الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثامنة والأربعون
في التتمة: أنه يكره رش القبر بماء الورد، وأن يطلى بالخلوق. وقال ابن الأستاذ: لأنه إسراف وإضاعة مال. انتهى.
وهذا التعليل يقتضي التحريم، فهل هذا الفعل حرام أم لا؟ وما القول الأحق في إضاعة المال؟ والضابط المرجوع إليه فيه، فقد تكرر في كلام الأصحاب، تارة يحرمونه، تارة يقتصرون على الكراهة.
والمسئول إيضاح ذلك، فالضرورة داعية إلى معرته.
الجواب: (الحمد لله)
كراهية رش القبر بماء الورد، وأن يطلى بالخلوق، لا ينتهي إلى
التحريم، بل غايتها كراهة تنزيه، ولابد من تفصيل، وقد ينحط به ذلك عن درجة الكراهة، وقد يترقى إلى درجة التحريم، وهذا التفصيل يتبين مما سأذكره إن شاء الله تعالى.
والتعليل بالإسراف، والإضاعة في التتمة، وإنما ابن الأستاذ ناقل.
والضابط في إضاعة المال، أن يكون لا لغرض ديني، ولا دنيوي، فمتى انتفى هذان الغرضان من جميع وجوههما، حرم قطعا، قليلا كان المال، أو كثيرا، ومتى وجد واحد من الغرضين وجودا له مال، وكان الاتفاق/ لائقا بالحال، ولا معصية فيه جاز قطعا، وبين المرتبتين وسائط كثيرة جدا، لا يمكن أن تدخل تحت ضبط لكن الفقيه يرى فيها رأيه، فيما انتشر، ومنها: أمور لم تنتشر، تعرض لها الفقهاء في كتبهم، فمن ذلك الإنفاق في الحرام وهو إضاعة الأموال كلها، لأن الله تعالى جعل الأموال قياما لمصالح العباد، وأمر بحفظها، أو إنفاقها فيما أذن فيه، فجعلها في غير ذلك تضييع لها، محرم بالنهي عن إضاعة المال، وبقوله صلى الله عليه وسلم (أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تفسدوها) مضافا إلى التحريم الحاصل م المعصية التي أنفق فيها، فصار التحريم في ذلك من ثلاث جهات، إخراج المال المنهي عنه نهي
التزام، بقوله (أمسكوا)، وإضاعة المنهي عنه نهي مطابقة، بنهيه صلى الله عليه وسلم (عن إضاعة المال) وإضاعته وضعه في غير موضعه، وهو معنى زائد على عدم الإمساك، والمعصية التي وضعه فيها حتى إذا كانت صغيرة، تصير باجتماع هذين الأمرين كبيرة، ولا نظر مع ذلك إلى ما يحصل معه، من غرض دنيوي، من لذة جسم، أو قضاء شهوة، لأن تلك أغراض شيطانية، أبطل الشرع حكمها فصار وجود هذا الغرض الدنيوي كعدمه، فدخل تحت قولنا: إنه لا لغرض ديني، ولا دنيوي، فيحرم قطعا، قليلا كان المال، أو كثيرا.
والشافعي رضي الله عنه يسميه إسرافا، لأن الإسراف مجاوزة الحد، وهذا قد جاوز الحد، فإنه بالإنفاق في المعصية تعدى حدود الله تعالى، لأن العاصي خارج بفعله من الشريعة، وكل من خرج من الشريعة، فقد تعدى حدودها، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، ولك أن تجعل هذه جهة رابعة للمعصية، فإن الخروج عن الحد/ إلى المعصية غير المعصية التي خرج إليها، فالخروج منهى عنه، بقوله (ولا تسرفوا) والمعصية منهى عنها بالنهي الخاص فيها، فصارت المعاصي أربعة: عدم الإمساك، والإضاعة والإسراف، والفعل المحرم بخصوصه.
ومن ذلك من تصدق بماله كله فليس بحرام، لأنه لا سرف في الخير،
والصدقة خير وقصدها غرض أخروي، وهذا لا شك فيه، فيمن يصبر كأبي بكر الصديق رضي الله عنه أما من لا يصبر على الإضافة، فقد ذكر الفقهاء حكمه، وهو، منقسم إلى مكروه، وحرام.
فانظر كيف وجد الغرض الأخروي، وانقسم إلى جائز، ومكروه وحرام. ومن ذلك من أنفق ماله في ملاذه المباحة، ولكنه زائد على ما يليق بحاله: اختلف الفقهاء هل يسمى إسرافا أو لا؟ والشافعي رضي الله عنه لا يسميه إسرافا، ويجعل الإسراف الإنفاق في الحرام، ولو درهما، وعليه يحمل قوله تعالى:(وكلوا واشربوا ولا تسرفوا) وهذا الحمل قد يظهر في هذه الآية.
وأما قوله تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا، ولم يقتروا، وكان بين ذلك قواما).
فالظاهر منه أن الزيادة على اللائق بالحال إسراف، فينبغي أن يقال: الإسراف لفظ مشترك، بين المعصية، وزيادة النفقة، والمشهور من المذهب ومذاهب العلماء خلافه، فعلى المشهور حصلت الإباحة مع تجرد الغرض الدنيوي، بل بعض الأغراض الدنيوية، دون بعض.
ومن ذلك أمور قد يضعف الغرض فيها، فلا يكون قويا، وتتفاوت مراتب القوة، والضعف فيه، تفاوتًا كثيرا، ومع ذلك يتفاوت المال المبذول فيها، تفاوتا كثيرا بالقلة والكثرة، فيمن بذل مالا كثيرا، في غرض يسير تافه،
عده العقلاء مضيعا، ومن بذل مالا كثيرا تافها في غرض صحيح وإن كان يسيرا لم يعد مضيعا، وكذلك القصد/ الأخروي يختلف بالنسبة إلى قيام الدليل عليه، والإخلاص فيه، فقد يقصد الشخص خيرا ولا يكون في الشرع دليل على استحبابه، بل يكون تركه أولى، فعلى من يقصد الفتوى في ذلك التحري والإحاطة بمدارك الشرع، ومقاصد العقلاء.
ورش القبر بماء الورد إن كان يسيرا، وقصد به حضور الملائكة، وأنها تحب الطيب لا بأس به، ولا يكره في هذا الحال، والإكثار منه لذلك مكروه، والإكثار منه لا لقصد الملائكة، بل للتفاخر والزينة حرام، فهذه أمثلة ليتنبه بها لغيرها، ويقاس عليها، واله يرزقنا فهما وعلما، ويجعل لنا من كل حظ من الخير قسما.