الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[يونس: 22]، والمعنى: أن ربَّكم يكترثُ بكم ويُبالي بكم، لأنكم تدعونَه، ولولا ذلك لما عبأ بكم، على نحول قوله:{وما كان اللَّهُ معذِّبهم وهو يستغفرون} [الأنفال: 33] وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم «لا تقومُ الساعةُ حتى لا يبقى في الأرض أحد يقول: الله الله» فبقاء الدنيا ببركة اسم الله الأعظم.
وإن ذهبنا إلى تفسير ابن عباس رضي الله تعالى عنه فنقول: إن مرادَه التنبيهُ على ما يُعبأ به عند الله، هو الإيمان، فإنّ رفعَ الأيدي فقط ليس أمرًا يُعتدّ به، وإنما هو الإيمان الذي يرحم الله علينا لأجله. ولما اتفقوا على أن دعاءَ الكفارِ يُستجاب في الدنيا، كما في قاضيخان فلا بأس أن يكون في استغفارهم أيضًا نفعٌ، ولو في الجملة. وفي مسلمٍ عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابن جدعان - رجل مات في الجاهلية - هل يَنْفعُهُ تصدقهُ؟ قال:«لا فإنه ما قال: رب اغفر لي وارحمني قط» . واستفدت منه: أن استغفارَ الكفارِ أيضًا ينفعُ شيئًا، ولو لم يكن منجيًا من النار. وسيجيءُ الكلام فيه في أبواب الإيمان أزيد من هذا. وعلى هذا خرجتِ الآية عن ما نحن فيه، فإن الكلام في الإيمان والمؤمنين، والآية في الكفار، إلا أنّ تمسكَ المصنف رحمه الله تعالى تام، فإنه من قولِ ابن عباس رضي الله تعالى عنه: دعاؤكم إيمانكم، وهو صحيح على كل حال.
حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه
وفي مصنف ابن أبي شَيْبة: الإسلام عَلانية، والإيمان ههنا، وضرب يدَه على الصدر. رجالُهُ كلهم ثقات، إلا رجلٌ وهو: علي بن .... وقد وثقوه أيضًا. وفي هذا إيماءٌ إلى أن الإيمانَ ينبعثُ من الباطن إلى الجوارح، والإسلامَ يسري من الجوارح إلى القلب، ثم في «فتاوى الحنابلة»: أنه إذا لم يُصلِّ رجلٌ، يمهله القاضي ثلاثة أيام، ويفهمه، ثم يقتله كفرًا. وقال الشافعي: يقتله حدًا. وقال الإمام الهُمام: بل يضربُ ضربًا شديدًا حتى يسيلَ منه الدم. قلتُ: والحنفية قد وسعوا للقاضي أنْ يقتلَ من شاء من المبتدعة، فينبغي أن يدخلَ تحته تاركُ الصلاة أيضًا، كما هو في تذكرة الهاشم بن عبد الغفور السندي عن بعض كتب الحنفية ثم عن أحمد رحمه الله تعالى روايةُ الكفرِ في تركِ كلٍ من الخمس أيضًا. وسيأتي فيه الكلام مفصلًا.
3 - باب أُمُورِ الإِيمَان
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِى الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). وَقَوْلِهِ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) الآيَةَ.
هذا البابُ كالأصل الكليّ تحته جُزئيات، ولما كان الإيمانُ عبارةً عن المجموع عنده، نَزَلَ إلى تعديد أموره، وأجزائه، ليدل على أنه شيءٌ ذو أجزاء، وإن كان يحكَمُ بالفسق بفَوَات
بعض الأجزاء، وبالكفر بفوات بعض آخر. وهذا نظيرُ اختلافهم في الصلاة في أصول الفقه. فقال الشافعية: إن الصلاة اسم للحقيقة المعهودة من التحريمة إلى التسليم، وتدخل فيها المستحبات، والسنن والأركان، ثم ينتفي اسم الصلاةِ بانتفاءِ بعض الأجزاء، وتبقى مع انتفاءِ بعضِها. وقال ابن الهُمَام في «التحرير»: إنها اسم للأركان فقط، والبقية مكمِّلات لها، وعلى هذا لو فات جزء منها - ولا يكون إلا ركنًا على هذا التقدير - يحكَمُ عليها بالبطلان بتًا.
أقول: والحقُ أن النزاعَ إن كان في أنه هل يمكن أن تكون حقيقةً مركبةً من أشياء ينتفي بعض أجزائها، ويبقى اسم الكل عليها أولًا؟ فالصواب مع الشافعية، فإنا نجدُ أشياءً كثيرة ينتفي بعض أجزائها، ومع هذا لا يرتفعُ اسم الكل عنها. وإن كان النزاعُ في أن المكمِّلات للشيء تكون أجزاءً لها دائمًا، فالصواب إلى الحنفية. إلا أن نَظَرَ الشافعية في الصلاة أصوب، وما ذهب إليه الشيخ ابن الهمام نظرٌ معقوليٌ، لأنه يُبنى على تجريدِ النَّظَرِ عن بعض أجزائه. وأهل العرف لا يفرقون بين جزء وجزء، بل يجعلون الشيءَ عبارة عن مجموعِ أجزائه، وإن كان بعضُهَا أدخلُ في تقوم الكلِّ من بعض آخر. وتظهر ثمرتُهُ عندهم عند الفوات، فيرون الشيء معدومًا بفوات بعضها، دون بعض، مع أنه لا فرقَ عندهم في كونه جزءُ الشيء.
والسرُ فيه: أن الشيءَ عندهم عبارة عما هو في الواقع، وليست في الواقع إلا الماهية مع عوارضها، والمجموعُ هو الذي يُعبَّر عنه بالشيء عندهم. أما حقيقته المعقولية، فهي مأخوذةٌ ومنتزعةٌ عنه، تحتاج إلى تجريدِها عن عوارضِها، فليست هي إلا نحو اعتبار، وهذا الاعتبارُ وإن كان واقعيًا، يُبتنى عليه بعض الأحكام، إلا أنه بمعزل عن أنظار أهل العرف. أما في الإيمان فالأقربُ فيه نظرُ الحنفية، لأن الأعمال بعطفِهَا على الإيمان جُعلت مكمِّلات له، فلا يكون الإيمانُ مجموعًا مركبًا، فجعلها أجزاء خلاف الظاهر، فالأظهر فيه ما اختاره الحنفية. نعم، يوجد إطلاق الإيمان على الأعمال في الأحاديث، بما لا يُحصَى، وهو على نظر الشافعية، فإما أن يقال: إن الأصلَ هو التصديقُ، والباقي تابع له، وهذا أوفقُ بالحنفية، أو يُلْتَزَمُ اختلافُ الإطلاق، فتارة أطلق على الجزء، وأخرى على الكل، وهذا أوفقُ بالشافعية.
(قوله تعالى: ليس البر) وإنما انتخبها من بين الآيات، إما لكونها أبسطُ في مراده، أو لأن النبي صلى الله عليه وسلم تلاها في جوابِ رجلٍ سأله عن الإيمان، كما في «الفتح»: أن أبا ذر رحمه الله سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فتلا عليه:«ليس البر»
…
إلخ. ورجاله ثقات. قلت: وعندي قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (المؤمنون: 1)
…
إلخ أقرب إلى مقصوده من قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ}
…
إلخ، لأن في الآية الأولى تعديدٌ للأوصاف فقط، وليست جاريةً على الإيمان. وفي الآية الثانية الأوصافُ كلها جاريةٌ على الإيمان، لأن المعطوفاتِ كلها إما صفاتٌ مادحةٌ للمؤمنين، أو كاشفةٌ لهم، وعلى كلا التقديرين، كونُها من أمورهِ أظهر، بقي تفسيرُ قوله:{لَّيْسَ الْبِرَّ}
…
إلخ ونكتَةُ التعبيرِ بنفي البرِّ عما هو من أبرِّ البر، كالتولِّي إلى القبلة فسأذكره في الصيام. وهو مهم جدًا. وقوله صلى الله عليه وسلم «ليس من البرِّ الصيامُ في السفر» مع كونه من أعظم الطاعات من هذا الباب أيضًا فانتظره.
قوله: (قبل المشرق والمغرب) يعني أن أمرَ التولي إلى جهة، ليس لكون الله سبحانه وتعالى في تلك الجهة، ليتقيد بها دائمًا، فلا طاعة في الإصرار عليها، بل البر والطاعة في الانصراف إلى الجهة المأمور بها، أي جهة كانت. قوله:«الإيمان بضع وستون شعبة» .... إلخ. لما فرغ المصنف رحمه الله تعالى عن مباني الإيمان شرع في فروعه وشعبه، وذكر حديث الشعب. أقول: إن مفهومَ العددِ غيرُ معتبرٍ في الأحكام، فلا نتعرض إلى اختلاف العدد في الروايات. وقد تعرَّض الشارحون إلى تعديد تلك الشُّعب. والأحبُّ إليّ أن يُتتبع القرآن ويستوفى ذلك العدد منه، بأن يجعلَ كلَّ ما ذكر فيه مع الإيمان شُعبة من شعبهِ، فإن وفَّى به ذلك فهو المراد، وإلا فليفعل مثله في الحديث
(1)
.
والحاصل: أن الإيمان مُركب من أمور أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة منه، وإنما نبه على كون الحياء شعبةً من الإيمان، لكونه أمرًا خُلُقيًا، ربما يَذْهَلُ الذهن عن كونه من الإيمان، فدل على أن الأخلاقَ الحسنة أيضًا منه، وقد مر مني: أن ظاهرَ هذا التعبير يؤيدُ نظرَ الشافعية، لأن الشعب تكون أجزاءً للشجرة، ونحوه قوله تعالى:{كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ}
…
إلخ (إبراهيم: 24) فشبَّه الكلمةَ بالشجرة، والكلمة هي الإيمان، وثمارُهَا هي الأعمال، قد تكون وقد لا تكون مع بقاء الشجرة، كذلك الأعمال تكون قد وقع، مع بقاء أصل الإيمان، ولكنه بالعطف جعلها مغايرًا له، فالنسبة إما كنسبة الأغصان إلى الشجرة، أو الأثر إلى المؤثر، والنظرُ دائر فيه بعد. ولنا أن نقول: إن للشعب نسبة أخرى إلى أصلها، وهي كونها نابتةٌ منه، وناشئةً عنه، وحينئذٍ لا تكونُ تلك الشعبُ أجزاءٌ، ينتفي الكلُّ بانتفائها، بل فروعًا يبقى اسم الكل مع انتفاء بعضها.
وقد علمت: أن الاختلاف في كونها فروعًا، أو أجزاء، لا يرجع إلى إكفار مُعدَمي الأعمال أو عدمه، بل هو اختلاف تعبير بحسَبَ الأنظار فاعلمه. وتفصيلُهُ أن أجزاءَ الشيء لا يجب أن تكونَ كلها مستاويةَ الأقدام، ألا ترى أن الإنسانَ يتركبُ من أجزاء ليست كلها على حد واحد، ولكن بعضها رئيسة وبعضها مرؤسة، كالقلب والدماغ، فإنهما جزءان له، وكذلك الأيدي والأرجل أجزاء له أيضًا، ولكن أين هذا من ذلك؟ فجزئية الأول بحيث نِيْط بها صلاحُهُ وفلاحه، وليس كذلك الثاني، وهذه هي الحال في الشجرة، فإن فيها جِذْعًا وأغصانًا وشماريخ وأوراقًا، وليست كلُّها متساوية الأقدام. نعم، هناك أجزاءٌ أخرى تكون على حد سواء، كاللبنَاتِ للجِدَار، فإن كان مرادَهم بائبات الجُزئية نحو تلك، فلا نُسلَّمها ولا نَرَاهَا ثابتةَ من الأحاديث، وإن أرادوا بها الجُزئية كما في الطائفة الأولى، فإنا نقول بها. أما الحديثُ فلم يعبر إلا بكونها شعبًا، وفيه تردد بعد من حيث كونها فرعًا، وبحسب كونها جزءًا ولكل وجهة هو موليها.
9 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِىُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ
(1)
قلت: وقد يفعل الحافظ رحمه الله تعالى نحوه في تعديد أسماء الله تعالى وذكره، فإذا اعتبرت ذلك وجمعت الأسماء الواردة نصًا في القرآن وفي الصحيح من الحديث لم تزد على العدد المذكور. فراجعه ص 173 ج 11.