الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة السابعة والخمسون
قال: ابن الأستاذ: يستحب لمن رأى ليلة القدر، أن يكتمها ما الحكمة في ذلك، وما الدليل عليه؟ وهل ذلك موجود في كلام الأصحاب، أم لا؟.
الجواب: (الحمد لله)
استحباب كتمانها، ذكرته أنا، في شرح المنهاج، وأظن الشيخ محيى الدين رحمه اله في شرح المهذب، ثم رأيته فيه عن صاحب الحاوي، ثم رأيته في الحاوي والحكمة فيه أن رؤيتها كرامة، والكرامة كلها ينبغي كتمانها، أما كونها كرامة، فلأنها أمر خارق للعادة/ اختص الله به بعض عباده، من غير صنع منه.
وأما أن الكرامات ينبغي كتمانها، فذلك مما لا خلاف فيه، بين أهل الطريق بل لا يجوز إظهارها، إلا لحاجة، أو قصد صحيح، لما في إظهارها
من الخطر من وجود: منها: رؤية النفس، فيظن أن ذلك إنما ظهر عليه، لصلاحه وعلو منزلته عند الله، ورفعه على أبناء جنسه، واختصاصه بحسن السابقة والخاتمة، وقد يكون الأمر بضد ذلك كله، لما يحتمل أن يكون استدراجا. أنه بعيد عن عين الله تعالى، فالواجب عليه أن لا يغتر بذلك، وأن يحتقر نسه، ويود لو كان نسيا منسيا.
ومنها: أنه قد يداخله في الإخبار بها رياء أو حظ نس، فيسلب ما أنعم الله به عليه، نعوذ بالله من السلب، بعد العطاء، ومن الزيغ بعد الهدى، من أدعية القرآن (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) ومن أدعية بعض الصالحين: اللهم لا تعاقبنا بالسلب، بعد العطاء.
ومنها: أنه ينبغي لمن ظهرت عليه الكرامات،، أن يمتلئ قلبه بعظمة الله، الذي أهداها إليه، وقدرته على ذلك وجلاله، وكيف اختصه بها مع حقارته، ومعصيته، وحجبها عن كثير من خلقه، ممن لعلهم خير منه، ويزيد في خدمته، وخشيته والأدب معه، وإذا اشتغل بها وبالحديث عنها كان كمن خلع عليه الملك خلعة، اشتغل عن خدمته باستحسانها والنظر إليها،
وعرضها على الناس حكم بفوته، بذلك من أضعافها، ومن الواجب عليه، في خدمة سيده. ومنها: أنه ما دام في حال الدنيا لا يأمن مكر الله، فهب أنه ظهر على يديه ما لا يحصى من الكرامات، ثم ختم له بسوء، ماذا يغني عنه؟ فلا سرور إلا في القبور، أما تعرض الأصحاب لذلك فأكثرهم لم يتعرضوا له، لأنه ليس من مقصود التصانيف الفقهية الذين هم بصددها، وإن كانوا رضي الله عنهم عارفين بها، فقد سبقونا إلى كل خير وهم يعلمون ما لا يقولون، ونحن قد نقول ما لا نعلم.
وأما الدليل على ذلك فيكي ما ذكرناه من المخاوف مع إجماع/ أهل الطريق.
وقد يستأنس له بقوله تعالى: حكاية عن يعقوب عليه السلام وقوله ليوسف: (يا بني لا تقصص رؤياك، على إخوتك) فقياس عليه كتمان كل نعمة، يخشى من إظهارها، والكرامات إذا أظهرها لغير أهلها، من غير حاجة، قد يحسد عليها، أو يكذبوه، أو ينصبوا إليه الغوائل، فيشوشوا عليه قلبه، هذا زيادة على الأخطار التي قدمناها. س
وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما قال: وهو يخطب على المنبر "يا سرية الجبل، من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم" قالت الصحابة: ما يقول؟ فقال لهم على: دعوه، فما دخل في شيء إلا خرج منه، سيعود إليكم، ثم عاد إلى خطبته، فلما فرغ من صلاة الجمعة سألوه فقال: لا أعلم ما تقولون، أو قريب من هذا اللفظ، ثم ظهر أن في ذلك اليوم كان العدو
عملوا مكيدة للجيش الذي ساريه مقدمة بنهاوند، وأن صوت عمر بلغهم في تلك الساعة، فكشفوا الجبل، فوجدوا المكيدة.
فإما أن يكون عمر رضي الله عنه علم تفصيل الحال وكتمه، وروي في كتمانه، وإما أن يكون أجراه الله على لسانه، وحكايات الصالحين في كتمان
ذلك لا تحصى، وإنما يباح إظهارها لأحد رجلين، إما من يرجى أن ينفعه الله بها، وإما معاند يقام عليه الحجة بها، أو يظهرها الله من غير صنع من صاحبها، وقد يستدل بدليل خاص على كتمان ليلة القدر، بقوله صلى الله عليه وسلم "رأيت ليلة القدر ثم أنسيتها" وقوله:"فخرجت لأخبركم بها فتلاحى، فلان وفلان، فرفعت" ووجه الدلالة أن الله تعالى قدر لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه لم يخبر بها، والخير كله فيما قدره له صلى الله عليه وسلم، فنتبعه في ذلك.