الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
87 -
(وربما قال النقير) والشك في الأصل بين المزفت والمقير، لا في النقير، ففيه مسامحة.
يعني إذا لم يكن عنده علمٌ يرتحلُ لتحصيلِهِ. قال الدَّوَّاني في «شرح العقائد» : يجب على الناس إقامة عالمٍ على المسافة الغدوية ليرجع إليه الناس في أمور دينهم، وإلا فهم آثمون.
قوله: (عبد الله) وهو ابن المبارك بعد مقاتل في جميع المواضع.
قوله: (زوجة) ولم يثبت في اللغة بالتاء وإنما هو زوج للقبيلتين.
قوله: (وقد قيل
…
إلخ) أي كيف تباشرها؟ وقد قيل: إنها أختك من الرضاعة.
واعلم أنهم اختلفوا في نصاب شهادة الرضاعة، فقال أحمد رحمه الله تعالى: شهادة المُرضعة تكفي لإثباتها. وعندنا حجُتها حجةُ المالِ كما في «الكنز» . وقد وقع فيه التعارض في قاضيخان، ففي باب المحرمات: أنها لو شهدت بها قبل النكاح تُقبلُ وبعده لا. وفي الرِّضاع خلافُهُ. وقاضيخان أرفعُ رُتبةً من صاحب «الهداية» . قال العلامة القاسم بن قُطْلُوبُغَا في كتاب «الترجيح والتصحيح» : أنه من شيوخِ صاحب «الهداية» ومن أجله عُلماءِ الترجيح.
والحاصل أن الحديث واردٍ علينا.
والجواب عندي: أن الحديث محمول على الدِّيانة دون القضاء، وشهادة المرضعةِ معتبرةٌ دِيانةً عندنا أيضًا، كما في «حاشية البحر» للرملي شيخ صاحب «الدر المختار» . والخير الرملي آخر أيضًا من علماء الشافعية، وهو أيضًا صاحب الفتوى. أنها تُقبل دِيانة لا حكمًا. وهو مُرادُ الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى بما في «الفتح»: أنها تُقبل تَنَزُهًا. ولا بِدْع فيه فإن الحديث كما يتعرض لمسائل القضاء، كذلك يتعرض لمسائل الدِّيانة أيضًا، وهذا كثير فيه، ولكن غفل عنه الناس. ثم إنه لا بد أن تعلمَ الفرقَ بين الدِّيانة والقضاء.
الفرقُ في معنى الدِّيانة والقَضَاء
واعلم أنهم فسروا الدِّيانة بما بينَّه وبين الله، والقضاءَ بما بينه وبين الناس، وفَهِمَ منه بعضُهم أن الدِّيانة تقتصر على معاملةِ الرجل نفسه، فإذا شَاعَ وبلغ إلى ثالثٍ خَرَجَ عن معنى الدِّيانة إلى القضاء، وهذا غَلَطٌ فاحِش، فإن مدار الديانة والقضاء ليس على الاشتهار وعدمِهِ، بل يبقى الأمرُ تحتَ الديانة ما لم يُرفع إلى القاضي، وإن كان اشتهرَ اشتهارَ الشمس في رَابِعَةِ النهار، فإذا رُفَع إليه فقد خرج عن الدِّيانة ودخل تحتَ القضاء، ولو لم يسمَعَهُ قرينك.
ثم إن القاضي من تولى من جهةِ الأمير لتنفيذِ الأحكام وإجرائها، بخلاف المفتي فإنه يُعْلِمُ مسائلَ الشريعة عند الاستفتاء ولا يحتاجُ إلى نَصْبِ الأمير، ولا له إجراء الأحكام. وقد علمتَ مرةً فيما سبق أن المفتي يحتاجُ إلى علمِ المسألةِ فقط، ويجيبُ على الاحتمالات والتقديرات أيضًا. مثلًا لو كان الأمرُ كذلك كان الجوابُ ذلك بخلاف القاضي فإنه يحتاجُ إلى علم الوَاقعةِ، ولا تعلُّقَ له بالتقديرات، فإنه نُصِبَ لإجراءِ المسائل، ولا يكون إلا بعد التحقيق عما في الواقع.
إذا علمت هذا فاعلم أن مسائلَ الدِّيانات كلها يُفتي بها المُفتي ولا يحكم بها القاضي، وهكذا مسائل القضاء، يَحكم بِهَا القاضي ولا عَلاقةَ بها للمُفتِي، فإن الدِّيانة والقضاءَ قد يتناقضان حكمًا، أي يكون حُكم الدِّيانة نقيض ما في القضاء. وقد صرحوا أنه لا يجوز لأحدِهِما أن يحكمَ بحكمِ الآخر، والمُفْتُونَ اليوم غافلون عنه، فإن أكثرهم يفتونَ بأحكامِ القضاء.
ووجه الابتلاء فيه: أن المذكور في كتب الفقه عامةً هو مسائل القضاء، وقَلَّما تُذكرُ فيها مسائلُ الدِّيانة. نعم، تذكر تلك في المبسوطات، ولا تُنَال إلا بعد تدرُّبٍ تامٍ، ولعل وجهته أن القاضي في السلطنة العثمانية لم يكن ينصبُ إلا حنفيًا، بخلاف المفتيين فإنهم كانوا من المذاهب الأربعة، وكان القاضي الحنفي يُنَفِّذُ ما أفتُوا به، فشرع المُفْتُونَ تحرير حكم القضاء لينفِّذ القاضي، فاشتهرت مسائل القضاء في الكتب، وخملت مسائل الديانة، ثم لا يجبُ أن تتفقَ الديانة والقضاء في الحكم بل قد يختلفان.
ففي «الكنز» : إن ولدتِ ذكرًا فأنت طالقٌ واحدة، وإن ولدتِ أُنثى فثنتين، فولدتهُما ولم يُدرَ الأول تَطلقُ واحدةً قضاءً. وثِنتين تنزهًا، أي ديانة. فههنا أخذ القاضي بالجانب المتيقن والمُفتي بالأحوط. ولو قال في هذه المسألة بعينها: إن ولدتِ أُنثى فثلاثة، فولدتهُما، فهي ثلاثةٌ دِيانةً وواحدةٌ قضاءً، فاختلفَ الحكمان حِلًا وحُرْمةً. ثم الأحوطُ ههنا واجبٌ كما صرحوا به، لا أنه مُستحبٌ، وهكذا الإقالة في الغرر الفعلي واجبةٌ عندنا دِيانة وليست بمستحبة. فظهر أن الدِّيانةَ لا تكونُ مستحبةً كما زعم أن العمل بالقضاء يكون واجِبًا، وبالديانةِ يكون مستحبًا، فليس الفرقُ بينهما من هذه الوجوه.
ثم لي ترددٌ ههنا وهو أنك قد علمتَ أن الديانةَ والقضاء قد يتخالفان حِلًا وحُرمةً، فإن عَمِلَ الرجلُ المُبتلى به بالديانة وكانت الديانةُ فيه مثلًا أنه حرامٌ، ثم رَفَعهُ إلى القاضي فحكم بالحل، فهل يرتفعُ من قضائه تلك الديانة أم لا؟ وهل يصيرُ هذا الأمرُ حلالًا له بقضاء القاضي بعد ما كان حرامًا له؟ فلا نَقْل فيه عندي غيرُ جُزئيةٍ واحدةٍ تُروى عن صاحبيه وهي: أن الزوجَ الشافعيُ إن طلق امرأته الحنفية طلاقًا كِنائيًا، ثم أراد الرجوع لأن الكنايات رواجعُ في مذهبه، وأبت أن ترجع إليه لأنها بوائنُ عندها، فإن حكم القاضي الشافعي بالرجوع نفذَ ظاهرًا وباطنًا، ويصح رجوعه. وليست عندي ضابطةٌ كليةٌ يُستفاد منها أنه متى ترتفع الديانة من القضاء ومتى لا ترتفع.
ولذا أترددُ في ارتفاع الكراهةِ ديانةً فيما حَكَمَ القاضي بالرجوع في الهبة عند ارتفاع الموانعِ السبعة، لأن القضاء بالرجوعِ مع بقاءِ الكراهة ديانةً أيضًا ممكنٌ، ولكني مترددٌ فيه. والذي يظهر أنه يرتفع تارةً، وتارةً لا يرتفع.
وأول ما تنهبتُ على الفرقِ بين القضاء والديانة من كلام التَّفْتَازاني في «التلويح» لما ذكرَ صاحب «التوضيح» مسألة الاستعارة بين السببِ والحكم في باب الحقيقة والمجاز، وقال: لو نوى بالشراء الملك وبالعكس يُصدَّقُ فيما عليه ولا يصدق فيما له. قال التفتازاني: وفيما له