الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله: (فإِنما أَمْسَكَهُ)
…
إلخ وفيه إشارة إلى أن الكلب بعد فَنَائه في رضاءِ مولاه يصيرُ آلةً له، ولا يبقى له حكمة بل يصير كالمُدْيَة. قلت: فما ظنُّك بالعبد الذي انتصب لمعاداةِ مولاه في اتباعِ هَوَاه، فمثله كَمَثَل الكلب أو أسوأ منه، فالكلبُ بعد طاعة مالكه صار في حُكْم المالك، والمالكُ بمعصية مولاه صار أسوأ من الكلب. ووجه الاستدلال منه على طهارته: أنه لم يأمره بغسل لعابه ولو كان نجسًا لأمر به، فدلَّ على أنه طاهر.
قلت: التمسكُ بالمبهمات بعد ورودِ الأحاديث المصرحة في الباب بعيدٌ جدًا على أنَّه استدلال بالمسكوت، وهو في غاية الضَّعف، فإِنَّه كما لم يأمر بغسل لعابه لم يأمر بغسل الدم الذي خَرَجَ من جرحه، ولا أمر بإِخراج النجاسات التي في بطنه، فمن ذهب إلى طهارتها؟ وإنما لم يتعرَّض إلى الغسل لأنه معروفٌ في الصيد فاستغنى عن ذكره.
ومُحَصِّل الكلام: أنه لا يُظن بمثلِ المصنِّف رحمه الله تعالى أن يكونَ ذهب إلى طهارته مع وُرودِ القطعياتِ الدالة على النجاسة في الباب، وغايتُه أن يكونَ فوض الأمر إلى النَّاظر، ولذا أخرج الأحاديث للطَّرفين، وهذ أيضًا من دأبِهِ فإِنَّه إذ يرى قوةً في الجانبين يذكر الحديثَ للطرفين ولا يجزم بأحد الجانبين والله تعالى أعلم.
35 - باب مَنْ لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ إِلَاّ مِنَ الْمَخْرَجَيْنِ: مِنَ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ؛ لقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6]
وَقَالَ عَطَاءٌ فِيمَنْ يَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ الدُّودُ أَوْ مِنْ ذَكَرِهِ نَحْوُ الْقَمْلَةِ يُعِيدُ الْوُضُوءَ.
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِذَا ضَحِكَ فِى الصَّلَاةِ أَعَادَ الصَّلَاةَ، وَلَمْ يُعِدِ الْوُضُوءَ. وَقَالَ الْحَسَنُ إِنْ أَخَذَ مِنْ شَعَرِهِ وَأَظْفَارِهِ أَوْ خَلَعَ خُفَّيْهِ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَا وُضُوءَ إِلَاّ مِنْ حَدَثٍ. وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِى غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ فَرُمِىَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ، فَنَزَفَهُ الدَّمُ فَرَكَعَ وَسَجَدَ، وَمَضَى فِى صَلَاتِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ فِى جِرَاحَاتِهِمْ. وَقَالَ طَاوُسٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِىٍّ وَعَطَاءٌ وَأَهْلُ الْحِجَازِ لَيْسَ فِى الدَّمِ وُضُوءٌ. وَعَصَرَ ابْنُ عُمَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ مِنْهَا الدَّمُ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. وَبَزَقَ ابْنُ أَبِى أَوْفَى دَمًا فَمَضَى فِى صَلَاتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ فِيمَنْ يَحْتَجِمُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَاّ غَسْلُ مَحَاجِمِهِ.
176 -
حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِى إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِىِّ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم «لَا يَزَالُ الْعَبْدُ فِى صَلَاةٍ مَا كَانَ فِى الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ، مَا لَمْ يُحْدِثْ» . فَقَالَ رَجُلٌ أَعْجَمِىٌّ مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ الصَّوْتُ. يَعْنِى الضَّرْطَةَ. أطرافه 445، 477، 647، 648، 659، 2119، 3229، 4717 - تحفة 13026
177 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» . طرفاه 137، 2056 - تحفة 5299
شَرَعَ في النواقض ووافق فيها أبا حنيفة رحمه الله تعالى في مسِّ الذكر والمرأة ولم يَرَ بهما وضوءًا. ووافق الشافعي رحمه الله تعالى في الخارج من غير السبيلين فلم يره ناقضًا. ثم أَخَرَج آثارًا عديدةً ولا علينا أن لا نلتفتَ إلى جوابها، لأن جوابَ الآثارِ أن يُؤتى بآثار أخرى تعارضها ولكنَّا نُجيبُ بخصوصها إن شاء الله تعالى. فلنتكلم أوّلًا على آية الوضوء يسيرًا ثم لنعرَّج إلى جواب الآثار.
فاعلم أنه يشكلُ على تكرارِ الآية الواحدة كآية الوضوء في المائدة والنساء، فإِنَّه لا فرقَ بينهما إلا بلفظ منه في المائدة. ولا أجد التكرار مثله في باب الأحكام. نعم، قد يوجدُ في القصص لمقاصد ومعاني ذكرها المفسرون، مع أنه راعى فيها التفنن أيضًا.
والذي تحصل لي في دَفْعِه: أن آية المائدة إنما نزلت لتعليم الوضوء عند القيام إلى الصلاة، كما مرَّ أنَّ المطلوبَ في شريعتنا هو الوضوءُ لكل صلاة وإن كان فرضًا بعد الحدث، وللتيمم عند فَقْدِ الماء. وآيةُ النساء نزلت لتعليم التيمم من الجنابة عند فَقْدِ الماء. ثم لمَّا كان التيمم من الحدث الأصغر والأكبر سواءٌ، جاء الاشتراكُ فب بعض الأشياء، وإلا فالآية الأولى سِيْقت لبيان حكم الحدثِ الأصغر، والثانية لبيان الحدث الأكبر، وانجرَّ في ذيلهما ذكر بعض أشياء تبعًا، وحينئذ لم يبق في التكرار قلق. وسيأتي بعض الكلام في باب التيمم.
ثم اعلم أنَّ الآية عند الشافعي رحمه الله تعالى أقامت أصلين في النواقض:
الأول: الخارج من السبيلين، وهو المُشار إليه بقوله:{أو جاء أحدٌ من الغَائِط} [المائدة: 6] فنقَّح مناطه وقال: إنه الخروج من السبيلين.
والثاني: مسُّ المرأة وأَلحقَ به مسَّ الذكر أيضًا لكونهما من باب الشهوة.
وعند الحنفية المراد من المُلامسة هو الجماع، كما ذَهَب إليه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعلي رضي الله تعالى عنه وغيرهما، واختَارَه البخاري وصرَّح به في التفسير، ولذا لم يُوجب من مسِّ المرأة والذكر وضوءًا. فالأصلُ عندنا واحدٌ، فإِنَّا فتشنا المناط في قوله:{أو جَاءَ منْكم أحدٌ من الغَائِطِ} فوجدنا المعنى المؤثرَ فيه خروجُ النَّجَاسة، ولم نجدْ للسبيلين أو غيرهما تأثيرًا. وإذا علمنا أنَّه المؤثرُ في زوال الطهارة أدرنا الحكمَ عليه. وقلنا: إن الخارجَ النجسَ ناقضٌ مطلقًا.
وبالجملة حمل الشافعي رحمه الله تعالى الملامسةَ على مسِّ المرأة، فَكَان المسُّ عنده ناقضًا بالنص وأَلحقَ مسَّ الذكر من الحدث. ونحن جعلنا الخارجَ من السبيلين ناقضًا بالنص وألحقنا به الخارجَ من غير السبيلين بالحديث. غير أنَّ الثاني أخف عندي بالنسبة إلى النوع الأول وإن لم يصرح به فقهاؤنا. وذلك لما ثبت عندي اختلاف المراتب تحت شيء واحد وسنقرره عن قريب.
ومذهب الحنفية قوي. إنْ شاء الله تعالى - دِرَاية، ورواية. ويشهد له ما أخرج الترمذيُّ من حديث نقض الوضوء من القيء وسكت عليه، وصححه ابن مَنْده الأصْبَهاني، وأوَّله الشافعي رحمه الله تعالى وقال: إن المرادَ من الوضوء غَسْل الفم، وهو كما ترى. ثم قال الترمذي: وقد
رأى غير واحدٍ من أهلِ العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم من التابعين الوضوءَ من القيء والرُّعَاف، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق. وقال بعض أهل العلم: ليس في القيء والرُّعاف وضوء، وهو قول مالك والشافعي رحمهما الله تعالى انتهى.
وقال الخَطَّابي في «معالم السنن» : قال أكثر الفقهاء: سيلان الدم من غير السبيلين ينقض الوضوء. وهذا أحوط المذهبين وبه أقول اهـ. فعُلِم أن مذهبَ الحنفية هو ما اختاره أكثر أصحابه صلى الله عليه وسلم ولا حاجة لنا بعد ذلك إلى تَجَشُّم استدلال.
ولكِنَّا نقول: إنَّ لنا ما أخرجه الحافظ الزَّيْلَعي من «كامل بن عَدي» : «الوضوء من كل دم سائل» . إلا أن في النسخة سهوًا من الكاتب فكتب: محمد بن سليمان وهو غير معروف، وبعد التصحيح هو: عمر بن سليمان وقد حررته في محله. وفيه أحمد بن الفرج وقد أخرج عنه أبو عَوَانة في «صحيحه» فصار الحديث قويًا.
وكذلك حديث آخر في البناء رواه ابن ماجه والدارقطني: «من أصابه قيء أو رُعَاف أو مَذْي فلينصرف وليتوضأ، ثم لْيبْنِ على صلاته»
…
إلخ والأصحُّ عندي أنه مرسل وإن تعقب عليه المارديني، ومالَ إلى رفْعِهِ، وفي التخريج للزيلعي أنَّه صحيح، ولعلَّه سهو من الكاتب، لأنَّ نسخته مملوءة من الأغلاط، فكان في الأصل غير صحيح فحرَّفه، لأن الأصح هو الإِرسال. والمرسلُ حجةٌ عند الأكثر سيما إذا التحق به فتاوى الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كما في الزُّرْقَانِي وظَهَر به العمل.
ثم الأظهر عندي: أَنْ يُرادَ من الملامسة المباشرةُ الفاحشة، فيدخلُ فيها الجماع، بل لفظ الملامسةِ أصدقُ على المباشرة مما قالوه. وحينئذٍ صارت الملامسةُ أيضًا أصلًا مستقلًا، كالخروج من السبيلين، فإِن الغُسْل بالجماع لا ينوط بالإنزال، فلا يقال: إن الجماع ليس أصلًا مستقلًا، بل هو داخلٌ تحت الخارج من السبيلين.
وعلى هذا التقرير لا يردُ ما أورده الشيخ ابن الهُمَام على مذهب الشيخين: أنهما قالا: إنَّ المباشرةَ الفاحشة ناقضة مطلقًا، سواء خرج منه شيءٌ أو لا، وعللوه أنَّ المباشرة الفاحشة لمَّا لم تخلُ عن خُروج شيء في غالب الأحوال أُقيم غلبة الظنِّ فيها مُقَام خروجه، فقال الشيخ رحمه الله تعالى: إنَّ هذا الاعتبار إنَّما يناسب فيما لا يمكنُ إليه النَّظر بالحس، وههنا أمكن تحقيقهُ بالمشاهدة، فينبغي أن يُدارَ الحكمُ على حقيقة الخروج كما ذهب إليه محمد رحمه الله تعالى.
قلت: والراجح عندي مذهب الشيخين، لأن نقضَ الوضوء من المباشرة الفاحشة ليس لِمَا فَهموه، فإنه يرجعُ حينئذ إلى الأصل الأول، بل هي داخلة عندي تحت الأصل الثاني، فهي من جُزْئيات المُلامَسَة.
ثم اعلم أني أردتُ من المُلامَسة: الجماعَ، والمباشرةَ، الفاحشة كليهما، على طريقِ إِطلاقِ الشيء وإرادة بعض ما صدقاته وبعضُ مراتبه. فالجماعُ من أعلى مراتبه، والمباشرةُ من أدناه وأخذُ جميع المراتب غير لازم، ليقال: إِنَّه يلزم عليه كونُ مس المرأة أيضًا ناقضًا، لأنَّ
الشافعية أيضًا لم يأخذوا بجميع مراتبها، وقيدوها بباطنِ الكفِّ وبكونها بدون حائل.
وهذا بابٌ غَفَلَ عنه النَّاس، فإن الشريعةَ تَرِدُ بشيء وتبقى مراتبُها تحت مراحل الاجتهاد، ألا ترى إلى قوله تعالى:{فَاعْتَزِلُواْ النّسَآء فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] فمن أخذَه بجميع مراتبه، ومن ذهب إلى وجوبِ الاعتزال وحُرْمة القربان مطلقًا، ولكنهم أقاموا فيه المراتب.
فقال قائل: إنَّ المراد منه أدنى مرتَبةُ الاعتزال، وهو الاعتزال عن موضع الطَّمْث.
وقال آخر: بل هو فوقه، فأراد من السُّرة إلى الركبة، وللغفلة على هذا اضطروا إلى التأويلات في كثير من المواضع، كقوله:«المؤمنُ لا يَنْجَس» ، «وإن الماء الطهور لا يُنَجِّسُه شيء» ولو تركوا المراتبَ على الاجتهاد لَمَا احتاجُوا إليه، فسلبُ النجاسة عنه في مرتبة دون مرتبة، وهو معنى قول الطحاوي: أي كما زعمتم، أي ليست نجاستُه بهذه المثابة، وهذه المرتبة.
وهكذا أقول في مسألة الإستدبار والإستقبال تكلموا عليه من الجانبين وأطالوا الكلامَ، وحقيقة الأمر أن الشريعةَ لم ترد فيها بمراتب النهي، فالمطلوب أن لا يتوجه الإِنسان إلى القبلة عند الغائط أما أنَّ أي مرتبة من التَّوقِّي مطلوبٌ فلم يتعرَّض إليه الشارع وتركه تحت الاجتهاد. وهكذا لا تردُ الشريعة إلا بالأمرِ والنهي، ولا تُعَرِّج إلى مراتبه أصلًا، بل يقول تحت الاجتهاد. فيجيء أحدٌ من الأئمة ويقول: إنه واجبٌ، ويقول آخر: إِنه مستحب، وكذا يقول هذا: إنه حرام، ويقول هذا: إنه ليس بحرام. ووجه الاختلاف ما نبَّهناك عليه، فإِذا لم تَرِد مراتبُ الشيء مصرحة من جهة الشرع لا بد لهم أن يختلفوا فيه. ومن ههنا عُلِم ضرُورَة الاجتهاد، فإِنه لولاه لما علمنا مَرَاتب الشيء، ولا أدركنا غَرَضَ الشارع، فإِن الشارع إذا تركه ولن يعرج إليه، فإِذن ليس من يُنبِّهنا إلا المجتهد.
ولعلك ما دريتَ فِقهه بهذا القَدْر من البيان، وتحتاجُ إلى مزيد التِّبْيان. واعلم أنَّ هناك وظيفتان:
الأولى: وظيفةُ الواعظِ المذكِّر، فإِنَّه يحرِّض على العمل ويرغِّب إليه، فيختار من التعبيرات ما يكون أدعى لها، ولا يلتفتُ إلى تحقيق المسألة واستيفاءِ شَرَائطها وموانعها، بل يرسل الكلام، فَيَعدُ ويُوْعِد، ويرغِّب ويرهِّب مطلقًا، ويأمر وينهى، ولا يلتفت إلى مزيد التفاصيل.
والثانية: وظيفةُ المعلم والفقِيه، وهو يريدُ تلقينَ العلم وبيان المسألة. إما العمل بها فبمعزلٍ عن نظره، فيحقق البيانَ ويدقق الكلام ويستوفي الشروطَ ويختارُ من التعبيرات ما لا يكونُ مُوَهِمًا بخلاف المقصود، بل يكون أدلَّ عليه وأقربَ إليه، فلا يرسل الكلام بل يذكرُه بشرائطه ويَعِدُ ويُوْعِد ويرغِّب ويرهِّب بشرائطه.
فهاتان وظيفتان ومنصب الشارع منصبُ المُذَكِّر قال الله تعالى: {إنما أنت مُذَكِّر (21) لست عليهم بِمُصيْطِرٍ (22)} [الغاشية: 21، 22] وليس له منصبُ المعلم فقط، فهو مذكِّرٌ ومعلمٌ
معًا، فوجب أن يعبِّر بما هو أدعى للعمل، وأبعد عمَّا يوجب الكسل. وهذا هو التعليم الفطري، فإِن أكثر تعليماته صلى الله عليه وسلم مستفادٌ من عَمَلِهِ، فما أمر به الناسَ عمل به أولًا، ثم تعلم منه الناس. ولذا لم يحتاجوا إلى التعليم والتعلم. ولو كان طريقُه كما في زماننا لما شاع الدِّين إلى الأبد ولكنه عَلَّمَ الناس بعمله، ثم إذا قال لهم أمرًا اختار فيه الطريقَ الفطري أيضًا: وهو الأمر بالمطلوب والنَّهي عن المكروه ولم يبحث عن مراتبه. قال الله تعالى: {وَمَآ ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} [الحشر: 7] فهذا هو السبيل الأقوم.
أما البحث عن المراتبِ فهو طريقٌ مستحدَثٌ، سلكَه العلماء لفسادِ الزمان. وأما الصحابة رضي الله عنهم فإنَّهم إذا أمروا بشيء أخذوه بجميع مراتبه، وإذا نُهُوا عنه تركوه بالكلية، فلم تكن لهم حاجة إلى البحث. ولو كان الشارعُ تعرَّض إلى المراتب لفاته منصبُ المذكِّر، ولانعدمَ العمل، فإِنه إذا جاء البحثُ والجدلُ بَطَل العمل.
مثلًا لو قال تعالى: فاعتزلوا النساء عن موضع الطَّمْث ولا تقربوه فقطه واستمتعوا بسائر الأعضاء، لربما وقع الناس في الحرام، لأنَّ مَنْ يَرتعُ حول الحِمى يُوشكُ أن يقع فيه، وإنَّما أخذَ الاعتزال في التعبير ليكون أسهلَ له في العمل، ولا يقعوا في المعصية.
وكذلك إذا أحب أمرًا، أمر له مطلقًا، ليأتمر به النَّاس بجميع مراتبه، ويقع في حيز مرضاه الله تعالى مثلًا، قال: من ترك الصلاة فقد كَفَرَ، ولم يقل فَعَلَ فِعْلَ الكفر، أو مُستحِلًا، أو قارب الكفر، مع أنه كان أسهلَ في بادىء النظر، لأنه لو قال كذلك لفات غرضُه من التشديد ولانعدم العمل، ولذا كان السلف يكرهون تأويله.
فالحاصل: أنه إذا يأمرنا بشيء فكأنه يريدُ العملَ به بأقصى ما يمكنُ، بحيث لا تبقى مرتبةٌ من مراتبه متروكةً، وكذلك في جانب النهي، ولذا كان يقول عند البيعة:«فيما استطعتم» فبذل الجُهد والاستطاعة لا يكون إلا إذا أجملَ الكلام وإذا فصَّل يحدثُ التهاون كما هو مشاهد في عمل العوامّ وعامة العلماء. أما الذين لهم وَجَاهةٌ عند الله، وقَبُولٌ في جَنَابِهِ، فهمُ الذين لا تُلْهِيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله.
فإِن كنتَ هينًا لينًا تستطيعُ أَنْ تقبلَ ما ألقينا عليك من هذا التحقيق، فاعلم أنَّ القرآن أخذَ الملامسة في العُنوان، وهي تتناولُ مسَّ المرأة أيضًا.
لكنَّه لما كان في أدنى مرتبة منه حكمنا باستحباب الوضوء منه، ولم نقل بالوجوب، بخلاف المُبَاشرة الفاحشة فإِنها أشد، فقلنا بإِيجاب الوضوء منها، وبخلاف الجماع فإِنَّه أشدُّ من الكل فقلنا بإِيجاب الغُسْل.
والحاصل: أن إرادة المس باليد في مرتبةٍ تناول اللفظ، وإرادة المباشرة في مرتبة الغرض، يعني أن اللفظَ وإن كان يتناولُ المسَّ باليد أيضًا إلا أن الغَرَض منه هو الجماع والمباشرة، التي هي عبارةٌ من تماسِّ الفرجين. ولمَّا لم يكن المسُّ مرادًا - وإن كان متناولات اللفظ - حكمنا بكونه ناقضًا في أدنى مرتبة، وأوجبنا الوضوءَ منه على خواصِّ الأمة، ومثله قلنا في لحوم الإِبل وما مسَّت النار. وعلى هذا فقد عملنا بالآية بجميع مراتبها. نعم،
فرقنا في حكمها بالشدة والضَّعف، ويمكن أن يدخلَ في جُزْئيات المباشرة ما كان عليه العمل في ابتداء الإِسلام، أعني: الماء من الماء.
ثم اعلم: أنَّ الشريعةَ قد تدل على هذه المراتب بصنيعها ولا تفصحُ عنها، ولكنَّها تُفهمها بعرض الكلام وأطرافه، ومن جهة القرائن، فتنهى عن شيء ثم قد تردُ بفعله تارةً، فيحدثُ التعارض في بادىء النظر. والوجه أنه يريد أن لا يترتكبه الناسُ ويجتنبوا عنه، ومع ذلك يريدُ بيان المسألة والجواز، فيرد بالفعل تارةً ليُعْلَم جوازه. وهذا كالاستدبارِ نهى عنه الشرعُ كما نهى عن الاستقبال. ثم رُوي عنه الاستدبار عن ابن عمر رضي الله عنه كما فهمه الشافعية. وهذا ليُعلَم أن كراهيةَ الاستدبار دون كراهية الاستقبال، مع أن المطلوبَ التجنب عنهما، إلا أن الاستدبارِ متحملٌ في بعض الأحوال. ونظائرهُ كثيرةٌ وسنعود إلى إيضاحه في باب ما يستر من العورة بأبسط من هذا.
وبعد هذا التحقيق لم يبق تكرار في قوله: {جُنُبًا} وقوله: {لَامَسْتُمُ} على أنَّ ذكر الجَنَابة والسُّكر في صدر الآية لكونهما منافيين للصلاة، ثم ذكر حُكمَ الاغتسال، ثم كرر:{لَمَسْتُمُ} لبيان التيمم، فاندفع إشكال الطبري.
قال ابن الهُمَام: وإنَّما ناسب حملُ اللمس على معنى الجماع ليكونَ بيانًا لحكم الحدثين عند عدم الماء، كما بيَّن حكمهما عند وجوده. فإِن قلت: فما تقول في القهقهة فإِنه ليس داخلًا في الأصلين مع أنكم قلتم بوجوب الوضوء منه.
قلت: التحقيق عندي أن إيجابَ الوضوءِ منه ليس لكونه ناقضًا بل تعزيرًا كما في «البحر» : أنَّ في الوضوء من القهقهة قولان: الأول أنه تعزيرٌ فقط. وفرّع عليه أنه لو قهقهه رجلٌ في الصَّلاة فوضوءُه باطل في حق الصَّلاة فقط، على أنَّه صح فيه مرسلُ أبي العالية عند الدارقطني وإن وَصَلَهُ الثقات، إلا أن الوجدان لا يحكمُ بوصله، فيمكنُ أن يكونَ وَهَمًا. واختاره الأوزاعي أيضًا. ومن ههنا اندفع إيرادُ الزيادة على الكتاب بالخبر، فإِنّ القهقهة ليست داخلة في شيء من الأصلين اللذين ذكرهما النَّص في باب النواقض.
فإِن قلت: إنه لا مناسبةَ بين المرضِ والسفر، والإِتيان من الغائط واللمس، فإِن الأوَّلين من الحالات التي يتعسرُ فيها القدرةُ على الماء، والأخيران من النواقض، فكيف ناسبَ عدهما في سياق واحد؟ قلت: وإنما حَسُن سردُها في سياق واحد لدخولها كلها في حُكْم التيمم، فإِن قوله:{فَلَمْ تَجِدُواْ مَآء} [المائدة: 6] يشمل الكلَّ، سواء كان مريضًا أو مسافرًا أو آتيًا من الغائط أو جنبًا، فإِن هؤلاءكلهم إذا لم يَقْدِروا على الماء لفَقْدِه أو لعدم القدرة على استعماله، فإِنَّهم يتيممون على أنه جَمَعَ العذرين والناقضين، فكأن جمع هذا وهذا وهو لطيف.
(قال عطاء) كذا المسألةُ عندنا.
وقال جابر رضي الله عنه: «إذا ضَحِكَ في الصَّلاة أعاد الصلاة ولم يعد الوضوء» . قلت: وعنه عند الدارقطني: «من ضَحِكَ منكم في صلاتِهِ فليتوضأ وليُعد الصَّلاة» وتكلَّمَ عليه الدارقطني، على أن الوضوءَ عندنا في القهقهة فقط. والحق أنَّ جابرًا لا يوافقنا.
قوله: (وقال الحسن) وكذلك المسألة عندنا، إلا أنَّه إذا نَزَع خُفية يغسل رجليه فقط، ولا يعيد الوضوء.
قوله: (وقال أبو هريرة): قلت: وعنه في تفسير الحديث أنَّه
(1)
…
البخاري فيخالف البخاري أيضًا، لأنه أخصُّ من الخارج من السبيلين أيضًا، فإِذن هو نحو تعبير فقط.
(ويذكر عن جابر رضي الله تعالى عنه)
…
إلخ وأخرجه أبو داود وإنما عبَّر عنه بالتمريض لأنَّ في إسناده عبد الله بن محمد بن عَقيل. وحسَّنَ بعضُهم حديثَه وهو الراجح عندي. قال الترمذي: وعبد الله بن محمد بن عَقيل هو صدوق، وقد تَكَلَّم فيه بعض أهل العلم من قِبَل حفظه وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: كان أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم والحُميدي يحتجون بحديث عبد الله بن محمد بن عَقيل. قال محمد (يعني البخاري) وهو مُقارِبُ الحديث.
قلت: والاستدلال منه غير تام، لأنَّه لم يَعلم أنَّه هل بَلَغَ خبرُه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ ثم إن الدم نجس بالاتفاق، فكيف مضى في صلاته مع وجود الدم النجس. قال الخَطَّابي في باب الوضوء من الدم في قصة رجلين كان النبي صلى الله عليه وسلم بعثهما للحراسة على فم الشِّعب. وقول الشافعي رحمه الله تعالى قويٌّ في القياس، ومذاهبهم أقوى في الاتباع. ولست أدري كيف يصح هذا الاستدلال من الخبر والدم إذا سالَ أصاب بدنَه وجلدَه، وربما أصاب ثيابه، ومع إصابته شيء من ذلك - وإن كان يسيرًا - لا تصح الصَّلاة عند الشافعي رحمه الله تعالى، إلا أن يقال: إن الدمَ كان يخرجُ من الجِراحَة على سبيل الذوق، حتى لا يصيبُ شيئًا من ظاهر بدنه، ولئن كان كذلك فهو أمر عجب.
والوجه عندي أنه كان إبقاءً رجاءً للرحمة، فإنَّ الشهيد يجيءُ يوم القيامة واللونُ لون الدم والريحُ ريحُ المسك، فهذا من باب المناقب كالموت في السجدة. وكما في البخاري في قِصة شهادة القرَّاء، حيث استشهد رجلٌ من أصحابه صلى الله عليه وسلم فخرجَ منه الدمُ فأخذ من دمِهِ وجعل يمسَحَه على وجهه ويقول: فُزت ورب الكعبة. ولم يبحث هناكَ أحدٌ أنَّ مسحَ الدم على الوجه كيف هو. وكقوله في رجل مات في إحرامه: «لا تخمِّرُوا رأسَه .... فإِنَّه يُبعث يوم القيامة مُلبيًا» فإنَّه من باب البِشارة. وحملَه الخصومُ على الحكم الفقهي وليس بجيد وسنقرِرُه في موضعه إن شاء الله تعالى.
قوله: (وقال الحسن)
…
إلخ أي البصري ويمكنُ أن يُحمل على مسألة المعذورِ عندنا وهذه المسألةُ ذكرها الكبير أحسن من الكل. ثم إنهم ذكروا مسألة ابتداء العُذر، أي متى يصير معذورًا وهو بإحاطة الوقت، ومسألة بقائه وهو بظهوره مرة في وقت الصَّلاة، ولم يتعرضوا إلى أنَّه ماذًا يفعل في ابتداءِ عُذْرِه، فهل ينتظر إلى أَنْ يمضي الوقت فيتبين أنَّه كان معذورًا أولا، ثم يُصلي ويقضي ما فاته، أو يتوضأ ويصليِّ قبل التَّبيُّنِ ولم أرها إلا في «القنية» وفيها: أنَّه يتوضأ ويصلِّي مع عُذْرِهِ، فإِنْ أحاط عذرُه بالوقتِ صحت صلاته وإلا فيُعِيدُها.
(1)
سقطت ههنا من الضبط كلمات ففات الغرض من الحوالة (المصحح).
قوله: (قال طاوس)
…
إلخ ولعلَّهَ دمُ المعذورُ، أو دم غيرُ سائلٍ، كما قال الحسن على ما عند ابن أبي شيبة بإِسناد صحيح:«أنه كان لا يرى الوضوء من الدم، إلا إذا كان سائلًا» .
قوله: (وعَصَر ابن عمر) .. إلخ وليس فيه أنَّه خَرَجَ إلى موضعٍ يلحقه حكم التطهير أم لا؟ مع أنَّه فرَّق بين الخارج والمُخرَج كما في «الهداية» .
قوله: (وبزق ابن أبي أَوْفَى دمًا)
…
إلخ، وهكذا عندنا إذا لم يكن الدم غالبًا على البُزَاق.
قوله: (وقال ابن عمر رضي الله عنه قلت: وليس فيه أنَّه في أحكام النجاسة أو الصلاة، لأنَّكَ قد عَلِمتَ أن الأحسنَ عند الشرع هو إزالة النجاسة على الفور دون التَّلطُّخ بِها. فالوضوء من المَذْي، والمضمضةُ من اللبن، وكذلك غَسل المَحَاجم كلها ليس من أحكام الصلاة عندي، بل المقصود منها الإتيان بها على الفور. وقد تحقق عند أن التلطُّخَ بالنجاسات يوجِبُ نقصًا في العبادات في نظر صاحب الشرع، فقال صلى الله عليه وسلم «أفطر الحاجِمُ والمحجوم» لهذا النقيصة والوضوء من الرُّعَاف والقيء، وترك الصيام للحائضة كلها لهذا المعنى، والله تعالى أعلم. وسنقرره في الصيام.
178 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُنْذِرٍ أَبِى يَعْلَى الثَّوْرِىِّ عَنْ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ قَالَ عَلِىٌّ كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ «فِيهِ الْوُضُوءُ» . وَرَوَاهُ شُعْبَةُ عَنِ الأَعْمَشِ. طرفاه 132، 269 - تحفة 10264 - 56/ 1
178 -
قوله: (حدثنا قُتيبة)
…
إلخ وفيه الوضوء فهو من أحكام المَذْي عندي، فيستحب له أن يَغْسِلَ ذَكَرَه عقيبه. ولمَّا كان أكثر أحكام الفقه يتعلق بالحلال والحرام، خفي ذكرُ هذه الآداب، واقتَصرَت هذه الأبواب كلها على وقت الصلاة. ولعل الوجه فيه أن المنيَّ لمَّا كان من الشهوة القوية أوجب منه الغُسْل، وهذا من الشهوة الضعيفةِ فأوجبَ فيه الوضوءَ وغَسْل المذاكير فقط.
وما ذكره الطحاوي: أنَّه كان للعلاج، لم يرد به العلاج الطبي، بل دَفُع تذرِيقهِ في الحالة الراهنة، كما في الجديث من الغسل والجلوس في المِرْكن للمستحاضة، فإِنه أيضًا مؤثرٌ في تقليل الدم. وهذا يَدُلك ثانيًا على أن تقليلَ النجاسة وعدم التلطخ بها مطلوبٌ في حدّ ذاته.
179 -
حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِى سَلَمَةَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنْ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رضى الله عنه - قُلْتُ أَرَأَيْتَ إِذَا جَامَعَ فَلَمْ يُمْنِ قَالَ عُثْمَانُ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ، وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ. قَالَ عُثْمَانُ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ عَلِيًّا، وَالزُّبَيْرَ، وَطَلْحَةَ، وَأُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ - رضى الله عنهم - فَأَمَرُوهُ بِذَلِكَ. طرفه 292 - تحفة 9801، 10098، 3621 ل، 4997 ل، 3477
179 -
قوله: (حدثنا سعد)
…
إلخ أقول: والإِجماع منعقدٌ على إيجاب الغُسل بمجاوزة