الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الحادية والأربعون
رأى المملوك بخط بعض الفضلاء، قال: قال القفال في (شرح التخليص) إذا عصر عنبا للخل ولم يخرج العصير، حتى استحال خمرا، هل يحكم بأنه نجس أم لا؟ فعلى وجهين أحدهما: نعم، والثاني أنا لا نحكم بالطهارة ولا بالنجاسة، كما قلنا في البيض. ما معنى هذا الكلام وبسطه؟ أعني قوله: في الوجه الثاني، إنا لا نحكم بطهارته ولا نجاسته، فقد عسر معرفة ذلك مع أنه نقل موثوق.
الجواب: (الحمد لله)
معناه أنه هل يحكم بأنه نجس؟ وهو في باطن الحبات، قبل خروجه، بعد استحالته خمرا في الباطن، وقد دل على ذلك بقوله: ولم يخرج العصير حتى استحال خمرا ولا ينافيه قوله: إذا عصر لأن مع العصر قد تبقى بعض الحبات صحيحة، وقد ذكر الأصحاب هذه المسألة، فقال الرافعي: في كتاب الطهارة: إنهم ذكروا وجها في أن بواطن حبات العنقود مع استحالتها خمرا، لا يحكم بنجاستها، تشبيها بما في باطن الحيوان.
وقال في كتاب الصلاة، ولو حمل بيضة صار حشوها دما، وظاهرها طاهر ففي صلاته/ وجهان: أحدهما تصح صلاته، كما لو حمل حيوانا طاهر الظاهر، لأن النجاسة في الصورتين مستترة خلقة، وأظهرها أنها لا تصح كالنجاسة الظاهرة إذا حملها، بخلاف باطن الحيوان، لأن للحياة أثرا ظاهرًا في درء النجاسات، ألا ترى، أنها إذا زالت نجس جميع الأجزاء، وأما البيضة فهي جماد.
قال ويجري هذا الخلاف فيما إذا حمل عنقودا استحال باطن حباته خمرا ولا رشح على ظاهرها وكذلك في كل استتار خلقي انتهى كلام الرافعي.
وقطع القاضي حسين، والغزال، بالنجاسة، وحكيا الخلاف في البيع وهو مشكل، لأن تجويز البيع مع النجاسة يخالف ما قالوه، في اشتراط طهارة المبيع، إلا أن يعتذر بطهارة الظاهر، وعدم الالتفات، إلى ما في الباطن، والغرض أن الوجه القائل، بأن ما في باطن حبات العنقود ليس بنجس، مشهور معروف، وإن كان الأصح خلاف.
فإن قلت صحيح معرفة الوجه، بأنه ليس بنجس ولكن الذي عسر معرفته كونه ليس بنجس ولا طاهر.
قلت، النجاسة حدها معروف، وهي: كل عين حرم تناولها، على الإطلاق في حالة الاختيار، مع الإمكان، لا لحرمتها، ولا لضرر فيها، ولا لاستقذارها، والطاهر يحتمل أن يقال إنه ما ليس كذلك، فكل ما ليس بنجس طاهر، وعلى هذا يلزم إذا قلنا ما في باطن العنقود ليس بنجس أن يكون طاهرا، ويوافقه قول الشيخ أبي علي:
أن الخمر
المحترمة طاهرة، وسببه، أنها ليست معدة للشرب المحرم الذي هو سبب التنجيس، ولا شك، أن الذي في باطن العناقيد أبعد عن الاستعداد، وعلى هذا لا يكون لنا في باطن العنقود إلا وجهان: أصحهما النجاسة، والثاني الطهارة/ ويحتمل أن يقال الطاهر: كل عين أذن الشرع في تناولها، على مقابل ما حددنا به النجاسة، أو يقال: الطاهر ما جاز استصحابه في الصلاة، والنجس ما وجب اجتنابه في الصلاة.
ولنا قاعدة في الأصول، وهي أن الإذن أعم من عدم المنع، فالإذن والمنع بينهما واسطة، فالنجس ممنوع منه والطاهر مأذون فيه، وما ليس ممنوعا منه ولا مأذونا فيه، لا نجس ولا طاهر، وذلك هو الأشياء التي لم يحكم فيها، وهو ما في باطن الحيوان، فإن المصلى في باطنه البول والغائط، ويحمل الصغير الذي في باطنه ذلك، لأنه لا حكم لتلك النجاسة، المستترة بمحلها.
فقد صرح الأصحاب بأنه لا حكم لها، ويبعد إطلاق الطهارة عليها، فيخرج من ذلك أنها في محلها لا نجسة، ولا طاهرة، لأنه لم يتعلق بها حكم ويلتحق به ما في باطن العنقود، وما في باطن البيضة من الدم على أحد الوجهين، فتجتمع ثلاثة أوجه: النجاسة، والطهارة، وعدم الحكم
رأسا، لا نجاسة ولا طهارة.
واستشكل إمام الحرمين القول بنفي النجاسة، وقال: إنه لا يليق بقاعدتنا، أن ننفي حكم النجاسة عما في باطن حبات العنقود، ثم يقول لو اعتصرت صارت نجسة، والانفصال لا يثبت النجاسة، قال: وهذا يوافق قول أبي حنيفة: أن الدم في العروق في خلل اللحم ليس نجسا، فإذا سفح اكتسب النجاسة.
وهذا الذي عزاه الإمام، إلى أبي حنيفة، نقله الشيخ محي الدين النووي عن الثعلبي المفسر من أصحابنا.
ووافقه في الدم الباقي على اللحم وعظامه، لمشقة الاحتراز عنه، ولأنه ليس بمسفوح، والذي يظهر أن ما في باطن الحيوان نجس، ولكن يعفى
عنه، ويحتمل القول بأنه لا يحكم بنجاسته، ولا بطهارته، لأنه كالمعدوم، الذي لا حكم له، وهو ظاهر كلام الأصحاب، ويحتمل القول بطهارته، وهو ضعيف جدا/.
وقد ذكروا حكم الخيط، الذي يتصل طرفه بما في الباطن، وبعضه خارج، وأنه يمنع الصلاة، وذلك يشهد للقول بالنجاسة، إلا أن ظهور طرف الخيط يصيرها في حكم الخارج، وذكروا أنه يجوز ابتلاع السمكة حية، واستدل بذلك من قال بطهارة خرئها، وذلك يقتضي أن لا فرق عنده بين حالة الباطن، والخارج.
والعمدة في القول بنجاسة ما في الباطن، أن علة النجاسة استحالته إلى نت، وهو موجود في الباطن، لكن لا يحكم عليه بذلك، لتعذر اجتنابه، وباطن حبات العنقود، وباطن البيضة يبعد فيهما القول بالطهارة، والقول بأنه لا حكم له، ويتجه القطع بالنجاسة، ولكن أصل الخلاف لا ينكر، وأبعد منهما القارورة المصممة الرأس لأنه قد ثبت لها حكم الانفصال في
وقت، وقد شبهوا الدم الذي في باطن البيضة بالعلقة لأن كلا منهما من حيوان، ويصير حيوانا، وهذا لشبه حاصل لهما، قبل الانفصال، أما بعد الانفصال فالوجه القطع، فيما خرج من البيضة بالنجاسة، لأنه دم لا يصير حيوانا ولا كان متعينا لذلك، بخلاف العلقة فإنها تكونت ليصير منها حيوانا.
فإن قلت هل يفترق الحال في ذلك بين ما عصر للخلية، أو الخمرية؟ قلت قال الإمام إذا صححنا بيع العنقود، فلا فرق بين أن يكون طارحة في الدن، قصد بذلك الخلية، أو الخمرية، لأن العادة أن من يقصد الخمر يعتصره، ولا يصب في الدنان إلا العصير، فإن عفونة العنقود تفسد شدة الخمر، فإذا وجدنا العناقيد، لم نعول على قصد المتخذ، إذا كان ما وجدنا، مايلا عن عادة مقتنى/ الخمور. انتهى كلام الإمام.
فقول القفال الذي حكيتموه، إذا عصر عنبا للخل، تصوير بما هو الغالب، في أن عادة من يعتصر العنب للخل، يخلى بعض العناقيد فيه، وليس قوله: للخل قيدا لنفي الحكم المذكور عن غيره، فإنه لا فرق.
وقوله: ولم يخرج العصير، سماه عصيرا، وإن لم يخرج باعتبار ما قصد به وما يصير إليه. وقوله: حتى استحال خمرا، ليس مراده بهذه الغاية أنه خرج، حتى يكون الخلاف بعد الخروج، بل مراده تحقيق صيرورته خمرا، ليجري الخلاف فيه، ولولا ذلك لكان ظاهرا قطعا. الله أعلم.