الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الأَوَّلُ
في ترجمة الإمام أحمد
لكون "العمدة" مسوقةً لأدلة مذهبه، ولذكره له فيها، فأقول:
هو الإمام المبجَّل أبو عبد الله أحمدُ بنُ محمدِ بنِ حنبلِ بنِ هلالِ بنِ أسدِ بنِ إدريسَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ حَيَّانَ -بفتح الحاء المهملة وتشديد التحتية وبعد الألف نون- بنِ عبدِ الله بنِ أنسِ بنِ عوفِ بنِ قاسط بنِ مازنِ بنِ شيبانَ بنِ ثعلبةَ بنِ عُكابةَ بنِ صعبِ بنِ عليِّ بنِ بكرِ بنِ وائلِ بنِ قاسطِ بنِ هِنْب -بكسر الهاء وإسكان النون وبعدها موحدة- بنِ أَفْصى -بالفاء والصاد المهملة- بنِ دعمي بنِ جديلةَ بنِ أسدِ بنِ ربيعةَ بنِ نزارِ بنِ مَعَدِّ بنِ عدنانَ، الشيبانيُّ المروزيُّ البغداديُّ.
هكذا ذكره ابن خَلِّكان في تاريخه "وَفَيَات الأعيان"، وقال: هذا هو الصحيح في نسبه، وقيل: إنه من بني مازنِ بنِ ذُهْلِ بنِ شيبانَ بنِ ثعلبةَ بنِ عُكابةَ.
قال ابن خَلكان: وهو غلط (1).
وهذا الذي قال عنه ابنُ خلكان: إنه غلطٌ؛ هو الذي اعتمده الخطيب
(1) انظر: "وفيات الأعيان" لابن خلكان (1/ 63 - 64).
الحافظ البغدادي (1)، والحافظ البيهقي، وابنُ عساكر (2)، وابنُ طاهر (3)، وقدمه في "المُطْلِعِ"(4) وغيره، والذي اعتمده ابنُ خلكان قاله عباسٌ الدوري (5)، وابنُ ماكولا (6)، ومشى عليه الإمامُ الموفق في "المغني"(7).
وهما شيبانان، أحدُهما: شيبانُ بنُ ثعلبةَ بنِ عُكابةَ بنِ صعبِ بنِ عليِّ بنِ بكرِ بنِ وائلٍ، والآخرُ: شيبانُ بنُ ذُهْلِ بنِ ثعلبةَ بنِ عُكابةَ، وذهلُ بنُ ثعلبةَ المذكورُ هو عم ذهلِ بنِ شيبان.
وفي هذا النسب منقَبَةٌ عظيمة، ورتبةٌ جليلة جسيمة من جهتين:
إحداهما: اجتماعُ نسبه بنسب سيدِ العالَم صلى الله عليه وسلم في نزار؛ فإن نزاراً كان له أربعة بنين، منهم مُضَرُ، ونبينا صلى الله عليه وسلم من ولده، ومنهم ربيعة، وإمامُنا رضي الله عنه من ولده.
قال ابنُ قتيبةَ في "المعارف": أما أنمارُ بنُ نزار، فولد خثعمَ، وبجيلةَ، وصاروا باليمن، وأما مضرُ، وربيعةُ، فإليهما ينسَبُ ولدُ نزار، وهما الصريح من ولد إسماعيل، انتهى (8).
(1) انظر: "تاريخ بغداد" للخطيب البُغدادي (4/ 414).
(2)
انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (5/ 252).
(3)
انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (11/ 178)، و"المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 422).
(4)
انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 421، 422).
(5)
كما رواه عنه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(4/ 413).
(6)
انظر: "الإكمال" للأمير أبي نصر بن ماكولا (2/ 563).
(7)
انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 19).
(8)
انظر: "المعارف" لابن قتيبة (ص: 64).
والثانية: أن الإمام أحمدَ من صميم العرب، ومن صريح ولد إسماعيل عليه السلام، وبالله التوفيق (1).
* وكان أبو إمامنا محمدُ بنُ حنبلٍ واليَ "سَرَخْسَ"، وكان من أبناء الدعوة العباسية، تُوفي وله ثمانون سنة، وكانت وفاته سنة تسع وسبعين ومئة، فكان للإمام أحمد يومئذٍ خمس عشرة سنة؛ فإن أمه حملت به بـ "مرو"، وقدمت "بغداد" وهي حامل به، ولما قدم أبواه "نهروان" في مجيئهما من "مرو"، صادفهما أعرابي على جسر نهروان على ناقةٍ له، فلما رأى أمه وهي حاملٌ به، قال لها: أيتها المرأة! احفظي ما في بطنك، فسيكون له شأن، فلما قدمت بغداد، وضعته، فنشأ بها، وَوِلَيْته أمه، وهي -كما قال ابن بَطَّةَ- شيبانية (2)، واسمها صفيةُ بنتُ ميمونِ بنِ عبدِ الله الشيبانيِّ من بني عامر، نزل أبوه بهم، فتزوجها، وجدُّها عبدُ الملك بن سوادةَ بنِ هندٍ الشيبانيُّ من وجوه بني شيبان، تنزل به قبائل العرب للضيافة، فحاز سيدُنا الإمامُ أحمدُ رضي الله عنه شرفَ النسَبين، وكمل له بأصليه الشرِيفَينِ تمام الشرَفَين.
* ولد الإمام أحمد رضي الله عنه سنة أربع وستين ومئة في يوم الجمعة في شهر ربيع الأول، وتوفي رضي الله عنه يوم الجمعة سنة إحدى وأربعين ومئتين، وله سبع وسبعون سنة، ودُفن ببغداد، وقبره الآن قد وارته الدجلة رضي الله عنه.
* وكان رجلاً ربعةً من الرجال، حسنَ الوجه، حسنَ الهيئة، يَخْضِب بالحِناء خضاباً ليس بالقاني، في لحيته شعراتٌ سود، وثيابه بِيضٌ، يلبَسُ
(1) انظر: "طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى الحنبلي (1/ 5).
(2)
انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 19).
العِمامة والإزار، والغليظَ الأبيض من الثياب، ولبس في الشتاء قميصين وجبةً ملونةً، وربما لبس قميصاً وفرواً، وربما لبس الفرو فوق الجبة في البرد الشديد، ويلبس العمامة فوق القَلَنْسوة، وربما لبس القلنسوةَ بغير عِمامة، ولبس السراويل والرداء، ولم يُرَ لابساً طيلساناً قط، ولم يُرْخ كُمًّا في مشيه، وكانت سراويله فوق كعبه، وخضب لحيته ورأسه بالحناء وهو ابن ثلاث وستين سنة، وكان لا يخوض في شيء من أمور الناس، ذا وقار وسكينة، مِنْ أحيا الناس وأكرمِهم نفساً، وأحسنهم عشرة وأدباً، كثيرَ الإطراقِ وغضِّ البصر، معرِضاً عن اللغو، لا يُسْمَع منه إلا المذاكرةُ بالحديث، وذكر الصالحين.
قال الإمام أبو داود: كانت مجالس الإمام أحمدَ مجالسَ آخرة، لا يُذكر فيها شيء من أمر الدنيا، قال: وما سمعته ذكر الدنيا قَط (1).
وقال ثعلبٌ في صفته: رأيت رجلاً كأن النار توقد بين عينيه (2).
وقال عبد الملك الميموني: ما أعلم أني رأيت أحداً أنضرَ ثوباً ولا أشدَّ تعاهداً لنفسه في ثيابه وشعر رأسه وبدنه من الإمام أحمد بن حنبل (3).
وكان يحب الفقراء، ويعرض عن أهل الدنيا، وكان حسنَ الخلق، دائم البِشْر، لينَ الجانب، ليس بفظٍّ ولا غليظ، يحب في الله، ويُبغض في الله، ويحب لمن أحبهُ ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لها، لا تأخذه في الله لومة لائم، حسن الجوار، يؤذَى فيتحمل، وكان أصبرَ الناس على الوَحْدة،
(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 291).
(2)
انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 205).
(3)
انظر: "صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 340)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (11/ 208).
فكان لا يُرى إلا في مسجدٍ، أو جنازة، أو عيادة مريضٍ، وكان يكره المشي في الأسواق، وكان يقول: أشتهي ما لا يكون؛ أشتهي مكاناً ليس فيه أحد (1).
وقال: ما أبالي ألا يراني أحد ولا أراه، وإن كنت لأشتهي رؤيةَ عبد الوهاب (2).
وقال: الخلوةُ أَرْوَحُ لقلبي (3).
وقال: أريد [أن] أنزل بمكة، فألقي نفسي في شِعْب من الشعاب حتى لا أُعرف (4).
وكان يقال: لم يكن أشبهَ برسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه هدياً وسمتاً من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وكان أشبهَ النَّاس بهدي عبدِ الله وسمته علقمةُ بن قيس، وكان أشبهَ الناس بعلقمةَ إبراهيمُ النخعي، وكان أشبهَ الناس بإبراهيمَ منصورُ بنُ المعتمر، وكان أشبه الناس بمنصورٍ سفيانُ الثوري، وكان أشبهَ الناس بسفيانَ وكيعُ بنُ الجراح.
قال محمدُ بنُ يونسَ: وكان أشبهَ الناس بوكيعٍ الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ - رضوان الله عليهم أجمعين - (5).
* واعلم أنه لا شُبهةَ عند أئمة الدين بأن الإمام أحمد إمامُ السنة، وأنه أجمعُ الأئمة بل الأمة حديثاً، وقد روت عنه أئمة الأمصار، قديماً وحديثاً.
(1) انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (11/ 226).
(2)
رواه ابن الجوزي في "مناقب الإمام أحمد"(ص: 280).
(3)
انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (11/ 226).
(4)
انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 281).
(5)
انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (11/ 317).
ابتدأ في طلب الحديث سنة تسع وسبعين، فكان يتأسف على عدم اجتماعه بأئمةٍ من المسلمين، منهم الإمامُ مالكُ بنُ أنسٍ إمامُ فى دار الهجرة، وحَمَّادٌ، وابنُ المبارك، وغيرُهم، وكان يقول: فاتني مالكٌ، فأخلف الله عليَّ سفيانَ بنَ عُيينة، وفاتني حَمَّادٌ، فأخلفَ الله عليَّ إسماعيلَ بن عُلَيَّة (1).
* وقد روى عن سفيانَ بنِ عيينةَ، والإمامِ الشافعي، ويزيدَ بنِ هارونَ، ويحيى بنِ سعيدٍ القطان، وإبراهيمَ بنِ سعدٍ، وهُشَيْمٍ، ووَكيعٍ، وإسماعيلَ بنِ عُلَيَّةَ، وعبدِ الرحمن بنِ مَهْدِي، وعبدِ الرزاقِ، وجريرِ بنِ عبدِ الحميدِ، ومُعْتَمِرِ بنِ سليمان، والقاضي أبي يوسفَ، وأبي الوليد الطيالسي، وأبي نُعَيْمٍ الفضلِ، وأبي عاصمٍ النبيل، وأبي بكرِ بنِ عَيَّاش، وخلائقَ لا يُحصون، ذكرهم الحافظ ابنُ الجوزيِّ وغيرُه على حروف المعجم (2)، وقد سمع منهم الحديث في أقطار الأرض التي سار إليها ودخلها، منها مكةُ والمدينةُ واليمنُ والكوفةُ وبصرةُ والحجازُ والشامُ والثغورُ والسواحلُ والمغربُ والجزائرُ والعراقين (3) جميعاً، وأرضُ فارسَ، وخراسانُ، والجبالُ والأطرافُ ومصرُ وغيرُها.
* وقد روى عنه من الأئمة ما لا يمكن حصرُه في مثل هذا الكتاب، حتى رؤى عنه من كبار أشياخه، فروى عنه: الإمامُ الشافعي، وعبدُ الرزاق الصنعانيُّ، وعبدُ الرحمن بن مَهْدي، ويزيدُ بن هارون، ويحيى بن آدم،
(1) انظر: "طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى (1/ 99)، و"المنتظم" لابن الجوزي (9/ 226)، و"التقييد" لابن نقطة (ص: 163).
(2)
انظر "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 83).
(3)
كذا في الأصل، والصواب: والعراقان.
وأبو الوليد، ومعروفٌ الكَرْخِي، وعلي بنُ المديني، وأبو زُرعةَ، والبخاري، ومسلم، وأبو داودَ، وإبراهيمُ الحربي، وأبو زُرْعَةَ الرازي، وأبو زرعة الدمشقي، وأبو بكر الأثرم، وأبو بكر بن أبي الدنيا، وأبو القاسم البَغَوي، وأبو حاتم الرازي، وأحمد بن أبي الحواري، وموسى بنُ هارون، وحنبلُ بنُ إسحاق، وعثمانُ بنُ سعيدٍ الدارمي، وخلائقُ كثيرون، ذكرهم الحافظ أبو الفَرَج بنُ الجوزي على حروف المعجم (1) ..
وكان الإمام أحمد رضي الله عنه محباً للعلم، مكثراً من الحديث، وكان يقول: ما تزوجت إلا بعدَ الأربعين (2).
وكان رضي الله عنه مكثراً من الشيوخ، حتى وقع له أنه أخذ عن ثلاثة من الشيوخ ثلاثَ مئةِ ألف حديث، وهذا القدرُ كافٍ في عُلُو مرتبته، وهم: بهزُ بنُ أسدٍ، وعفانُ، وأظنه قال: وَرَوْحُ بنُ عُبادة.
ومن عظيم ما اتصل بنا من حفظه: قولُ أبي زرعة الرازي: إن كتبه كانت اثني عشر حِمْلاً، وكان يحفظها كلَّها عن ظهر قلبه (3).
وقال عبد اللهِ بنُ الإمام أحمدَ: سمعت أبا زُرعةَ يقول: كان أبوكَ يحفظ ألفَ ألفِ حديث (4).
(1) انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 90).
(2)
رواه ابن أبي يعلى الحنبلي في "طبقات الحنابلة"(1/ 63).
(3)
رواه الخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"(2/ 176 - 177).
(4)
رواه الخطيب في "تاريخ بغداد"(4/ 419)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 296)، وابن الجوزي في "المنتظم"(11/ 287).
وقيل لأبي زرعةَ: من أحفظُ مشايخ المحدثين؟ قال: أحمد (1).
وقال عبدُ الوهاب الوراق: ما رأيت مثلَ أحمدَ بنِ حنبلٍ، قالوا له: وأي شيء بانَ لك من فضلهِ وعلمه على سائر مَنْ رأيتَ؟ قال: رجل سُئل عن ستين ألفَ مسألةٍ، فأجابَ فيها بأن قال فيها: حدثنا، وأخبرنا (2).
قلت: قد انفرد الإمام أحمد رضي الله عنه بثلاثِ مناقبَ لا أعلم من الأمة أحداً اشترك في واحدة منها:
الأولى: أنه أحاط بالسُّنة، ولا نعلم أحداً من الأئمة وصف غيره بها، وقد وصفه بها أئمةٌ من حفاظ المسلمين؛ كالحافظ ابن حجر العسقلاني، وغيره، وهذه رتبةٌ رفيعة، ودرجة منيعة، ودائرة وسيعة، وبالله التوفيق.
الثانية: ذكر الحافظ جلالُ الدين السيوطي في "ثمار منتهى العقول في منتهى النقول"(3) ما نصه: انتهى الحفظُ لابن جريرٍ الطبري فريد [عصره] في علم التفسير، فكان يحفظ كتباً حمل ثمانين بعيراً، وحفظ ابن الأنباري في كل جمعة ألف كراس، وحفظ ثلاث مئة ألف بيت من الشعر استشهاداً للنحو، وكان الإمام الشافعي يحفظ من مرة أو نظرة، وابن سينا الحكيمُ حفظَ القرآنَ في ليلة واحدة، وأبو زُرعةَ كان يحفظ ألفَ ألفِ حديث، والبخاري حفظَ عشرها، وقال: والكل من بعض محفوظ الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، انتهى.
(1) انظر: "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" للخطيب (2/ 177)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 337).
(2)
رواه ابن أبي يعلى الحنبلي في "طبقات الحنابلة"(1/ 210).
(3)
طبعت هذه الرسالة في "مجلة التراث العربي" بدمشق، سنة (1993 م)، العدد (51)، بتحقيق بديع السيد اللحام، تحت اسم:"مشتهى العقول في منتهى النقول".
الثالثة: أنه سئل عن ستين ألف قضية، فأجاب عن جميعها بـ: حدثنا، وأخبرنا، وهذا ما لا يدخل تحت وُسْع أحدٍ من المجتهدين، فضلاً عن غيرهم، ولقد سُئل كثير من الأئمة عن أقلَّ من معشار عشرها، فأحجم عن الجواب عن أكثرها (1)، وإلى هذا أشار الإمام الصرصري في لامِيته بقوله:[من الطويل]
حَوَى أَلْفَ أَلْفٍ مِنَ أَحاديثِ أُسْنِدَتْ
…
وأَثْبَتَها حِفْظاً بِقَلْبٍ مُحَصِّلِ
أجابَ على سِتِّينَ ألفَ قَضِيَّةٍ
…
بِأَخْبَرَنا لا مِنْ صَحائِفِ نُقَّلِ
وكَانَ إِماماً فِي الحَدِيثِ وحُجَّةً
…
لِنَقْلِ صَحِيحٍ ثَابِتٍ ومُعَلَّلِ
وكَانَ إِمَاماً في كِتَابٍ وسُنَّةٍ
…
وعِلْمٍ وزُهْدٍ كامِلٍ وتَوَكُّلِ (2)
وأقول: ينبغي أن يلحق بما ذكر رابعةٌ: وهي ما ذكره الحافظ ابن الجوزي وغيرُه من الأئمة: أنه لما تُوفي الإمام أحمدُ بنُ حنبل رضي الله عنه، أسلمَ يومَ موتِه عشرون ألفاً من اليهود والنصارى والمجوس (3)،
(1) إلا ما رواه الحافظ يعقوب بن سفيان الفسوي في "المعرفة والتاريخ"(2/ 238)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(35/ 162)، عن الهقل بن زياد: أنه قال: أجاب الأوزاعي في سبعين ألف مسألة، أو نحوها.
وروى ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(35/ 163)، عن أبي زرعة أنه قال: بلغني أنه دوَّن عنه -أي: الأوزاعي- ستين ألف مسألة.
(2)
للشيخ الفقيه الأصولي سليمان بن عبد القوي أبو الربيع نجم الدين الطوفي الصرصري، المتوفى سنة (716 هـ)، قصيدة في مدح الإمام أحمد وأصحابه، ذكرها له ابن رجب في "ذيل طبقات الحنابلة"(2/ 368)، وفي مواضع أخرى. وانظر:"كشف الظنون" لحاجي خليفة (2/ 1343).
(3)
انظر: "تاريخ بغداد" للخطيب (4/ 422)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (5/ 333)، و"الأنساب" للسمعاني (2/ 277)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (10/ 342). قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (11/ 343) بعد أن ساق هذه الحكاية بإسناده: "هذه حكاية منكرة، تفرد بنقلها هذا المكي عن هذا الوركاني، =
وأشار إلى هذه الإمام الصرصري في لاميته بقوله:
وَعِشْرُونَ أَلْفاً أَسْلَمُوا حِينَ عَايَنُوا
…
جِنَازَتَهُ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مُضَلَّلِ
وصَلَّى عَلَيْهِ أَلْفُ أَلْفِ مُوَحِّدٍ
…
وسِتُّ أَمْيِ أَلْفٍ فَأَعْظِمْ وَأَكْمِلِ
فَقَدْ بانَ بَعْدَ المَوْتِ لِلنَّاسِ فَضْلُهُ
…
كَمَا كَانَ حَيًّا فَضْلُهُ ظاهرٌ جَلِي
أَقَرَّ لَهُ بالفَضْلِ أَعْيانُ وَقْتِهِ
…
وأَثْنَوا عَلَيْهِ بِالثَّنَاءِ المُبَجَّلِ
وقد أكثر الأئمةُ من الثناء على الإمام أحمد، فقال الإمام الشافعي: خرجت من بغداد وما خَلَّفت فيها أحداً أورعَ ولا أتقى ولا أفقه -وأظنه قالَ: ولا أعلمَ- من أحمدَ بنِ حنبل (1).
وقال: ما خلفت بالعراق أحداً يشبه أحمدَ (2).
وقال الربيع: قال لنا الشافعي: أحمدُ إمامٌ في ثمانِ خِصالٍ: إمامٌ في الحديث، إمام في الفقه، إمام في اللغة، إمام في القرآن، إمام في الفقر، إمام في الزهد، إمام في الورع، إمام في السنة (3).
= ولا يُعرف، وماذا بالوركاني المشهور محمد بن جعفر الذي مات قبل أحمد بن حنبل بثلاث عشرة سنة، وهو الذي قال فيه أبو زرعة: كان جاراً لأحمد بن حنبل. ثم العادة والعقل تحيل وقوع مثل هذا، وهو إسلام ألوف من الناس لموت وليٍّ لله، ولا ينقل ذلك إلا مجهول لا يعرف، فلو وقع ذلك، لاشتهر ولتواتر؛ لتوفر الهمم والدواعي على نقل مثله، بل لو أسلم لموته مئة نفس، لقضي من ذلك العجب، فما ظنك؟! ".
(1)
رواه ابن أبي يعلى الحنبلي في "طبقات الحنابلة"(1/ 18)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 272)، وابن نقطة في "التقييد" (ص: 160).
(2)
انظر: "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي (9/ 31)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (5/ 271).
(3)
انظر: "طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى (1/ 5).
وقال الشافعي لأحمد: يا أبا عبد الله! إذا رأيتَ الحديثَ الصحيح فأخبرني حتى أذهبَ إليه.
وفي رواية أخرى: أنه قال لأحمد: أنت أعلمُ بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبرٌ صحيحٌ، فأعلمْني به حتى أذهبَ إليه، كوفياً كان أو مصرياً أو شامياً، ذكر ذلك البيهقي وغيره (1).
ومما امتدحه به الإمامُ الشافعي بالبيتين المشهورين، وهما:[من الكامل]
قَالُوا يَزُورُكَ أَحْمَدٌ وتَزُورُهُ
…
قُلْتُ الفَضَائِلُ لا تُفَارِقُ مَنْزِلَهْ
إِنْ زَارَنِي فَبِفَضلِهِ أَوْ زُرْتُهُ
…
فَلِفَضْلِهِ فَالفَضْلُ في الحالَيْنِ لَهْ (2)
قال الشيخ العلامة الشيخ مرعي في "مناقب الأئمة المجتهدين":
ويقال: إن الإمام أحمدَ أجابه بقوله: [من البسيط]
إنْ زُرْتَنا فَبِفَضْلٍ مِنْكَ تَمْنَحُنَا
…
أَوْ نَحْنُ زُرْنَا فَلِلْفَضْلِ الَّذِي فِيكَا
فَلَا عَدِمْنَا كِلَا الحَالَيْنِ مِنْكَ ولَا
…
نَال الَّذِي يَتَمَنَّى فِيكَ شَانِيكَا
وقال عبد الرزاق: رحل إلينا أربعةٌ من رؤساء الحديث: الشاذكوني -وكان أحفظَهم للحديث-، وابنُ المديني -وكان أعرفَهم باختلافه-، ويحيى بنُ معين -وكان أعلمَهم بالرجال-، وأحمدُ بنُ حنبلٍ -وكان أجمَعهم لذلك كله- (3).
وفي هذا منقَبةٌ عظيمة للإمام أحمدَ؛ حيث إن هؤلاء الأربعةَ أعظمُ من
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 170)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(51/ 385).
(2)
انظر: "شذرات الذهب" لابن العماد (2/ 98).
(3)
انظر: "شرح علل الترمذي" لابن رجب (1/ 481).
رحل إلى عبد الرزاق، وأعظمُهم الإمامُ أحمد، وقد قال: ما قدم علينا أحدٌ يشبه أحمد (1).
وكذلك يزيد بن هارون لم يكن لأحد أشدَّ تعظيماً منه لأحمدَ بنِ حنبل، كان يُقعده إلى جنبه، وكان يوقره ولا يُمازحه، حتى ضحك إنسانٌ بحضرة يزيد بن هارون، وأحمدُ حاضر، فغضبَ يزيدُ وقال: أتضحكون وأحمدُ هاهنا؟! (2)
وقال وكيع: ما قدم الكوفةَ مثلُ أحمد (3).
وقال عبد الرحمن بنُ مهدي: أحمدُ أعلمُ الناس بحديث سفيان (4)، وقال: من أراد أن ينظر إلى ما بين كتفي الثوري، فلينظر إلى هذا -يعني: الإمامَ أحمدَ- (5).
وقال يحيى بنُ سعيدٍ القَطانُ: ما قدم عليَّ مثلُ أحمدَ، ويحيى بنِ معين (6).
وقال أيضاً: ما قدم علي أحدٌ من بغداد أحبُّ إليَّ من أحمد (7).
(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 270).
(2)
انظر: "حلية الأولياء" لأبي نعيم (9/ 169)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (5/ 269).
(3)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 268).
(4)
رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"(1/ 292)، ومن طريقه: أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 164)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 269).
(5)
رواه ابن أبي يعلى الحنبلي في "طبقات الحنابلة"(1/ 207).
(6)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 167)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 268).
(7)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 268).
وقال لمن ذكر أحمد: أتذكر حبراً من أحبار هذه الأمة؟ (1)
وقال عليُّ بنُ المَديني: اتخذت أحمدَ إماماً فيما بيني وبين الله - تعالى -، ومَنْ يقوى على ما يقوى عليه أحمد (2)؟
وقال أيضاً: إذا ابتليتُ بشيء، فأفتاني أحمد بن حنبل، لم أبال إذا لقيت ربي كيف كان (3).
وقال أيضاً: أحمد سيدنا (4).
وسئل التحديثَ فقال: إن سيدي أحمدَ أمرني ألا أحدث إلا من كتاب (5).
وقال أيضاً: أحمد عندي أفضل من سعيد بن جبير في زمانه؛ إذ كان لسعيد نَظيرٌ، وليس لهذا نظير (6).
وقال: حفظ الله أحمد، هو اليومَ حجةُ الله على خلقه (7).
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 172)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 268).
(2)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 279).
(3)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 279).
(4)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 165)، ومن طريقه: الخطيب في "تاريخ بغداد"(4/ 417)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 278).
(5)
رواه الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"(2/ 12)، وابن أبي يعلى في "طبقات الحنابلة"(1/ 227)، والسمعاني في "أدب الإملاء والاستملاء" (ص: 47)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 280).
(6)
رواه ابن أبي يعلى في "طبقات الحنابلة"(1/ 228)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 314 - 315).
(7)
رواه ابن نقطة في "التقييد"(ص: 159).
وقال: قد أيد الله هذا الدين برجلين لا ثالثَ لهما: أبو بكر يومَ الردة، وأحمدُ يوم المحنة (1).
وقال أيضاً: ما قام أحدٌ من الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قام أحمد، فقيل له: ولا أبو بكر؛ فقال: ولا أبو بكر؛ فإنه كان له أعوانٌ، ولم يكن لأحمدَ أعوان (2).
والثناء على الإمام أحمد أزيدُ من [أن] يذكر، وأكثر من أن يحصر، وورعه وزهده وإعراضه عن الدنيا معروف، وكان رضي الله عنه إذا رأى نصرانياً، غمض عينيه، فقيل له في ذلك، فقال: لا أقدر أن أنظر إلى من افترى على الله كذباً (3)، وكان يُؤْثِر الخمولَ، فلا يحب أن يجريَ له ذكر.
ودخل عليه عمه يوماً ويدُه تحت خَده، فقال له: ما هذا؟ فرفع رأسه وقال: طوبى لمن أخمل ذكره (4).
وكان يقول: الأعمالُ بخواتيمها، وكان كثيراً ما يقول: رب سلِّم سلِّمْ (5).
وقال ابنه عبد الله: سمعت أبي يقول: وددت أَني نجوتُ من هذا الأمر كَفافاً، لا علي ولا لي (6).
(1) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد"(4/ 418)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 278).
(2)
رواه الخطيب في "تاريخ بغداد"(4/ 418)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 278).
(3)
انظر: "طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى (1/ 12، 56).
(4)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 308 - 309): أن رجلاً دخل على أحمد
…
إلخ.
(5)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 181 - 182).
(6)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 183 - 184).
وقال: كان أبي يصلي كل يوم وليلة ثلاث مئةِ ركعة، فلما ضعف، صلى مئة وخمسين، قال: ولما كبر أبي، زادَ في الاجتهاد (1).
وكان للإمام أحمد كراماتٌ ظاهرة، وحالات باهرة؛ كان بعضُهم يكتب عندَه، فانكسر قلمُه، فأعطاه قلماً آخر، فروي أنه وضعه على نخلة لم تكن تحملُ فحملت.
وسئل الدعاءَ لمُقْعَدَةٍ فقال: نحنُ أحوج إلى الدعاء، ثم دخلَ فدعا لها، فلما ذهب السائل إلى المرأة، دق عليها الباب، فخرجت برجليها وفتحت، فقالت: قد وهب الله - تعالى - العافيةَ (2).
واحترق بيتٌ بما فيه، فلم يسلَمْ من الحريق إلا ثوبُ الإمام أحمدَ، فنظروا فإذا هو على السرير، والنار قد أكلت ما حولَه ولم تتعرضْ له.
وكم له من كرامة! كيف لا وقد قال للكرى: مَهْ، وأطاع مولاه، وشكره على ما أولاه، وناداه فما رد نداه، وأعطاه ما توخاه، ودفع عنه ما آذاه، - فرضوانُ الله عليه وعلى من والاه -.
وقد قال قتيبةُ وأبو حاتم: إذا رأيتَ الرجلَ يحب الإمام أحمدَ بنَ حنبلٍ، فاعلمْ أنه صاحبُ سُنة (3).
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 181)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 300).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 187)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 299 - 300).
(3)
رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"(1/ 308) عن قتيبة بن سعيد. ورواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(52/ 14) عن أبي حاتم سهل بن محمد.
وقال ابنُ ماكولا: الإمامُ أحمدُ هو إمام النقل، وعَلَم الزهد والوَرَع (1).
وفي قصيدة إسماعيلَ بنِ فلان الترمذيِّ التي أنشدها الإمامَ أحمدَ بنَ حنبل وهو في السجن: [من الطويل]
لَعَمْرُكَ ما يَهْوَى لأَحْمَدَ نَكْبَةً
…
مِنَ الناسِ إِلا نَاقِصُ العَقْلِ مُعْوِرُ
هُوَ المِحْنَةُ اليَوْمَ الَّذِي يُبْتَلَى بهِ
…
فَيُعْتَبَرُ السُّنِّيُّ فينا وَيُسْبَرُ
شَجًى في حُلوقِ المُلْحِدِينَ وَقُرَّةٌ
…
لِأَعْيُنِ أَهْلِ النُّسْكِ عَفٌّ مُشَمِّرُ
فَقَا أَعْيُنَ المُرَّاقِ فِعْلُ ابْنِ حَنْبَلٍ
…
وَأَخْرَسَ مَنْ يَبْغي العُيوبَ وَيَحْفِرُ
جَرَى سابِقاً في حَلْبَةِ الصِّدْقِ والتُّقَى
…
كما سَبَقَ الطِّرْفَ الجَوادُ المُضَمَّرُ
إلى أن يقول:
فَيَا أَيُّهَا السَّاعِي لِيُدْرِكَ شَأْوَهُ
…
رُوَيْدَكَ عَنْ إِدْرَاكِهِ سَتُقَصِّرُ (2)
وقال عبدُ السلامِ بنُ عليٍّ: أنشدنا أبو مُزاحمٍ الخاقانيُّ له: [من الطويل]
لَقَدْ صَارَ فِي الآفَاقِ أَحْمَدُ مِحْنَةً
…
وَأَمْرُ الوَرَى فِيَها فَلَيْسَ بِمِشْعَلِ
تَرَى ذا الهَوَى جَهْلاً لأَحَمْدَ مُبْغِضاً
…
وَتَعْرِفُ ذا التَّقْوَى يُحِبُّ ابنَ حَنْبَلِ (3)
ومما يُنسب للإمام الشافعي رضي الله عنه، والمشهورُ أنها لابن أَعين وكع بهما لأهلِ البدع:[من الكامل]
أَضْحَى ابْنُ حَنْبَلَ حُجَّةً مَبْرُورَةً
…
وبِحُبِّ أَحْمَدَ يُعْرَفُ المُتَنَسِّكُ
وَإِذا رَأَيْتَ لِأحْمَدٍ مُتَنَقِّصاً
…
فَاعْلَمْ بِأَنَّ سُتُورَهُ سَتُهَتَّكُ (4)
(1) انظر: "الإكمال" لابن ماكولا (2/ 563).
(2)
انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 427).
(3)
انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 430 - 431).
(4)
رواه الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد"(4/ 420)، ومن طريقه: ابن عساكر =
قال أبو محمدٍ جعفرُ بنُ أحمدَ بنِ حسينٍ السراجُ البغداديُّ في الإمام أحمدَ رضي الله عنه: [من الطويل]
سَقَى اللهُ قَبْراً حَلَّ فيهِ ابْنُ حَنْبَلٍ
…
مِنَ الغَيْثِ وَسْمِيًّا على إِثْرِهِ وَلِي
عَلَى أَنَّ دَمْعِي فِيهِ رَوَّى عِظَامَهُ
…
إِذَا فاضَ مَا لَمْ يَبْلَ مِنْهَا ومَا بَلِي
فَلِلَّهِ رَبِّ النَّاسِ مَذْهَبُ أَحْمَدٍ
…
فَإِنَّ عَلَيْهِ ما حَيِيتُ مُعَوَّلِي
دَعَوْهُ إِلَى خَلْقِ القُرَانِ كَمَا دَعَوا
…
سِوَاهُ فلَمْ يَسْمَعْ وَلَمْ يَتَأَوَّلِ
ولا رَدَّهُ ضَرْبُ السِّيَاطِ وسَجْنُهُ
…
عن السُّنَّةِ الغَرَّاءِ والمَذْهَبِ الجَلِي
ولَمَّا يَزِدْهُمْ والسِّيَاطُ تَنُوشُهُ
…
فَشَلَّتْ يَمِينُ الضَّارِبِ المُتَبَتِّلِ
على قَوْلهِ القُرْآنُ وَلْيَشْهَدِ الوَرَى
…
كَلامُكَ يارَبَّ الوَرَى كَيْفَمَا تُلِي
فَمَنْ مُبْلِغٌ أَصْحَابَهُ أَنَّنِي بهِ
…
أُفَاخِرُ أَهْلَ العِلْمِ في كل مَحْفَلِ
وأَلْقَى بهِ الزُّهَّادَ كُلَّ مُطَلِّقٍ
…
مِنَ الخوفِ دُنياهُ طَلَاقَ التَّبَتُّلِ
لَقَدْ عاشَ في الدُّنْيا حَمِيداً مُوَفَّقاً
…
وَصارَ إِلى الأُخْرَى إلى خَيْرِ مَنْزِل
وإنِّي لأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَفِيعَ مَنْ
…
تَوَلَّاهُ مِنْ شَيْخٍ ومِنْ مُتَكَهِّلِ
ومِنْ حَدَثٍ قَدْ نَوَّرَ اللهُ قَلْبَهُ
…
إذا سَأَلوا عَنْ أَصْلِهِ قالَ حَنْبَلِي (1)
وحج الإمام أحمدُ رضي الله عنه خمسَ حجات، ثلاث حجج ماشياً، واثنتين راكباً، وأنفق في بعض حجاته عشرين درهماً.
وكان رضي الله عنه شيخاً أسمرَ طُوالاً، يخضبُ رأسه ولحيته بالحناء وهو ابنُ ثلاث وستين سنة خضاباً ليس بالقاني، وكان حسنَ الوجه، في لحيته شعراتٌ سود، وكانت ثيابه غِلاظاً، إلا أنها بِيضٌ.
= في "تاريخ دمشق"(5/ 323)، عن ابن أعين، وعندهما:"محنة مأمونة" بدل "حجة مبرورة".
(1)
انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 432 - 433).
وقال ابنه عبد الله: ما مشى أبي في سوق قط.
وكان رضي الله عنه أصبرَ الناس على الوَحْدة، ولم يره أحدٌ إلا في المسجد، أو حضور جنازة، أو عيادة مريض (1).
وعن حسين بن إسماعيل قال: سمعت أبي يقول: كان يجتمع في مجلس أحمد زُهاءُ على خمسةِ آلاف أو يزيدون، أقل من خمسِ مئة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب وحسن السمت (2).
وقال أبو بكر المطوعي: قد اختلفتُ إلى الإمام أحمدَ اثنتي عشرةَ سنةً وهو يقرأ "المسند" على أولاده، فما كتبتُ منه حديثاً واحداً، وإنما كنت أنظرُ إلى هَدْيه وأخلاقه وآدابه (3).
وكان رضي الله عنه مُهاباً جداً، حتى قالَ الحسنُ بنُ أبي أحمدَ والي الجسرِ: دخلت على فلان وفلان -وذكر السلاطين- ما رأيتُ أهيبَ من أحمدَ بنِ حنبلٍ، صرت إليه أكلمه في شيء، فوقعت عليَّ الرعدةُ حين رأيتُه من هَيبته.
قال المَرُّوذِيُّ: ولقد طرقه الكلبي صاحبُ السر ليلاً، فمن هيبته لم يقرعوا عليه بابه، ودقوا باب عمه، قال الإمام أحمد: فسمعت الدق، فخرجت إليهم (4).
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 184)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 298).
(2)
انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (11/ 316).
(3)
انظر: "خصائص المسند" لأبي موسى المديني (ص: 18)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (11/ 316).
(4)
انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (11/ 317).
وقال عبدوس: رآني أبو عبد الله يوماً ضاحكاً، فأنا أستحييه إلى اليوم (1).
وعن خلف بن سالم قال: كنا في مجلس يزيدَ بنِ هارون، فمزحَ يزيدُ مع مُستمليه، فتنحنح أحمدُ بنُ حنبل، فضرب يزيدُ بيده على جبينه، وقال: ألا أعلمتموني أن أحمد هاهنا حتى لا أمزح؟! (2)
وكان إسماعيلُ بنُ عُلَيَّةَ إذا أُقيمت الصلاة، قال: هاهنا أحمد بن حنبل، فقولوا له يتقدم فيصلي بهم (3).
وضحك أصحابُه يوماً، فقال: أتضحكونَ وعندي أحمدُ بنُ حنبل؟! (4).
وقال أبو داود: مجالسةُ أحمدَ بنِ حنبلٍ مجالسة الآخرة، لا يُذكر فيها شيء من أمر الدنيا، ما رأيت أحمدَ بنَ حنبلٍ ذكرَ الدنيا قَط (5).
وقال: لم يكن أحمدُ يخوض في شيء مما يخوض فيه الناس من أمر الدنيا، فإذا ذُكر العلم، تكلم (6).
وقال أبو الحسين بنُ المنادي: سمعت جَدِّي يقول: كان أحمدُ من أحيا
(1) انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 212).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 169)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 269).
(3)
انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (11/ 194).
(4)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 267).
(5)
تقدم تخريجه.
(6)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 164)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 291)، وابن الجوزي في "المنتظم"(11/ 287).
الناس، وأكرمِهم نفساً، وأحسنهم عشرة وأدباً، كثيرَ الإطراق والغَضِّ، معرضاً عن القبيح واللغو، لا يُسمع منه إلا المذاكرةُ بالحديث، وذكرُ الصالحين والزهاد، في وقار وسكون ولفظٍ حسن، وإذا لَقِيَه إنسانٌ، بَشَّ به، وأقبل عليه، وكان يتواضعُ للشيوخ تواضعاً شديداً، وكانوا يكرمونه ويعظمونه (1).
وقال رضي الله عنه: أُمرنا أن نتواضعَ لمن نتعلم منه (2).
وكان من دعائه رضي الله عنه: اللهم كما صُنْتَ وجهي عن السجود لغيرك، فصنْ وجهي عن المسألة لغيرك (3).
وكان من دعائه: اللهم لا تُكثر علينا فنطغى، ولا تُقلل علينا فننسى، وهبْ لنا من رحمتك وسَعَة رزقك ما يكون بلاغاً لنا وغنًى من فضلك (4).
وكان يدعو في دُبر كل صلاة: اللهم إني أسألك مُوجباتِ رحمتك، وعزائمَ مغفرتك، والغنيمةَ من كل بِرّ، والسلامةَ من كل إثم، والفوزَ بالجنة، والنجاةَ من النار، ولا تدعْ لنا ذنباً إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرجته، ولا حاجة إلا قضيتها (5).
وكان من دعائه: اللهم لا تشغلْ قلوبنا بما تكفلْتَ لنا به، ولا تجعلْنا في رزقك خَوَلاً لغيرك، ولا تمنعْنا خيرَ ما عندك بِشَرِّ ما عندَنا، ولا تَرَنا حيثُ
(1) انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (11/ 317 - 318).
(2)
رواه الخطيب في "تاريخ بغداد"(9/ 134)، وفي "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"(1/ 198)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(52/ 324).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 233).
(4)
انظر: "البداية والنهاية" لابن كثير (10/ 329).
(5)
انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 294).
نهيتَنَا، ولا تَفْقِدْنا من حيثُ أمرتنا، أعزَّنا ولا تذلَّنا، أعزنا بالطاعة، ولا تذلنا بالمعاصي (1).
وقال لمن طلب منه أن يزوِّده بالدعاء عند خروجه إلى سفر: قلْ: يا دليلَ الحيارى! دُلني على طريق الصادقين، واجعلني من عبادك الصالحين (2).
وتُوفي الإمام أحمدُ رضي الله عنه صدرَ النهار من يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومئتين، وله سبع وسبعون سنة، وكان مرضُه تسعةَ أيام وبعضَ العاشر، ولما مات، صاح الناسُ، وعلَت الأصواتُ بالبكاء حتى كأن الدنيا قد ارتجَّتْ.
قال عبدُ الله بنُ الإمامِ أحمدَ: وقعدَ الناسُ، فخفنا أن ندعَ صلاةَ الجمعة، فأشرتُ عليهم، فأخبرتهم أنا نخرجه بعدَ صلاة الجمعة (3).
قال المَرُّوذي. لما أردتُ غسلَه، جاء بنو هاشم، فاجتمعوا في الدار خلقاً كثيراً، فأدخلناه البيت، وأرخينا الستر، وجللناه بثوب حتى فرغنا من أمره، ولم يحضره أحدٌ غريب، فلما فرغنا من غسله، وأردنا أن نكفنه، غلبنا عليه بنو هاشم، وجعلوا يبكون عليه، ويأتون بأولادهم فيبكون عليه ويقبلونه (4).
(1) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد"(10/ 287)، وابن أبي يعلى في "طبقات الحنابلة"(1/ 205)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ 320). وقوله:"خولاً" أي: ملكاً لغيرك.
(2)
انظر: "كرامات الأولياء" للالكائي (ص: 233).
(3)
انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 413).
(4)
انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 414).
وأرسل ابنُ طاهر أكفاناً، قال المروذي: فرددتُها، وقال له رجل: قد أوصى أن يُكفن في ثيابه، فكفناه في ثوب كان له مروزي أراد أن يقطعه، فزدنا فيه وجبرناه ثلاثَ لفائفَ (1).
وكان عند الإمام أحمد رضي الله عنه ثلاثُ شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، فأوصى أن يجعل في كل عين شعرة، وعلى لسانه شعرة (2).
قال المروذي: ووضعناه على السرير، وشددناه بالعمائم، وحُملت جنازته، وصلى عليه محمدُ بنُ عبد الله بن طاهر (3).
وحزر مَنْ حضر جنازته من الرجال بمئةِ ألف، ومن النساء بستين ألفاً، غير من كان في الطرق وفي السفن وعلى السطوح، وقيلَ أكثرُ من ذلك، وقد بالغَ بعضُهم حتى ذكر ما لا يقبله العقل.
وقد قال عبد الوهاب الوراق: ما بلغنا أنه كان للمسلمين جمعٌ أكثر منهم على جنازة الإمام أحمدَ بنِ حنبل إلا جنازةً في بني إسرائيل (4).
وعن أبي الحسن التميمي عن أبيه، عن جده: أنه قال: حضرتُ جنازةَ الإمام أحمدَ، قالَ: فمكثتُ طولَ الأسبوع رجاءَ أن أصل إلى قبره، فلم أصل من ازدحام الناس عليه، فلما كان بعد أسبوع، وصلتُ إلى القبر (5).
(1) انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 418).
(2)
انظر: "صفة الصفوة" لابن الجوزي (2/ 357)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (11/ 337).
(3)
انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 206).
(4)
رواه الخطيب في "تاريخ بغداد"(4/ 422)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 332).
(5)
انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 418).
وكان الإمام أحمدُ رضي الله عنه يقول: بيننا وبين أهل البدع الجنائز (1)، فأظهرَ اللهُ صدقَ مقالته، وأوضحَ ما منحَه من كرامته، فرضي الله تعالى عنه وعن أشياخه وأتباعه ومحبيه، وعن سائر العلماء والأئمة وأتباعهم بإحسان.
ومما يروى للإمام أحمدَ من الشعر، ما رواه ابنُ الجوزي بسنده عن أحمدَ بن يحيى ثعلبٍ - وهو من أصحابه ونَقَلة مذهبِه -: أنه أولَ ما دخل عليه قالَ له الإمام أحمدُ: فيم تنظر؟ قال: في النحو والعربية، فأنشده:[من الطويل]
إِذَا ما خَلَوْتَ الدَّهرَ يَوْماً فَلا تَقُلْ
…
خَلَوْتُ، ولكِنْ قُلْ: عَلَيَّ رَقِيبُ
ولا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفُلُ سَاعَةً
…
وَلا أَنَّ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ يَغِيبُ
لَهَوْنا عَنِ الأَيَّامِ حَتَّى تَتَابَعَتْ
…
ذُنُوبٌ عَلَى آثَارِهِنَّ ذُنُوبُ
فَيَا لَيْتَ أَنَّ اللهَ يَغْفِرُ ما مَضَى
…
وَيَأْذَنُ فِي تَوْبَاتِنَا فَنَتُوبُ
إِذَا مَا مَضَى القَرْنُ الَّذِي أَنْتَ فِيِهمُ
…
وَخُلِّفْتَ فِي قَرْنٍ فَأَنْتَ غَرِيبُ (2)
وسُمع يوماً يقول: [من البسيط]
تَفْنَى اللَّذَاذَةُ مِمَّنَ نَالَ صَفْوَتَها
…
مِنَ الحَرَامِ وَيَبْقَى الإِثمُ والعارُ
تَبْقَى عَوَاقِبُ سُوءٍ مِنْ مَغَبَّتِهَا
…
لا خَيْرَ في لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِها النَّارُ (3)
(1) رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 332).
(2)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 220)، والخطيب في "تاريخ بغداد"(5/ 205)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(13/ 455)، وابن نقطة في "التقييد" (ص: 163)، وابن الجوزي في "مناقب الإمام أحمد" (ص: 205).
(3)
رواه الخطيب في "تاريخ بغداد"(11/ 458)، ومن طريقه: ابن الجوزي في "المنتظم"(11/ 218)، وفي "مناقب الإمام أحمد" (ص: 205).
ورُوي من قوله في عليِّ بنِ المدينيِّ رحمه الله لما أجاب في المحنة: [من الكامل]
يا بْنَ المَدِيِنيِّ الَّذِي عُرِضَتْ لَهُ
…
دُنْيَا فَجَادَ بِدِينِهِ لِيَنَالَهَا
مَاذَا دَعَاكَ إِلَى انْتِحَالِ مَقَالَةٍ
…
قَدْ كُنْتَ تَزْعُمُ كَافِراً مَنْ قَالَها
أَمْرٌ بَدَا لَكَ رُشْدُهُ فَتَبِعْتَهُ
…
أَمْ زَهْرَةُ الدُّنْيَا أَرَدْتَ نَوَالَهَا
وَلَقَدْ عَهِدْتُكَ مَرَّةً مُتَشَدِّداً
…
صَعْبَ المَقَادَةِ لِلَّتي تُدْعَى لَهَا
إِنَّ المُرَزَّأَ مَنْ يُصَابُ بِدِينِهِ
…
لا مَنْ يُرَزَّأُ ناقَةً وفِصَالَهَا (1)
ويُروى أن الإمامَ أحمدَ رضي الله عنه كتب للإمام الشافعي رضي الله عنه: [من الكامل]
إِنْ نَخْتَلِفْ نَسَباً يُؤَلِّفْ بَيْنَنَا
…
أَدَبٌ أَقَمْنَاهُ مُقَامَ الوَالِدِ
أَوْ يَفْتَرِقْ مَاءُ الْوِصَالِ فَوِرْدُنَا
…
عَذْبٌ تَحَدَّرَ مِنْ إِناءٍ وَاحِدِ (2)
ومن كلام الإمامِ أحمدَ رضي الله عنه: إن لكل شيءٍ كرماً، وكرمَ القلوب الرضا عن الله - تعالى - (3).
وقال: عزيزٌ عليَّ أن تُذيبَ الدنيا أكبادَ رجالٍ وَعَتْ صُدورُهم القرآنَ (4).
(1) انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 206).
(2)
انظر: "تاريخ بغداد" للخطيب (8/ 251)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (12/ 25)، والبيتان لعلي بن الجهم قالها في أبي تمام.
(3)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(5/ 308).
(4)
رواه ابن الجوزي في "مناقب الإمام أحمد"(ص: 200).
وقال له الإمام عليُّ بنُ المديني: أوصني، قالَ: الزمِ التقوى، وانصبِ الآخرةَ أمامَك (1).
وسُئل عن الفتوة، قال: هي تركُ ما تهوى لما تخشى (2).
وسُئل يوماً: كيف أصبحتَ؟ قال: كيف أصبحَ مَنْ ربُّه يطالبه بأداء الفرض، ونبيُّه يطالبه بأداء السنة، والملَكان يطالبانه بتصحيح الأعمال، ونفسُه تطالبُه بهواها، وإبليسُ يطالبه بالفحشاء، وملَكُ الموت يطالبه بقبض روحه، وعيالُه يطالبونه بالنفقة؟! (3)
وقد مُدِحُ الإمامُ أحمدُ ورُثي بقصائدَ جمةٍ، وأثنى عليه جَهابِذَةُ اللغة بما يطولُ ذكره، ويعسُر سَبْرُه، فهذا التنويه يناسبُ ما نحن فيه.
وأما ذكرُ محنتِه ومتعلقاتِها، وأيامه وواقعاتها، وأحوالِه ومُفرداتها، وذكْرُ تصانيفه ومصنفاته، وحفظه وورعه وزهده، وتزويجه وزوجاته وأولاده، وغير ذلك من متعلقات ترجمته؛ فيُطلب من غير هذا المحل، فقد أُفردت ترجمتُه بالتأليف؛ فألف الحافظ البيهقي فيها مجلداً، وألف الحافظُ ابنُ الجوزي فيها مجلدين، وألف عبدُ الله بنُ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ الخزرجي المالكي جزءاً، وغيرُهم من علماء الإسلام، والله ولي الإنعام.
* * *
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(9/ 173)، والبيهقي في "الزهد الكبير"(2/ 334 - 335)، وابن أبي يعلى الحنبلي في "طبقات الحنابلة"(1/ 226).
(2)
رواه ابن الجوزي في "مناقب الإمام أحمد"(ص: 199).
(3)
انظر: "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص: 284).