الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع
عن أبي هريرةَ رضي الله عنه: أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَجْعَلْ في أَنْفِهِ مَاءً، ثُمَّ لْيَنْتَثِرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا في الإِنَاءِ ثَلَاثاً؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ"(1)، وفي لفظٍ لمسلمٍ: "فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنَ
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (160)، كتاب: الوضوء، باب: الاستجمار وتراً، بلفظ:"إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ثم لينثر، ومن استجمر فليوتر، وإذا استيقظ أحدكم من نومه، فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده". ورواه مسلم (278)، كتاب: الطهارة، باب: كراهة غمس المتوضىء وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثاً، وأبو داود (103)، كتاب: الطهارة، باب: في الرجل يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها، والنسائي (1)، كتاب: الطهارة، باب: تأويل قوله عز وجل: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ ....} [المائدة: 6]، والترمذي (24)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء: "إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها"، وابن ماجه (393)، كتاب: الطهارة، باب: الرجل يستيقظ من منامه، هل يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها؟ بلفظ:"إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده". ورواه مسلم (237)، كتاب: الطهارة، باب: الإيتار في الاستنثار والاستجمار، وأبو داود (140)، كتاب. الطهارة، باب: في الاستنثار، والنسائي (86)، =
الماءِ" (1)، وفي لفظ: "مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ" (2)
* * *
(عن أبي هريرة) عبدِ الرحمن بنِ صَخْرٍ (رضي الله عنه: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا) ظرفٌ لما يُستقبل من الزمان متضمنَةٌ معنى الشرط، وتختص بدخولها على الجملة الفعلية، وتدخل على الماضي كثيراً، وعلى المضارع دون ذلك، ولا تعمل الجزمَ إلا في الضرورة؛ كقول الشاعر (3):[من الكامل]
= كتاب: الطهارة، باب: اتخاذ الاستنشاق، بلفظ:"إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء، ثم لينتثر"، وهذا لفظ مسلم. وهذا يدل على أن البخاري أورد الحديثين في سياق واحد، كما سيأتي التنبيه عليه عند الشارح نقلاً عن الحافظ ابن حجر.
(1)
رواه مسلم (237)، (1/ 212)، كتاب: الطهارة، باب: الإيتار في الاستنثار والاستجمار. ورواه البخاري (2/ 683) معلقاً بصيغة الجزم، إلا أنه قال:"بمنخره".
(2)
رواه البخاري (159)، كتاب: الوضوء، باب: الاستنثار في الوضوء، ومسلم (237)، (1/ 212)، كتاب: الطهارة، باب: الإيتار في الاستنثار والاستجمار، والنسائي (88)، كتاب: الطهارة، باب: الأمر بالاستنثار، وابن ماجه (409)، كتاب: الطهارة، باب: المبالغة في الاستنشاق والاستنثار.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 152 ، 148)، "عارضة الأحوذي في شرح سنن الترمذي" لابن العربي المالكي (1/ 41)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 98)، و"المُفهم" للقرطبي (1/ 536)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 125، 178)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 16)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 262) و (4/ 160)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 14)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 47)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 169).
(3)
هو عبد قيس بن خفاف، كما في "المفضليات" للمفضل الضبي (ص: 383)، (القصيدة: 116).
اِسْتَغْنِ مَا أَغنَاك رَبُّكَ بِالْغِنَى
…
وَإِذَا تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ فَتَجَمَّلِ
(تَوَضأَ أَحَدُكُمْ) معشرَ المسلمين الوضوءَ الشرعي (فَلْيَجْعَلْ في أَنْفِهِ) المعلومِ، وهو المَعْطِسُ، والجمع: آنافٌ وأُنوف وأُنُفٌ (ماءً) مفعولُ يجعلْ، وهو جوهرٌ سيالٌ يتلون بلونِ إنائه، ويُجمع على: مِياه، وهمزتُه منقلبةٌ عن هاء، فأصلُه: مَوْهٌ، وجمعه في القِلة: أَمْواهٌ، وهو اسمُ جنسٍ، وإنما يُجمع لكثرة أنواعه، وسقطت لفظة "ماء" من البخاري في غير رواية أبي ذر، وكذا اختلف رواة "الموطأ" في إسقاطِها، وذكرِها، وثبتت لمسلم من رواية سفيانَ عن أبي الزناد (1)، (ثُم) بعدَ استنشاقه به، وهو إدخالُه في الأنف (لْيَنْتَثِرْ)، كذا لأبي ذرٍّ والأصيلي بوزن: ليفتعلْ، ولغيرهما "ثُم لِيَنْثُرْ" بمثلثة مضمومة بعد النون الساكنة، والروايتان لأصحاب "الموطأ" - أيضاً -.
قال الفراء: يُقال: نَثَرَ الرجلُ وانْتَثَرَ واسْتَنْثَرَ: إذا حرك النَّثْرَةَ، وهي طرفُ الأنف في الطهارة (2)، وفيه دليلٌ لوجوب الاستنشاق، وهو مذهبُنا، خلافاً لمالكٍ والشافعي في الطهارتين، ولأبي حنيفةَ في الصغرى.
قال عبدُ اللهِ بنُ الإمامِ أحمدَ رضي الله عنهما: قال أبي: رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "اسْتَنْثِرُوا مَرَّتَيْنِ
(1) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (18/ 220)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 263). وقد تقدم تخريج الرواية عند مسلم.
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 263). وانظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 160)، و"غريب الحديث" للخطابي (1/ 136)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 14)، و"لسان العرب" لابن منظور (5/ 191)، (مادة: نثر).
بالِغَتَيْنِ أَوْ ثَلاثاً" (1)، قال أبي: أنا أذهبُ إلى هذا؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم (2).
والأمرُ في قواعد المذهب إذا كان مجرداً عن قرينةٍ حقيقةٌ في الوجوبِ شرعاً، أو باقتضاءِ وضع اللغة أو الفعل.
ويأتي الكلام على المضمضة والاستنشاق - إن شاء الله تعالى -.
(وَمَنِ اسْتَجْمَرَ)؛ أي: استنجى بالأحجار، قاله الجوهري (3)، قال ابنُ الأنباري: الجِمارُ عند العرب: الحجارةُ الصغارُ، وبه سميت جِمارُ مكةَ (4)، ومن تراجم البخاري: بابُ: الاستنجاء بالحجارة (5)، أرادَ بها الرد على مَنْ زعم أن الاستنجاء مختص بالماء، والاستجمارُ الشرعي مسحُ محل البولِ والغائط بحجرٍ طاهرٍ مُباحٍ مُنْقٍ، ونص الإمامُ أحمدُ رضي الله عنه: لا يستجمر في غير المخرَج (6)، والمذهبُ: في الصفحتين والحشفة، ما لم يتعد الخارجُ موضعَ العادة، فيجبُ الماء للمتعدي فقط.
(فَلْيُوتِرْ)؛ أي: يتحرى أن يكون استجمارُه وِتراً، والوَتْرُ: الفَرْدُ -بفتح الواو وكسرها- لغتانِ مشهورتان نقلهما الزجَّاجُ وغيره (7)، يعني: يكون
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 228)، وأبو داود (141)، كتاب: الطهارة، باب: في الاستنثار، وابن ماجه (408)، كتاب: الطهارة، باب: المبالغة في الاستنشاق والاستنثار، وغيرهم.
(2)
انظر: "مسائل الإمام أحمد - رواية ابنه عبد الله"(ص: 24 - 25).
(3)
انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 617)، (مادة: جمر).
(4)
انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح الحنبلي (ص: 13).
(5)
انظر: "صحيح البخاري"(1/ 70).
(6)
انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 105).
(7)
انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 278)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 146)، و"المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح =
عددُ المسحات ثلاثاً، أو خمساً، أو فوق ذلك، وحاصلُ المذهبِ أن الإنقاء وهو بالحجر: ألا يبقى أثرٌ يزيلُه غير الماء، وبالماء: عَوْدُ المحل كما كانَ، واجبٌ، واستيفاء ثلاث مسحات واجبٌ، فإن حصل بها الإنقاء، وإلا زيد حتى ينقي، فإن حصل بوتر، فلا زيادة، والأسنُّ زيادته ليقطعَه على وترٍ، والواجبُ تثليثُ المسحات، لا الحجرِ، ولا بد أن تعم كل المسحة المحل -على المعتمد-، ولم يشترط أبو حنيفة ومالكٌ التثليثَ، والحديثُ حجة لنا - كالشافعية - عليهما؛ لظاهر أمرِه صلى الله عليه وسلم، لكن هذا الحديث لا يدل على الإيتار بالثلاث، إلا أنه يؤخذ تعيينها من بقية الأحاديث، ففي "صحيح مسلم": عن سلمان رضي الله عنه قال بعض المشركين- وهم يستهزئون - لسلمانَ: إني أرى صاحبَكم يعلمكم حتى الخِراءَةَ، قال سلمانُ: أَجَلْ، أمرنا ألا نستقبل القبلة، ولا نستنجيَ بأيماننا، ولا نكتفيَ بدون ثلاثة أحجار ليس فيها رَجيعٌ ولا عظمٌ، ورواه الإمام أحمد (1).
وروى الإمام أحمدُ، والدارقطني، وغيرُهما، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ لِحَاجَتِهِ، فَلْيَسْتَطِبْ بِثَلاثَةِ أَحْجَارٍ، فإنها تُجْزِيهِ"(2).
وفي "البخاري": عن عبدِ الله بنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال: أتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الغائطَ، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدتُ حجرين،
= (ص: 13)، و"لسان العرب" لابن منظور (5/ 273)، (مادة: وتر).
(1)
رواه مسلم (262)، كتاب: الطهارة، باب: الاستطابة، والإمام أحمد في "المسند"(5/ 437).
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(6/ 108)، والدارقطني في "سننه"(1/ 54)، والنسائي (44)، كتاب: الطهارة، باب: الاجتزاء في الاستطابة بالحجارة دون غيرها، وغيرهم.
والتمستُ الثالثَ فلم أجدْه، فأخذتُ رَوْثَةً، فأتيتُه بها، فأخذ الحجرينِ، وألقى الروثةَ، وقال:"هذا رِكْسٌ"(1).
وذكره الدارقطني في "سننه"، وقال فيه: وألقى الروثة، وقال:"إِنها رِجْسٌ، ائْتِني بِحَجَرٍ"(2).
وأخرجه الإمام أحمدُ في "مسنده" عن ابنِ مسعودٍ، وفيه: وألقى الروثةَ، وقال:"إِنها رِكْسٌ ائتِني بحجرٍ"(3)، ورجالُه ثقاتٌ أثباتٌ.
فسقط احتجاجُ الإمام الطحاوي من أئمة محدثي الحنفية باستدلاله بإلقاء الروثة على عدم اشتراط الثلاثة، قال: لأنه لو كان مشترطاً، لطلب ثالثاً (4).
على أن في استدلاله من حيثُ هو نَظَرٌ؛ لاحتمال أن يكون اكتفى بالأمر الأول في طلب الثلاثة، ولم يجد الأمر بطلب الثالث، أو اكتفى بطرف أحدهما عن الثالث؛ لأن المقصودَ بالثلاثة أن يمسحَ بها ثلاثَ مسحات، وذلك حاصلٌ ولو بواحد، والدليل على صحته: أنه لو مسح بطرفٍ واحدٍ ورماه؛ فجاء شخصٌ آخرُ فمسح بطرفه الآخرِ، لأجزأَهما بلا خلاف (5).
والحاصلُ: اعتبار التثليث في الاستجمار، وبه قال إمامنا الإمام أحمدُ،
(1) رواه البخاري (155)، كتاب: الوضوء، باب: الاستنجاء بالحجارة.
(2)
رواه الدارقطني في "سننه"(1/ 55)، إلا أنه قال:"إنها ركس" كلفظ الإمام أحمد الآتي.
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 450).
(4)
انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (1/ 122)، ونصُّه:" .. لأنه لو كان لا يجزىء الاستجمار بما دون الثلاث، لما اكتفى بالحجرين".
(5)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 257).
والإمام الشافعي، وأصحاب الحديث؛ لِما ذكرنا من الأحاديث.
قال الخطابي: لو كان القصدُ الإنقاءَ فقط؛ لخلا اشتراطُ العدد عن الفائدة، فلما اشترط العدد لفظاً، وعلم الإنقاء فيه معنى، دل على إيجاب الأمرين، ونظيرُه العِدةُ بالأقراءِ؛ فإن العدد يشترط ولو تحققت براءة الرحمِ بقَرْءٍ واحد (1).
غريبة: حمل بعضُ العلماء الاستجمارَ على استعمال البَخور للتطيب؛ فإنه يقالُ فيه: تَجَمَّرَ واستجْمَرَ؛ فقد روي عن الإمام مالك، قال القاضي عياض: اختلف قولُ مالكٍ وغيرِه في معنى الاستجمار في هذا الحديث، فقيل: هذا يعني الذي فسرناه أولاً، وقيل: المرادُ به في البخور: أن يأخذَ منهُ ثلاثَ قطع، أو يأخذَ منه ثلاثَ مرات، يستعمل واحدة بعد أخرى، والأول أظهر، انتهى (2).
(وَإِذَا اسْتَيْقَظَ): استفعل؛ من اليقظة، والاستيقاظُ هو الانتباهُ (أَحَدُكُمْ) معشرَ المكلفين (مِنْ نَوْمِهِ)، قال بعضُهم: حقيقةُ النوم: استرخاءُ البدن، وزوالُ الاستشعار، وخفاء كلام مَنْ عندَه، والنعاسُ مقدمتُه (3)، وهو ريح لطيفٌ يأتي من قِبَلِ الدماغ يغطي على العين، ولا تصل إلى القلب، فإذا وصلت إلى القلب، كانت نوماً، فيختص الحكمُ بالنوم دون النعاس، ولو كثيراً.
(1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 12 - 13)، ونص الإمام الخطابي مختلف عما أورده الشارح هنا؛ لأنه نقله من اختصار الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(1/ 257) لكلام الخطابي.
(2)
انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 30).
(3)
انظر: "روضة الطالبين" للإمام النووي (1/ 74).
(فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ) تثنية يد، وحقيقتها إلى الكوع، ويقال فيه: كاعٌ، وهو طرف الزَّنْدِ الذي يلي الإبهام، وطرفُه الذي يلي الخنصرَ كُرْسوعٌ، والذي يلي الوسطى رُسْغٌ، وإنما دخل الزندُ في الوضوء بقيدِ:{إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، ويكون غسل يديه (قَبْلَ أَنْ يَدْخِلَهُما) أو إحداهما (في الإِناءِ)؛ أي: الوعاءِ الذي فيه الماء إذا كان يسيراً دون القُلتين، ولا بد من تكرار غسلِهما (ثلاثاً) من المرات بنيةٍ شُرطت، وتسميةٍ وجبتْ، ثم علل صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله:(فَإِن أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي)؛ أي: لا يعلم، فإن الدراية تُرادفُ العلمَ (أَيْنَ) ظرفُ مكان (باتَتْ) من البيتوتة، والمبيت إنما يكون بالليل دون النهار، فلهذا خُص الحكمُ بالنوم ليلاً (يَدُهُ)(1).
ولأبي داود: "فَإِنَّهُ لا يَدْري أَيْنَ باتَتْ، أَوْ أَيْنَ كانَتْ تَطُوفُ يَدُهُ"(2)؛ أي: من جسده.
قال الشافعي: كانوا يستجمرون وبلادُهم حارةٌ، فربما عرقَ أحدُهم إذا نام، فيحتمل [أن] تطوف يدُه على المحل، أو على بَثْرةٍ، أو دمِ حيوان، أو قَذَرٍ غير ذلك (3).
وتعقبه أبو الوليد الباجي بأن ذلك يستلزمُ الأمرَ بغسل ثوبِ النائم (4)؛ لجواز ذلك عليه، وأجيبَ بأنه محمولٌ على ما إذا كان العرق في اليد دون المحل، وأن المستيقظَ لا يريد غمسَ ثوبه في الماء حتى يؤمرَ بغسله،
(1) انظر: "النكت على عمدة الأحكام" للزركشي (ص: 11 - 12).
(2)
رواه أبو داود (105)، كتاب: الطهارة، باب: في الرجل يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها.
(3)
انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (1/ 411)، وكذا "شرح مسلم " له (3/ 179).
(4)
انظر: "المنتقى شرح الموطأ" لأبي الوليد الباجي (1/ 297).
بخلافِ اليد؛ فإنه يحتاج إلى غمسِها، قال الحافظُ ابن حجر: وهذا أقوى الجوابين (1).
تنبيهات:
أحدها: أخذ الإمام أحمد رضي الله عنه بظاهر هذا الحديث، فأوجب غسل اليدين من نوم ليل ناقض لوضوء في أصح الروايتين عنه، وأنه تعبدي؛ كغسل الميت، فتشترط النيةُ، وتجب التسميةُ في الأصح، والأصح لا يجزىء عن نيةِ غسلهما نيةُ الوضوء؛ لأنها طهارة مفردة لا من الوضوء، وقيل: معلل بوهم النجاسة؛ كجعل العلة في النوم استطلاق الوِكاءِ بالحدث، وهو مشكوكٌ فيه، وقيل: بمبيت يده ملابسة للشيطان، وكونُه تعبدياً هو المذهب.
ودليل الوجوب ظاهرُ الحديث؛ لأن الأمر يقتضيه، وهو مذهب ابن عمر، وأبي هريرة رضي الله عنهم، وقول الحسن.
وعنه: إنه مستحب لا واجب، وهو اختيار الخرقي، وقدمه في "الرعايتين"(2)، و"الحاوي"(3)، قال المجد: وهو الصحيح، واختاره الموفق والشارحُ.
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 264 - 265).
(2)
كتابا "الرعاية الصغرى" و "الرعاية الكبرى" في الفقه، للفقيه الأصولي أحمد بن حمدان أبو عبد الله الحراني، المتوفى سنة (695 هـ). قال ابن رجب:"فيها نقول كثيرة جداً، لكنها غير محررة". انظر: "ذيل طبقات الحنابلة"(2/ 331)، و"كشف الظنون" لحاجي خليفة (1/ 908)، و"معجم مصنفات الحنابلة" لعبد الله الطريقي (3/ 267 - 268).
(3)
كتاب "الحاوي" في الفقه لابن حمدان أيضاً، انظر:"معجم مصنفات الحنابلة"(3/ 273).
قال شيخ الإسلام ابنُ تيميةَ: اختاره الخرقي وجماعة (1)، وصححه في "التصحيح"، و"النظم" ، و"مجمع البحرين"، واختاره ابن عبدوس (2)، وبه قال الجمهور، منهم: عطاء ، والأوزاعي ، وأبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وإسحاق ، وابن المنذر؛ لأن الله تعالى قال:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6].
قال زيدُ بنُ أسلمَ: تفسير هذا: إذا قمتم من النوم (3)، ولأن القائم من النوم داخل في عموم الآية، وقد أمره الله تعالى بالوضوء من غير غسل الكفين في أوله، والأمر يقتضي الإجزاء بفعل المأمور به، ولأنه قائم من نوم، فأشبه القائم من نوم النهار، وعليه: فالأمر في الحديث محمولٌ على تأكيد الاستحباب، كما في حديث أبي هريرة مرفوعاً:"إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ، فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ على خَياشِيمِهِ" متفق عليه (4).
ويدل على إرادة الاستحباب بقليله باحتمال النجاسة ووهمها، وذلك يقتضي الاحتياطَ والاحترازَ على سبيل الندب لا الوجوب؛ لما تقرر في الشرع أن طَرَيان الشك على يقين الطهارة لا يؤثر فيها، وإنما خُص بنوم الليل؛ لأنه يطول غالباً، ويتجرد له، فيكون وهمُ النجاسة فيه أظهرَ، فتأكد
(1) انظر: "شرح العمدة في الفقه" لابن تيمية (1/ 175).
(2)
انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 130 - 131).
(3)
رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(6/ 112)، والدارقطني في "سننه"(1/ 39).
(4)
رواه البخاري (3121)، كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده، ومسلم (238)، كتاب: الطهارة، باب: الإيتار في الاستنثار والاستجمار، وهذا لفظ مسلم.
الاستحبابُ له، وأيضاً جاء في لفظٍ صحيح:"إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَأَرَادَ الطَّهُورَ، فَلا يَضَعَنْ يَدَهُ في الإناءِ حَتَّى يَغْسِلَها"(1)، وهذا يدل على أنه أرادَ به غسلَ اليد المسنونَ عندَ الوضوء؛ لأنه قيده بحالة إرادة الوضوء، وعلى القول بالوجوب هو واجبٌ بنفسه، يجوز تقدمُه على الوضوء بالزمن الطويل، ويُفرد بنية وتسمية، وهذا خلاف ظاهر النص؛ ولأن الوجوبَ لا يجوزُ أن يكون عن نجاسة؛ لطهارتهما بالإجماع، ولا عن حدث؛ لأنه لا يكفي غسلُهما في جملة الأعضاء بنية الحدث، ولا يجزيهما غسلةٌ واحدة، وكونه تعبدياً ينافيه تعليلُه في الحديث، وتعليلُ الأمر التعبدي على خلاف الظاهر، فعُلم أنه سنةٌ لا واجب، والمذهب الأَولُ.
الثاني: لو غمس يَدَه المستيقظُ من نومِ ليلٍ ناقضٍ لطهارته قبل غسلِها ثلاثاً، هل يؤثر غمسُها في الماء، أو لا؟ فيه عن الإمام أحمد رضي الله عنه روايتان:
إحداهما: أنه يسلب الماءَ اليسيرَ الطهوريةَ، قدمه في "الفروع"(2) و"ناظم المفردات"، وهو منها.
قال ابن منجا في "النهاية"(3): عليه أكثر الأصحاب.
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 395)، عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً.
(2)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 52).
(3)
هو كتاب: "النهاية شرح الهداية لأبي الخطاب " للشيخ أبو المعالي بن المنجا بن بركات التنوخي، المتوفى سنة (606 هـ)، في بضعة عشر مجلداً، قال ابن رجب: فيها فروع ومسائل غير معروفة في المذهب، والظاهر أنه كان ينقلها من كتب غير الأصحاب، ويخرجها على ما يقتضيه عنده المذهب. انظر: "ذيل =
وقال في "مجمع البحرين": هذا المنصوص للحديث، فإنه لو لم يؤثر غمسُها في الماء، لم يكن للحديث فائدة، فأما غمسُ يدِ المستيقظ من نوم النهار، فلا يؤثر، روايةً واحدةً، وسَوَّى الحسنُ بينهما (1)، ولنا: أن الحديث دل على تخصيص نوم الليل بقوله: "لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ"، والمبيت إنما يكون في الليل خاصة، ولا يصح قياسُ نوم النهار عليه؛ لأن الغسلَ وجبَ تعبداً، فلا تصح تعديتُه، وأيضاً الليلُ مَظِنةُ الاستغراقِ في النوم فيه، وطول مدته، فاحتمالُ ما يحدثُ لليد فيه أكثرُ من نوم النهار. قال الإمام أحمد رضي الله عنه في رواية الأثرم: الحديثُ في المبيت بالليل، فأما النهار، فلا بأسَ (2).
الثالث: يتفرع على رواية وجوب غسل اليدين، وأن غمسها في الماء اليسير يؤثر فيه، مسائل:
منها: لا بد -على المذهب المعتمد- من غمس كل اليد، ولو بلا نية، أو بعضِها بنية.
ومنها: غمسُها بعد غسلها دون الثلاث؛ كغمسها قبل غسلها؛ لبقاء النهي على الأصح.
ومنها: لا فرق بين أن يكون النائم مطلقَ اليد، أو مشدودَها، أو في جراب، أو بات مكتوفاً؛ لعموم الأخبار، ولأن الحكم إذا تعلق بالمظنة تسقط حكم الحكمة؛ كالعدة الواجبة لاستبراء الرحم في حق الصغيرة، والآيسة.
= طبقات الحنابلة" لابن رجب (2/ 49)، و"معجم مصنفات الحنابلة" لعبد الله الطريقي (3/ 12).
(1)
انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 22).
(2)
انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 71).
ومنها: الحكم يخص اليدَ دون بقية الأعضاء من رِجْل وفم.
ومنها: لا أثر لغمسِها في مائعٍ طاهر في الأصح، كما في "الفروع"(1) وغيره.
الرابع: اتفق الأربعةُ على أنه لو غمس يده، لم ينجس الماءُ.
وقال إسحاقُ بنُ راهويه، وداودُ الظاهري، والطبري: ينجُس الماء، واستدل لهم بما ورد من الأمر بإراقته، لكنه حديث ضعيف أخرجه ابن عدي (2)، وهو رواية عندنا.
الخامس: ظاهرُ صنيع المصنف - رحمه الله تعالى - أن لفظة "ثلاثاً" من متفق الشيخين، وليس كذلك، بل هي مما انفرد به مسلم عن البخاري.
قال الحافظ عبد الحق في "الجمع بين الصحيحين": "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلا يَغْمِسْ يَدَهُ في الإناءِ حَتى يَغْسِلَهَا ثَلاثاً؛ فإنهُ لا يَدْري أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ"، وفي لفظٍ. "فَلْيُفْرِغْ عَلَى يَدِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ في إِنائِهِ؛ فَإِنهُ لا يَدْرِي فِيمَ باتَتْ يَدُهُ"(3)، لم يقل البخاري: ثَلاثاً، وقالَ:"قبلَ أن يُدْخِلَها في وَضوئِهِ"، وفي بعض طرقه:"في الإناء"(4).
(1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 53).
(2)
رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(6/ 374)، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"إذا استيقظ أحدكم من منامه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها، ثم ليتوضأ، فإن غمس يده في الإناء من قبل أن يغسلها، فليهرق ذلك الماء". قال ابن عدي: وقوله في هذا المتن: "فليهرق ذلك الماء" منكر لا يحفظ.
(3)
وهي رواية مسلم المتقدم تخريجها في حديث الباب.
(4)
انظر: "الجمع بين الصحيحين" للإشبيلي (1/ 221)، حديث رقم (379).
وفي "شرح الوجيز"(1) لم يذكر البخاري ثلاثاً (2)، والله أعلم.
وقال الحافظ - قدس الله رُوحَه -: (و) روي (في لفظٍ)(لـ) ـلإمام (مسلم) في "صحيحه": (إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْتَنْشِقْ)؛ أي: يجذب الماء، (بِمَنْخِرَيْهِ) تثنيةُ مَنْخِر: ثَقْب الأنفِ، كما في "الصحاح"، وقد تكسر ميمه إِتباعَاً لكسرة الخاء، والمنخورُ لغةٌ فيه (3).
قال في "المصباح": المَنْخِر- وزان: مسجدٍ -: خَرْقُ الأَنْفِ، وأصلُه: موضعُ التنخيرِ، وهو الصوتُ من الأنف، يُقال: نَخَرَ يَنْخُر؛ من باب قتل يقتُل: إذا مدَّ النفَس من الخياشيم، وكسرُ الميم للإتباع لغةٌ، ومثله: مِنْتِن، قالوا: ولا ثالثَ لهما (4).
وفي "القاموس": المنخر -بفتح الميم والخاء، وبكسرهما وضمهما، وكمجلس، ومُلْمول -: الأنفُ. ونخرة الأنف: مقدمته، أو خرقه، أو ما بين المنخرين، أو أرنبته (5).
(مِنَ الماءِ) متعلق بيستنشق؛ أي: يجذب الماء بالنفَسِ إلى أقصى الأنف، ولا يجعلهُ سُعوطاً. (وفي لفظ) له:(مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ) بدل
(1) هو كتاب: "فتح الملك العزيز بشرح الوجيز" لأبي الحسن علي بن محمد الهيتي البغدادي، المعروف بالعلاء ابن البهاء، المتوفى سنة (900 هـ)، انظر:"الجوهر المنضد" لابن عبد الهادي (ص: 104)، و"المدخل المفصل" لبكر أبو زيد (2/ 751)، و"معجم مصنفات الحنابلة" لعبد الله الطريقى (5/ 24).
(2)
وقال الزركشي في "المعتبر"(ص: 135): لفظة: "ثلاثاً" لم يروها البخاري، ومن ذكرها في المتفق عليه؛ كصاحب "العمدة"، فقد وهم.
(3)
انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 824 - 825)، (مادة: نخر).
(4)
انظر: "المصباح المنير" للفيومي (2/ 596).
(5)
انظر: " القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 618)، (مادة: نخر).
فليستنشقْ، من الاستنثارِ: وهو إخراجُ الماء من الأنف بالنفَس بعد استنشاقه، وهو جذبُه الماء بنَفَسه، فللداخلِ استنشاقٌ، وللخارج استنثارٌ.
تنبيه:
ظاهر صَنيعِ الحافظ رحمه الله أن هذا السياق حديثٌ واحد، وهو ظاهرُ صنيع البخاري، وليس كذلك في "الموطأ"، وقد أخرجه أبو نعيم في "المستخرَج من الموطأ" رواية عبدِ الله بنِ يوسفَ شيخِ البخاري مفرقاً، وكذا أخرجَ مسلمٌ الحديث الأولَ من طريق ابن عُيينةَ عن أبي الزناد، والثاني من طريق المغيرة بنِ عبدِ الرحمن عن أبي الزناد.
وكأنَّ الإمام البخاري يرى جواز جمعِ الحديثين إذا اتحد سندُهما في سياق واحد، كما يرى جواز تفريق الحديث الواحد إذا اشتمل على حكمين مستقلين، والله أعلم (1).
* * *
(1) من كلام الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(1/ 263).