الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّى أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ وَ (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَاّ اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) قَالَ أَبُو سُفْيَانَ فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لأَصْحَابِى حِينَ أُخْرِجْنَا لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِى كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِى الأَصْفَرِ. فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَىَّ الإِسْلَامَ. وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ، يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ. قَالَ ابْنُ النَّاظُورِ وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِى النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ إِنِّى رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِى النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ قَالُوا لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلَاّ الْيَهُودُ فَلَا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ وَاكْتُبْ إِلَى مَدَايِنِ مُلْكِكَ، فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِىَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ، يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لَا. فَنَظَرُوا إِلَيْهِ، فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسَأَلَهُ عَنِ الْعَرَبِ فَقَالَ هُمْ يَخْتَتِنُونَ. فَقَالَ هِرَقْلُ هَذَا مَلِكُ هَذِهِ الأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ. ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِى الْعِلْمِ، وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْىَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ نَبِىٌّ، فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِى دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِى الْفَلَاحِ وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِىَّ، فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وَأَيِسَ مِنَ الإِيمَانِ قَالَ رُدُّوهُمْ عَلَىَّ.
وَقَالَ إِنِّى قُلْتُ مَقَالَتِى آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ. رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ وَيُونُسُ وَمَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ. أطرافه 51، 2681، 2804، 2941، 2978، 3174، 4553، 5980، 6260، 7196، 7541 - تحفة 4850 - 8/ 1
ذكر حديث هرقل
واعلم أنه لا بد لنا أوّلًا أن نُلقي عليك ما في الحديث من القصة إجمالًا ليتضِح عندك أنه
كيف اتفق اجتماع أبي سفيان مع قيصر في بيت المقدس. ثم نشرح لك الحديث. فاعلم أن السلطنة العظيمة قديمًا كانت في الروم وإيران، وأصل إطلاق الرُّوم كان على إيطالية وكانت تُدعى برومة الكبرى، وعامة إطلاق الرُّوم في القرآن والحديث على نصارى إيطالية ويونان وقسطنطينية، وقد يُطْلق على مطلق النصارى أيضًا، ثم إيطالية وقسطنطينية كانتا بمنزلة واحدة، فلما جرت بينهما ريح الاختلاف جعل الملك العظيم دار مملكته القسطنطينية، وكان مَلِكَهم في زمنه صلى الله عليه وسلم هِرَقلُ، وكان نصرانيًا.
ثم إن لَقَبَ ملك الروم كان قَيْصَر، وملك إيران كِسْرَى، فهرقلُ اسمُهُ وقَيْصَر لقبه، وكذا اسم كسرى إذ ذاك خسرو برويز، وهو ابن هُرْمُز بن أَنُو شِيْروَان، وكان كسرى لقبه، فوقع الحرب بينهما في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولما كان قيصر نصرانيًا وكسرى مجوسيًا كان المسلمون يفرحون بفتح قيصر والمشركون بفتح كسرى. وفي هذا وقعت قصة اشتراط أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه مع المشركين، وهو معروف، ويُستفاد منه جواز الفرح بفتح الكافر إذا كان أهونَ من الآخر، كما فَرِح المسلمون بفتح قيصر في مقابلة كسرى، فإنه كان مجوسيًا وأشد كفرًا من قيصر لكونه كتابيًا.
وكان قيصر نذر لله تعالى إن كشف الله عنه جَوْرَ فارس ليمشي إلى إيليا حافيًا، فلما فتح له أوفى بنذره ووصل إليه، وكان تُبْسَطُ له البُسُط، وتُلقى على طريقه الرياحين فيمشي عليها، وكان أبو سفيان إذ ذاك كافرًا لم يُسْلِم، وأسلم السنة الثامنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم صالح المشركين في الحديبية إلى عشرة سنين، وأدرك منها أربعة، فغدروا فيها فغزاهم في السنة الثامنة، وأرسل في تلك المدة الخُطُوط إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، فصدَّق كثيرٌ منهم، غير أنهم لم يلتزم منهم طاعَته إلا النجاشيُّ. أما كسرى مَلِك إيران فمن شقاوته مَزَّقَ كتابه صلى الله عليه وسلم فلما بلغه خبره دعا عليه فَمُزِّقَ كلَّ مُمَزَّق، وكان هلاكه على يد ابنه.
وقصته: أن ابنه عَشِق على امرأته شيرين فقتل أباه. وكان شيرويته بن خسرو برويز مغرمًا بالأدوية المقوية، فرأى يومًا دواء في حُقِّهَ، وزعم أنه دواء مقوي فأكله، وكان فيه سُمّ فهلك، فأصابهم دعاء نبي الله صلى الله عليه وسلم ومُزِّقوا كلَّ مُمَزَّق.
وأما من كان صَدَّقه فَسَلِمُوا من الهلاك، ولو آمنوا به لأفلحوا كلَّ الفلاح، وكان هرقل محرومًا حيث لم يؤمن به طمعًا في مُلْكِه، ولو آمن به لَسَلِمَ مُلْكُه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أشار إليه أيضًا، حيث كتب «أَسْلِمْ تَسْلَمْ» ، ولكنَّه اسْتَحْمَقَ وآثر الدنيا على الآخرة.
وبالجملة لمَّا كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك كتب إلى قيصر أيضًا. وأبو سفيان خرج في تلك المدة إلى الشام للتجارة فوافق مجيء قيصر، ثم كان أمرهما كما في الحديث. وإنما بعثه بواسطة دِحْيَة الكَلْبِي، لأنه كان جميلًا، وكان الملوك إذ ذاك لا يقبلون الكتاب إلا من رسول جميل. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث كتابه إلى هرقل بل بعث إلى عظيم بُصْرَى ليدفعه إلى هرقل، لأن ذلك هو الطريق في الملوك، فلما بلغه كتابه سأل هل فيهم من أهل قَرَابة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أُخْبِر به فتح الكتاب
…
إلى آخر القصة.
7 -
(عند ظهره) لئلا يَسْتَحْيُوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب.
(إن كذبني) بالتخفيف أي إن نقل إلى الكذب.
(يأثروا) ينقلوا.
(سِجَال) فكأنه شبه المحاربين بالمُسْتَقِين بالدلو ليستقي هذا دلوًا وهذا دلوًا. وأشار أبو سفيان بذلك إلى ما وقع بينهم في غزوة بدر وغزوة أُحُد. واعلم أن هرقل كان عالمًا بالتوراة وأحوال الأنبياء فلم يجعل هزيمة أصحابه صلى الله عليه وسلم دليلًا على عدم صدقه، لأنه كان يعلم أن موسى عليه السلام أول من انهزم في مقابلة العمالقة فقال: يا رب ما هذا؟ قال: لا أبالي، أي هذه سنتي قد يكون النبي غالبًا وقد يكون مغلوبًا. نعم، إنما تكون العاقبة للأنبياء، ففتح الله في زمن يُوشَع عليه السلام.
قوله: {وَلَا تُشْرِكُواْ}
…
إلخ واعلم أن الإشراك بالله على عِدّةُ أقسام: الإشراك في الذات، والإشراك في الصفات، والإشراك في العبادة، والرابع: الإشراك في الطاعة، أما الأوَّلانِ فظاهران. وأما الثالث فيعم أن يكون عبادةَ الغير مع زعم كونه معبودًا، أو لا كبعض مشركي العرب حيث قالوا:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] وأما الرابع، فنبه عليه الشاه عبد القادر رحمه الله، وهو أن يُتَّبِع في تحليل الحرام وتحريم الحلال غير الله سبحانه وتعالى، كما كان النصارى يتخذون أربابًا من دون الله، فهذا أيضًا نوع من الشِّرك، وسماه الشاه عبد القادر رحمه الله الشركَ في الطاعة، فاعلمه.
(بالصلاة) واعلم أن الألفاظ التي لُوحِظت فيها القيود عند الشرع حقائق عندي لا مجازَ فيها ولا عموم المجاز، كيف مع أن أبا سفيان في زمن الجاهلية يستعمل الصلاة في تلك الحقيقة حقيقة، وإن لم يَكْتَنِه حقيقتَها فالشيء لا يصير مجازًا بتبدُّل الهيئة، وإلا يلزم أن تكون صلاة الحنفية مجازًا عند الشافعية وبالعكس. وكذا يلزم أن يكون إيمان أحدهما مجازًا عند الآخر، وهو باطل، خلافًا لبعضهم كما سيجيء.
(وقد كنت أعلم) قال المازني هذه الأشياء التي سأل عنها هِرَقْل ليست قاطعةً على النبوة، إلا أنه يحتمل أنها كانت عنده علامات على هذا النبي بعينه صلى الله عليه وسلم لأنه قال بعد ذلك: قد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظنّ أنه منكم. وما أورده احتمالًا جَزَمَ به ابن بَطَّال وهو ظاهر كذا في «الفتح» . وهو وإن صدقه صلى الله عليه وسلم لكنه كافر لما في المسند لأحمد: أنه كتب من تبوك إلى النبي صلى الله عليه وسلم أني مسلم، فقال صلى الله عليه وسلم «كذب بل هو على نصرانيته» .
قال الحافظ رحمه الله: فعلى هذا إطلاق صاحب «الاستيعاب» أنه آمن، يعني به أَظْهَر التصديقَ، لكنه لم يستمر عليه ويعمل بمقتضاه.
(بسم الله الرحمن الرحيم) وإنما جمع بين اسم الله والرحمن، لأن اسم الله كان معروفًا عند بني إسماعيل، والرحمن عند بني إسرائيل، فجاء القرآن يجمع بينهما، وقال:{قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الاْسْمَآء الْحُسْنَى} [الإسراء: 110].
(عظيم الروم) فيه عدول عن ذكره بالمَلِك، لأنه معزول بحكم الإسلام، لكنه لم يُخْلِهِ من إكرام لمصلحة التألُّف. كذا في «الفتح» .
(إني أدعوك) والدعاية كالشِّكَاية، وعند مسلم بداعية الإسلام، أي بالكلمة الداعية إلى الإسلام.
7 -
(أسلم تَسْلَم) لي فيه شبهةٌ، وهي أن هرقل كان مسلمًا من قبلُ على دين عيسى عليه الصلاة والسلام ولم تبلغه الدعوة إذ ذاك، فإن يكُ كافرًا فمن حين الإنكار، فما معنى دعوته إلى الإسلام مع كونه مسلمًا؟ لا يقال الإسلام على معناه اللغوي أي الإطاعة، لأن الذوق لا يقبله. فالأوجه أن يقال: إن الإسلام لقبٌ مخصوص بهذه الأمة، ولم يُطْلق على أحد من الأمم من حيث اللقبُ قال تعالى:{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} [الحج: 78]، وقال تعالى:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وقال:{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، فإطلاقه وإن شَمِلَ الكلَّ إلا أنه صار وصفًا مشتهرًا لهذه الأمة فقط، وحينئذٍ فالإسلام أضيقُ من الإيمان، فإنّ الإيمان لا يختص بأمة دون أمة إجماعًا، وهذا على عكس ما سيجيء في كتاب الإيمان ولكنهما نظران.
ثم إن تكلّف متكلِّفٌ أن الإسلام وإن كان عامًا لكنه يتحول إلى نبي الوقت في زمانه، وإذًا معناه: أَسْلِم بنبي الوقت، لأن الإسلام قد انتقل إليه الآن أقول: والأفصح حينئذٍ أن يقول: أسْلِمْ لي، ليدلَّ على الانتقال والتحوُّل.
(يُؤْتِكَ اللَّهُ أجركَ مرتين) قال الحافظ: والأجرُ مرتين لكونه مؤمنًا بنبيه ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون تضعيف الأجر له من جهة إسلامه، ومن جهة أن إسلامه يكون سببًا لدخول أتباعه. وسيأتي التصريح بذلك في كتاب العلم إن شاء الله تعالى. وقد اشتملت هذه الجملُ القليلة التي تضمَّنها كتابُ النبي صلى الله عليه وسلم على: الأمر بقوله: «أَسْلِم» ، والترغيب بقوله:«تَسْلَم» ، و «يُؤْتِكَ». والزَّجْرِ بقوله:«فإن تَولَّيْتَ» ، والترهيب بقوله:«فإنَّ عليك» ، وفي ذلك من البلاغة ما لا يخفى.
(فإن تولَّيْتَ) وإنما لم يَقُلْ: فإن كفرتَ، لئلا يُغْضِبَه.
(اليريسين) وفيه لغات، ومعناه الأَكَّارِين أي الزَّرَّاعين، ومرّ عليه الطحاوي في مشكله
(1)
(1)
قال أبو جعفر الطحاوي فاحتجنا أن نَعلَم مَن الأريسيون المذكورون في هذه الآثار، فوجدنا أبا عُبَيدة قد قال: في كتابه "كتاب الأموال" مما كتب به إليَّ عليّ بن عبد العزيز يحدثني به عنه قد قال: هم الخدم والخولة. قال أبو جعفر: كان يعني أن يكون عليه إثمهم لصده إياهم عن الإسلام بمملكته لهم ورياسته عليهم، كمثل ما حكى الله عمن يقول يوم القيامة {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} وكمثل قول سحرة فرعون لفرعون لما قامت عليهم الحجة لموسى من الآية المعجزة التي جاءهم بها من عند الله عز وجل مما لا يجيء من السحرة مثلُه:{وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} أي استعملتنا فيه وأجبرتنا عليه. قال أبو عُبَيْدة في هذه الرواية: وهكذا يقول أصحاب الحديث يعني ما يقولونه من الأريسين، والصحيح الأريسيين. اهـ. "مشكل الآثار". قلت: وعبارة "كتاب الأموال" هكذا قال أبو عُبَيد: يعني بالأريسيين أعوانه وخدمه، قال أبو عبيد: وقال غيره الأرسيين، وهذا عندي هو المحفوظ. =
وتكلم كلامًا جيدًا وحاصله: أن المراد منه الرعايا وسكانُ بلده. بقي أنه يخالف قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 64] فإنها تدل على أنَّ أحَدًا لا يحمل إثمَ أحدٍ، قلت: الإثم إثمان: إثم التسبُّب وإثم المباشرة، وإثم التسبُّبب يكون عليه لأنه مِن فعله، ولا يخالف الآية، فإنها في إثم المباشرة، والوجه عندي أن معناه إثم إهلاكهم عليك، وأما إثم كفرهم فعليهم
(1)
.
({سَوَآء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ})
(2)
فإن قيل: إن القوم كانوا مشركين، وكانوا يعبدون
= ثم قال الطحاوي بعد نقل كلام أبي عُبَيد رادًا عليه قال أبو جعفر: وهذا عندنا بخلاف ما قال أبو عُبَيد، لأن ما قال أصحاب الحديث مما حكاه عنهم هو على نسبة أحد آبائهم الأريس لهم. يقال له: أريس، فيقال في نصبه وجره الأريسيين، ويقال في رفعه الأريسيون، كما تقول للقوم إذا كانوا منسوبين إلى رجل يقال له يعقوب اليعقوبين في نصب ذلك وجره، وتقول في رفعه اليعقوبيون، فمثل ذلك فيما ذكرنا الأريسين والأريسيون، وإذا أردت بذلك الجمع للأعداد لا الإضافة إلى رجل يقال له يعقوب قلت في النصب والجر: اليعقوبين، وقلت في الرفع: اليعقوبون، فبانَ بحمد الله ونعمته أن أصحاب الحديث لم يخطئوا فيما ادَّعَى عليهم أبو عبيد الخطأ فيه، وأنه محتَمِل لما قالوه، والله أعلم بحقيقة ما قال له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ذلك.
وقد ذكر بعض أهل المعرفة بهذه المعاني أن في رهط هرقل فرقةً تُعْرَف بالأروسية توحِّد الله وتعترف بعبودية المسيح له عز وجل؛ ولا تقول شيئًا مما يقول النصارى في ربوبيته، ومن تؤمن بنبوته، فإنها تمسك بدين المسيح مؤمنة بما في إنجيله جاحدة لما يقوله النصارى سوى ذلك. وإذا كان ذلك كذلك جاز أن يقال لهذه الفرقة الأريسيون في الرفع والأريسيين في النصب والجر، كما ذهب إليه أصحاب الحديث، وجاز بذلك أن تكون هذه الفرقة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث عياض بن حمار الذي قد رويناه في الباب الذي قبل هذا الباب من كتابنا هذا. وجاز أن يكون قيصر كان حين كتب إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما كتب إليه على مثل ما هي عليه، فجاز بذلك إذا اتبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودخل في دينه أن يؤتيه الله أجره مرتين.
وجاز أن تكون هذه الفرقة عَلِمَتْ بمكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبدينه قبل أن يَعْلَمَه قيصر، فلم يتَّبِعوه ولم يدخلوا فيه ولم يُقِروا بنبوته. وفي كتاب عيسى بشارته به صلى الله عليه وسلم كما قد حكاه الله عز وجل في كتابه وهو قوله {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]، فخرجوا بذلك من دين عيسى لأن عيسى الذي يؤمن به هو عيسى الذي بشر بأحمد لا عيسى سواه، فكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر: وإنك إن توليت فعليك إثم الأريسين الذين خرجوا من ملة عيسى عليه السلام. "مشكل الآثار". واعلم أن النسخة مملوءة من أغلاط النساخ، فإنْ تعسر عليك فهم المعنى، فلا تذهب نفسك عليه حسرات.
(1)
قلت: يمكن أن يقال إن قوله تعالى ليس على التشريع بل بيان لما يقوله الكفار في المحشر، على خلاف ما قالوه من المسلمين في الدنيا. قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)} [العنكبوت: 12 - 13] فظهر أن الآية إخبار عن الواقع لا إنها تشريع وبيان لقاعدة، والمعنى أن الله أخبر عن نفس وازرة أنها لا تحمل وزر أحد يوم القيامة، على خلاف ما ادعاه الكفار في الدنيا من أنهم يحملون خطايا المسلمين لو اتبعوا سبيلهم. والله أعلم.
(2)
قال الطحاوي في "مشكله" إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أن يُسَافَر بالقرآن إلى أرض العدو، فكيف كتب
إلى هرقل بآيتين من القرآن! فأجاب عنه أنه ليس بخلاف نهيه لأنه إذا سافر بكله، وهذا على السفر ببعضه =
غير الله، فكيف قال: إن التوحيد سواء بيننا وبينكم؟
قلت: إنما خاطبهم باعتبار مزعومهم ودعاويهم، فإن النصارى أيضًا يدَّعون التوحيد مع شركهم الجليّ، وكذلك أكثر المشركين لا يؤمنون بربهم إلا وهم مشركون، ولكنهم يدَّعون بألسنتهم التوحيد، فدعاهم إلى التوحيد الصحيح بعد اشتراكهم فيه بحسب الصورة على حد قوله:{إِن نَّحْنُ إِلَاّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} [إبراهيم: 11] في جواب قولهم: {إِنْ أَنتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مّثْلُنَا} [إبراهيم: 10] فهذا مجاراة مع الخصم.
(ابن أبي كَبْشَة) تعريض بالنبي صلى الله عليه وسلم فإن أبا كبشة كان رجلًا في الجاهلية ترك دين آبائه وعبد الشعرى، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم انتقل إلى دين آخر وترك دين آبائه، - والعياذ بالله مما أرادوه، وقيل: إن أبا كبشة أحدُ أجداده، وعادةً العرب إذا انتقصت أحدًا نَسَبَتْ إلى جَدَ غامض.
(ملك بني الأصفر) والمراد منهم الرُّوم، وجعلهم العيني من ذرية إبراهيم، وليس بصحيح، وقد فصَّلته في عقيدة الإسلام في فصل مستقل. وأبو سفيان لم يكن إذ ذاك مسلمًا، لأنه أسلم في فتح مكة، ثم صار من مخلصي الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
«وكان ابن الناطوري» هذا مقولة الزهري، وهذه القطعة سمعها الزُّهري من ابن الناطور بلا واسطة، ولعله حين أسلم وكان ابن الناطور عاملًا لهرقل باعتبار منصب المملكة وكان أُسْقُفًّا بحسب العهدة المذهبية، فإن المناصب المذهبية عند النصارى عديدة: بابا، وبطريق، وكاهن، وسقف، وبوب، راجع له «المقدمة» لابن خَلدون.
7 -
(صاحب إيلياء) وتمسك منه الشافعية على جواز الجمع بين معاني المشترك، فإن معنى الصاحب المصاحب والحاكم، وقد جمع بينهما ههنا، لأن صاحب إيلياء هو الحاكم، وصاحب هرقل بمعنى المصاحب، يلزم الجمع بين المعنيين. قلتُ: بل هو بمعنى واحد، والفرق باعتبار المتعلَّق، فصاحب بلد يقال له الحاكم، وصاحب رجل يقال له المصاحب، فهذا الفرق راجع إلى المتعلق دون نفس معنى اللفظ، وترجمته في الهندية (إيليا والا أور هرقل والا). ثم إن الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى صرح أن المسألة المذكورة لم يصرح بها الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه، وإنما أخذها الشافعية من بعض مسائله. ولو سلمنا فلنا أن نقول: إن الحديث ليس بحجة في مثل هذه الأمور، لأن الرواية بالمعنى قد فَشَتْ فيها، فلا يُؤمن بألفاظه من جهة النبي صلى الله عليه وسلم بتًا.
(حَزَّاءً ينظر في النجوم) أي كاهنًا، فالكهانة تستند تارة إلى الشياطين، وتارة تُستفاد من أحكام النجوم، والحَزَّاء في أصل اللغة الكاهن بالتخمين، أما مَنْ ينظر في النجوم فيقال له المنجِّم، ثم إن الشرع نهى عن الاعتماد عليهم قال الحافظ: فإن قيل: كيف ساغ للبخاري هذا الخبر المُشْعِر بتقوية أمر المنجمين والاعتماد على ما تدلّ عليه أحكامهم؟ فالجواب: أنه لم
= إلى العدو، فتصحيحها إباحة السفر بالأجزاء التي فيها من القرآن، يكون في أمثالها، والكراهة للسفر بكليته إليهم عنهم عند خوفهم عليه. اهـ. مختصرًا والعبارة مشوشة.