الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية والثلاثون
لو كان القاضي ضعيف الحال فتصدق عليه إنسان من أهل عمله لا حكومة له، ولا غرض، إلا التقرب إلى الله تعالى بذلك، فهل يحل له قبولها؟ لأنها ليست هدية أم لا؟ نظرا إلى المعنى الذي حرمت عليه الهدية لأجله، وهو ميل النفس وهل يمكن تقريبه من الخلاف فيما لو تصدق على ولده بشيء؟ فهل له أن يرجع أم لا؟
والمسئول بيان ذلك فقد وقع فيه نزاع والقلب إلى التحريم أميل، لئلا يتخذ ذلك وسيلة إلى الرشا، ولقوة المعنى الذي حرمت لأجله الهدية.
الجواب (الحمد لله)
الذي يظهر لي جواز ذلك، وليس عندي فيه نقل، والأولى التنزه عنه بقدر الإمكان، أما الجواز فلأن الصدقة يقصد بها وجه الله، والمتصدق/ في الحقيقة دافع لله مقرض له تقع صدقته في يد الرحمن، قيل أن تقع في يد الفقير.
والفقير يأخذها من الله، لا من المتصدق. والهدية يقصد بها التودد،
والميل، ووجه المهدى إليه، والميل هو المحذور في القاضي فافترقا.
وهذا المعنى الذي لمحناه في الصدقة ينبغي أن نفهمه، فإن الصدقة، والهدية، والهبة، ثلاثتها مندوبات، ويثاب عليها، إذا قصد بها وجه الله، فلابد من مميز للصدقة عنهما والمميز ما أشرنا إليه، من أن الصدقة لله، فاللام هنا لام الملك، واللام في قولنا وهب لله وأهدى لله لام التعليل، فالمتصدق ممتلك لله كما تقول: ينتقل الوقف لله، والمهدي مملك للمهدي إليه، وقد يكون لأجل الله، فإذا عرفت هذا فلا منة للمتصدق على الفقير، ولا تمليك منه له، ولا يد له عليه، يطلب منه مجازاته بها، وإن وجد ميل من الفقير إليه بسببها، فلأن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، من غير أن تكون الصدقة تتقاضى ذلك، وتستدعيه، كما تستدعيه الهدية، فإن المهدي في العادة يستدعي الثواب على هديته، من المهدي إليه، إما بالمال وإما بغيره، بخلاف المتصدق، فإذا تحقق للقاضي الفقير هذا المعنى، ومال بعد ذلك بسبب الصدقة، يكون أخرق، وأيضًا فإن الهدية إنما تحرم على القاضي إذا كانت بسبب الولاية، لقوله صلى الله عليه وسلم:"أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر هل يهدي له أم لا"؟
فدل على أن ما يهدي له لو كان في بيت أبيه وأمه حلال، وما يهدي له لغير ذلك حرام، والصدقة تعطي له لفقره، الذي لو كان في بيت أبيه وأمه، كان متصفا به، فهي كالهدية/ للعالم والصالح ليست من الولاية في شيء، هذا إذا تحقق هذا القصد أو غلب على ظنه، ومن هذا يمكن أن يقال إذا سمع شخص من بلاد بعيدة بعلمه فأهدى إليه لعلمه أو صلاحه ولم يعلم بولايته، يجوز له القبول، ولا يكون في معنى الهدية للحاكم.
وأما كون التنزه عنها أولى، فصيانة لمنصب القضاء، فإنه ينبغي أن يكون بعين الكمال، وبعض العوام المتصدقين، لجهله قد ينظر من يأخذ صدقته، بعين النقص، وقوله: ما أمكن، لأنه قد تشتد حاجته إليها، فيكون القبول أولى، دفعا لحاجته وحاجة عياله.
وأما كون ذلك يتخذ وسيلة إلى الرشا فلا، لأن الحاكم والمتصدق متى فهما ذلك زال المحذور، ويكون المتصدق إذا لم يخلص نيته بذلك، مضيعا لماله، ولا يقبل قوله فيما قال خلافه، ولا تبقى حالته مستدعية ميل القاضي إليه وأن مال القاضي مع ذلك كان أخرق.
وأما المعنى الذي حرمت الهدية لأجله، فقد أبدينا الفرق بينهما، وأن المعنى ليس موجودا في الصدقة، فضلا عن كونه قويا، وتأمل قولنا: الصدقة لله، ولو كان معناه ثواب الآخرة، لم يكن فرق بينهما، وبين الهدية،
وإنما بمعناه، أنها تملك لله كالوقف، ولو حرمنا على القاضي الصدقة حرمنا عليه الوقف، لأنه صدقة.
وأما الخلاف في رجوع الوالد في صدقته على ولده، فقد يكون لهذا المعنى، فإن كونه ملكا لله، يقتضي عدم الرجوع، ويعلل الوجه الآخر، بأن ذلك أمر تقديري، لا تحقيقي.
وهذا البحث من كون الصدقة يقدر انتقال الملك فيها إليه، ثم إلى الفقير، بحث ابتكرته، ليس عندي فيه نقل، والله أعلم.