الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة السابعة عشرة
روي في الحديث "اختلاف أمتي رحمة".
/ قال الإمام رحمه الله عند الكلام في الكفاءة: فسره الحليمي باختلافهم في الحرف والصنايع، هل لهذا الحديث أصل؟ وقد أشكل على المملوك هذا التفسير إذا كان الأمم مختلفين في الحرف والصنايع.
وإذا كان كذلك، فأي فائدة في ذلك، والذي على ألسنة الناس أن المراد اختلافهم في الحلال والحرام ونحوهما من فروع.
هل هذا التفسير صحيح أو لا؟.
الجواب (الحمد لله)
هذا الحديث ليس معروفا عند المحدثين ولم أقف له على سند صحيح، ولا ضعيف، ولا موضوع، ولا أظن له أصلا، إلا أن يكون من كلام الناس، بأن يكون أحد قال: اختلاف أمتي رحمة، فأخذه بعض الناس وظنه
حديثا فعله من كلام النبوة.
ورأيت في تعليق القاضي حسين، في كتاب الشهادات، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"اختلاف أمتي رحمة".
قال: وفسر بعضهم باختلاف الهمم والحرف.
وفي النهاية لإمام الحرمين كما تضمنه السؤال عند الكلام في الكفاءة وقال الحليمي في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: "اختلاف أمتي رحمة" وقال: أراد بذلك اختلافهم في الدرجات والمراتب والمناصب فحذف القول في الحرف. انتهى.
وما زلت أعتقد أن هذا الحديث لا أصل له.
واستدل على بطلانه بقوله تعالى: (ولا يزالون مختلفين* إلا من رحم ربك)(ولذلك خلقهم) وقوله تعالى: (ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر) وقوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة) إلى قوله: (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البيات بغيا بينم) وقوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه) وقوله تعالى: (فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه) وقوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا
تفرقوا) وقوله تعالى: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة). وما أشبه ذلك من الآيات.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وتطاوعا ولا تختلفا" وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا ينبغي عند نبي تنازع".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما هلكت بنو إسرائيل بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم) وما أشبه ذلك من الأحاديث.
فانظر/ القرآن العزيز كيف دل على أن الرحمة تقتضي عدم الاختلاف، وأن الاختلاف نشأ عنه كفر بعضهم واقتتالهم وانظر كلام النبوة كيف اقتضى أن الاختلاف سبب لاختلاف القلوب، وإن كان الحديث واردًا في تسوية الصفوف فالعبرة بعموم اللفظ، والذي نقطع به، ولا شك فيه أن الاتفاق خير من الاختلاف، وأن الاختلاف على ثلاثة أقسام.
أحدهما: في الأصول، ولا شك أنه ضلال، وسبب كل فساد، وهو المشار إليه في القرآن.
والثاني: في الآراء والحروب، ويشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم:"تطاوعا ولا تختلفا" وكان ذلك خطابا منه صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى
اليمن.
ولا شك أيضا أنه حرام، لما فيه من تضييع المصالح الدينية والدنيوية.
والثالث: في الفرع، كالاختلاف في الحلال والحرام ونحوهما، والذي يظهر لنا.
ونكاد نقطع به، أن الاتفاق خير من الاختلاف، ولا حاجة إلى قولنا يظهر ويكاد، فإنه كذلك قطعا، ولكن هل نقول الاختلاف ضلال، كالقسمين الأولين أو لا؟
كلام ابن حزم ومن سلك مسلكه، ممن يمنع التقليد، يقتضي أنه مثل القسمين الأولين.
أما نحن فإنا نجوز التقليد للجاهل، ويجوز الأخذ بعض الأوقات عند الحاجة بالرخصة.
من أقوال بعض العلماء من غير تتبع الرخصة، ومن هذا الوجه قد يصح أن يقال: الاختلاف رحمة، فإن الرخص من الرحمة:
مثاله إذا كان يشخص مبتلى بسلس البول أو نحوه ولا يكاد يخلو ثوبه أو بدنه عن نجاسة بسيرة، ويشق عليه التنزه عنها، ولو ترك النوافل بسببها فاته خير كثير، وربما يشق عليه التنزه عن النجاسة اليسيرة في الفرض أيضا، وهو معتقد أن النجاسة اليسيرة غير معفو عنها، (لتمذهبه بمذهب من يرى ذلك، فإذا قلد من يرى العفو عنها) وصلى كان في ذلك رخصة له ورحمة وإدراك أجر كثير.
وهذا لا ينافي قطعنا أن الاتفاق خير من الاختلاف فلا تنافى بين الكلامين، لأن جهة الخيرية تختلف، /وجهة الرحمة تختلف، فالخيرية في العلم بالدين الحق الذي كلف الله به عباده، وهو الصواب عنده، والرحمة في الرخصة له، وإباحة الإقدام بالتقليد على ذلك.
ورحمة نكرة في سياق الإثبات لا يقتضي العموم، فيكفي في صحته أن يحصل في الاختلاف رحمة ما، في وقت ما، في حالة ما، على وجه ما، فإن كان ذلك حديثا، فيخرج على هذا، وإن لم يكن حديثا ويكون من كلام أحد من العلماء فمخرجه على هذا.
وعلى كل تقدير، لا نقول إن الاختلاف مأمور به، (وهل نقول الاتفاق مأمور به؟).
هذا يلتفت على أن المصيب واحد أم لا؟
فإن قلنا المصيب واحد وهو الصحيح.
فالحق في نفس الأمر واحد، والناس كلهم مأمورون بطلبه، واتفاقهم عليه مطلوب، والاختلاف حينئذ منهي عنه، وإن عذر المخطئ، وكذلك إذا قلنا بالأشبه كما هو قول بعض الأصوليين.
وأما إذا قلنا كل مجتهد مصيب، فكل أحد مأمور بالاجتهاد وباتباع ما غلب على ظنه، فلا يلزم أن يكونوا كلهم مأمورين بالاتفاق، ولا أن يكون اختلافهم منهيا عنه، وإطلاق الرحمة على هذا التقدير في الاختلاف أقوى، من إطلاقها على قولنا المصيب واحد.
هذا كله إذا جعلنا الاختلاف (المراد به الاختلاف) في الفروع.
وأما الذي حمله الحليمي عليه، فقد علمت نقل الإمام عنه في النهاية لم يقل الصنايع والحرف، كما تضمنه السؤال ولو قال ذلك لا يستبعد، كما استبعده السائل، لأنه كان المناسب أن يقال: اختلاف الناس رحمة.
ولا شك أن ذلك من نعم الله تعالى وقد عدها الحليمى في شعب الإيمان
من النعم التي يطلب من العبد شكرها.
وأما اختلاف الأمة فلابد من خصوصية الأمة به.
وما قاله إمام الحرمين قد يظهر فيه خصوصية، لأن المراتب والمناصب التي أعطيتها أمة النبي صلى الله عليه وسلم لم تعطها أمة غيرهم فهي من رحمة الله تعالى لهم، وفضله عليهم، لكنه لا يسبق الذهن من لفظة الاختلاف إليها،/ ولا إلى الصنايع والحرف. والله أعلم.