ سماوي من قبلُ كعبد الله بن سلام، فإنه كان على اليهودية، ولم تشملهم دعوة عيسى عليه السلام بخصوصها، ينبغي أن يكون ناجيًا. نعم، لو كان في الشام لما احتاج إلى خصوص الدعوة وكفته دعوة عامة، وهذا لم تبلغه الدعوةُ ولم يكن من سكان الشام وكان على دينٍ حقٍ فيكون ناجيًا، لأنه لم يلتزم شريعة عيسى عليه السلام لعدم المطالبة من جهته لا للإباء منه. نعم، يخرج عن هذا الاستحقاق من كانت دعوتُهُ بلغت إليه ثم ردها. أما إذا كان قومُهُ يدعى في الشام وهذا كان غافلًا عن دعوته لعدم علمه، فإنه بعد الإيمان بالنبي يستحق الأجر مرتين إن شاء الله تعالى وكفاه التصديق إجمالًا.
ويتضحُ ذلك كل الاتضاح بعد البحث في معنى عموم، البعثة فاعلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ إلى كافة الناس بلا خلاف. ثم قيل: إن إبراهيم ونوحًا عليهما السلام أيضًا كذلك، فإنه يقال لنوح: إنه أولُ نبيَ صلى الله عليه وسلم في الأرض. فتصدى العلماءُ لجوابه، لأن البعثةَ العامة قد عُدَّت من خصائصه صلى الله عليه وسلم وتوجه إليه الحافظ رحمه الله تعالى في «الفتح» والسيوطي رحمه الله تعالى في «حاشية النسائي» ولكنهما لم يذكرا وجهًا قويًا.
والذي ظهر لي: أن بِعثة الأنبياء كلهم عامة في حق التوحيد كما صرح به ابن دقيقٍ العيد، بمعنى أنه يجوز لهم أن يدعو إليه من شاؤوا سواء كانوا مبعوثين إليهم أم لا. ويجبُ على القوم إجابة دعوتهم ولا يسعُ لهم الإنكار بحال، فإن أنكروا استحقوا النار.
بقي أنه ماذا معيار بلوغ الدعوة وأنه هل يُشترط التبليغ إلى كل نفس أو مصر على رؤس الأشهاد؟ أو كفى له التبليغ إلى من حَضَرَه، فذلك مما لا علم لنا به. وإذًا فالتعبيرُ الأوفى أن يقال: إن مَنْ تحقق التبليغُ فيهم بأي نحو كان فإنه يُعَدُّ كافرًا بالجحود، سواء كان ذلك النبي بُعث إليهم أم لا. ثم إن كانوا متعبدين بشريعة سماوية من قبل لا يجبُ عليهم الدخول في شريعته. ما لم تبلغهم الدعوة إلى الشريعة أيضًا، فإن بَلَغتْ وجب التعبدُ بها أيضًا، ويحمل ذلك على نسخ شريعة المدعو له، فإن لم تكن عندهم شريعة سماوية من قبل، وجبَ عليهم الدخول في شريعته بدون دعوة إليها، هذا فيمن بلغت إليهم دعوة نبي بخصوصها.
وأما الذين لم تبلغ إليهم الدعوة بخصوصها، ولكن بلغ إليهم خبر ذلك النبي كسائر الأخبار تحمل من بلد إلى بلد، يجب عليهم الإيمان به أيضًا، فإن آمنوا به نَجوا وإن أبَوا هلكوا، وتكون معاملتهُم مع ذلك النبي كمعاملتنا مع سائر الأنبياء عليه الصلاة والسلام، أعني التصديق فقط. ولا يجبُ عليهم التعبدُ بشريعته بمجرد بلوغ خبره إذا كانوا على شريعة نبي من
قبل. وهذا كلُّه قبل هذه الشريعة الآخرة، وأما بعدها فلا يسعُ لأحدٍ الانحراف عنها بحال:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85].
وبالجملةِ دعوةُ التوحيد لا تختصُ بنبي دون نبي، بل هي عامة مطلقًا. وأما الدعوة إلى شريعته فخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم بمعنى أنه يجب أن يدعوَ إليها جميع من في الأرض، وقد تمت على أيدي الخلفاء الراشدين. وأما سائر الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام فكانت دعوتهم إلى شرائعهم مقصورة على أقوامهم وتبليغُ من سواهم كان في اختيارهم، ولم يكن فريضة عليهم. والسر في شُهرةِ عموم بِعثة هذين النبيين أنه لم يُبْعث لمناقضةِ الكفر غيرُ هذين. أما موسى وعيسى عليهما الصَّلاة والسَّلام فإنهما بُعثا إلى بني إسرائيل وكانوا مسلمين نَسَبًا فإنهم من أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام، بخلاف نوح عليه الصلاة والسلام فإنه أول من ناقض الكفر، ولذا لقِّب بني الله، وكذلك إبراهيم عليه الصلاة والسلام أول من رد على الصابئين وأسس الحنفية.
والنبي إذا رد على شيء يكون عامًا لجميع البلاد وهذه مقدمةٌ ينبغي أن يُبحث عنها أن النبي إذا ردّ على شيءٍ فهل يقتصرُ ردُّه على من بُعث إليهم أو يعمُ لمن في الأرض. وهذا في باب العقائد ظاهر، فإنها مشتركة في الأديان كلها فيعم الرد قطعًا، وأما في الشريعةِ ففيه نظرٌ، فالعموم من هذه الجهة، وللقومِ أجوبةٌ أخرى فليراجعه من «الفتح»
(1)
.
إذا علمتَ هذا فاعلم أن عبد الله بن سلام إنما هو ممن بلغ إليه خبر عيسى عليه الصلاة والسلام، ولا نظن بمثل عبد الله بن سلام إلا أن يكون صَدَّقَه لما قد علمنا من سلامة فطرتِهِ حين حضر بمجلس النبي صلى الله عليه وسلم وانطلق لسانُهُ بعد نظرة، بأن هذا الوجه ليس بوجه كذاب فلا نسيءُ به الظن. ولا نقول: إنه لم يصدقه، فإذا كان كذلك فقد كفاه عن عهدة الدخولِ في شريعته، لأنه لم تبلغ إليه الدعوة إلى شريعته وإن بلغ إليه خبره كما علمت، نعم لو كان بلغ إليه وصي عيسى عليه الصلاة والسلام ودعاه إلى شريعته، لوجب عليه الدخول في شريعته أيضًا، ولكنه لم يصل إليه ومات دونه فكفَاهُ تصديقهُ به لإحراز أجر إيمانه.
وحينئذٍ بقاؤُه على اليهودية وعمله بالتوراة لا يمنعُ عن تحصيل الأجر، فلما ظَهَر النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به أيضًا حصل له الأجر مرتين، لأنه أحرز إيمانَه مرة من قبلُ، وهذا إيمانٌ ثانٍ فيحصل له الأجر أيضًا. نعم، الذين كانوا في الشام وأنكروا به لا يحصلُ لهم بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا أجرٌ واحد، بخلاف مَنْ كانوا في المدينة، فإنه ليس عليهم إلا التصديق لعدم بلوغ دعوة الشريعة إليهم، وكانوا على دين سماوي من قبلُ فيُحرزُون الأجر مرتين.
فإن قلت: وفي المعالم أن عبد الله بن سلام جاء النبي صلى الله عليه وسلم مع ابن أخيه، وقال: لو آمنت
(1)
قلت: إن عموم بعثتهما لزومًا كان أو قصدًا بأي معنًى أخذتُه، إنما كان لأهل زمانهما، بخلاف عموم بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه مبسوطٌ على البَسيطةِ طولًا وعرضًا يعني تحبط على جميع من في الأرض إلى يوم القيامة، ولا يختص بزمان، فلا شركة فيه لأحد، والله تعالى أعلم.
بجميعِ الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام غير عيسى فهل يكفى ذلك للنجاة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «كلا» ، أو كما قال. وهذا يدلُ على أنه لم يؤمن به أيضًا.
قلت: أولًا: إن إسناده ساقطٌ. وثانيًا: إن سؤاله من باب الفَرض. وتحقيق المسألة لا أنه يُخبرُ عن حالهِ، بل يريد أنه لو فَعَلَه أحدٌ هل يُعتبر منه أم لا؟ وثالثًا: أنه لما آمن بعيسى عليه الصلاة والسلام إجمالًا لعدم التفصيل عنده، ثم عنده التوراة من قبل إمامًا ورحمة.
وهذه الشريعة الكاملة الجامعة الآن، فهل يجبُ عليه الإيمانُ بها تفصيلًا بعد هاتين أم لا؟ فهذا أيضًا احتمال من الاحتمالات. والحاصل: أنه إذا ظهر أمرهُ ونيتُهُ من الأحاديث القوية فلا نتركه لروايات ساقطةٍ ولا نُسيءُ به الظن ونأولُ فيما وردَ خلافه. وبعد هذا التحقيق انحلت العقدة التي عرضتْ على الحافظ رحمه الله تعالى فألجأتهُ إلى التزام باطل، والحمد لله. ثم قال قائل: إن مسألة إحراز الأجرين ينبغي أن تكون مقتصرةٌ على زمانِ عدم التحريف، فأما إذا حرفوا كتبهم وبدلوا كلام الله من بعد ما عَقَلُوه فلا ينبغي أن يحصل لهم الأجران. قلت: وهذا القائل خالفَ نصَ الحديث، فإن حديثه صلى الله عليه وسلم إنما كان لأهل زمانه، وحالُهم إذ ذاك معلومٌ.
والذي عندي أن يُفصَّلَ في التحريف، فإن كان بلغَ تحريفُهم إلى حد الكفر البواحِ، ينبغي أن لا يحصل لهم الأجر مرتين، وإلا فالأمر كما في الحديث. نعم، يمكن اختلاف كلمات الكفر في الشريعتين كلفظ: الابن، فإنه مستعمل في الكتب السابقة بأي تأويل كان، وهو كفر في شريعتنا مطلقًا، فينبغي رعايته أيضًا. وراجع بحثه من «فتح العزيز» من تفسير قوله تعالى:{نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ} [المائدة: 18] إلخ من أن التأويلَ الباطل هل يُفيد شيئًا أم لا؟ فإن النصارى كفار قطعًا، لكنهم كذلك يدَّعون التوحيد أيضًا. والشريعة الغراء قد اعتبرت به بعض اعتبار، حيث ميَّزَهَم عن سائر الكفار في جواز المُنَاكحات مع نسائهم وأكل ذبائحهم.
فإذا خفف اللَّهُ فيهم في أمور الدنيا لرعايةِ دينٍ سماوي، فلا بُعد أن يغمض عنهم في الآخرة أيضًا ويمنحهم أجرهم مرتين بعبرة إيمانهم الأول أيضًا لمجرد ادعائهم. فإن قلت: إن الأجرين لهؤلاء الثلاثة فقط أو لغيرهم أيضًا، فالجواب كما قاله السيوطي رحمه الله تعالى في نظم له: أنهم يبلغون إلى اثنين وعشرين نوعًا. ومن ههنا ترددت أن هذا العدد محصورٌ أو فيه أمرٌ جامع، وما تحصل لي هو أن كلَّ عمل عُرِضَ على بني إسرائيل فقصَّروا فيه، فإن حافظنا عليها فلنا فيه الأجران. كما عند مسلم في صلاة العصر:«إنها صلاة فُرضت على مَنْ قبلكم، فإن حافظتم عليها فلكم أجران» - بالمعنى. وكما أن بني إسرائيل كانوا يغسِلون أيديهم قبل الطعام، فلو غسلناها قبل الطعام وبعده فلنا أجران الترمذي.
فإن قلت: إذا كان الأجران على العملين فأي فائدة في ذكر هذه الثلاثة؟ فإن كلَّ من يعملُ عملين يستحق أجرين. قلت: إنما خصَّصها لانضباطها والاعتداد بحالها. والحكم الشرعي إنما يجيءُ في نوعٍ أو في صِنْفٍ منضبط لا في الأشخاص، فإن ورد في شخص يعد من خصوصيته ولا يعم. ومن ههنا بحث في الأصول، أنه هل يجوز خلوّ حكم شرعي من الحكمة. ونسب إلينا أنه يجوز كما في استبراء البِكْر، فإن البكر لا شبهةَ فيها للعلوق، فلاستبراء فيها خال عن
الحكمة ظاهرًا، ومر عليه شارح «الوقاية» وقال: إن ما يجبُ هو أن لا يخلو صِنْفٌ منضبط عن الحكمة، لا أنه يجب وجودُها في كل جزء. وحينئذٍ فخلوّ هذا الجزئيِّ بخصوصه عن الحكمة لا يضرنا. ولم يقدر الشارحُ على غير هذا الجواب.
وعندي جوابُهُ لكنَّ الوقتَ لا يتحملُ بيانه وقد فَصَّلتُهُ في بَرْنَامجي. وقد يقال: إن في هذه الثلاثة إشكالًا ولا يتبادرُ الذهنُ إلى حصول الأجرين فيها، فإن المنساقَ إلى الذهن أن الإيمان طاعةٌ واحدةٌ، وإنما الفرقُ في الفروع، فاعتبار هذا الإيمان وهذا الإيمان ربما يفضي إلى التعجب، فتعرَّض إليه الحديث بأن الإيمان وإن كان واحدًا إجمالًا، لكنه لما تعلق بنبيَ بخصوصه تفصيلًا، ثم تعلق بنبي آخر كذلك صار متعددًا باعتبار الشخص، فإنه إذا آمن بنبي فهذا عملٌ، ثم إذا آمن بنبي آخر في زمانه فهذا عمل آخر متجددًا. وكذلك يتوهم أن العبدَ عبدٌ لمولاه، فلعله لا يستحق الأجرَ في خدمته، وكذلك التزوج لنفعه فلا يكونُ عليه الأجر أيضًا.
وقد يقال: إنه خصَّصَها بالذكر لأجل التنبيهِ والتحريضِ على هذين العَمَلين، فإن جمعهما عسير، لأن الكتابي إذا آمن بنبيه فالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم يَشُقُّ عليه. فنبه على أنه بهذا الإيمان لا يُحرمُ عن أجر إيمانه، بل يبقى إيمانُهُ معتبرًا ومأجورًا عليه كما كان، بل يضعَّفُ أجره فيحصل مرتين. وكذلك العبدُ إذا اشتغل بخدمة مولاه، ربما لا يجدُ وقتًا لأداء الصلوات ولا أقل من أن يتعسر عليه، فحرَّضَهُ على أن يؤديَ حق الله أيضًا ليحصل له الأجران. وهكذا الأمر في تزوج الجارية، فإن الطبائعَ الفاضلةَ نافرةٌ عنها، فحرَّضَ على إعتاقِها والتزوج منها، ليحصل له الأجران. وتوهَّم بعضهم أن العبدان صلى فله أجران على صلاته، وليس كذلك، بل الأجران على العملين: أجرٌ على خدمةِ مولاه، وأجر على أداء الصلاة
(1)
.
(1)
قال أبو جعفر: وهذا الذي جئنا بهذه الآثار من أجل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثلاثة الذين يؤتون أجرهم مرتين: "رجل آمن بنبيه ثم أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به". لأنا عقلنا بذلك إنما أراد مَن دخل من أهل دين النبي الذي كان قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان مؤمنًا به في دين النبي. وعقلنا بذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقبه من أنبياء الله عز وجل هو عيسى عليه السلام، فمن كان كذلك استحق أجره مرتين، وإن من لم يَكُن كذلك لم يستحق بدخولِهِ في دين النبي صلى الله عليه وسلم إلَّا أجرًا واحدًا، وهو أجر دخوله في دينه.
فأما ما كان فيه قبل ذلك من دين موسى عليه السلام فإنه لا يستحقُ به مثل ذلك، لأن دين عيسى عليه السلام قد طرأ على دين موسى ولم يَتْبعه، فخرج بذلك من دين موسى ثم اتبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد كان من قبلِ اتِّباعه إياه على غير ما كان الله عز وجل تعبَّده أن يكون عليه عن دين عيسى. وعقلنا مما ذكرنا أن الذي يؤتي أجره مرتين بإيمانه، كان بنبيه ثم بإيمانه كان بالنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو على ما تعبد عليه من دين النبي الذي كان قبله وهو عيسى عليه السلام حتى دخل منه في دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ومما يؤكدُ ما ذكرنا، ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله في حديث عياض بن حماد ما قد حدثنا يزيد بن سنان وإبراهيم بن أبي داود حدثنا أبي عمر الحوفي حدثنا همام بن يحيى حدثنا قتادة حدثني العلاء بن زياد ويزيد أخو مطرف ورجلان آخران -نسي همام اسميهما- أن مطرفا حدثهم أن عياض بن حماد حدثه أنه سمع =