الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واعلم: أن هذا الحديثَ من مُهِمَّاتِ الحديث وتصدّى لشرحه العلماء
(1)
والفضلاء، وكتبوا عليه رسائلَ مستقلة ولكنّ الحديثَ مهمٌ، وموضوعُهُ يحتاجُ إلى شرح الأئمة، ولا ينفعُ فيه كلام الآخرين، فإنه يتعلق بالحِلِّ والحرمة. ولا يمكنُ لنا الآن إلا شرحُ ألفاظِهِ فقط، ولو انكشفت حقيقته لوجدنا ضابطة الحلال والحرام من جهة صاحب الشريعة، ولكان هذا فصلًا في الباب، فإن ظاهرَ الحديث أن الحلالَ بيِّن في نفسه والحرام أيضًا كذلك، ولكن لا ندري ماذا أراد بقوله:«مشتبهات» فإن الاشتباه حاصل في كثير من المواضع، ثم لا تكون تلك بين الحلال والحرام، بل تكون تلك المشتبه إما حلالًا أو حرامًا.
والحاصل: أن في الحديث ضَابِطةٌ كليةٌ للباب الفقهي، ولكن لم يتحصَّل عندنا منه شيءٌ غير حلِّ الألفاظ. ولما كان في المثل السائر: ما لا يُدْرَك كله لا يُترك كله، رأينا أن نتكلم عليه شيئًا. فنقول: إن الحديث بعد ذكر الحلال والحرام انتقل من الأحكامِ والمسائل إلى الحوادث والوقائع، وذكر ضابطةً عُرْفية، ولذا تعرض إلى استبراء العِرْض، فاندفع ما كان يخطر بالبال أنه لا دخل لذكر العِرض في باب الحلال والحرام، فمعناه أن الرجل إذا اتقى الشبهات ومواضعَ التهم فقد أحرز دينه عن الضياع وعِرْضَه عن القدح فيه، وهو مرادُ قول علي رضي الله تعالى عنه: إياك وما يَسبقُ إلى الأذهان إنكاره وإن كان عندك اعتذاره، فليس كل سامعٍ نكرًا يطيقُ أن تسمعَه عذرًا. فإنه ليس واردًا في المسائل فقط بل أعم منها. وكذلك الحديث وردَ صدرُهُ في المسائل وعجزُهُ في الحوادث مطلقًا. وقوله:«فقد استبرأ» على نحو استبراء المُدَّعى عليه عن نفسه في دار القضاء، أي فمن فعلَ كذلك وترك الشُّبهات فقد أحرزَ نفسَه عن أن تسري أوهامُ الناس إلى دينه كانت أو في عِرْضه. وترجمة قوله:«فقد استبرأ»
…
إلخ، "تواس شخص في اينى دين اور آبروكى طرف سى صفائى بيش كردى".
تحقيقُ لفظِ المُشْتَبِهَات
52 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِيِنِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِى
(1)
وقد طالعت فيه رسالةَ الشوكاني فما وجدت فيه شيئًا يعلق بالقلب. نعم، لو مر عليه نحو الشافعي رحمه الله تعالى عنه لأغنى عن الإِيضاح، وهذا الشافعي لمّا كان فقيَه النفس أثنى على محمد بن الحسن رحمه الله تعالى، بما هو أهله، فتارة قال: إنه كان يملأَ العينَ والقلَب، لأنه كان جميلًا ويملأ القلب من العلم، وقال أخرى: إذا تكلم محمد رحمه الله تعالى فكأنما ينزلُ الوحي. ومرة قال: إني حملتُ عنه وقْرَي بعيرٍ من العلم. وأما المحدثون فمن لم يكن منهم فقيهًا لم يعرف قَدْرَه ورتبتَه ولم تُنْقَلْ عنهم كلماتُ التبجيل في شأنه رحمه الله تعالى، ووجه نكارَتهم أنه أولُ من جرَّد الفِقه من الحديث. وكانت شاكلةُ التصنيف قبل ذلك ذكرُ الآثار والفِقه مختلطًا، فلما خالف دَأبَهم طَعُنوا عليه في ذلك. مع أنه لم يبق الآن أحدٌ من المذاهب الأربعة إلّا وقد فعل فِعلَه وسار سِيرَتَه، فرحم الله من أنصف ولم يتعسف. انتهى تعريب ما في تقرير الفاضل عبد القدير.
الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ. أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِى أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ. أَلَا وَهِىَ الْقَلْبُ». طرفه 2051 - تحفة 11624
52 -
(مشتبهات) رُوي من الإفعال والتفعيل والافتعال. واعلم أن المفسرينَ اختلفوا في تفسير قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَبِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] فقيل: ملتبسات. واعتُرِض عليهم بأن الله تعالى قد وصف به جميعَ كتابه في موضع آخر، وقال:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَبًا مُّتَشَابِهًا} [الزمر: 23] ومعناه هناك كتابًا يصدِّق بعضه بعضًا، لا أنه يلتبسُ بعضُهُ ببعض، فإن هذا المعنى لا يليق أن يتصف به كتاب الله تعالى كما هو ظاهر، فأخذ بعضهم معنى التصديق في قوله:{وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أيضًا وهو مروي عن مجاهد. وذكره البخاري في التفسير. أقول: والمُتَشَابَه بمعنى المُصَدق، قريب من معنى المُحكم، وليس بينهما كثيرُ فرق، مع أن الله تعالى قابل بينهما وسَمَّى الذين يتبعونَ ما تشابه منه بالزائغين. وعلى هذا فتفسيرُ مجاهد مرجوحٌ، وكان ينبغي أن لا يذكره البخاري، والعذر عن البخاري رحمه الله تعالى يجيء في موضِعه.
فمعنى المتشابهات في قوله: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} هو الملتبسات، وفي قوله:{كِتَابًا مُّتَشَابِهًا} هو التصديق، أي مصدقًا بعضُهُ بعضًا. فإن قلت: إنه يوجب الانتشار في مطالب القرآن. قلت: لا انتشار فيه، لأن تغاير المعاني عند تغايرُ الصِّلات وإن كانت محذوفةً في اللفظ ليس من الانتشار في شيء. فالتَّشَابُه إذا كانت صلته «على» يكون معناه الالتباس، كما في قوله تعالى:{إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة: 70] أي التبس علينا، وهو المراد في قوله:{وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٌ} وإذا كانت صِلته اللام يكون بمعنى التصديق، وهو المراد في قوله:{كِتَابًا مُّتَشَابِهًا} يعني متشابهًا لكم، أي مصدقًا بعضُهُ بعضًا. والسِّرُ فيه عندي أن اللفظَ إذا تغاير معناه عند تغاير الصلات يكون مشتركًا معنويًا.
(لا يعلمها كثير من الناس) أي لا يعلم حكمُها، كما عند الترمذي بلفظ:«لا يدري كثير من الناس أَمِنَ الحلال هي؟ أم من الحرام؟» . ومفهوم قوله: «كثير» أن بعضًا منهم يعلمها وهم المجتهدون، فحينئذٍ يكون الاشتباه في حق غيرهم. وقد يقع الاشتباه لهم أيضًا، حيث لا يظهرُ لهم ترجيحُ أحدُ الدليلين، كذا ذكره الحافظ.
(لكل ملك حمى
…
إلخ) وعندنا يجوز الحمى للإمام فقط، كما كان عمر رضي الله تعالى عنه بَنَى رَبْضةً لخيل الجهاد دون غيره. أما الملوك فكانوا يتخذون الحِمى لأنفسهم، وذلك محظور في الشرع، وأما حِمى الله فهو مطلوبٌ لله تعالى أن لا يرعَى عبدَه حولَه، ففيه تشبيه محمودٍ بمذموم، ولا ينبغي أخذ المسائل والأحكام من التشبيهات، فاعلمه، فإنه مهمٌ، وقد يَغْلَط فيه الناس. ثم الحديث إنما جاء على عُرْف الملوك وعاداتهم، وكان من عادات ملوكهم اتخاذُ الحمى كما علمتَ.
(ألا وهي القلب) ونِسبة القلب إلى الجسد كنسبة الأمير إلى المأمور وهو الأصل،