الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السابع
عن حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ رضي الله عنه دَعَا بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إِنَائِهِ، فَغَسَلَهُما ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ في الوَضُوءِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ واسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثاً، ويَدَيْهِ إِلَى المِرْفَقَيْنِ ثَلاثاً، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِه، ثُمَّ غَسَلَ كِلْتَا رِجْلَيْهِ ثَلاثاً، ثُمَّ قالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يتَوَضَّأُ نَحوَ وُضُوئِي هَذَا، وَقالَ:"مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"(1).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (158)، كتاب: الوضوء، باب: الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، و (162)، باب: المضمضة في الوضوء، و (1832)، كتاب: الصوم، باب: السواك الرطب واليابس للصائم، و (6069)، كتاب: الرقاق، باب: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
…
} [لقمان: 33]. ورواه مسلم (226)، (1/ 204 - 205)، كتاب: الطهارة، باب: صفة الوضوء وكماله، وأبو داود (106)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، والنسائي (84)، كتاب: الطهارة، باب: المضمضة والاستنشاق، و (85)، باب: بأي اليدين يتمضمض، و (116)، باب: حد الغسل، وابن ماجه (285)، كتاب: الطهارة، باب: ثواب الطهور.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"إكمال المُعلم" للقاضي عياض (2/ 13)، و"المُفهم" للقرطبي (1/ 480)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 105)، و"شرح عمدة =
(عن حُمران) -بضم المهملة- بنِ أَبَانَ -بفتح الهمزة وتخفيف الموحدة - بنِ خالدِ بنِ عمرِو بنِ عقيلِ بنِ كعبٍ، وهو ابن عم صُهيب -بضم الصاد المهملة وفتح الهاء- بنِ سنان -بكسر السين المهملة، وبالنون- (مولى)؛ أي: عتيقِ سيدِنا (عُثْمانَ بْنِ عَفَّانَ) رضي الله عنه.
وكان حمران من سبي "عين التمر"، سباه خالد بن الوليد رضي الله عنه أولَ خلافة عمر، أو خلافة أبي بكرٍ رضي الله عنهما، على الخلاف في ذلك، فوجده غلاماً كيساً أحمر، فوجهه إلى عثمان رضي الله عنه، فأعتقه.
وقيل: كان للمسيب بن بحينة، فابتاعه عثمان منه، وكان يهودياً، وهو أول من دخل المدينة من سبي المشرق.
قال في شرح "الزهر البسام"(1): ويقال: إنه جد مالك بن أنس الإمام رضي الله عنه.
= الأحكام" لابن دقيق (1/ 32)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 259)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 5)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 42)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 171).
(1)
للشيخ الإمام محمد بن عبد الدائم بن موسى أبو عبد الله البرماوي العسقلاني ثم القاهري الشافعي المتوفى سنة (831 هـ)، كتاب:"الزهر البسام فيما حوته عمدة الأحكام من الأنام" وهو أرجوزة نظم فيها رجال "العمدة" للحافظ عبد الغني المقدسي، ابتدأ فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم الخلفاء الأربعة، والباقي على حروف المعجم.
ثم شرح هذه الأرجوزة، وسماه:"سرح النهر بشرح الزهر"، وقد فرغ منها سنة (796 هـ). انظر: "كشف الظنون لحاجي خليفة (2/ 958 - 959).
وله أيضاً: شرح العمدة، سماه:"العدة لفهم العمدة" لخصه من شرحها لشيخه ابن الملقن من غير إفصاح بذلك مع زيادات يسيرة، قال السخاوي: وعابه شيخنا =
روى عن عثمان عند الشيخين.
وروى عنه عروةُ بنُ الزبير، ومحمدُ بنُ المنكدر، وزيدُ بن أسلم، ثم تحول من المدينة لما غضب عليه مولاه عثمان رضي الله عنه، ونزل البصرة، فكان بها عيناً له، فلما قُتل مصعب، وثب، فأخذ البصرة، فادعى ولده أنهم من النَّمرِ بنِ قاسطٍ - بالقاف والسين المهملة -.
قال ابن سعدٍ: ولم أرهم يحتجون بحديثه مع كثرته.
قال قتادة: كان يصلي مع عثمان، فإذا أخطأ، فتح عليه، وكان كاتِبَه، ويأذنُ عليه.
توفي سنة خمسٍ وسبعين (1).
أخبر حمران - رحمه الله تعالى -: (أَنَّهُ رَأَى) مَوْلاهُ (عُثْمَانَ رضي الله عنه) ابنَ عفانَ بنِ أبي العاص. واسمه: الحارثُ بن أميةَ بنِ عبد شمسِ بنِ عبدِ منافٍ. كنيته: أبو عبد الله - على الراجح -.
وقيل: أبو عمرٍو. قاله ابن عبد البر.
قيل: وَلدتْ له رقيةُ بنتُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ابناً، فسماه: عبدَ الله، واكتنى
= - أي: ابن حجر - بذلك. انظر: "الضوء اللامع" للسخاوي (7/ 280 - 282)، و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة (4/ 101). قلت: والشارح رحمه الله ينقل في مواضع كثيرة من شرحه هذا من كتاب "الزهر البسام" و"شرحه" وكذا "شرح العمدة".
(1)
وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 283)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 80)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 265)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 179)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (15/ 172)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 182)، و"تهذيب الكمال" للمزي (3/ 21)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 180)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (3/ 21).
به، ومات، ثم وُلد له عمرٌو، فاكتنى به إلى أن مات.
قال ابن الأثير: يقال: كان يُكْنى في الجاهلية: أبا عمرٍو، فلما وَلَدتْ له رقيةُ عبدَ الله، اكتنى به.
وأم عثمان: أروى، وأمها: أم حكيمٍ البيضاءُ بنتُ عبد المطلب، عمةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
ويلقب عثمان بذي النورين.
قيل للمهلب بن أبي صفرة: لِم قيل لعثمان: ذو النورين؟ قال: لأنه لم يُعلم أحد أُرسل ستراً على ابنتي نبي غيره، نقله ابن عبد البر، وابن الأثير.
وقيل: لأنه ورُقيةَ كانا أحسنَ زوجين في الإسلام، فالنوران: نورُ نفسه، ونورُ رُقية.
وأما ذو النور -بالإفراد-، فلقب للطفيل بنِ عمرٍو الدوسي، كما بيَّنتُهُ في السيرة. أسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه قديماً، على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وكان يقول: إني رابع أربعةٍ في الإسلام، وهاجر للحبشة فاراً بدينه مع زوجته رقية، وكان أول خارجٍ إليها، وتابعه سائر المهاجرين إلى الحبشة.
وفي "مسند أبي يعلى الموصلى" مرفوعاً: "إن عُثمانَ لأولُ مَنْ هاجَرَ إلى أرضٍ بأهله بعدَ لوطٍ"(1).
(1) ورواه يعقوب بن سفيان الفسوي في "المعرفة والتاريخ "(3/ 283 - 284)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(123)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(2/ 24)، والطبراني في "المعجم الكبير"(143)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(39/ 29)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
ثم هاجر الهجرة الثانية إلى الحبشة، ثم إلى المدينة.
ولما توفيت رقية [بعد] قفولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من وقعة بدرٍ الكبرى، زوَّجَهُ بنتَه الثانيةَ أمَّ كلثوم، فلما ماتت، قال له:"لو كانَ عندَنا ثالثةٌ لزوَّجْتُها عُثْمانَ"(1).
وفي "ربيع الأبرار" للزمخشري: "لو كانَ عندي أَربعون بِنْتاً لزوَّجْتُكَهُنَّ واحدَةً واحدَةً حتَّى تأتيَ عليهنَّ يا عُثمان"(2).
وبايع عنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديبية بيساره؛ لأنه كان قد بعثه إلى مكة في حاجةٍ لا يقوم بها غيره.
قال ابن عمر رضي الله عنهما: يدُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لعثمانَ خيرٌ من يدِ عثمانَ لنفسه (3).
وله مناقب لا تُحصى، منها: تجهيز جيش العسرة، وجمعه القرآنَ، ووقفُه بئرَ رومةَ، وتوسعتُه مسجدَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحدُ السابقين الأولين، وأحد الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة الذين بالجنة مبشرين،
(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(17/ 184)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(39/ 44)، عن عصمة بن مالك الخطمي رضي الله عنه. ورواه يعقوب بن سفيان الفسوي في "المعرفة والتاريخ"(3/ 223)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(39/ 45)، عن عبد الله بن الحر رضي الله عنه.
(2)
انظر: "ربيع الأبرار ونصوص الأخبار" للزمخشري (5/ 305)، ووقع عنده:"ولو أن عندي عشراً لزوجتهن إياه واحدة واحدة". والحديث رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(7/ 23)، والديلمي في "مسند الفردوس"(5032)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(39/ 42)، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(3)
رواه أبو يعلى في "مسنده"(5599)، ومن طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(39/ 262).
وأحد أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله مناقب ومزايا كثيرةٌ، ذكرنا طرفاً منها في أثناء "معارج الأنوار"(1).
بويع له بالخلافة بعد وفاة سيدنا عمر بثلاثة أيامٍ، يوم الجمعة غرة المحرم، فمكث خليفةً إحدى عشرة سنةً وأحد عشر شهراً وثلاثة عشر يوماً، ثم قُتل يوم الدار شهيداً، بعد أن حوصر في داره تسعةً وأربعين يوماً، أو شهرين وعشرين يوماً، وهو يومئذٍ صائمٌ.
ويروى أنه كان المصحف بين يديه يقرأ فيه، فوقعت قطرةٌ أو قطراتٌ من دمه على قوله - تعالى -:{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137].
واختلف فيمن باشر قتله:
فقيل: لا يعرف، وقيل: الأسود النخشي من أهل مصر، وقيل غير ذلك، وكان يوم الجمعة لثمان عشرة من ذي الحجة.
وقيل: يوم التروية سنة خمسٍ وثلاثين، وكان عمره يومئذٍ تسعين سنةً - كما اقتضاه ترجيح النووي في "تهذيب الأسماء واللغات".
وحكى الواقدي الاتفاق على أن عمره يومئذٍ: اثنتان وثمانون، ورجحه ابن الصلاح، وقال الذهبي: نَيفٌ وثمانون.
ودفن ليلة السبت في البقيع، في حُش كوكبٍ -بضم الحاء المهملة، أجودُ من كسرها، والشين المعجمة -، وهو بنيان لرجل من الأنصار يقال له: كوكب، وأُخفي قبره، وصَلى عليه: قيل الزبير، وقيل: حكيم بن حزامٍ، وقيل جبير بن مطعم.
(1) هو كتاب: "معارج الأنوار في سيرة النبي المختار" للشارح رحمه الله، تقدم التعريف به في مقدمة هذا الشرح الحافل، فلينظر في موضعه.
روي له رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مئة حديثٍ وستةٌ وأربعون حديثاً، اتفقا على ثلاثةٍ، وانفرد البخاري بثمانيةٍ، ومسلم بخمسةٍ (1).
فمما اتفقا عليه هذا الحديث - وهو قول حمران:
(أنه رأى) مولاه (عثمانَ) بن عفان رضي الله عنه وقد (دعا) -أي: طلب- أن يؤتى (بوضوء) -بفتح الواو-: اسم للماء، و-بضمها -: اسم للفعل، على الأكثر الأشهر.
قال ابن دقيق العيد: وإذا كان بفتح الواو اسماً للماء -كما ذكرنا-، فهل هو اسمٌ لمطلق الماء، أو للماء بقيد كونه يُتوضأ به، أو مُعداً للوضوء به؟ انتهى (2).
قال في "المطلع": الوُضوء -بضم الواو-: الفعل، و-بفتحها-: الماء المتوضَّأ به، هذا هو المشهور، وحُكي الفتح في الفعل، والضم في الماء، انتهى (3).
وتقدم في آخر الكلام على الحديث الثاني.
(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 53)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 208)، و"تاريخ الطبري"(2/ 679)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 1037)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (39/ 3)، و"المنتظم" لابن الجوزي (4/ 334)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 578)، و"الكامل في التاريخ" له أيضاً (3/ 74)، و"تهذيب الكمال" للمزي (19/ 445)، و"تذكرة الحفاظ" للذهبي (1/ 8)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (7/ 199)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 456)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (7/ 127).
(2)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 32).
(3)
انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 19).
وقال في "شرح الوجيز": الوضوء -بالفتح-: الماء المتوضأ به، هذا المشهور عند أهل اللغة، انتهى.
وفي "النهاية": الوضوء -بالفتح-: الماء الذي يتوضأ به؛ كالفَطور والسَّحور لِما يفطر عليه، ويُتسحر به، انتهى (1).
فعلم أنه لا بقيد كونِه يُتوضأ به، فعلى الصحيح يُستدل على طهارة الماء المستعمل نحو قول جابر رضي الله عنه: فصبَّ عليَّ من وَضوئه (2)؛ لأنه اسم للماء المتوضَّأ به دون مطلق الماء، ودون المُعَدِّ؛ لأنه يُتوضأ به، ولأنَّه وإن أطلق على المعد لأن يتوضأ به، فعلى سبيل المجاز، وأما المُتوضأ به، فعلى الحقيقة، والحملُ على الحقيقة أولى.
(فأفرغ)؛ أي: صبَّ عثمانُ رضي الله عنه (على يَدَيْهِ) -تثنية يدٍ- وأصلها: يَدَيٌ، فحذفت لامها.
فيه استحبابُ غسل اليدين في ابتداء الوضوء ما لم يكن قائماً من نوم ليلٍ، فيجب - على ما تقدم -، وأن يتولى طهارته بنفسه من غير معينٍ؛ لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يَكِلُ طَهورَه إلى أحدٍ، ولا صدقته التي يَتصدَّق بها، يكون هو الذي يتولاها بنفسه. رواه ابن ماجه (3).
(1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 194)، وانظر:"المُغرب" للمطرزي (2/ 358)، و"لسان العرب" لابن منظور (1/ 194)، (مادة: وضأ).
(2)
رواه البخاري (6344)، في أول كتاب: الفرائض، ومسلم (1616)، كتاب: الفرائض، باب: ميراث الكلالة.
(3)
رواه ابن ماجه (362)، كتاب: الطهارة، باب: تغطية الإناء، وانظر:"التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 97).
ولأن السعي في العبادة عبادةٌ، فكان انتهازها بالفريضة أولى؛ لأن الثواب على قدر النَّصَب.
روي عن الإمام أحمد رضي الله عنه: أنه قال: "ما أحبُّ أن يُعينني على وضوئي أحدٌ"؛ لأن عمر رضي الله عنه قال ذلك (1).
وتُباح المعونة، قاله في "الفروع"؛ اتفاقاً (2)؛ لما في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: أنه صبَّ الماءَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ. متفقٌ عليه (3).
وفي رواية عندهما: دعا -أي: عثمان رضي الله عنه بإناء، فأفرغ على يديه (4).
(من إِنائِهِ)؛ أي: الوعاء الذي كان به الماء المُعَدُّ لوضوئه، (فغسلهما)؛ أي: يديه.
قد يؤخذ منه: أن الإفراغ عليهما معاً، وقد تبين في رواية أخرى: أنه أفرغ بيده اليمنى على اليسرى، ثم غسلهما (5).
(1) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 95). وحديث عمر- رضىِ الله عنه - رواه أبو يعلى في "مسنده"(231)، وابن حبان في "المجروحين" (3/ 53). قال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: النضر بن منصور، عن أبي الجنوب، وعنه ابن أبي معشر، تعرفه؟ قال: هؤلاء حمالة الحطب.
(2)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 124).
(3)
رواه البخاري (180)، كتاب: الوضوء، باب: الرجل يوضِّئ صاحبه، ومسلم، (274)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين.
(4)
تقدم تخريجها عندهما في حديث الباب.
(5)
رواه أبو داود (109)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، من طريق أبي علقمة، عن عثمان رضي الله عنه، به.
وظاهره: أنه غسلهما مجموعتين، ويحتمل: أو متفرقتين، وبالأول أخذ علماؤنا (ثلاثَ مرات)، وفي رواية أبي ذرٍّ وأبي الوقت: ثلاثَ مِرار (1).
وفيه: غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء، وبيانٌ لما أهمل من ذكر العدد في حديث أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة المتقدم في قوله:"إذا استيقظَ أحدُكُمْ من نَوْمِهِ". وقد قدمنا أنه ورد في حديث أبي هريرة - أيضاً - ذكرُ العدد في "الصحيح" كما ذكره المصنف رحمه الله، (ثم) بعد غسل عثمان رضي الله عنه كفيه ثلاث مراتٍ، (أدخلَ يَمينَهُ)؛ أي: يده اليمنى، (في الوَضُوءِ) و-بالفتح-يعني: في الماء الذي له. فيه: الاغتراف باليمين، وأنه لا يشترط لذلك نية الاغتراف.
(ثم) أخرج بيمينه ماءً من الإناء (تَمَضْمَضَ) به، ولفظ المضمضة مشعرٌ بالتحريك، ومنه مضمض النعاسُ في عينيه، واستعمل في الوضوء؛ لتحريك الماء في الفم.
قال ابن دُريد في "الجمهرة": مضمض الماءَ في فيه: إذا حركه، ومضمض النعاسُ في عينيه: إذا دَبَّ فيهما.
ومنه قول الراجز:
وَصَاحِبٍ نَبَّهْتُهُ لِيَنْهَضَا
…
إِذَا الْكَرَى فِي عَيْنِهِ تَمَضْمَضَا (2)
ولفظة: "ثم" تقتضي الترتيب بين غسل اليدين والمضمضة. (واستنشَقَ) بالماء في منخريه.
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 259).
(2)
انظر: "جمهرة اللغة" لابن دريد (1/ 212).
وأصل الاستنشاق: إدخال الماء أو غيره في الأنف.
وفي "النهاية": أن يبلغ الماء خياشيمَه، وهو من استنشاق الريح: إذا شممتها مع قوةٍ (1).
قال علماؤنا: تسن المبالغة في المضمضة والاستنشاق إلا لصائمٍ، فتكره؛ وهي إدارة الماء إلى أقاصيهما، وتجزئ أدنى إدارةٍ، لا وضع الماء في فيه -بدون إدارته على المعتمد-، ولا يجعلها وجوراً وسعوطاً. نعم له بلعُه بعد الإدارة (2).
(و) بعد حصول الاستنشاق بالماء باجتذابه بنفَسه إلى أقصى الأنف (اسْتَنْثَرَ)، يقال: نثر يَنْثِر- بالكسر -: إذا امتخط، واستنثر: إذا استفعل منه؛ أي: استنشق الماء، ثم استخرج ما في الأنف، فَينْثِره، وقيل: هو من تحريك النَّثْرَة؛ وهي طرف الأنف (3).
وفيه: استحبابُ تقديم المضمضة على الاستنشاق، وعليه علماؤنا.
تنبيهات:
الأول: المعتمد من مذهبنا: وجوبُ المضمضة والاستنشاق، ويسميان: فرضين، فلا يسقطان سهواً، وسواء الطهارة الكبرى والصغرى؛ فإن الله سبحانه أمر بغسلٍ، وأطلق، وفسره النبيُّ صلى الله عليه وسلم بفعله وتعليمه، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه أخل بذلك، مع اقتصاره على المجزئ؛ وهو الوضوء مرةً
(1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 58).
(2)
انظر: "الكافي في فقه الإمام أحمد" لابن قدامة (1/ 26)، و"الفروع" لابن مفلح (1/ 117)، و"الإنصاف" للمرداوي (1/ 133)، و"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 94).
(3)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 14).
مرةً، وقول:"هَذَا الوُضُوءُ الَّذِي لا يَقْبَلُ اللهُ الصَّلاةَ إِلَاّ بِهِ"(1)، وفعلُه صلى الله عليه وسلم إذا خرج بياناً، كان حكمُه حكم ذلك المبين.
وفي حديث عائشة عند الدارقطني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المَضْمَضُةُ والاسْتِنْشاقُ مِنَ الوُضُوءِ الَّذِي لا بُدَّ مِنْهُ"(2). وفيه إرسالٌ ومقال.
وفي حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما مرفوعاً: "المَضْمَضَةُ والاستنشاقُ من الوُضُوءِ الذي لا يَتِمُّ الوُضوءُ إِلَّا بِهِما"(3). وفيه جابر الجعفي، وثقه سفيان الثوري وشعبة، والجمهور على تضعيفه.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالمضمضة والاستنشاق (4)، حديثٌ ثابت.
وفي حديث أبي هريرة المتَقدم في هذا الكتاب عند مسلم: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا تَوَضَّأَ أحدُكم، فَلْيَسْتَنْشِق بِمَنْخِرَيْهِ منَ الماءِ، ثمَّ لْيَنْتَثِرْ".
وقد رُوي عن عثمان بن عفان، وابن عباس، وسَلَمةَ بنِ قيسٍ، والمقدامِ بنِ معدي كربٍ، ووائلِ بنِ حجر.
(1) رواه ابن ماجه (419)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في الوضوء مرة ومرتين وثلاثاً، عن ابن عمر رضي الله عنهما. وانظر:"التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 82).
(2)
رواه الدارقطني في "السنن"(1/ 84)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(3/ 266)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 52)، والديلمي في "مسند الفردوس"(6689). وقد صحَّح الدارقطني إرساله.
(3)
رواه الدارقطني في "السنن"(1/ 100) وقال: جابر ضعيف، وقد اختلف عنه، والصواب إرساله.
(4)
رواه الدارقطني فىِ "السنن"(1/ 116)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 52). قال الحافظ ابن حجر في "الدراية" (1/ 19): روي مرسلاً، وهو أقوى.
وفي حديث لقيطِ بن صَبُرَةَ، قال: قلتُ: يا رسولَ الله! أخبرني عن الوضوء، قال:"أَسْبِغِ الوُضُوءَ، وخَلِّلْ بَيْنَ الأصابِعِ، وبالِغْ في الاستنشاقِ، إلا أَنْ تكونَ صائِماً" رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، والترمذي، وقال: حسنٌ صحيحٌ، ورواه ابنُ خزيمة في "صحيحه"، والحاكم، وصححه (1)، وزاد أبو داود في بعض رواياته:"إذا توضأتَ فتمضمضْ"(2).
وعن علي رضي الله عنه: أنه دعا بوَضوء، فتمضمض واستنشق، ونثر بيده اليسرى، فعل هذا ثلاثاً، ثم قال: هذا طَهورُ نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم. رواه الإمام أحمد، والنسائي، والدارقطني (3).
وبوجوب المضمضة والاستنشاق في الطهارتين قال إسحاقُ بنُ راهويه، وأبو عبيدٍ، وأبو ثورٍ، وابن المنذر.
ولأن الفم والأنف في حكم الظاهر، ألا ترى أن وضع الطعام واللبن والخمر فيهما لا يوجب فطراً، ولا ينشر حرمةً، ولا يوجب حداً، ويجب غَسلُ نجاسةٍ فيهما.
(1) رواه أبو داود (142)، كتاب: الطهارة، باب: في الاستنثار، والنسائي (114)، كتاب: الطهارة، باب: الأمر بتخليل الأصابع، والترمذي (788)، كتاب: الصوم، باب: ما جاء في كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم، وابن ماجه (448)، كتاب: الطهارة، باب: تخليل الأصابع، والإمام أحمد في "المسند"(4/ 211)، وابن خزيمة في "صحيحه"(150)، والحاكم في "المستدرك"(522).
(2)
رواه أبو داود (144)، كتاب: الطهارة: باب: في الاستنثار، إلا أنه قال:"فمضمض".
(3)
رواه النسائي (91)، كتاب: الطهارة، باب: بأي اليدين يستنثر؟ والإمام أحمد في "المسند"(1/ 135)، والدارقطني في "سننه"(1/ 90).
وإذا ورد الأمر بهما في الوضوء، وثبت فعلُهما وبيانُ حكمهما من فعلِه صلى الله عليه وسلم، وفعلِ مَنْ وصف وضوءه، ففي الغسل أولى؛ لأنه أعم وأسبغُ، وأقل مشقة؛ لعدمِ كثرةِ تكرارها.
احتج من لم يوجبها بحديث أم سَلَمة: "إنما يكفيكِ ثلاثُ حَثَياتٍ" رواه مسلم (1)، ولم يذكرِ المضمضةَ والاستنشاقَ.
وليس فيه حُجةٌ؛ لأن أم سَلَمة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله! إني امرأةٌ أشدُّ ضَفْرَ رأسي، أفأنقُضُه عند الغسلِ من الجنابةِ؟ فقال:"إنما يكفيكِ ثلاثُ حفناتٍ تَصُبينها على رأسِكِ"(2)؛ لأنها إنما سألته عن كيفية غسل رأسها، فبين لها ذلك، ولم يذكر لها نية ولا غيرها، ثم إن الذي ذكرهما معه زيادة علمٍ، وزيادةُ الثقة مقبولةٌ.
واحتجوا -أيضاً - بحديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الدارقطني مرفوعاً: "المضمضةُ والاستنشاقُ سُنَّةٌ"(3).
وهذا حديثٌ لا يصح عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وفي سنده إسماعيل بن مسلم: ليس بشيءٍ، قاله يحيى، وقال ابنُ المديني: لا يكتب حديثه.
وفيه القاسم بن غصن: قال ابن حبان: يروي المناكير عن المشاهير، ويقلب الإسناد.
(1) رواه مسلم (330)، كتاب: الحيض، باب: حكم ضفائر المغتسلة.
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(6/ 314)، بهذا اللفظ.
(3)
رواه الدارقطني في "السنن"(1/ 85، 101)، وقال: إسماعيل بن مسلم ضعيف، والقاسم بن غصن مثله، والخطيب في "تاريخ بغداد"(3/ 234)، والديلمي في "مسند الفردوس"(6688).
وفيه -أيضاً - سويد: قال النسائي: ليس بثقةٍ (1).
واحتجوا -أيضاً- بما رواه الترمذي: - وقال: حسنٌ صحيحٌ -من قوله- عليه السلام للأعرابي: "تَوَضَّأْ كما أمركَ اللهُ"(2)، فأحاله على الآية، وليس فيها ذكر المضمضة والاستنشاق.
والجواب عن ذلك احتمال أن يراد بالأمر ما هو أعمُّ من آية الوضوء؛ فقد أمر الله باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو المبيِّنُ عن الله أمرَه، ولم يحكِ أحدٌ ممن وصف وضوءه صلى الله عليه وسلم على الاستقصاء أنه ترك المضمضة والاستنشاق.
وفي "فتح الباري": ذكر ابنُ المنذر عن الشافعي: أنه لم يحتج على عدم وجوب الاستنشاق مع صحة الأمر به إلا لكونه لا يعلم خلافاً في أن تاركه لا يعيد (3). وهذا دليلٌ فقهي؛ فإنه لا يحفظ ذلك من أحد من الصحابة ولا التابعين، إلا عن عطاءٍ، وذكر عنه أنه رجع عن إيجاب الإعادة، انتهى (4).
وقد علمت الأدلة الناصبة أو الظاهرة في الوجوب، فلا يعدل عنها لرأي فقيه، والله أعلم.
الثاني: صفة المضمضة: إدارة الماء في الفم، والاستنشاق: اجتذاب
(1) انظر: "التحقيق في أحاديث الخلاف" لابن الجوزي (1/ 146 - 147).
(2)
رواه الترمذي (302)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في وصف الوضوء، وأبو داود (861)، كتاب: الصلاة، باب: من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه.
(3)
انظر: "الأوسط" لابن المنذر (1/ 380).
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 262)، ووقع في المطبوع:"وهذا دليل قوي" بدل "دليل فقهي".
الماء بالنفس إلى باطن الأنف، ولا يجب إدارتُه في جميع الفم، ولا إيصالُه إلى جميع باطن الأنف، وإنما ذلك مبالغةٌ مستحبةٌ في حق غير الصائم.
وإذا أداره في فيهِ، فهو مخيَّرٌ بعد ذلك بين مجِّهِ وبلعِهِ؛ لأن المقصود قد حصل به؛ فإن جعله في فيهِ ينوي الحدث الأصغر، ثم ذكر أنه جنب، فنوى رفع الحدثين، ارتفعا؛ لأنه لا يصير مستعملاً إلا بانفصاله عن العضو.
ولو لبث الماء في فيهِ، فتحلل من ريقه ما غيره، لم يمنع؛ لأنه في محل التطهير أشبه ما لو تغير على عضوه.
وإن شاء، تمضمض واستنشق ثلاثاً من غرفةٍ، وإن شاء من ست؛ لأن الذين وصفوا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا فيه ذلك.
ويستحب أن يتمضمض ويستنشق بيمينه، ويستنثر بشماله؛ لأن في حديث عثمان هذا رضي الله عنه عند سعيد بن منصور: ثم غرف بيمينه، ثم رفعها إلى فيه، فمضمض واستنشق بكف واحدٍ، واستنثر بيساره، فعل ذلك ثلاثاً، ثم قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ لنا كما توضأتُ لكم، فمن كان سائلاً عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا وضوءُه (1).
الثالث: لم يذكر عثمان رضي الله عنه، ولا عبد الله بن زيد رضي الله عنهما في الحديث الآتي الإتيان بالتسمية في أول الوضوء، مع إيجابنا لذلك - على المعتمد -، ولم نوجب الاستنثار -على المعتمد-، مع وجوده في الحديث الصحيح.
والجواب: أما عدم إيجابنا للاستنثار مع أنه صريحٌ في الأخبار؛ فلحديث أبي هريرة رضي الله عنه كما في بعض الروايات: "مَنْ توضَّأَ
(1) نقله ابن قدامة في "المغني"(1/ 84).
فليستنثرْ، من فعلَ، فقدْ أحسنَ، ومن لا، فلا حرج" (1).
وأما وجوب التسمية: فهو أظهر الروايتين عن الإمام رضي الله عنه (2)، واختيار كثير من علماء المذهب، منهم: القاضي، وقدمها المجد وغيره، وهي من المفردات، ودليلها ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاةَ لمن لا وضوءَ له، ولا وضوءَ لمنْ لم يذكرِ اسمَ اللهِ عليه"(3).
ورواه الإمام أحمد وابن ماجه -أيضاً- من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (4).
قال البخاري: أحسنُ حديثٍ في هذا الباب: حديثُ سعيدِ بنِ
(1) ذكره الشارح هنا نقلاً عن ابن الجوزي في"التحقيق في أحاديث الخلاف"(1/ 145). وقد رواه أبو داود (35)، كتاب: الطهارة، باب: الاستتار في الخلاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج،
…
" الحديث. وكذا رواه غيره، وليس فيه ذكر الوضوء، والله أعلم.
(2)
قال عبد الله بن الإمام أحمد في "مسائل أبيه"(ص: 25): سألت أبي عن حديث أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه". قال أبي: لم يثبت عندي هذا، ولكن يعجبني أن يقوله. ونقل ابن قدامة في"الكافي" (1/ 24 - 25) عن الخلال قوله: الذي استقرت الروايات عنه؛ أي: عن الإمام أحمد: أنه لا بأس به إذا ترك التسمية؛ لأنها عبادة، فلا تجب فيها التسمية كغيرها، وضعّف أحمد الحديث فيها وقال: ليس يثبت في هذا حديث، انتهى.
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 418)، وأبو داود (101)، كتاب: الطهارة، باب: التسمية في الوضوء.
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 41)، وابن ماجه (397)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في التسمية في الوضوء.
زيدٍ (1)، ولفظه:"لا وُضوءَ لمنْ لم يذكُرِ اسمَ اللهِ عليهِ". وفي لفظٍ له كلفظ حديث أبي هريرة، رواه الدارقطني من طرقٍ، ورواه عبد الله بن الإمام أحمد، ورواه الترمذي (2).
وفي حديثِ عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم إلى الوضوء، فيسمي الله عز وجل. رواه الدارقطني، وغيره (3).
وقال الإمام أحمد: أحسن شيءٍ فيه: حديث أبي سعيدٍ الخدري (4).
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثبت لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا وضوءَ لمن لم يُسَمِّ اللهَ"(5).
وقال الحاكم في حديث أبي هريرة: صحيح الإسناد (6).
قال الحافظ المنذري: وليس كما قال، وفي الباب أحاديث كثيرةٌ، لا يسلم منها شيءٌ بلا مقالٍ، وقد ذهب الحسن وإسحاق بن راهويه وأصحاب الظاهر إلى وجوب التسمية في الوضوء، حتى إنه إذا تعمد تركها، أعاد الوضوء، وهذا مذهبنا بلا ريب، وعنه: أنها سنة.
قال الحافظ المنذري: ولا شك أن الأحاديث التي وردت فيها، وإن
(1) انظر: "سنن الترمذي"(1/ 38).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 70)، والترمذي (25)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في التسمية عند الوضوء، والدارقطني في "سننه"(1/ 72).
(3)
رواه الدارقطني في "سننه"(1/ 72)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(2/ 198)، وابن الجوزي في "التحقيق في أحاديث الخلاف"(1/ 143).
(4)
انظر: "التحقيق في أحاديث الخلاف" لابن الجوزي (1/ 143).
(5)
انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (1/ 98).
(6)
انظر: "المستدرك" للحاكم (1/ 246)، (حديث رقم: 519).
كان لا يسلم شيءٌ منها عن مقالٍ، فإنها تتعاضد بكثرة طرقها، وتكتسب قوةً، والله أعلم (1).
(ثُمَّ) بعد أن تمضمض، واستنشق واستنثر الماء من أنفه، (غَسَلَ) عثمانُ رضي الله عنه (وَجْهَهُ).
وقد ذكروا أن حِكْمَةَ تأخير غسل الوجه عن المضمضة والاستنشاق اعتبار أوصاف الماء؛ لأن اللون يُدرك بالبصر، والطعم يُدرك بالفم، والريحُ يدرك بالأنف؛ فقدمت المضمضة والاستنشاق قبل الوجه احتياطاً للعبادة.
والوجه مشتقٌ من المواجهة.
وقد اعتبر الفقهاء هذا الاستنشاق، وبنوا عليه أحكاماً كثيرةً.
وحدُّه من منابت شعر الرأس المعتاد إلى ما انحدر من اللَّحْيَين طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً، وغسله واجبٌ بالنص والإجماع، أما النص: فقوله - تعالى -: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، وكل من وصف وضوءه صلى الله عليه وسلم ذكر أنه غسل وجهه.
وأجمع المسلمون على وجوب غسله؛ واتفق إمامنا وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن والشافعي، وأكثر العلماء على ما ذكرنا من التحديد.
وقال الإمام مالكٌ: البياض الذي بين العِذار والأذن ليس من الوجه في حق الملتحي، ولا يجب غسله؛ لأن المواجهة لا تقع به (2).
(1) انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (1/ 99).
(2)
انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (20/ 118)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (1/ 7).
ولنا: أنه بشرةٌ، لا شعرَ عليها، يجب غسلُها على الأمرد والمرأة، فكذلك على الملتحي كالخدين، وذلك لأ [ن] الوجوب في حقهما يدل على أنه من الوجه، فيدخل في مطلق النص. ويدل عليه قول الأصمعي والمفضل بن سلمة: ما جاوز وتد الأذن من العذار والعارضين من الوجه (1)، وهما من أهل اللغة، فيرجع إلى قولهما.
وقال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً من علماء الإسلام قال بقول مالكٍ (2).
ويستحب تعاهدُ هذا الموضع بالغسل؛ لأنه يغفل عنه الناس.
قال المَرُّوذي: أراني أبو عبد الله ما بين أذنه وصدغه، فقال: هذا موضعٌ ينبغي أن يُتَعاهد.
وهذا الموضع مفصل اللَّحْي في الوجه (3).
وكررَ عثمان رضي الله عنه: غسل وجهه (ثلاثاً)، وهو مسنون اتفاقاً، والواجب مرةً تعم محل الفرض؛ فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرةً مرةً (4)، فدل على أنها هي الواجبة في الوضوء، وما زاد عليها فسنةٌ.
قال صاحب "المحرر": الاقتصار على الغسلة الواحدة جائزٌ، والثانية أفضل، والثالثة أفضل منهما، وما زاد على الثلاثة منهيٌّ عنه (5)؛ لِما روى الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث عمرِو بنِ
(1) انظر: "المغني" لابن قدا مة (1/ 81)، و"المُغرب" للمطرزي (2/ 47).
(2)
انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (20/ 118).
(3)
انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 81).
(4)
رواه البخاري (156)، كتاب: الوضوء، باب: الوضوء مرة مرة، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(5)
وانظر: "المحرر في الفقه"(1/ 11 - 12)، باب: صفة الوضوء.
شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: جاء أعرابيٌّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثاً ثلاثاً، وقال:"هذا الوضوء، فمن زادَ على هذا، فقد أساءَ وتعدَّى وظلمَ"(1).
أي: أساء الأدب الشرعي، وتعدّى ما حده الشارع، وظلم بإتلاف الماء في غير محله.
ولا في كل غسلةٍ من الثلاث أن تعم العضو حتى تحسب غسلةً، فإن لم يعم إلا بغسلات لم تحسب إلا واحدةً.
(و) غسل بعد وجهه (يَدَيْهِ) من رؤوس أنامله (إلى المِرْفَقَيْنِ) - تثنية مِرْفَق -بكسر الميم وفتح الفاء، ويجوز فتح الميم وكسر الفاء- (2).
واختلف العلماء في وجوب إدخالهما في الوضوء:
فأكثرُ العلماء على وجوب ذلك؛ منهم عطاء، وأبو حنيفة، وصاحباه، ومالك، والشافعي، وإمامنا، وإسحاق، وغيرهم.
وقال زفر، وداود، وبعض المالكية: لا يجب؛ لأن الله - تعالى - أمر بالغسل إليهما، وجعلهما غايةً بحرف "إلى"، وهو لانتهاء الغاية، فلا يدخل المذكور بعده فيه؛ كقوله - تعالى -:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].
ولنا: أنها ترد بمعنى "مع"؛ كقوله - تعالى -: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 180)، وأبو داود (135)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، والنسائي (140)، كتاب: الطهارة، باب: الاعتداء في الوضوء، وابن ماجه (422)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في القصد في الوضوء، وكراهية التعدي فيه.
(2)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 246)، و"مختار الصحاح" للرازي (ص: 105)، و"لسان العرب" لابن منظور (10/ 118)، (مادة: رفق).
قُوَّتِكُمْ} [هود: 52]؛ أي: مع قوتكم، وقوله:{مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [الصف: 14]، {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2].
فرجحنا هنا معنى: (مع)؛ لأنه أحوط، والوضوء عبادةٌ، فيحتاط لها، ولتيقُّنِ زوال الحدث بغسل المرفقين، إذ بدونه يشك في زواله، والأصل بقاؤه، ولأن اسم اليد قد يشمل جميعها إلى المنكب، فلما قال:"إلى المرفقين"، أخرج بعض ما تناوله لفظُ اليد، فهي في غاية للإخراج، والمتيقن خروجه ما فوق المرفقين، أما هما، فمشكوك في خروجهما، فيبقى تناول لفظ اليد لهما على الأصل.
وهذا تحقيق قول المبرد: إذا كان الحد من جنس المحدود، دخل فيه، نحو: بعتُ هذا الثوبَ من هذا الطرف إلى هذا الطرف (1).
ولِما روى جابر رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ، أدار الماء على مرفقيه. رواه الدارقطني (2).
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنه توضأ، فغسل يده حتى أشرع في العضد، ورِجْلَه حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ. رواه مسلم (3).
وفعله عليه الصلاة والسلام في محل الإجمال يكون بياناً، لا يقال: فقد غسل ما فوق المرفق مع أنه ليس بواجب؛ لأنا نقول: إنا لم نثبت
(1) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 85).
(2)
رواه الدارقطني في "السنن"(1/ 83)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 56). وانظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 57).
(3)
رواه مسلم (246)، كتاب: الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء.
الوجوب بفعله فقط، بل جعلناه مفسراً لمجمل الآية، وإجمالُها في المرفقين دونَ ما فوقَها، وضعف ابن دقيق العيد كونَها بمعنى "مع"؛ لأن "إلى" حقيقة في انتهاء الغاية، مجازٌ بمعنى "مع"، ولا إجمال في اللفظ بعد تبين حقيقته.
قال: ويدل على أنها حقيقةٌ في انتهاء الغاية، كثرةُ نصوص أهل العربية على ذلك، ومن قال: إنها بمعنى "مع"، فلم ينص على أنها حقيقةٌ في ذلك، فيجوز أن يريد المجاز، انتهى (1).
قال ابن عقيلٍ في "الواضح": "إلى" موضوعةٌ لانتهاء الغاية، نحو قولك: ركبتُ إلى زيد؛ وجئتُ إلى عمرٍو، وإن أريد به دخول الغاية في الكلام، فبدليلٍ يوجب ذلك غير "إلى"، نحو قوله:{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، أريد به مع المرافق، بدليل غير الحرف، ولذلك لم يوجب قولُه:{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] دخولَ الليل مع النهار (2).
ومثلُه قولُ ابن هشام في "مغني اللبيب" حيث قال: إنها تكون للمعية، إذا ضممت شيئاً إلى آخر. وبه قال الكوفيون، وجماعةٌ من البصريين في:{مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52]، وقولهم: الذَّوْدُ إلى الذَّوْدِ، ولا يجوز: إلى زيدٍ مالٌ، تريد: مع زيد (3).
قال: والحاصل: أن غسل اليدين مع المرفقين فرضٌ لازمٌ مرةً واحدةً
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 36).
(2)
انظر: "الواضح في أصول الفقه" لابن عقيل (1/ 113 - 114).
(3)
انظر: "مغني اللبيب" لابن هشام (ص: 104)، و"الإنصاف في مسائل الخلاف" لابن الأنباري (1/ 266).
تعم سائرَ العضو حتى الأظفار، نعم يُعفى عندنا عن وسخٍ يسيرٍ تحت ظفرٍ ونحوه.
وكررَ سيدنا عثمان رضي الله عنه غسل يديه (ثلاثاً)؛ لأنه سنة، كما مر.
وفي روايةٍ: فقدم اليمنى على اليسرى، ولفظه كما في "الصحيحين": ثم غسلَ يَده اليمنى إلى المِرْفَقِ، ثم غسلَ يدَه اليسرى مثلَ ذلك (1).
(ثم) بعد ذلك، (مَسَحَ) رضي الله عنه (برأسِهِ)، وحذفت الباء في بعض الروايات من "رأسه"، في كل من "الصحيحين"، والكثير المشهور إثباتها؛ موافقة للفظ الآية، وليس في شيءٍ من طرق هذا الحديث في "الصحيحين" ذكر عدد المسح، وبه قال أكثر العلماء.
قال في "الفروع": ثم يمسح رأسه -وهو فرضٌ إجماعاً-، ويجب مسح ظاهره كله وفاقاً لمالك، ولا يستحب تكرار المسح، وعنه: بلى؛ وفاقاً للشافعي، ونصره أبو الخطاب وابن الجوزي (2).
والصحيح من المذهب: لا يستحب ذلك.
قال الحافظ ابن حجر: في "الفتح": قال الشافعي: يستحب التثليث في المسح، كما في الغسل، واستدل له بظاهر روايةِ مسلمٍ: أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً (3).
وأُجيب: بأنه مجمل تبين في الروايات الصحيحة؛ أن المسح لم يتكرر، ويحمل على الغالب، أو يخص بالمغسول.
(1) وتقدم تخريجه في حديث الباب.
(2)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 118، 120).
(3)
رواه مسلم (230)، كتاب: الطهارة، باب: فضل الوضوء والصلاة عقبه.
قال أبو داود في "السنن": أحاديثُ عثمان الصحاح كلها تدل على مسح الرأس مرة واحدة (1)، وكذا قال ابن المنذر: أن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم مرةٌ واحدةٌ تُمسح (2)؛ وبأن المسح مبني على التخفيف، فلا يقاس على الغسل؛ إذ المراد منه: المبالغة في الإسباغ، وبأن العدد لو اعتبر في المسح، لصار في صورة الغسل؛ إذ حقيقة الغسل جريان الماء، والدلك ليس بمشترطٍ - على الصحيح - عند أكثر العلماء، وبالغ أبو عبيدٍ؛ فقال: لا نعلمُ أحداً من السلف استحب تثليث مسح الرأس، إلا إبراهيم التيمي.
قال الحافظ ابن حجر: وفيما قال نظرٌ؛ فقد نقله ابن أبي شيبة وابنُ المنذر عن أنسٍ، وعطاء، وغيرهما، وقد روى أبو داود من وجهين صحح أحدهما ابنُ خزيمة وغيره، في حديث عثمان تثليثَ مسح الرأس، والزيادةُ من الثقة مقبولةٌ، انتهى (3).
قلت: صرّح في حديث علي رضي الله عنه بالمرة، وهو ما رواه الترمذي، وصححه عن أبي حيَّة، قال: رأيت علياً توضأ، فغسل كفيه، ثم تمضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً، ومسح برأسه مرةً، ثم غسل قدميه، ثم قال: أحببتُ أن أريكم كيف كان طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم (4).
(1) انظر: "سنن أبي داود"(1/ 26).
(2)
انظر: "الأوسط" لابن المنذر (1/ 397).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 260).
(4)
رواه الترمذي (48)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان، وأبو داود (116)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، والنسائي (96)، كتاب: الطهارة، باب: عدد غسل اليدين.
وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسح رأسه مرة واحدةً (1).
وقد روى عنه: أنه كان يمسح مرةً: معاذُ بن جبل، والبراءُ، وعبدُ الله بنُ عمرٍو، وابن عمر، وابنُ عباسٍ (2).
وفي حديث الرُّبَيِّعِ بنتِ مُعَوِّذِ بنِ عفراءَ رضي الله عنها، قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، فمسح رأسه، ومسح ما أقبل منه وما أدبر، وصدغيه، وأذنيه مرةً واحدةً. رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ (3).
فالمذهب: عدم تكرار مسح الرأس، والله أعلم.
تنبيهات:
الأول: استيعابُ جميع الرأس بالمسح فرضٌ، هذا المذهبُ بلا ريبٍ، وعليه جماهير علمائنا متقدمهم ومتأخرهم؛ وفاقاً لمالك؛ لقوله - تعالى -:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]، أضاف المسح إلى الجملة، كما أضافه في التيمم إلى الوجه بقوله تعالى:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6].
فيجب استيعابهما حسبَ الإمكان؛ عملاً بظاهر الأمر، والباء لا توجب تبعيضاً، وإنما هي للإلصاق.
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 268)، وابن ماجه (444)، كتاب: الطهارة، باب: الأذنان من الرأس.
(2)
انظر: "التحقيق في أحاديث الخلاف" لابن الجوزي (1/ 149).
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(6/ 359)، وأبو داود (129)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، والترمذي (34)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء أن مسح الرأس مرة.
قال أبو بكرٍ غلامُ الخَلَّال: سألت ابنَ دريدٍ وأبا عبدِ الله بنَ عرفةَ عن الباء تُبَعِّضُ؟ فقالا: لا يعرف في اللغة أنها تبعض.
وقال ابن برهان: من زعم أن الباء تفيد التبعيض، فقد جاء أهلَ اللغة بما لا يعرفونه (1)، ولهذا يحسن أن تقول: امسح برأسك كلِّه، والشيء لا يؤكَّدُ بضده. وتقول: امسح ببعض رأسك، فتصرح بالبعض معها، ثم لو قدرنا أنها تردُ التبعيض، فقد ترد زائدة؛ كقوله:- تعالى -: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20]، {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة: 6]، وكقولك: تزوجت بالمرأة، ونحو ذلك، فتصير الآية مجملةً.
وقد فسرها فعلُ وضوئه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه ثبتَ عنه مسحُ الكلِّ من رواية عبدِ الله بنِ زيدٍ (2)، ومعاويةَ (3)، وغيرهما، وترجم له البخاري باب: مسح الرأس كله، لقوله - تعالى -:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]، قال: وسئل مالكٌ: أيجزئ أن يمسح على بعض رأسه؟ فاحتج بحديث عبد الله بن زيدٍ (4)، ويأتي في كلام الحافظ - قدس الله روحه -.
(1) انظر: "المبدع" لابن مفلح (1/ 127)، و"القواعد والفوائد الأصولية" لابن اللحام (ص: 140)، و"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 98).
(2)
رواه البخاري (183)، كتاب: الوضوء، باب: مسح الرأس كله، ومسلم (235)، كتاب: الطهارة، باب: في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، عن عبد الله بن زيد المازني رضي الله عنه.
(3)
رواه أبو داود (129)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الباب: عن عائشة، والمقدام بن معدي كرب، قال الترمذي في "سننه" (1/ 47): حديث عبد الله بن زيد أصح شيء في الباب وأحسن.
(4)
انظر: "صحيح البخاري"(1/ 79).
وقال ابنُ المسيب: المرأة بمنزلة الرجل، تمسح على رأسها (1).
قال الحافظ ابن حجرٍ: موضع الدلالة من الحديث والآية: أن لفظ الآية مجملٌ؛ لأنه يحتمل أن يراد منها مسحُ الكل على أن الباء زائدةٌ، أو مسحُ البعض على أنها تبعيضية، فتبين بفعل النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد: الأول، ولم ينقل عنه أن مسحَ بعضَ رأسه إلا في حديث المغيرة: أنه مسح على ناصيته وعِمامته (2)؛ فإن ذلك دلَّ على أن التعميم ليس بفرض، انتهى.
قلت: وحديث المغيرة لا دلالة لهم فيه؛ لأنا نقول بمقتضاه.
قال في "تنقيح التحقيق": يجب مسحُ جميع الرأس، وقال أبو حنيفة: مقدارُ الربع، وقال الشافعي: أقلُّ ما يتناوله اسمُ المسح.
ثم احتج لنا بحديث عبد الله بن زيدٍ، ويأتي.
واحتج الخصم بحديث المغيرةِ بنِ شعبةَ رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، فمسح ناصيتَهُ، ومسح على الخفين والعِمامة، متفق عليه (3).
قال الحافظ ابنُ الجوزي: وليس فيه حجةٌ لهم؛ لأنه لو جاز الاقتصار على الناصية، لما مسح على العمامة.
وذكر الحافظ الضياء: أن حديث المغيرة انفرد به مسلم.
(1) رواه البخاري في "صحيحه"(1/ 79) معلقاً. ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(241) موصولاً.
(2)
رواه البخاري (180)، كتاب: الوضوء، باب: الرجل يوضئ صاحبه، ومسلم (274)، كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين.
(3)
تقدم تخريجه قريباً.
قال الحافظ ابن عبد الهادي: وهو كما قال (1).
وقال الحافظ عبدُ الحق في "الجمع بين الصحيحين" بعد أن ذكر حديثَ المغيرة بطوله: لم يذكر البخاري المسحَ على الناصية في كتابه (2).
والحاصل: وجوب مسح جميع الرأس - على الصحيح المعتمد -.
وفي حديث عمرِو بنِ عَبَسَةَ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"ثم يمسحُ رأسَهُ كما أمرَهُ اللهُ إلا خرجَتْ خطايا رأسِهِ من أطرافِ شعرِهِ مَعَ الماءِ"(3)، فهذا يرشد إلى أن المسح المأمور به، يتضمن وصولَ الماء إلى أطراف الشعر؛ ولأنه عضوٌ غيرُ محدودٍ في الطهارة، فوجب استيعابه كالوجه.
قال في "الفروع": وعُفي في "المترجم"(4) و"المُبْهِج"(5) عن يسيرٍ؛ للمشقة (6)، وصوّبه في "الإنصاف"(7).
(1) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 112).
(2)
انظر: "الجمع بين الصحيحين" للإشبيلي (1/ 217)، حديث رقم (368).
(3)
رواه مسلم (832)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: إسلام عمرِو بنِ عَبَسَة رضي الله عنه.
(4)
للإمام الفقيه الحافظ إبراهيم بن إسحاق بن يعقوب السعدي أبو إسحاق الجوزجاني، المتوفى سنة (259 هـ)، كتاب:"المترجم" في الفقه، قال ابن كثير: فيه علوم غزيرة، وفوائد كثيرة. انظر:"معجم مصنفات الحنابلة" لعبد الله الطريقي (1/ 91).
(5)
كتاب "المُبهج في فروع الحنابلة" لأبي الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي بن أحمد الشيرازي المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي، المتوفى سنة (486 هـ). انظر:"إيضاح المكنون" للبغدادي (2/ 425)، و"المدخل المفصل" لبكر أبو زيد (2/ 971).
(6)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 118).
(7)
انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 161).
وعن الإمام روايةٌ: يجزئ مسحُ بعضه للمرأة دونَ غيرها، قال الخَلَّال والموفَّق: هذه الرواية هي الظاهرُ عن أحمدَ.
قال الخلال: العمل في مذهب أبي عبد الله: أنها إن مسحت مقدم رأسها، أجزأها. ذكره في "الإنصاف"(1)، والله أعلم.
الثاني: الأذنان من الرأس، فيجب مسحهما، وبه قال سفيان الثوري، وابن المبارك.
قال في "الفروع": والأذنان منه؛ وفاقاً لأبي حنيفةَ ومالكٍ، ففي وجوب مسحهما روايةٌ، خلافاً للأئمة الثلاثة (2).
قال في "تنقيح التحقيق": الأذنان من الرأس تمسحان بماء الرأس، وقال الشافعي: ليسا من الرأس، ويسن لهما ماءٌ جديد.
ثم ذكر عدة أحاديث تدل لظاهر مذهبنا:
منها: حديث أبي أمامة مرفوعاً: "الأُذُنانِ من الرَّأْسِ" رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والدارقطني (3)، وصوب ابنُ عبد الهادي وقفه على أبي أمامة رضي الله عنه.
(1) المرجع السابق (1/ 162).
(2)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 119).
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 264)، وأبو داود (134)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وابن ماجه (444)، كتاب: الطهارة، باب: الأذنان من الرأس، والدارقطني في "سننه" (1/ 103). ورواه أيضاً: الترمذي (37)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء أن الأذنين من الرأس، وقال: هذا حديث حسن، ليس إسناده بذاك القائم.
ومنها: ما رواه الدارقطني من حديث ابن عمرَ مرفوعاً، مثله (1). فيه: أسامةُ بن زيدٍ، عن نافع، قال الإمام أحمد: أسامة قد روى عن نافعٍ أحاديثَ مناكير، وقال النسائي: ليس بالقوي.
ولنا: أن الإمام يحيى بنَ معينٍ قال فيه: ثقةٌ صالحٌ.
ومنها: عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما مثلُه مرفوعاً، رواه الدارقطني وغيره (2).
قال الحافظ ابن عبد الهادي: قد زعم ابنُ القطان: أن إسناد هذا الحديث صحيحٌ؛ قال: لثقةِ رواته، واتصاله، وإنما أعله الدارقطني بالاضطراب في إسناده، فتبعه عبدُ الحق على ذلك، وهو ليس بعيبٍ فيه.
قال ابن عبد الهادي: وفيه نظرٌ كثيرٌ، انتهى.
وفي الباب: عن أبي هريرة رضي الله عنه، رواه الدارقطني، وصوب إرساله (3)، وعن عائشة، وصحح إرساله (4).
وعن الرُّبيع بنتِ مُعَوِّذٍ: أنها رأت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يتوضأ، قالت: فمسح رأسَه وصدغيه وأذنيه مرةً واحدةً (5).
(1) رواه الدارقطني في "السنن"(1/ 97)، وصوب وقفه على ابن عمر- رضي الله عنهما.
(2)
رواه الدارقطني في "السنن"(1/ 98)، وابن عدي في "الكامل الضعفاء"(4/ 196).
(3)
رواه الدارقطني في "السنن"(1/ 100)، وابن ماجه (445)، كتاب: الطهارة، باب: الأذنان من الرأس.
(4)
رواه الدارقطني في "السنن"(1/ 100).
(5)
تقدم تخريجه.
احتج من لم يقل: إنهما من الرأس بأخذِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ماءً جديداً لهما.
قلنا: لا حجة في هذا؛ لأنا نقول: هذا الأولى، والله تعالى الموفق (1).
(ثم) بعد مسح رأسه، (غسل) سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه (كلتا رِجْلَيْهِ)، كذا في رواية ابن عساكر.
قال الحافظ ابن حجر: وهي التي اعتمدها صاحب "العمدة"، وللأصيلي والكشميهني: ثم غسلَ كلَّ رجلٍ، قال: وللمستملي والحموي: "كل رجله".
قال: وهي تفيد تعميم كل رجلٍ بالغسل.
قال: وفي نسخةٍ: "رجليه" بالتثنية، وهي بمعنى الأول، انتهى (2).
قال في "شرح الوجيز": غسلُ الرجلين فرضٌ عند العلماء كافةً؛ للآية؛ فقد روى جماعةٌ منهم: علي، وابنُ مسعودٍ، وابنُ عباسٍ رضي الله عنهم:{وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] بالنصب، عطفاً على المغسول.
ولا بد من دخول الكعبين - وهما العظمان الناتئان في جانبي الرجل - في الغسل اتفاقاً.
وتقدم في الحديث الثالث الرد على المخالف من الشيعة.
(ثلاثاً): هذا يدل على استحباب التكرار في غسل الرجلين ثلاثاً.
وبعض الفقهاء لا يرى ذلك، وقد ورد في بعض الروايات، من حديث عبد الله بن زيدٍ رضي الله عنه: وغسل رجليه حتى أنقاهما، رواه مسلم (3).
(1) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 117 - 121).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 266).
(3)
رواه مسلم (236)، (1/ 211)، كتاب: الطهارة، باب: في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم.
والذي قدمه في "صحيح مسلمٍ" من حديث عثمان هذا، ما هذا لفظه: ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مراتٍ، ثم غسل اليسرى مثل ذلك. متفقٌ عليه (1).
وفي حديث معاويةَ - حين حكى وضوءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه غسل رجليه بغير عددٍ، رواه أبو داود (2).
والحاصل: أنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم الوضوءُ مرةً مرةً (3)، ومرتين مرتين (4)، والتثليث (5)، وهو أكثرُ فعله وقوله.
وثبت وجودُ التثليث في بعض الأعضاءِ دون بعضٍ؛ فربما غسل عضواً ثلاثاً، وآخر مرتين، وآخر مرةً، وبالعكس.
وكل ذلك جائزٌ من غير كراهةٍ، على أشهر الروايتين عن الإمام أحمد؛ وفاقاً للشافعي، وإسحاق، وغيرهما، والله أعلم.
تنبيهات:
الأول: كلمة "كلتا" مفردةٌ لفظاً، مثناة معنى، مضافة أبداً لفظاً ومعنى إلى كلمة واحدةٍ معرفةٍ دالة على اثنين، ككلمة كلا، إما بالحقيقةِ والتنصيصِ؛ نحو:{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ} [الكهف: 33]، و"كلتا رجليه"، أو الحقيقة
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه أبو داود (125)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم.
(3)
تقدم تخريجه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4)
تقدم تخريجه من حديث عبد الله بن زيد المازني رضي الله عنه، وسيأتي الكلام عليه قريباً.
(5)
تقدم تخريجه من حديث عثمان رضي الله عنه.
والاشتراك، نحو:"كلانا"؛ فإن لفظة: "نا" مشتركةٌ بين الاثنين والجماعة،
أو بالمجاز؛ كقوله (1): [من الرمل]
إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدًى
…
وَكِلا ذَلِكَ وَجْهٌ وَقَبَلْ
فإن لفظة: "ذلك" حقيقةً في الواحدة، وأشير بها إلى المثنى على معنى وكلا [ما ذكر]، واحترز بقوله: إلى كلمةٍ واحدة، عن نحو:[من البسيط]
كِلَا أَخِي وَخَلِيلي واجِدِي عَضُدِي. . . . . . . . . . . . .
فإنه ضرورة نادرة.
وأجاز ابنُ الأنباري إضافتَها إلى المفرد بشرط تكريرها، نحو: كلاي، وكلاكَ حسنان.
وأجاز الكوفيون إضافتها إلى النكرة المختصة، نحو: كلا الرجلين عندك محسنان، فإن رَجُلين تخصيصهما بوصفهما بالظرف. وحكوا: كلتا جاريتين عندك مقطوعةٌ يدهما؛ أي: تاركةٌ للغزل، كما في "مغني اللبيب".
قال: ويجوز مراعاة لفظ "كلا" و"كلتا" في الإفراد، نحو:{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} [الكهف: 33]، ومراعاة معناها، وهو قليلٌ، وقد اجتمعا في قوله (2):[من البسيط]
كِلَاهُمَا حِينَ جَدَّ الجَرْيُ بَيْنَهُمَا
…
قَدْ أَقْلَعَا وَكِلَا أَنْفَيْهِمَا رَابِي
والله - تعالى - أعلم (3).
(1) هو من قول عبد الله بن الزبعرى السهمي القرشي، قاله يوم أحد قبل إسلامه. انظر:"السيرة النبوية" لابن هشام (4/ 92).
(2)
هو الفرزدق، كما في "خزانة الأدب" للبغدادي (1/ 131).
(3)
انظر: "مغني اللبيب" لابن هشام (ص: 268 - 269).
الثاني: أفاد وضوء سيدنا عثمان رضي الله عنه اعتبارَ الترتيب؛ لأن حُمرانَ حكى ذلك عنه بالعطف بحرف "ثم" المفيدة لذلك، ولأنه أدخل مسح الرأس بين غسل بقية الأعضاء، فلو لم يكن الترتيب معتبراً، لأتى بغسل الأعضاء المغسولة على حِدَتها، ثم بالممسوح، أو بالعكس، وكذا أمر الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه، فأدخل ممسوحاً بين مغسولاتٍ.
قال في "الفروع": ومن فروض الوضوء: الترتيبُ؛ خلافاً لأبي حنيفةَ؛ ومالكٍ (1).
قال في "شرح الوجيز": الترتيبُ جعلُ كل واحدٍ من شيئين فصاعداً في مرتبته التي يستحقها بوجهٍ ما، وجملة ذلك: أن الترتيب في الوضوء كما ذكر الله - تعالى - واجبٌ في قول إمامنا.
قال الإمام الموفق: ولم أر عنه فيه اختلافاً.
وهو قول الشافعي؛ لأن في الآية قرينةً تدل على أنه أريد بها الترتيب؛ فإنه أدخل ممسوحاً بين مغسولين، والعرب لا تقطع النظير عن نظيره إلا لفائدةٍ، ولا فائدة هنا سوى الترتيب.
فإن قيل: بل فائدته استحبابُ الترتيب.
فالجواب: أن الآية إنما سيقت لبيان الواجب، ولذلك لم يذكر فيها شيئاً من السنن، ولأنه متى اقتضى اللفظ الترتيب، كان مأموراً به، والأمر يقتضي الوجوب (2).
(1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 123).
(2)
انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 92 - 93).
ولأن قوله عليه السلام في حديث عمرِو بنِ عَبَسَةَ: "ثم يمسحُ رأسَه كما أمرَهُ اللهُ، ثم يغسلُ رجليه إلى الكعبينِ كما أمَرُه اللهُ" رواه الإمام أحمد، وابن خزيمة (1)، وأصله في "صحيح مسلم"(2) دليلٌ على أن الله - تعالى- أمر بمسح الرأس بعد اليدين، وبغسل الرجلين بعد المسح، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ مرتباً، فكان فعله مفسراً للآية، والأخبار والآثار تدل على اعتبار الترتيب في الأعضاء الأربعة، والله أعلم.
الثالث: يستفاد من وضوئه رضي الله عنه اعتبارُ الموالاة؛ وهي ألَّا يؤخَّرَ غسلُ عضوٍ حتى يجفَّ ما قبله في الزمن المعتدل.
وهي من فروض الوضوء عندنا؛ خلافاً لأبي حنيفة، والشافعي؛ نص إمامنا على اعتبارها في رواية صالحٍ، وعبدِ الله، والميموني، وحربٍ، وأبي داود، وبها قال مالك؛ لما روى خالدُ بنُ معدان عن بعض أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أن رسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي، وفي ظهرِ قدمِه لمعةٌ قدر الدرهم لم يُصبها الماء، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة.
رواه الإمام أحمد، وأبو داود. وليس فيه لأحمد: الصلاة (3).
قال الأثرم: قلت لأحمد: هذا إسنادٌ جيدٌ؟ قال: جيد (4).
وأخرج مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلاً
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 112)، وابن خزيمة في "صحيحه"(165).
(2)
تقدم تخريجه عند مسلم.
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 424)، وأبو داود (175)، كتاب: الطهارة، باب: تفريق الوضوء.
(4)
انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 91)، و"تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 130).
توضأ، فترك موضعَ ظُفْرٍ على قدمه، فأمره النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال:"ارجِعْ فأحسنْ وضوءك"، فرجع فتوضأ ثم صلى (1).
فهذه الأحاديث ونحوها تدل على اعتبار الموالاة.
نعم لا يضر الجفاف؛ لاشتغاله بالآخَر بسنَّةٍ، كتخليلٍ أو إسباغ، أو إزالةِ شكٍّ، والله أعلم.
وبعد فراغ سيدنا عثمان من وضوئه على النحو المشروح، (قال) رضي الله عنه:(مَنْ توضَّأَ) من المسلمين (نَحْوَ) أي قريبَ أو شِبْهَ، فإن لفظة "نحو" لا تطابق لفظة "مثل"، فإن لفظة "مثل" يقتضي ظاهرها المساواة من كل وجهٍ، إلا في الوجه الذي يقتضي التغاير بين الحقيقتين؛ بحيث تخرجهما عن الوحدة، ولفظة "نحو" لا تعطي ذلك.
قال ابن دقيق العيد: ولعلها استعملت بمعنى المثل مجازاً، أو لعله لم يترك مما يقتضي المثليةَ إلا ما لا يقدحُ في المقصود، فقد يظهر في الفعل المخصوص أن فيه أشياءَ ملغاةً عن الاعتبار في المقصود من الفعل، فإذا تركت هذه الأشياء، لم يكن الفعل مماثلاً حقيقةً لذلك الفعل، ولم يقدح تركُها في الفعل المقصود منه، وهو رفع الحدث، وترتُّب الثواب، وإنما احتيج إلى هذا؛ لأن هذا الحديث ذُكر لبيان فعلٍ يقتدى به يحصِّل للثواب الموعود عليه، فلا بد وأن يكون الوضوء المحكيُّ المعقول محصلاً لهذا الغرض؛ فلهذا قلنا: إما أن يكون استعمل "نحو" في غير حقيقتها، يعني: بمعنى "مثل"؛ أي: مثل (وضوئي هذا) الذي شاهدتموه، أو يكون ترك
(1) رواه مسلم (243)، كتاب: الطهارة، باب: وجوب استيعاب جميع أجزاء محل الطهارة.
ما علم قطعاً أنه لا يخل بالمقصود، فاستعمل "نحو" في حقيقتها مع عدمِ فوات المقصود.
ويمكن أن يقال: إن الثواب يترتَّب على مقاربة ذلك الفعل تسهيلاً وتوسيعاً على المخاطبين من غير تضييقٍ وتقييدٍ بما ذكرناه، إلا أن الأول أقربُ إلى مقصود البيان، انتهى (1).
قال النووي في شرح هذا الحديث: إنما لم يقل: مثل؛ لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره (2).
قال الحافظ ابنُ حجرٍ في "شرح البخاري": لكن ثبت التعبير بها في رواية البخاري في "الرقاق" من طريق معاذِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن حُمرانَ، ولفظه:"من توضَّأَ مثلَ هذا الوضوءِ".
وله في "الصيام": من رواية معمرٍ: "مَنْ تَوَضَّأَ بوضوئي هذا".
ولمسلمٍ من طريق زيدِ بنِ أسلمَ عن حُمران: "من توضأ مثل وضوئي هذا"(3).
وعلى هذا، فالتعبير بـ: نحو، من تصرف الرواة؛ لأنها تطلق على المثلية مجازاً، ولأن "مثل" وإن كانت تقتضي المساواة ظاهراً، لكنها تطلق على الغالب، فبهذا تلتئم الروايتان، ويكون المتروك بحيث لا يخل بالمقصود، انتهى (4).
فائدةٌ: النحو يطلق على معانٍ شتَّى، منها: الطريقُ، والجهةُ، والقصدُ،
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 37 - 38).
(2)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 108).
(3)
تقدم تخريج هذه الروايات الأربع في حديث الباب، فلتنظر في مواضعها.
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 260).
ظرفاً واسماً، وعِلْمُ العربية، والقربُ، والمثلُ، والجانبُ، والعدلُ، والرعدةُ، والتمطِّي، ونحَاهُ: صَرَفَهُ، وغيرها (1).
(ثم صَلَّى) بعد فراغه من نحو هذا الوضوء المشروح (رَكْعَتَيَن).
فيه: استحباب صلاة ركعتين عقب الوضوء، وسيأتي لذلك ذكر - إن شاء الله تعالى -.
(لا يُحَدِّثُ فيهما)؛ أي: في حالِ صلاته لهما.
قال الحافظ ابنُ حجرٍ: المراد به: ما تسترسلُ النفسُ معه، ويمكن المرءَ قطعُه؛ لأن قوله: يحدث يقتضي تكسباً منه، فأما ما يهجم من الخطرات والوساوس، ويتعذر دفعه، فذلك معفوٌّ عنه.
ونقل القاضي عياض عن بعضهم: بأن المراد: من لم يحصل له حديث النفس أصلاً ورأساً (2).
ويشهد له ما أخرجه ابن المبارك في "الزهد" بلفظ: لم يسر فيهما (3).
ورده النووي، فصوب حصول هذه الفضيلة المذكورة في الحديث مع طريان الخواطر العارضة غير المستقرة (4)، نعم من اتفق أن يحصل له عدم حديث النفس أصلاً، أعلى درجة بلا ريبٍ.
ثم إن تلك الخواطر، منها ما يتعلق بالدنيا، ومنها ما يتعلق بالآخرة، والحديث محمول على المتعلق بالدنيا. يؤيده ما وقع في رواية الحكيم الترمذي (5) في هذا الحديث:"لا يحدث نفسه بشيءٍ من الدنيا"، وهي في
(1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1727)، (مادة: نحا).
(2)
انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 19).
(3)
لم أقف عليه في المطبوع من "الزهد" لابن المبارك، والله أعلم.
(4)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 108).
(5)
في كتاب "الصلاة" له، كما ذكر العيني في "عمدة القاري"(3/ 7).
"الزهد" لابن المبارك -أيضاً-، و"المصنف" لابن لأبي شيبة (1)، وأما ما يتعلق بالآخرة، فإن كان أجنبياً، أشبهَ أحوال الدنيا، وإن كان من متعلقات الصلاة، فلا بأس به (2)؛ كالفكر في معاني المتلو من القرآن العزيز، والدعوات والأذكار الواقعة في الصلاة؛ بخلاف اشتغال قلبه بتفهيم مسائل البيع والشراء والشفعة، ودقائق الفقه التي في غير صلاته، فليس كل أمر محمود ومندوب إليه يندب استحضاره في الصلاة، بل المطلوب من المصلي أن يكون حاضر القلب، مقبلاً على الله في صلاته، قد أشعر قلبه عظمةَ من هو واقفٌ بين يديه، وأما من ذهب قلبه في أنواع الوساوس وأودية الأماني، فليس له من صلاته إلا ما عقل منها، فبين صلاتي هذين كما قال حسان بن عطية: إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة، وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض، وذلك أن أحدهما مقبلٌ بقلبه على الله عز وجل، والآخر ساهٍ غافل (3).
كما أشار إليه في "الكلم الطيب"(4)، وفي "الفتاوى المصرية"(5) لشيخ الإسلام ابن تيمية.
من العلماء من قال: إذا غلب الوسواس على قلبه في أكثر الصلاة، لم تصح صلاته، وعليه الإعادة، وهذا قول ابن حامد، وابن الجوزي من
(1) رواه بن أبي شيبة في "المصنف"(7631)، عن صلة بن أشيم. ولم أره عند ابن المبارك في "الزهد"، والله أعلم.
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 260).
(3)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(ص: 24)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 71).
(4)
وانظر: "الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص: 36).
(5)
انظر: "الفتاوي المصرية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/ 23).
أصحاب الإمام أحمد، والغزالي من الشافعية (1).
لكن المشهور عن الأئمة أن الفرض يسقط بذلك.
وقال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: ليس لك من صلاتك إلا ما عَقَلْت منها (2).
وفي سنن أبي داود وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "إن العبدَ لينصَرِفُ من صلاتِه وما يُكتبُ له منها إلا نصفُها، إلا ثلثُها، إلا ربعُها، إلا خمسُها، إلا سدسُها، إلا سبعُها، إلا ثمنُها، إلا تسعُها، إلا عشرُها"(3).
قال ابن تيمية: فهذا بينٌ أنه لا يُثاب إلا على عمله بقلبه، لكن معنى سقوط الفرض عنه: أن ذمته تبرأ من الإثم، فلا يعاقب عقوبة تارك الصلاة، وهو مع ذلك: لا يكون له ثوابٌ، فيكون كما جاء في الأثر:"رُبَّ قائمٍ حَظُّه من قيامِه السَّهرُ، وربَّ صائمٍ حظُّه من صيامِه الجوعُ والعطشُ"(4). انتهى ملخصاً (5).
(نَفْسَهُ) -بالنصب- مفعول "يُحدِّثُ"، والمراد: لم يسترسل مع نفسه في
(1) انظر: "الإنصاف" للمرداوي (2/ 119)، و"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 393).
(2)
ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع عدة من "الفتاوى"، انظر:(7/ 31)، (15/ 236)، (22/ 6)، (22/ 25)، وغيرها. وروى أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 61)، عن سفيان الثوري: أنه قال: يكتب للرجل من صلاته ما عقل منها.
(3)
رواه أبو داود (796)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في نقصان الصلاة، والنسائي في "السنن الكبرى"(611)، والإمام أحمد في "المسند"(4/ 321)، وابن حبان في "صحيحه"(1889)، وغيرهم عن عمار بن ياسر رضي الله عنه.
(4)
رواه ابن ماجه (1690)، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في الغيبة والرفث للصائم، والنسائي في "السنن الكبرى"(3249)، والإمام أحمد في "المسند"(2/ 373)، وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
انظر: "شرح العمدة" لشيخ الإسلام ابن تيمية (4/ 280).
أودية الأماني، وضروب الوساوس، ولفظ البخاري:"لا يحدث نفسه فيها بشيءٍ"؛ أي: مما قدمنا ذكره من الأماني.
ونفس الإنسان: روحه، أو الروح غير النفس، وأن يراد بالروح: النفس المتردد في البدن، والنفس التي يتوفاها الله عند نوم الإنسان، وهو جسمٌ مخالفٌ بالماهية لهذا الجسم المحسوس، نوراني طري حقيقي متحركٌ ينفذ إلى جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون، والنار في الفحم.
فما دامت هذه الأعضاء صالحةً لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف، بقي هذا الجسم اللطيف متشابكاً بهذه الأعضاء، وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة والإرادة، وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، وخرجت عن قبول تلك الآثار، فارق الروح البدن، وانفصل إلى عالم الأرواح.
هذا الذي صوبه الإمام ابن القيم في كتابه "الروح" من عدة أقوال، وقال: إنه لا يصح غيره، وذكر على صحته مئة دليلٍ وبضعة عشر دليلاً (1).
(غُفر له)؛ أي: لذلك المتطهر للصلاة المذكورة - وصلى الركعتين اللتين حفظ فيهما قلبه بإقباله فيهما على ربه، ولم يحدث نفسه ويسترسل معها في أودية الأماني.
والغفرُ: السترُ، والمغفرة والتكفير يتقاربان، فالمغفرة: سترُ الذنوب، ووقاية شرها، ولهذا سُمي ما ستر الرأس ووقاه في الحرب مِغْفَراً، ولا يسمّى كل ساتر للرأس مِغْفَراً، والتكفير من هذا القبيل؛ لأن أصل الكُفر: الستر والتغطية.
(1) انظر: "الروح" لابن القيم (ص: 178 - 179).
وفرق بعض المتأخرين بينهما: بأن التكفير: محو أثر الذنب، حتى كأنه لم يكن، والمغفرة تتضمن من ذلك إفضال الله على العبد وإكرامه.
ونظر في هذا الفرق الحافظ ابن رجب في "شرح الأربعين".
وقيل: إن المغفرة لا تكون إلا مع عدم العقوبة والمؤاخذة؛ لأنها وقاية شر الذنب بالكلية، والتكفير قد يقع بعد العقوبة، فإن المصَائب الدنيوية كلها مكفرات للخطايا، وهي عقوبات، وكذلك العفو يقع مع العقوبة وبدونها، وكذلك الرحمة (1).
(ما)؛ أي: الذي (تَقَدَّمَ) على صلاته الركعتين المذكورتين.
(من ذَنْبِهِ)، الذي كان قد فعله.
والذنب: الإثم، والجمع: ذنوبٌ. وظاهره يعم الكبائر والصغائر، لكن العلماء خصوه بالصغائر، وقالوا: الكبائر إنما تكفر بالتوبة.
قال ابن دقيق العيد: وكأن المستند في ذلك: أنه ورد مقيداً في مواضع؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "الصلواتُ الخمسُ، والجمعةُ إلى الجمعةِ، ورمضانُ إلى رمضانَ، كَفَّاراتٌ لما بينَهُنَّ، ما اجتُنبتِ الكبائرُ"(2)، فجعلوا هذا القيد في هذه الأمور مقيداً للمطلق في غيرها، انتهى (3).
وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح": وهذا فيمن له كبائر وصغائر، ومن ليس له إلا صغائر، كُفرت منه، ومن ليس له إلا كبائر، خُفف عنه منها
(1) انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (ص: 176).
(2)
رواه مسلم (233)، كتاب: الطهارة، باب: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة
…
، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 39).
بمقدار ما لصاحب الصغائر، ومن ليس له صغائر ولا كبائر، يُزاد في حسناته بنظير ذلك.
وفي الحديث:
التعليم بالفعل؛ لكونه أبلغ وأضبط للمتعلم.
والترغيبُ في الإخلاص.
وتحذيرُ من لَهَا في صلاته بالتفكير في أمور الدنيا من عدم القبول، ولا سيما إن كان في العزم على معصية؛ فإن المرء يحضره في صلاته ما هو مشغوف به أكثر من خارجها (1)؛ فإن العبد إذا قام في العبادة، غار الشيطان منه، فإنه قد قام في أعظم مقامٍ وأقربه وأغيظه للشيطان وأشده عليه، فهو يحرص ويجتهد كل الاجتهاد أَلَّا يقيمه فيه، بل لا يزال به يَعِدُه ويُمنِّيه ويُنْسِيه ويُجْلِبُ عليه بَخَيْلِه، ورَجِلِهِ، حتى يهوِّنَ عليه شأنَ الصلاة، فيتهاون بها فيتركها، فإن عجز عن ذلك منه، وعصاه العبد، وقام في ذلك المقام، أقبل عدوُّ الله حتى يخطر بينه وبين نفسه، ويحول بينه وبين قلبه، فيذكِّره في الصلاة ما لم يكن يذكر قبل دخوله فيها، حتى ربما كان قد نسي الشيء والحاجةَ، وأيس منها، فيذكِّره إياها في الصلاة؛ ليشغل قلبه بها، ويأخذه عن ربه عز وجل، فيقوم فيها بلا قلبٍ، فلا ينال من إقبال الله وكرامته وقربه ما يناله المقبلُ على ربه، الحاضرُ بقلبه وقالبه في صلاته، فينصرف من صلاته مثلما دخل فيها بخطاياه وذنوبه وأثقاله، لم تَخِفَّ عنه بالصلاة، فإن الصلاة إنما تكفر سيئات من أدى حقها، وأكملَ خشوعها، ووقف بين يدي الله بقلبه وقالبه، فهذا إذا انصرف منها، وجد خِفَّة من نفسه، وأحسَّ
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 261).
بأثقال قد وُضِعت عنه، فوجد نشاطاً وراحةً وروحاً، حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها؛ لأنها قرة عينه، ونعيم روحه، وجنة قلبه، ومستراحه في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدخل فيها، فيستريح بها لا منها، فالمحبون يقولون: نصلي فنستريح بصلاتنا، كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم صلى الله عليه وسلم:"يا بلال! أرحنا بالصلاة"(1)، ولم يقل: أرحنا منها (2).
وسنرجع إلى شيءٍ من هذا في الصلاة - إن شاء الله تعالى -.
تنبيه:
وقع في رواية البخاري في الرقاق قال في آخر هذا الحديث: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تغتروا"؛ أي: فتستكثروا من الأعمال السيئة بناء على أن الصلاة تكفرها؛ فإن الصلاة التي تكفر بها الخطايا هي التي يقبلها الله تعالى، وأنَّى للعبد اطلاع على ذلك؟!
قلت: لفظ البخاري عن حمران: قال: أتيت عثمان بطهور وهو جالس على المقاعد، فتوضأ فأحسن الوضوء، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وهو في هذا المجلس، فأحسن الوضوء، ثم قال:"من توضأ مثلَ هذا الوضوء، ثم أتى المسجدَ، فركعَ ركعتين، ثم جلسَ، غفر له ما تقدَّم من ذنبه". قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تغتروا"(3).
* * *
(1) رواه أبو داود (4985)، كتاب: الأدب، باب: في صلاة العتمة، والإمام أحمد في "المسند"(5/ 364)، عن رجل من الصحابة رضي الله عنهم.
(2)
نقلاً عن ابن القيم رحمه الله في "الوابل الصيِّب"(ص: 35 - 36).
(3)
تقدم تخريجه في حديث الباب.