الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السادس
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الإِبِطِ"(1).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (5550)، كتاب: اللباس، باب قص الشارب، و (5552)، باب: تقليم الأظفار، و (5939)، كتاب: الاستئذان، باب: الختان بعد الكِبَر ونتف الإبط، ومسلم (257)، (1/ 221 - 222)، كتاب: الطهارة، باب: خصال الفطرة، وأبو داود (4198)، كتاب: الترجل، باب في أخذ الشارب، والنسائي (9)، كتاب: الطهارة، باب: ذكر الفطرة الاختتان، و (10)، باب: تقليم الأظفار، و (11)، باب: نتف الإبط، و (5043)، كتاب: الزينة، باب: من السنن الفطرة، و (5225)، باب: ذكر الفطرة، والترمذي (2756)، كتاب: الأدب، باب: ما جاء في تقليم الأظفار، وابن ماجه (292)، كتاب: الطهارة، باب: الفطرة.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (4/ 211)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 334)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (10/ 215)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 61)، و"المفهم للقرطبي"(1/ 511)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 146)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 84)، و"طرح التثريب" للعراقي (2/ 71)، و"فتح الباري" لابن حجر، (10/ 336)، و"عمدة القاري" للعيني (22/ 44)، و"فيض القدير" للمناوي (3/ 455)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 133).
(عن أبي هريرة) عبدِ الرحمن بنِ صخر (رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الفطرة).
قال في "النهاية": الفَطْرُ: الابتداء والاختراع، والفِطْرَة منه: الحالةُ، كالجِلْسَةِ والرِّكْبَةِ (1).
والمراد بالفطرة هنا: السُّنَّةُ، ومنه: فطرةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ أي: دينُ الإسلام الذي هو منسوب إليه.
والمعنى: أنها من سنن الأنبياء والمرسلين الذين أُمرنا أن نقتدي بهم فيها.
قال أبو عبد الله محمدُ بنُ جعفر القزاز في "تفسير غريب صحيح البخاري": الفطرة في كلام العرب تنصرف على وجوه، منها: الخلق، والإنشاء، ومنها: الجِبِلَّة التي خلقَ اللهُ الناسَ عليها، وجبلهم على فعلها.
وفي الحديث: "كلُّ مولودٍ يولَد على الفطرة"(2)؛ يعني: على الإقرار بالعبودية لله وتوحيده الذي كانوا أقروا به لما أخرجهم من ظهر آدم.
والفطرة: زكاة الفطر.
قال: وأولى الوجوه: أن تكون الفطرة في هذا الحديث: ما جبل اللهُ الخلقَ عليها، وجبلَ طباعَهم على فعله، وهي كراهةُ ما في جسده مما ليس من الزينة، انتهى ملخصاً (3).
(1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 457).
(2)
رواه البخاري (1319)، كتاب: الجنائز، باب: ما قيل في أولاد المشركين، ومسلم (2658)، كتاب: القدر، باب: معنى: "كل مولود يولد على الفطرة"، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 84).
وقال الحافظ ابن حجر في "شرح البخاري": قال الخطابي: ذهب أكثر العلماء إلى أن المراد بالفطرة هنا: السنة (1). وكذا قاله غيره، قالوا: والمعنى أنها من سنن الأنبياء.
وقالت طائفةٌ: المعنيُّ بالفطرة: الدين، وبه جزم أبو نعيم في "المستخرج"(2)، واستشكل ابن الصلاح ما ذكره الخطابي، فقال: معنى الفطرة بعيدٌ من معنى السُّنة، لكن لعل المراد أنه على حذف مضافٍ، أي: سنة الفطرة. وتعقبه النووي: بأن الذي ذكره الخطابي هو الصواب؛ فإن في "صحيح البخاري" عن ابن عمر عن النبي، قال:"من السُّنة قَصُّ الشارب، ونتفُ الإبط، وتقليمُ الأظفار"(3)، وأصح ما فُسر الحديث بما في رواية أخرى، لا سيما في البخاري، انتهى.
وتبعه ابنُ الملقن على هذا.
قال الحافظ ابن حجر: ولم أر الذي قاله في شيءٍ من نسخ البخاري، بل الذي فيه من حديث ابن عمر بلفظ: الفطرة، وكذا من حديث أبي هريرة.
نعم، وقع التعبير بالسنة موضعَ الفطرة في حديث عائشة عند أبي عَوانة في روايةٍ، وفي أخرى بلفظ: الفطرة (4)؛ كما في رواية مسلمٍ والنسائيِّ وغيرِهما (5).
(1) انظر: "معالم السنن" للخطابي (4/ 211).
(2)
انظر: "المسند المستخرج على صحيح مسلم" لأبي نعيم الأصبهاني (1/ 315).
(3)
رواه البخاري (5549)، كتاب: اللباس، باب: قص الشارب، بلفظ:"من الفطرة" بدل "من السنة"، وسيأتي تنبيه الحافظ عليه.
(4)
انظر: "مسند أبي عوانة"(1/ 190 - 191).
(5)
رواه مسلم (261)، كتاب: الطهارة، باب: خصال الفطرة، والنسائي (5040)، كتاب: الزينة، باب: من سنن الفطرة. قلت: قد وقع في "السنن الكبرى" =
وقال الراغب: أصلُ الفَطر -بفتح الفاء-: الشَّقُّ طولاً، ويُطلق على الوهي، وعلى الاختراع، وعلى الإيجاد، والفطرة: الإيجاد على غير مثال (1).
وقال أبو شامة: أصلُ الفطرة: الخلقة المبتدأة، ومنه:{فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1]، أي: المبتدىء خلقَهُنَّ، وقوله صلى الله عليه وسلم:"كل مولودٍ يولد على الفطرة"(2)، أي: على ما ابتدأ الله خلقَه عليه.
وفيه: إشارة إلى قوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30].
والمعنى: أن كل واحدٍ لو تُرك من وقت ولادته وما يُؤديه إليه نظره، لأدَّاه إلى الدين الحق، وهو التوحيدُ لله، وقوله تعالى قبلها:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ} [الروم: 30]، وإليه يشير في الحديث:"فأَبَواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه".
قال الحافظ ابن حجر: والمرادُ بالفطرة في حديث الباب: أن هذه الأشياء إذا فُعلت، اتصف فاعلُها بالفطرة التي فطر الله العبادَ عليها، وحثَّهم على فعلها، واستحَبَّها لهم، ليكونوا على أكمل الصفات وأشرفِها صورةً، انتهى (3).
= للبيهقي (1/ 149) لفظ: "من السنة قص الشارب
…
" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، ثم قال البيهقي: رواه البخاري في الصحيح عن أحمد بن أبي رجاء، عن إسحاق بن سليمان، انتهى. فلعلَّ هذا الذي أوقع الإمام النووي في عزوه إلى البخاري بهذا اللفظ، والله أعلم.
(1)
انظر: "مفردات القرآن" للراغب الأصفهاني (ص: 640).
(2)
تقدم تخريجه قريباً.
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 339).
وقال الإمام المحقق ابن القيم في "تحفة المودود": إنما كانت هذه الخصال من الفطرة؛ لأن الفطرة هي الحنيفية ملةُ إبراهيم، وهذه الخصال أُمر بها إبراهيمُ، وهي من الكلمات التي ابتلاه ربُّه بهن؛ كما ذكر عبد الرزاق عن ابن عباس في هذه الآية، قال: ابتلاه بالطهارة، الحديث (1).
ثم قال ابن القيم: والفطرة فطرتان: فطرة تتعلق بالقلب، وهي معرفةُ الله ومحبته وإيثاره على ما سواه، وفطرةٌ تتعلق بالجسد وعليه وهي هذه الخصال، فالأولى: تزكي الروح وتطهر القلب، والثانية: تطهر البدن، وكل منهما تمد الأخرى وتقويها، انتهى (2).
وحاصل هذا كله أن المراد بالفطرة في هذا الحديث: السنة القديمة التي اختارها الأنبياء، واتفقت عليها الشرائع، فكأنها أمر جِبِلِّيّ فُطِروا عليها.
(خمسٌ)، أو "خمسٌ من الفطرة" بالشك لهما، ولأبي داود، وهو من سفيان بن عُيينة (3).
ووقع في رواية الإمام أحمد: "خمسٌ من الفطرة"، ولم يشك (4)، وكذا في رواية معمر عن الزهري عند الترمذي، والنسائي (5).
(1) رواه عبد الرزاق في "تفسيره "(1/ 57)، والطبري في "تفسيره"(1/ 524)، والحاكم في "المستدرك"(3055)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 149).
(2)
انظر: "تحفة المودود بأحكام المولود" لابن القيم (ص: 160 - 161).
(3)
تقدم تخريجها في حديث الباب، برقم (5550) عند البخاري، و (257)، (1/ 221) عند مسلم، و (4198) عند أبي داود.
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 229).
(5)
تقدم تخريجها في حديث الباب، برقم (2756) عند الترمذي، و (10) عند النسائي.
والرواية التي اعتمدها الحافظ - رحمه الله تعالى - هي رواية إبراهيم بن سعد "الفطرةُ خمسٌ" عند البخاري، وكذا عند مسلم من رواية يونس بن يزيد عن الزهري.
قال ابن دقيق العيد: دلالةُ "من" على التبعيض، أظهرُ من دلالة هذه الرواية على الحصر، وقد ثبت في أحاديث أخرى زيادة على ذلك؛ فدل على أن الحصر فيها غير مراد (1).
قال الحافظ ابن حجر: واختلف في النكتة في الإتيان بهذه الصيغة، فقيل برفع الدلالة، وأن مفهوم العدد ليس بحجة.
وقيل: بل كان أَعْلَمَ أولاً بالخمس، ثم أَعْلَمَ بالزيادة.
وقيل: بل الاختلاف في ذلك بحسب المقام، فذكر في كل موضعٍ اللائقَ بالمخاطبين.
وقيل: أريد بالحصر المبالغةُ لتأكيد أمر الخمس المذكورة، كما حمل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"الدينُ النصيحةُ"(2)، و"الحَجُّ عرفةُ"(3)، ونحوهما.
وذكر ابن العربي أن خصال الفطرة تبلغُ ثلاثين خصلةً (4).
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 84 - 85).
(2)
رواه مسلم (55)، كتاب: الإيمان، باب، بيان أن الدين النصيحة، من حديث تميم الداري رضي الله عنه.
(3)
رواه أبو داود (1949)، كتاب: المناسك، باب: من لم يدرك عرفة، والنسائي (3016)، كتاب: مناسك الحج، باب: فرض الوقوف بعرفة، والترمذي (889)، كتاب: الحج، باب، ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع، فقد أدرك الحج، وابن ماجه (3015)، كتاب: المناسك، باب: من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه.
(4)
انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي المالكي (10/ 215).
وتعقبه الحافظ ابن حجر بأنه إن أراد خصوصَ ما ورد بلفظ الفطرة، فليس كذلك، وإن أراد أعمَّ من ذلك، فلا تنحصر في الثلاثين، بل تزيد كثيراً.
وأقل ما ورد في خصال الفطرة: حديثُ ابن عمر عند البخاري: "من السُّنة: حلقُ العانة، وتقليمُ الأظفار، وقَصُّ الشارب (1) "؛ فإنه لم يذكر إلا ثلاثاً.
وفي لفظٍ: "الفطرة"(2).
وفي آخر: "من الفطرة".
وأكثر ما ورد فيها من مجموع الأحاديث خمسَ عشرةَ خَصْلةً، بزيادة عشرِ خصالٍ على ما في الحديث الذي اعتمده المصنف، وهو حديثٌ صحيحٌ متفقٌ على صحته.
وفي "صحيح مسلم" من حديث عائشة رضي الله عنها: "عشرٌ من الفطرة"(3).
وسأنبه على ما زاد في مجموع الأحاديث في آخر شرح هذا الحديث.
(الختان) -بكسر الخاء المعجمة وتخفيف المثناة-: مصدر خَتَنَ؛ أي: قطع، والخَتْنُ -بفتح الخاء فسكون-: قطعُ بعضٍ مخصوصٍ من عضوٍ مخصوصٍ (4).
(1) تقدم تخريجه، والتنبيه على أن لفظ البخاري:"من الفطرة".
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 337).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
انظر: "لسان العرب" لابن منظور (13/ 137)، و"المصباح المنير" للفيومي (1/ 164)، (مادة: ختن).
ووقع في رواية يونس عند مسلم: الاختتان (1).
قال ابن القيم في "تحفة المودود": والختان: اسمٌ لفعل الخاتن، ويسمَّى به موضعُ الختن أيضاً، ومنه:"إذا التقى الخِتانان، وجب الغُسْلُ"(2).
والمراد هنا: الأول.
قال في "التحفة": قال أبو البركات في كتابه "الغاية": يؤخذ في ختان الرجل جلدةُ الحشفة، وإن اقتصر على أخذ أكثرها، جاز (3).
ومثله ما نقله الحافظ ابن حجر عن الماوردي من الشافعية؛ حيث قال: ختانُ الذكر: قطعُ الجلدة التي تُغطي الحشفة، والمستحبُّ أن تُستوعب من أصلها عند أول الحشفة، وأقل ما يجزىء ألا يبقى منها ما يتفش به شيء من الحشفة.
وقال ابن الصباغ: حتى ينكشف جميع الحشفة، انتهى (4).
قال ابن القيم: سئل الإمام أحمد -كما في رواية الفضل بن زياد عنه-: كم يقطع في الختانة؟ قال: حتى تبدو الحشفة.
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 340).
(2)
رواه ابن ماجه (608)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختانان، والإمام الشافعي في "مسنده" (ص: 159)، والإمام أحمد في "المسند"(6/ 239)، وغيرهم، عن عائشة رضي الله عنها. وانظر:"تحفة المودود" لابن القيم (ص: 152).
(3)
انظر: "تحفة المودود" لابن القيم (ص: 190). وانظر: "شرح العمدة" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 246)، و"الإنصاف" للمرداوي (1/ 125).
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 340).
وقال عبد الملك الميموني: قلت لأبي عبد الله: مسألةٌ سئلت عنها؛ ختَّانٌ ختنَ صبياً فلم يستقص، قال: فإذا كان الختان قد جاوز نصفَ الحشفة إلى فوق، فلا يعتد به؛ لأن الحشفة تغلظ، ورأى سهولة الإعادة إذا كانت الختانة في أقل من نصف الحشفة إلى أسفل.
قال ابن القيم: وأما المرأة، فلها عذرتان؛ إحداهما: بكارتها، والأخرى: هي التي يجب قطعها، وهي كعرف الديك في أعلى الفرج بين الشَّفْرَين فوقَ مدخل الذكر، وإذا قُطعت، يبقى أصلها كالنواة (1).
وقال الماوردي: خِتانها: قطعُ جلدة تكون في أعلى فرجها فوقَ مدخل الذكر كالنواة، أو كعرف الديك، والواجب: قطعُ الجلدة المستقبلة منه دون استئصاله.
وقد أخرج أبو داود من حديث أم عطية: أن امرأةً كانت تختن بالمدينة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تنهكي؛ فإن ذلك أحظى للمرأة"، وقال: إنه ليس بالقوي (2).
قال الحافظ ابن حجر: له شاهدان من حديث أنس، وأم أيمن رضي الله عنهما (3).
قال الإمام أحمد: لا تَحيفُ خافضةُ الجارية؛ لأن عمر قال لختّانة النساء: أبقي منه شيئاً إذا خفضتِ (4).
(1) انظر: "تحفة المودود" لابن القيم (ص: 190 - 191).
(2)
رواه أبو داود (5271)، كتاب: الأدب، باب: ما جاء في الختان.
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 340).
(4)
انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 63).
وذكر الإمام عن أم عطيةَ الخبرَ المتقدمَ، وزاد في آخره:"وأحبُّ للبعل" للفعل (1).
قال ابن القيم: ويسمى في حق الأنثى: خَفْضاً، يقال: ختنت الغلام ختناً، وخفضت الجارية خفضاً، قال: ويسمى في الذكر إعذاراً، وقد يقال: الإعذار لهما.
قال أبو عبيدة: عَذَرْتُ الجاريةَ والغلامَ، وأَعْذَرْتُهُمَا: ختنتُهما، واختتنتهما؛ وزناً ومعنى.
قال الجوهري: والأكثرُ خفضتُ الجارية (2).
والذي لم يختتن يسمى: أقلفَ، وأغلفَ، والقُلْفَة والغُلْفَة والغُرْلَة: هي الجلدة التي تقطع.
قال: وتزعم العرب أن الغلام إذا ولد في القمر، فسحت قُلْفته، فصار كالمختون، فختان الرجل الحرفُ المستدير على أسفل الحشفة، وهو الذي تترتب الأحكام على تغييبه في الفرج.
قال: وقد بلغت أربع مئة إلا ثمانية أحكام.
وأما ختان المرأة، فهي جلدةٌ كعرف الديك فوق الفرج، فإذا غابت الحشفة في الفرج، حاذى ختانُه ختانَها، فإذا تحاذيا، فقد التقتا، كما التقى الفارسان إذا تحاذيا وإن لم يتضامَّا، فظهر أن الختان اسمٌ للمحلِّ، وهي
(1) لم يروه الإمام أحمد في "مسنده"، ولا عزاه إليه أحد ممن تكلم في هذا الحديث؛ كابن حجر في "التلخيص الحبير"(4/ 83).
(2)
انظر: "الصحاح" للجوهري (2/ 739)، (مادة: عذر).
الجلدة التي تبقى بعد القطع، واسم للفعل الصادر من الخاتن -كما تقدم-، والله أعلم (1).
تنبيهات:
الأول: المذهب المعتمد: أن الختان واجبٌ، وبه قال الشعبي، وربيعة، والأوزاعي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك، والشافعي، وشدَّد فيه مالك حتى قال: من لم يختتن، لم تصح إمامته، ولم تُقبل شهادتُه، كما في "تحفة المودود".
قال: ونقل كثيرٌ من الفقهاء عن مالك أنه سنةٌ، حتى قال القاضي عياض: الاختتان عند مالك وعامة العلماء سنة (2)، ولكن السنة عندهم يأثم بتركها، فهم يطلقونها على مرتبةٍ بين الفرض والندب، وإلا، فقد صرح مالكٌ بعدم قبول شهادة الأقلف، انتهى (3).
قال ابن دقيق العيد: قد اختلف العلماء في حكم الختان؛ فمنهم من أوجبه، وهو الشافعي، ومنهم من جعله سنةً، وهو مالك وأكثر أصحابه، انتهى (4).
وقال بوجوب الختان من القدماء: عطاءٌ، وشدد فيه، حتى قال: لو أسلم الكبير، لم يُقبل إسلامه حتى يختن (5).
(1) انظر: "تحفة المودود" لابن القيم (ص: 152 - 153). وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 340).
(2)
انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 65).
(3)
انظر: "تحفة المودود" لابن القيم (ص: 162 - 163).
(4)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 86).
(5)
انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (21/ 62).
قال ابن القيم: وقال الحسن البصري، وأبو حنيفة: لا يجب الختان، بل هو سنةٌ، وكذلك قال ابن أبي موسى من علمائنا.
قال: واحتج الموجبون له بوجوه:
أحدها: قوله - تعالى -: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123]، والختان من ملته.
قال غير واحدٍ من السلف: من حجَّ واختتن، فهو حنيفٌ، فالحجُّ والختانُ شعارُ الحنيفية، وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها.
قال الشاعر (1) يخاطب أبا بكر الصديق رضي الله عنه: [من الكامل]
أَخَلِيفَةَ الرَّحْمَنِ إِنَّا مَعْشَرٌ
…
حُنَفاءُ نَسْجُدُ بُكْرَةً وَأَصيلَا
عَرَبٌ نَرَى لِلَّهِ فِي أَمْوَالِنَا .. حَقَّ الزَّكاةِ مُنَزَّلاً تَنْزِيلَا
الثاني: ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود: أن رجلاً -وهو كُليب جدُّ عُثَيْم بنِ كثير (2) - جاء النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: قد أسلمتُ، قال:"أَلْقِ عنكَ شعرَ الكُفْرِ واخْتَتِنْ"(3).
وحملُه على الندب في إلقاء الشعر لا يلزم حمله في الاختتان.
الثالث: ما روى حربٌ في "مسائله" عن الزهري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أسلمَ، فَلْيَخْتَتِنْ، وإن كانَ كبيراً"(4).
(1) هو الراعي النُّميري، كما في "ديوانه" (ص: 136 - 137)، (ق 86/ 45 - 46).
(2)
انظر: "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 471).
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 415)، وأبو داود (356)، كتاب: الطهارة، باب: في الرجل يُسلم فيؤمر بالغسل.
(4)
انظر: "التلخيص الحبير" لابن حجر (4/ 82).
وهذا، وإن كان مرسلاً، فيصلح للاعتضاد.
الرابع: ما رواه البيهقي عن موسى بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي، عن آبائه واحداً بعد واحدٍ، عن علي رضي الله عنه وعنهم -، قال: وجدنا في قائم سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيفة: "إِنَّ الأقلف لا يُترك في الإسلام حتى يَخْتَتِنَ، ولو بلغَ ثمانينَ سنةً".
قال البيهقي: هذا حديثٌ يتفرد به أهلُ البيت بهذا الإسناد (1).
الخامس: ما رواه ابنُ المنذر من حديث أبي برزة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأقلف:"لا يحجُّ بيتَ الله حتى يختتنَ".
وفي لفظٍ: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل أقلفَ يحجُّ بيت الله، قال:"لا، حتى يَخْتتن"(2). ثم قال: إسناده مجهول.
السادس: ما رواه وكيع عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: الأقلفُ لا تُقبل له صلاة، ولا تؤكل ذبيحته (3).
ورواه الإمام أحمد عنه بلفظ: لا تؤكل ذبيحةُ الأقلف.
وكذا قال عكرمة، كما رواه حنبل في "مسائله"، قال: وكان الحسن لا يرى ما قال عكرمة. قال: وقيل لعكرمة: له حج؟ قال: لا.
قال حنبل: وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني أبي، ثنا إسماعيل بن إبراهيم، ثنا سعيد بن أبي عكرمة، عن قتادة، عن جابر بن
(1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 324).
(2)
ورواه أبو يعلى في "مسنده"(7433)، والروياني في "مسنده"(1322)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 324).
(3)
ورواه عبد الرازق في "المصنف"(8562)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(13334).
زيد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الأقلفُ لا تحلُّ له صلاةٌ، ولا تؤكلُ له ذبيحةٌ، ولا تجوز له شهادة.
قال قتادة: وكان الحسن لا يرى ذلك (1).
السابع: الختان من أظهر شعائر الإسلام التي يُفرق بها بين المسلم والنصراني، فوجوبه أظهرُ من وجوب الوتر، وزكاةِ الخيل، ووجوبِ الوضوء على من قهقه في صلاته، ووجوب التيمم إلى المرفقين، حتى إن المسلمين لا يكادون يعدون الأقلفَ منهم.
و-أيضاً- فهو قطعُ عضوٍ لا تؤمنُ سرايته، فلو لم يكن واجباً، لما تجشم تلك المشقة.
و-أيضاً- قد جاز كشف العورة له لغير ضرورةٍ ولا مداواةٍ، فلو لم يجب، لما جاز؛ لأن الحرام لا يزول للمحافظة على المسنون.
و-أيضاً- الوليُّ يفعله بموليه، ويولم فيه، مع كونه عرضةً للتلف بالسراية، ويُخرج من ماله أجرة الخاتن وثمنَ الدواء، ولا تُضمن سرايته بالتلف، ولو لم يكن واجباً، لما جاز ذلك.
و-أيضاً-: فالأقلف معرضٌ لفساد طهارته وصلاته، فإن القلفة تستر الذكر، فيصيبها البول، ولا يمكن الاستجمار لها، فربما توقفت صحة الصلاة والطهارة على الختان؛ ولهذا منع كثيرٌ من السلف والخلف إمامة الأقلف، وإن كان معذوراً في نفسه، فإنه بمنزلة من به سلسُ البول.
فالمقصودُ الأعظم بالختان: التحرزُ من احتباس البول في القُلفة، فتفسد الطهارة والصلاة، ولهذا يسقط بالموت؛ لزوال التكليف بهما.
(1) انظر: "مصنف ابن أبي شيبة"(5/ 12).
و -أيضاً- فهو شعار الحنفاء، ولذا أولُ من اختتن إمامُهم سيدنا إبراهيم، فصار الختان شعار الحنيفية، وهو مما توارثته بنو إسماعيل عليه السلام، وبنو إسرائيل الذي هو يعقوب عليه السلام عن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، وضده شعار عباد النار وعباد الصليب.
فلا ينبغي لعاقل أن يرضى لنفسه ترك سنة هؤلاء الأبرار، واقتفاء شعار هؤلاء الكفار، فالختان علم الحنيفية، وشعارُ الإسلام، ورأسُ الفطرة، وعنوان الملة.
وإذا كان صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يأخذْ شاربَه فليسَ منا"(1)، فكيف بمن عَطَّل الختان، ورضي القلف شعارَ عباد الصلبان؟! فمن أَظْهَرِ ما يُفرَّقُ به بين عباد الصلبان وعباد الرحمن: الختان، وعليه استمر عمل الحنفاء من عهد أبيهم وإمامهم الخليل إبراهيم إلى عهد سيدهم ونبيهم خاتم الأنبياء - عليهما أفضل الصلاة وأتم التسليم -.
ومن أحسن ما يُستدل به على وجوبه ما بدأنا به من أن الله أمرنا باتباع خليله في اتباع ملته.
ولَمَّا أمر الله الحليم الكريم الحكيم خليلَه إبراهيمَ بالاختتان كان عمره ثمانين سنةً - (2) على المشهور عند أئمة المحدثين والمؤرخين من أهل الإيمان -، فَبَادَرَ إلى امتثال الحي القيوم، وختن نفسَه بالقدوم، مبادرة للامتثال، وطاعة لذي العزة والجلال، وجعله فطرة باقية في عقبه يحتج
(1) رواه النسائي (13)، كتاب: الطهارة، باب: قص الشارب، والترمذي (2761)، كتاب: الأدب، باب: ما جاء في قص الشارب، وقال: حسن صحيح، والإمام أحمد في "المسند"(4/ 366)، وغيرهم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه.
(2)
كما سيأتي تخريجه قريباً.
إليها إلى أن يرث الله - جل شأنه - الأرض ومن عليها، ولم تزل الأنبياء من بعده على هذه الطريقة، حتى إن سيدنا عيسى ابن العذراء البتول اختتن متابعةً للخليل إبراهيم ذي العروة الوثيقة، حتى إن النصارى القلفَ لا ينكرون ختانته، ولا يجحدون أمانته.
ويكفي الناصحَ لنفسه من التثبت والتثبيت؛ أذانُ عالمِ أهل البيت الإمامِ الأمة البحر، حبرِ هذه الأمة سيدِنا عبدِ الله بن عباس أذاناً سمعه العامُّ والخاص: أن لا تؤكل ذبيحة من لم يختتن من الناس، ولا صلاة له، ولا حج له. كما أخرجه أئمة الإسلام في كتبهم المتداولة.
والله سبحانه يوفقنا لاتباع الآثار، ويلهمنا رشدنا إنه الرحيم الغفار (1).
الثاني: (2) المذهب المعتمد على ما استقرت به النصوص، وجزم به المتأخرون من أئمة المذهب: وجوبُه أيضاً على النساء.
قال في "شرح الوجيز": وجوبُ الختان على الذكر والأنثى والخنثى هو المذهب، وعليه جمهور علمائنا.
والدليل على وجوبه مطلقاً قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123].
والختان من ملته؛ بدليل ما روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اختتنَ إبراهيمُ خليلُ الرحمنِ بعدما أتتْ عليه ثمانون سنةً، واختتن بالقدوم" متفقٌ عليه (3).
(1) انظر: "تحفة المودود" لابن القيم (ص: 162 - 168، 174 - 175)، وقد تصرف الشارح في بعض عبارات ابن القيم - رحمهما الله -.
(2)
أي: التنبييه الثاني من التنبيهات التي شرع الشارح فيها.
(3)
رواه البخاري (3178)، كتاب: الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ =
إلا أن مسلماً لم يذكر السنين.
قال الإمام أحمد رضي الله عنه في حديث: "إذا التقى الختانان، وجب الغُسل": (1) فيه بيان أن النساء كُنَّ يختتن، وقال: الرجل أشد؛ أي: الوجوبُ في حقه أشد؛ لأنه إذا لم يختتن، فتلك الجلدة مغشية الكمرة، والنساءُ أهون.
وفي رواية أن: الختان ليس بواجب على النساء.
وهو الذي أورده الإمام الموفق في "المغني"(2) عن الإمام أحمد، قاله الحافظ ابن حجر. قال: وفي وجه للشافعية: لا يجب في حق النساء (3).
واحتج من جنح إلى هذا بحديث شداد بن أوس: "الختان سنةٌ للرجال، مكرمة للنساء"(4)، ففرق فيه بين الذكور والإناث، وقد يحتج له بأن الأمر به إنما جاء للرجال، كما أمر الله سبحانه به خليله عليه السلام، ففعله امتثالاً لأمره.
وأما ختان المرأة، فكان سببه يمينُ سارةَ، وذلك أنها لما وهبت هاجرَ لإبراهيم عليه السلام، وأصابها، فحملت منه، غارت سارة، فحلفت لتقطعنّ منها ثلاثة أعضاء، فخاف إبراهيم أن تجدع أنفها، وتقطع أذنها،
= إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [125]، ومسلم (2370)، كتاب: الفضائل، باب: من فضائل إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 63).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 340).
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 75)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(26468)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 325).
فأمرها بثقب أذنيها، وختانِها، فصار ذلك سنةً في النساء بعدها (1).
قال ابن القيم: ولا ينكر هذا كما كان مبدأ السعي سعي هاجر بين الجبلين لالتماسها الغوث، وكما كان مبدأ رمي الجمار حصب إسماعيلَ الشيطانَ لمَّا ذهب مع أبيه، فشرع الله ذلك لعباده؛ تذكرةً وإحياءً لسنة خليله، وإقامةً لذكره، وإعظاماً لعبوديته (2).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية؛ كما في "الفتاوى المصرية" - وقد سئل: هل تختتن المرأة أم لا؟ - فأجاب: نعم، وذكرَ صفة ختانها كما ذكرنا، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للخافضة وهي الخاتنة: "شمي ولا تنهكي، فإنه أبهى للوجه، وأحظى لها عند الزوج"(3)؛ يعني: لا تبالغي في القطع.
وذلك أن المقصود بختان الرجل: تطهيرُه من النجاسة المحتقنة في القلفة، والمقصود من ختان المرأة: تعديلُ شهوتها؛ فإنها إذا كانت قلفاء، كانت مغتلمةً شديدة الشهوة.
قال: ولهذا يقال في المشاتمة: يا بن القلفاء! فإن القلفاء تتطلع إلى الرجال أكثر.
قال: ولهذا يوجد من الفواحش في نساء التتر والإفرنج ما لا يوجد في نساء المسلمين، وإذا حصل المبالغة في ختانها، ضعفت شهوتها، فلا يكمل مقصود الرجل، فإذا قطع من غير مبالغة، حصل المقصود باعتدالٍ، انتهى (4).
(1) انظر: "الروض الأنف" للسهيلي (1/ 41).
(2)
انظر: "تحفة المودود" لابن القيم (ص: 190).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
انظر: "الفتاوى المصرية الكبرى"(1/ 51)، و"مجموع الفتاوى" كلاهما لشيخ =
فائدة:
رويت لفظة: "بالقَدُوم" مخففةً ومشددة.
قال الماوردي وغيره: وهو الفأس.
وقال البخاري: القدوم: -مخففةً-: اسم موضع (1).
وقال المَرُّوذي: سئل أبو عبد الله -يعني: الإمام أحمد-: هل ختن إبراهيمُ نفسَه بقدوم؟ قال: طرف القدوم (2).
وقال أبو داود، وعبد الله بن الإمام، وحرب: إنهم سألوا الإمام أحمد عن قوله: اختتن بالقدوم؟ قال: هو موضع (3).
وقال غيره: هو اسمٌ للآلة، واحتج بقول الشاعر:[من الطويل]
فَقُلْتُ: أَعِيرُوني الْقَدُومَ لَعَلَّنِي
…
أَخُطُّ بِهِ قَبْراً لِأَبْيَضَ مَاجِدِ
وقالت طائفةٌ: من رواه مخففاً، فهو اسم الموضع، ومن رواه مثقلاً، فهو اسم الآلة (4).
قال أبو عبيد الهروي في "الغريبين": إنه اسم مكانٍ.
ويقال: هو كان مقيله. وقيل: اسم قرية بالشام.
قلت: ولعله البلدة المسماة الآن بكفر قدوم؛ فإن بها مكاناً يزعمون أنه الذي اختتن به الخليل.
= الإسلام ابن تيمية (12/ 114).
(1)
انظر: "صحيح البخاري"(3/ 1224)، إلا أنه لم يزد على قوله: مخففة.
(2)
رواه الخلال في كتاب: الترجل من "جامعه"(ص: 59).
(3)
المرجع السابق، الموضع نفسه.
(4)
انظر: "تحفة المودود" لابن القيم (ص: 153).
وذكر لي غير واحدٍ من أهلها: أن اليهود كانت تزوره وتعظِّمه، وقال لي نحو ذلك صاحبنا الشيخ عيسى القدومي الحسيني، ثم قال: منعناهم من ذلك، انتهى.
وقال أبو شامة: هو موضعٌ بالقرب من القرية التي فيها قبره.
وقيل: بقرب حلب.
وجزم غير واحدٍ: أن الآلة بالتخفيف.
وصرح ابن السكيت أنه لا يشدد.
وأثبت بعضهم الوجهين في كل منهما (1).
وروي: أن إبراهيم عليه السلام لما اختتن، كان ابن مئةٍ وعشرين سنة، وأنه عاش بعد ذلك ثمانين، فكمل مئتي سنة (2).
والصحيح: أنه اختتن وهو ابن ثمانين، وعاشر بعدها أربعين، والله الموفق (3).
الثالث: اختلف العلماء في الوقت الذي يُشرع فيه الختان:
قلت: المعتمد عندنا: أنه تعتريه الأحكام الخمسة؛ فيكره يوم ولادته، ومنها: إلى فراغ اليوم السابع.
ثم هو مستحب إلى قبيل الوجوب، فيجب؛ فإن خيف إتلاف، أبيح، وإن تحقق، حرم.
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 342).
(2)
رواه الحاكم في "المستدرك"(4022)، عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفاً، ورواه البيهقي في "شعب الإيمان"(8639) عنه مرفوعاً.
(3)
انظر: "تحفة المودود" لابن القيم (ص: 155 - 156)، و"فتح الباري" لابن حجر (10/ 342).
قال في "الفروع": يجب الختان.
قال شيخنا -يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية-: إذا وجبت الطهارة والصلاة (1).
وفي "صحيح البخاري" من حديث سعيد بن جبير: سئل ابن عباس رضي الله عنهما: مثلَ مَنْ أنت حين قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أنا يومئذٍ مختونٌ، وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك (2).
وقد اختلف في سنه عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولد في الشِّعْب قبل الهجرة بثلاث سنين، وتُوفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وله ثلاثَ عشرةَ سنة.
وروي: أنه كان ابنَ عشر سنين، والمعتمد في سنه: الأول.
وأما قوله رضي الله عنه: وكانوا لا يختتنون الرجل حتى يدرك؛ أي: حتى يقارب البلوغ.
وقد قال رضي الله عنه: إنه كان في حجة الوداع التي عاش بعدها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بضعةً وثمانين يوماً: أنه كان قد ناهز الحلم (3). قال ابن القيم في "تحفة المودود": ختن إبراهيم الخليل عليه السلام ابنه إسماعيل وهو ابن ثلاث عشرة سنةً، وختن ابنَه إسحاق لسبعة أيام من ولادته.
قال: قال شيخنا -يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية-: فصار ختانُ إسحاق
(1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 105).
(2)
رواه البخاري (5941)، كتاب: الاستئذان، باب: الختان بعد الكِبَر، ونمَف الإبط.
(3)
رواه البخاري (1758)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: حج الصبيان.
سنةً في بنيه، وختانُ إسماعيل سنةً في بنيه (1).
وقال الماوردي من الشافعية: له وقتان؛ وقتُ وجوبٍ، ووقت استحبابٍ: فوقت الوجوب: البلوغ، ووقت الاستحباب: قبله.
والاختيار عندهم: في اليوم السابع، ثم في الأربعين، ثم في السنة السابعة، والله أعلم (2).
الرابع: قد اختلف الناس في ختان النبي صلى الله عليه وسلم، فاشتهر بين العامة والقُصَّاص والمُدَّاح: أنه ولد مختوناً.
وقيل: ختنه جبريلُ عند شَقِّ صدره.
وقيل: بل ختنه جدُّه عبدُ المطلب على عادة العرب في ختان أولادهم.
وقد روى ابنُ عبد البر من حديث العباس رضي الله عنه، قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختوناً مسروراً؛ يعني: مقطوع السرة، فأعجب من ذلك جده عبد المطلب، وقال: ليكونن لابني هذا شأنٌ عظيمٌ.
ثم قال ابن عبد البر: ليس إسناده [بالقائم](3).
قال: وقد روي موقوفاً على ابن عمر، ولا يثبت أيضاً (4).
وفي حديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كرامتي على الله أَنِّي وُلدتُ مختوناً، ولم ير سَوْءَتي أحدٌ" رواه الخطيب، وقال: تفرد به سفيان بن محمد المصيصي، وهو
(1) انظر: "تحفة المودود" لابن القيم (ص: 185).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 342).
(3)
في الأصل: "بالغاً".
(4)
انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 51).
منكَر الحديث، ورواه ابن عساكر، وفيه عدةُ مجاهيل (1)، ثم رجَّحَ كونَ عبد المطلب خَتَنَه، أو المَلَك، وأورد ذلك من عدة طرق لا تخلو من مناقشة، والله أعلم (2).
(والاستحداد) -بالحاء المهملة-: استفعالٌ من الحديد، والمراد بها: استعمال الموسى في حلق الشعر من مكانٍ مخصوصٍ من الجسد.
قيل: في التعبير بهذه اللفظة مشروعيةُ الكناية عمَّا يستحيا منه، إذا حصل الإفهام بها، وأغنى عن التصريح.
قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر: أن ذلك من تصرف الرواة.
وقد وقع في رواية النسائي في حديث أبي هريرة هذا التعبيرُ بحلق العانة (3)، وكذا في حديث عائشة، وأنس عند مسلم (4).
قال النووي: المرادُ بالعانة: الشعرُ الذي فوق ذَكَر الرجل وحَوالَيه، وكذلك الشعر الذي حوالَي فرجِ المرأة.
ونُقِلَ عن أبي العباس بن سريج: أنه الشعر النابتُ حولَ حلقةِ الدُّبر.
فتحصل من مجموع هذا: استحباب حلق جميع ما على القبل والدبر وحولهما (5).
(1) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد"(1/ 329)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"، (3/ 412)، ورواه أيضاً: الطبراني في "المعجم الأوسط"(6148)، وفي "المعجم الصغير"(936)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(3/ 24)، وغيرهم.
(2)
انظر: "تحفة المودود" لابن القيم (ص: 200) وما بعدها.
(3)
تقدم تخريجه في حديث الباب، برقم (11) عنده.
(4)
تقدم تخريج حديث عائشة عند مسلم بلفظ: "عشر من الفطرة". أما حديث أنس: فرواه مسلم (258)، كتاب: الطهارة، باب: خصال الفطرة.
(5)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 148).
وذُكر الحلقُ؛ لأنه الأغلب، وإلا فيجوز الإزالةُ بالنورةِ، والنتفِ، وغيرهما.
وقال أبو شامة: العانة: الشعرُ النابت على الرَّكَب -بفتح الراء والكاف-، وهو ما انحدر من البطن، فكان تحتَ السرة وفوقَ الفرج.
وقيل: لكل فخذٍ: ركبٌ.
وقيل: ظاهر الفرج.
وقيل: الفرج نفسه، سواء كان من رجل أو امرأة.
قال: ويستحب إماطةُ الشعر عن القُبل والدُّبر، بل من الدُّبر أولى؛ خوفاً من أن يعلق شيءٌ من الغائط به، فلا يزيله المستنجي إلا بالماء، ولا يتمكن من إزالته بالأحجار (1).
قال في "الفروع": ويحلق عانته، وله قصُّه، وإزالته بما شاء.
والتنوير في العورة وغيرها، فعله الإمامُ أحمد، وكذا النبيُّ صلى الله عليه وسلم، رواه ابن ماجه من حديث أم سلمة (2)، وإسناده ثقات، وقد أُعل بالإرسال.
وقال الإمام أحمد: ليس بصحيح؛ لأن قتادة قال: ما اطَّلى النبيُّ صلى الله عليه وسلم، كذا قاله الإمام أحمد (3). ولفظه: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا اطَّلى وَلِيَ عانتهُ بيدِه (4).
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 343).
(2)
رواه ابن ماجه (3751)، كتاب: الأدب، باب: الاطِّلاء بالنورة.
(3)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 101 - 102).
(4)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 152).
ومقابله حديثُ أنس: كان لا يتنوَّرُ، وكان إذا كثر شعره، حلقه؛ وسنده ضعيف جداً (1).
وفي "الغُنية" لسيدنا الشيخ عبدِ القادر - قدس الله سره -: ويجوز حلقه؛ لأنه تستحب إزالته بالنورة، وإن ذُكِرَ خبرٌ بالمنع، حُمِلَ على التشبه بالنساء، انتهى (2).
قال في "الفروع": وكره الآمدي كثرةَ التنوير (3)؛ لأنه يضعف حركة الجماع.
وقال المروزي: كان أبو عبد الله -يعني: الإمام أحمد- إذا احتاج إلى النورة، تنوَّر في البيت، وأصلحتُ له غيرَ مرةٍ نورةٌ تنور بها.
قال: واشتريت له جلداً ليديه، فكان يُدخل يديه فيه، وينور نفسه، ولا يدع أحداً يلي عورته، إلا من يحل له الاطلاع عليها من زوجةٍ أو أمةٍ، كما في "شرح الوجيز"، قال: والحلق أفضل؛ لموافقته الحديث الصحيح، انتهى (4).
وسئل الإمام أحمد عن أخذ العانة بالمِقْراض، فقال: أرجو أن يجزىء، قيل: فالنتف؟ قال: وهل يقوى على هذا أحد (5)؟
(1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 152) قال البيهقي: المُلائي ضعيف فىِ الحديث، فإن كان حفظه، فيحتمل أن يكون قتادة أخذه أيضاً عن أنس، والله أعلم.
(2)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 152).
(3)
المرجع السابق، الموضع نفسه.
(4)
وانظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 64).
(5)
رواه الخلال في كتاب: الترجل من "جامعه"(ص: 52 - 53). وانظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 64).
وقال ابن دقيق العيد: قال أهل اللغة: العانة: الشعر النابت على الفرج. وقيل: منبت الشعر. قال: وهو المراد في الخبر.
وقال أبو بكر بن العربي: شعرُ العانة أولى الشعور بالإزالة؛ لأنه يَكْثُف ويتلبَّدُ فيه الوسخُ؛ بخلاف شعر الإبط. قال: وأما حلقُ ما حولَ الدبر، فلا يُشرع (1).
وكذا قال الفاكهي في "شرح العمدة": أنه لا يجوز، كذا نقله الحافظ ابن حجر، وقال: كذا قال، ولم يذكر للمنع مستنداً، والذي استند إليه أبو شامة قوي، بل ربما تصور الوجوب في حقِّ من تعيَّنَ ذلك في حقه؛ كمن لم يجد الماء إلا القليل، وأمكنه أن لو حلق الشعر ألا يعلق به شيءٌ من الغائط يحتاج معه إلى غسله، وليس معه ماءٌ زائدٌ على قدر الاستنجاء (2).
وقال ابن دقيق العيد: كأن الذي ذهب إلى استحباب حلق ما حول الدبر، ذكره بطريق القياس.
قال: والأولى في إزالة الشعر الحلقُ اتباعاً، ويجوز النتفُ بخلاف الإبط؛ فإنه بالعكس (3).
وقال النووي: السُّنةُ في إزالة شعر العانة الحلقُ بالموسى في حق الرجل والمرأة معاً، وقد ثبت الحديثُ الصحيح عن جابرٍ في النَّهي عن طروق النساء:"حتى تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وتَسْتَحِدَّ المُغِيبَةُ"(4)؛ يعني: التي غاب زوجها.
(1) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (10/ 216).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 343 - 344).
(3)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 85 - 86).
(4)
رواه البخاري (4791)، كتاب: النكاح، باب: تزويج الثبات، ومسلم =
وقال النووي أيضاً: والأَوْلى في حق الرجل الحلقُ، وفي حق المرأة: النتفُ (1).
واستشكل بأن فيه ضرراً على المرأة بالألم، وعلى الزوج باسترخاء المَحَلِّ؛ فإن النتف يُرخي المحل باتفاق الأطباء.
ومن ثم قال ابن دقيق العيد: إن بعضهم مال إلى ترجيح الحلق في حق المرأة، لأن النتف يرخي المحل (2).
لكن قال ابن العربي: إن كانت شابةً، فالنتفُ في حقها أولى؛ لأنه يربو مكان النتف، وإن كانت كهلةً، فالأولى في حقها الحلقُ؛ لأن النتف يُرخي المحل (3).
ولو قيل: الأولى في حقها التنوُّر مطلقاً، لما كان بعيداً.
وإذا طلب الزوج من امرأته وسُرِّيته إزالةَ شعر عانتها ونحوه، وجب عليها.
قال في "الإقناع" كغيره: وله: أي: الزوج - إجبارُها -أي: الزوجة- على غسل نجاسةٍ، واجتنابِ مُحَرَّمٍ، وأخذِ شعرٍ وظفرٍ تعافه النفس، وإزالة وسخٍ، فإذا احتاجت إلى شراء الماء، فثمنه عليه (4).
= (715)، كتاب: الرضاع، باب: استحباب نكاح البكر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(1)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 148) و (10/ 54).
(2)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 86).
(3)
انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (10/ 216).
(4)
انظر: "الإقناع" للحجاوي (3/ 422).
تنبيه:
في قدر ما يترك شعر العانة.
قال في "الإقناع"(1) كغيره -وهو في "الفروع"-: ويفعله كلَّ أُسبوع، ولا يتركه فوقَ أربعين يوماً عند الإمام أحمد.
قال في "الغنية": رُوي عنه أنه احتج بالخبر، وصححه (2).
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية: كم مقدار أن يقعد الرجل حتى يحلق عانته؟
أجاب بما روي عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لهم في حلقِ العانةِ ونتفِ الإبط ونحوِ ذلك لا يترك أكثرَ من أربعين يوماً، وهو في الصحيح، انتهى (3).
قلت: هو في "صحيح مسلم"(4)، والله أعلم.
(وقص الشارب): أصلُ القص: تَتَبُّعُ الأثر، وقيَّده ابنُ سيدَهْ في "المحكم" بالليل (5).
والقص -أيضاً-: إيرادُ الخبر تماماً على مَنْ لم يحضره.
ويُطلق على قطع شيءٍ من شيءٍ بآلةٍ مخصوصةٍ.
(1) انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 33).
(2)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 102).
(3)
انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (21/ 115).
(4)
وتقدم تخريجه.
(5)
انظر: "المحكم" لابن سيده (6/ 65)، (مادة: قصص).
والمراد به هنا: قطعُ الشعر النابت على الشفة العليا من غير استئصال (1).
قال في "القاموس": قصَّ الشعرَ والظُّفرَ: قطعَ منهما بالمقص؛ أي: المِقْراض، وهما مِقَصّان، وقُصاص الشعر -مثلثة-: حيث ينتهي نبته من مقدمه أو مؤخره (2).
والشارب المراد به هنا: الشعر النابت على الشفة العليا.
واختلف في جانبيه، وهما السِّبالان:
قيل: هما من الشارب، ويشرعُ قصهما.
وقيل: هما من جملة شعر اللحية.
والذي في أكثر الأحاديث: القصُّ؛ كما هنا، وكذا في حديث عائشة، وأنس رضي الله عنهما عند مسلم (3).
وفي حديث حنظلة عن ابن عمر رضي الله عنه عند البخاري (4).
وورد الخبر بالحلق عند النسائي بسندٍ صحيح (5).
وورد عنده أيضاً بلفظ: تقصير الشارب (6).
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 335).
(2)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 809)، (مادة: قصص).
(3)
تقدم تخريجهما.
(4)
رواه البخاري (5549)، كتاب: اللباس، باب: قص الشارب.
(5)
رواه النسائي في "السنن الكبرى"(9)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(6)
رواه النسائي (5043)، كتاب: الزينة، باب: من سنن الفطرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
قال الحافظ ابن حجر: وورد في لفظٍ عن أبي هريرة: "جُزُّوا الشواربَ"(1)، وهي تؤيد رواية الحلق.
وفي "البخاري" في حديث ابن عمر - رضى الله عنهما -: "أَحفوا الشواربَ"(2).
وفي لفظٍ: "انهكوا الشوارب"(3)، وكلها تدل على أن المطلوب: المبالغةُ في الإزالة؛ فإن الجزَّ -وهو بالجيم والزاي الثقيلة-: قصُّ الشعر والصوف إلى أن يبلغ الجلدَ، والإحفاءُ -بالمهملة والفاء-: الاستقصاء، ومنه:"حَتَّى أَحْفَوه بالمسألة"(4).
قال أبو عبيد: معناه: الزموا الجز بالبشرة.
وقال الخطابي: هو بمعنى الاستقصاء (5).
والنهك -بالنون والكاف-: المبالغة في الإزالة. ومنه: ما تقدم في الخافضة: "شُمي ولا تنهكي"(6)، أي: لا تبالغي في ختان المرأة. وجرى على ذلك أهل اللغة.
وقال ابن بطال: النهك: التأثير في الشيء، وهو غير الاستئصال (7).
(1) رواه مسلم (265)، كتاب: الطهارة، باب: خصال الفطرة.
(2)
رواه البخاري (5553)، كتاب: اللباس، باب: تقليم الأظفار، ومسلم (259)، كتاب: الطهارة، باب: خصال الفطرة.
(3)
رواه البخاري (5554)، كتاب: اللباس، باب: إعفاء اللحى.
(4)
رواه البخاري (6678) كاب: الفتن، باب: التعوذ من الفتن، ومسلم (2359)، كتاب: الفضائل، باب: توقيره صلى الله عليه وسلم، عن أنس رضي الله عنه.
(5)
انظر: "معالم السنن" للخطابي (4/ 211).
(6)
تقدم تخريجه.
(7)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 346 - 347).
قال في "الفروع": ويحفُّ شاربه؛ خلافاً لمالك، أو يقصُّ طرفه، وحفُّه أولى في المنصوص؛ وفاقاً لأبي حنيفة والشافعي، ولا يمنعُ منه مالك.
وذكر ابن حزم الإجماع: أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرضٌ.
قال في "الفروع": وأطلق أصحابنا وغيرُهم الاستحبابَ.
وفي حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه مرفوعاً: "من لم يأخذْ شاربه، فليس منا" رواه الإمام أحمد، والنسائي، والترمذي، وصححه (1).
قال: وهذه الصيغة تقتضي عند أصحابنا التحريم (2).
وقال النووي: المختارُ في قص الشارب: أنه يقصه حتى يبدو طرفُ الشفة، ولا يحفُّه من أصله. وأما رواية: احفوا، فمعناها: أزيلوا ما طال عن طرف الشفتين، انتهى (3).
وقال الأثرم: كان الإمام أحمد يُحفي شاربه إحفاءً شديداً، ونص على أنه أولى من القص.
وكان الشعبي يقصُّ شاربه حتى يظهر حمرةُ الشفة العليا، وما قاربه من ألاه، ويأخذ ما شذَّ مما فوق ذلك، وينزع ما قارب الشفةَ من جانبي الفم، ولا يزيد على ذلك.
قال في "الفتح": وهذا أعدلُ ما وقفت عليه من الآثار (4).
وقد أبدى ابنُ العربي لتخفيف شعر الشارب معنًى لطيفاً، فقال: إن الماء النازل من الأنف يتلبَّد به الشعرُ؛ لما فيه من اللزوجة، فيعسر تنقيته
(1) ثقدم تخريجه.
(2)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 100).
(3)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 149).
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 348).
عند غسله، وهو بإزاء حاسةٍ شريفةٍ، وهي الشم، فشُرع تخفيفُه ليتمَّ الجمال والمنفعة (1).
قال الحافظ ابن حجر: وذلك يتحصَّل بتخفيفه، ولا يستلزم إحفاءه، وإن كان أبلغ.
قال: ويؤخذ مما أشار إليه ابن العربي مشروعيةُ تنظيف داخل الأنف، وأخذُ شعره إذا طال، انتهى (2).
قال في "الفروع": ولم يذكروا شعر الأنف، وظاهر هذا بقاؤه، ويتوجَّه: أخذُه إذا فَحُش، وأنه كالحاجبين، وأولى من العارضين.
قال مجاهدٌ: الشعر في الأنف أمانٌ من الجذام، ورُوي مرفوعاً (3)، وهو باطلٌ، انتهى (4).
وقد روى الإمام أحمد في "المسند": "قُصُّوا سبالاتكم، ولا تَتَشَبَّهوا باليهود"(5).
وذكر صلى الله عليه وسلم المجوسَ، فقال:"إنهم يُوَفِّرون سِبالَهم، ويحلقون لِحاهم، فخالفوهم"، فكان ابن عمر يستعرض سبلته، فيجزها كما تُجز الشاة أو البعير. أخرجه الطبري، والبيهقي (6).
(1) انظر: "عارضة الأحوذي" لابن العربي (10/ 217).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 348).
(3)
رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(3/ 151)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 100).
(5)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 264)، عن أبي أمامة رضي الله عنه بلفظ:"قصُّوا سبالكم، ووفروا عثانينكم، وخالفوا أهل الكتاب".
(6)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 151). ورواه ابن حبان في "صحيحه" =
وهذا محمولٌ على استئصال الشعر النابت على الشفة العليا، وما يلاقي حمرةَ الشفة من أعلاها، ولا يستوعب بقيتها؛ نظراً إلى المعنى في مشروعية ذلك، وهو مخالفة المجوس، والأمن من التشويش على الآكل، وبقاء زُهومة المأكول فيه، وكل ذلك يحصل بما ذكرنا، وهو الذي يجمع متفرقَ الأخبار الواردة في ذلك (1).
وقد روى الإمام مالك، عن زيد بن أسلم: أن عمر كان إذا غضب، فتل شاربه (2)، فدل على أنه كان يوفِّره.
وحكى ابن دقيق العيد عن بعض الحنفية: أنه قال: لا بأس بإبقاء الشوارب في الحرب؛ إرهاباً للعدو وزينة (3).
فوائد:
الأولى: يستحب أن يبدأ في قص الشارب بالأيمن.
الثانية: يتخير أن يقصَّه بنفسه، أو يولي ذلك غيرَه؛ لحصول المقصود من غير هتكِ مروءةٍ؛ بخلاف الإبط، ولا ارتكاب حرمةٍ؛ بخلاف العانة، كما قاله الإمام النووي (4).
قال الحافظ ابن حجر: ومحل ذلك حيثُ لا ضرورةَ، وأما من لا يحسن الحلق، فقد يباح له - إن لم تكن له زوجةٌ تحسنُ الحلق - أن
= (5476)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(1622)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(6/ 453)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 94)، وغيرهم.
(1)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 348).
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(54).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 348).
(4)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 149).
يستعينَ بغيره بقدرالحاجة؛ حيث لم يجد ما ينور به (1).
الثالثة: قال النووي: يتأدى أصلُ السنة بأخذ الشارب بالمِقص، وبغيره (2).
وتوقف ابنُ دقيق العيد في قَرْضِه بالسن، ثم قال: من نظر إلى اللفظ، منع، ومن نظر إلى المعنى، أجاز.
الرابعة: قال ابن دقيق: لا أعلم أحداً قال بوجوب قصِّ الشارب من حيث هو هو، واحترز بذلك من وجوبه بعارضٍ؛ حيث يتعين كما تقدمت الإشارة إليه من كلام ابن العربي (3)، وقد تقدم ما نقله صاحب "الفروع" من كلام ابن حزم، وكأن ابن دقيق العيد لم يقف عليه، وتقدم أيضاً ما ذكره صاحب "الفروع" من صيغة حديث:"من لم يأخذْ شاربَهُ، فليس منا". والله أعلم.
(وتقليم)؛ تفعيلٌ من القَلْم، وهو القَطْع (4). ووقع في حديث ابن عمر: قَصُّ (5)(الأظفار) جمع ظُفُر -بضم الظاء والفاء وسكونها-، وحكي عن أبي زيد:-كسر أوله-، وأنكره ابن سِيَدهْ. وقد قيل: إنها قراءة الحسن. وعن أبي السماك: أنه قرأ -بكسر أوله وثانيه- (6).
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 348).
(2)
انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (5/ 138 - 139).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 348 - 349).
(4)
انظر: "لسان العرب" لابن منظور (12/ 491)، و"المصباح المنير" للفيومي (2/ 515)، (مادة: قلم).
(5)
وهي رواية النسائي المتقدم تخريجها في حديث الباب، برقم (12) عنده.
(6)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 344). وانظر: "مشارق الأنوار" للقاضي =
والتقليمُ أعمُّ من القص، والمراد: إزالة ما يزيد على ما يلابس رأسَ الإصبع من الظُّفر؛ لأن الوسخ يجتمع فيه، فيستقذر، وقد يصل إلى حدٍّ يمنع من وصول الماء إلى ما يجب غسلُه في الطهارة.
قال في "شرح الوجيز": ربما حلَّ بها الوسخ، فيجتمع تحتها من المواضع المنتنة، فيصير رائحة ذلك في رؤوس أصابعه (1).
وقال ابن دقيق العيد: قَلَّمَ أظفاره تقليماً: قطعَ ما طال عن اللحم منها، والمعروف فيه: التشديد. والقُلامة: ما يقطع من الظفر، وفي ذلك معنيان:
أحدهما: تحسينُ الهيئة والزينة، وإزالة القَباحة في طول الأظفار.
والثاني: أنه أقرب إلى تحصيل الطهارة الشرعية على أكمل الوجوه؛ لما عساه يحصل تحتها من الوسخ المانع من وصول الماء إلى البشرة.
قال: وهذا على قسمين:
أحدهما: أَلَّا يخرج طولها عن العادة خروجاً بيِّناً، فهذا هو الذي أشرنا إلى أنه أقرب إلى تحصيل الطهارة الشرعية على أكمل الوجوه؛ فإنه إذا لم يخرج طولها عن العادة، يعفى عما يتعلق بها من يسير الوسخ، وأما إذا زاد على المعتاد، فما يتعلق بها من الأوساخ مانعٌ من حصول الطهارة، انتهى (2).
= عياض (1/ 329)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 183)، و"لسان العرب" لابن منظور (4/ 17)، (مادة: ظفر).
(1)
وانظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 64).
(2)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 85).
قال في "الفروع": وإن منع يسيرُ وسخِ ظُفرٍ ونحوِه وصولَ الماء، ففي صحة طهارته وجهان (1).
قلت: أصحهما: الصحة، ولولم يشق التحرزُ منه، على الذي استقر عليه المذهب؛ وفاقاً لأبي حنيفة، ولأحد الوجهين عند الشافعية.
قال في "الفروع": وقيل: تصح ممن يشُقُّ تحرُّزُه منه.
قال: وجعل شيخُنا -يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية-: مثلَه كلَّ يسير منعَ حيث كان؛ كدمٍ، وعجين، واختار العفو (2).
وكذا قطع الغزالي في "الإحياء": بأنه يُعفى عن مثل ذلك، واحتجَّ بأن غالب الأعراب لا يتعاهدون ذلك، ولم يرد في شيءٍ من الآثار أمرُهم بإعادة الصلاة (3).
واستظهره الحافظ ابن حجر، قال: لكن قد يعلق بالظفر إذا طال النَّجْوُ لمن استنجى بالماء، ولم يُعْفَ عن غسله، فيكون إذا صلى حاملاً للنجاسة.
وقد أخرج البيهقي في "الشعب" من طريق قيس بن أبي حازم، قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاةً، فأوهمَ فيها، فسئل، فقال:"مالي لا أوهمُ، ورُفْغُ أَحَدِكم بين ظفره وأَنْمُلَتِه؟! "(4) رجاله ثقات مع إرساله، وقد وصله الطبراني من وجهٍ آخر (5).
(1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 122).
(2)
المرجع السابق، (1/ 123).
(3)
انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (1/ 219).
(4)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(2766)، والعقيلي في "الضعفاء"(2/ 221).
(5)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(10401)، والبزار في "مسنده"(1893)، والعقيلي في "الضعفاء"(2/ 221)، عن ابن مسعود رضي الله عنه.
والرُّفْغُ -بضم الراء وفتحها وسكون الفاء بعدها غين معجمة- يجمع على أرفاغ: مَغابِنُ الجسد؛ كالإبط، وما بين الأُنثيين والفَخذين، وكلُّ موضع يجتمع فيه الوسخ، فهو من تسمية الشيء باسم ما جاوره، والتقدير: وسخُ رفغِ أحدِكم، والمعنى: أنكم لا تُقلمون أظفاركم، ثم تَحُكّون بها أرفاغَكم، فيتعلقُ بها ما في الأرفاغ من الأوساخ المجتمعة.
قال أبو عبيد: أنكر عليهم طولَ الأظفار وتركَ قصِّها (1).
قال الحافظ ابن حجر: وفيه أيضاً: الندب إلى تنظيف المغابن كلِّها.
ويُستحب الاستقصاء في إزالتها إلى حدٍّ لا يدخل منه ضررٌ على الإصبع.
واستحب الإمامُ أحمدُ للمسافر أن يُبقي شيئاً؛ لحاجته إلى الاستعانة بذلك غالباً (2).
قال في "الفروع": ويُسن أَلَّا يَحيف عليها في السفر؛ لأنه يحتاج إلى حَلِّ حبلٍ أو شيءٍ، نص عليه (3).
قال في "شرح الوجيز": واحتج، يعني: الإمام أحمد رضي الله عنه بحديث ذكره عن الحكم بن عمير رضي الله عنه، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أَلَّا نحفي الأظفار في الجهاد (4).
(1) انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 262 - 263).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 345).
(3)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 101)، ووقع في المطبوع:"الغزو" بدل "السفر".
(4)
رواه الجصّاص في "أحكام القرآن"(4/ 253).
وقال في رواية مهنا: قال عمر رضي الله عنه: وَفِّروا الأظفار في أرض العدو؛ فإنه سلاح (1).
قال الإمام أحمد: هو محتاجٌ إليها في أرض العدو؛ ألا ترى إذا أراد الرجل أن يحل الحبل أو الشيء، ولم يكن له أظفارٌ، لم يستطع؟ انتهى (2).
فوائد:
الأولى: يستحبُّ تقليمُ الأظفار مخالِفاً؛ فيبدأ بيده اليمنى بحروف: خوابس، ويسراه: اوخسب، على ترتيب حروف الكلمتين؛ بأن يبتدىء بخنصرِ يده اليمنى، فالوسطى، فالإبهام، فالبنصر، فالسبابة، ثم إبهام اليسرى، فالوسطى، فالخنصر، فالسبابة، فالبنصر، والرِّجْل كذلك، كما صححه في "الإنصاف"(3).
قال في "الشرح": روي في حديثٍ: "من قَصَّ أظفارَهُ مُخالفاً، لم يرَ في عينيه رَمَداً"(4). وفسره أبو عبد الله بن بطة بما ذكر، انتهى (5).
قال الحافظ ابن حجر في "شرح البخاري": لم يثبت في ترتيب الأصابع عند القص شيءٌ من الأحاديث، لكن جزم النوويُّ في "شرح مسلم": بأنه
(1) رواه سعيد بن منصور في "سننه"(2/ 366).
(2)
وانظر: "المغني" لابن قدامة (9/ 167)، و"شرح العمدة" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 240).
(3)
انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 122).
(4)
قال الحافظ السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص: 497): هو في كلام غير واحد من الأئمة؛ منهم ابن قدامة في "المغني"، والشيخ عبد القادر في "الغنية"، ولم أجده. لكن كان الحافظ الشرف الدمياطي يأثر ذلك عن بعض مشايخه، ونص الإمام أحمد على استحبابه.
(5)
وانظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 76).
يُستحب البداءة بمسبِّحة اليمنى، فالوسطى، فالبنصر، فالخنصر، فالإبهام، وفي اليسرى: البداءة بخنصرها، فالبنصر إلى الإبهام، ويبدأ في الرجلين بخنصر اليمنى إلى الإبهام، وفي اليسرى: بإبهامها إلى الخنصر (1). قال: ولم يُذكر للاستحباب مستند (2).
وقال ابن دقيق العيد: وما اشتهر من قصها على وجه مخصوصٍ لا أصل له في الشريعة، ثم ذكر الأبيات في ذلك، وأنكرها، وقال: هذا لا يجوز اعتقادُ استحبابه (3).
الثانية: يستحب كونُ ذلك يومَ الجمعة قبلَ الصلاة، كما في "الإقناع"(4) وغيره.
وفي "الفروع": يوم الجمعة قبل الزوال، وقيل: يوم الخميس، وقيل: يُخَيَّر (5).
قال الحافظ ابن حجر: لم يثبت في استحباب قص الظفر يوم الخميس حديثٌ. وقد أخرجه جعفر المستغفري بسندٍ مجهولٍ، ورويناه في "مسلسلات التيمي" من طريقه.
قال: وأقرب ما وقفتُ عليه في ذلك: ما أخرجه البيهقي من مرسل أبي جعفر الباقر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحبُّ أن يأخذ من أظفاره
(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 149).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 345).
(3)
نقله البهوتي في "كشاف القناع"(1/ 76).
(4)
انظر: "الإقناع" للحجاوي (1/ 33).
(5)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 101).
وشاربه يومَ الجمعة (1). وله شاهدٌ موصول عن أبي هريرة، لكن سنده ضعيف، أخرجه البيهقي أيضاً في "الشعب"(2).
وسئل الإمام أحمد عنه، فقال: يُسن في يوم الجمعة قبل الزوال، وعنه: يوم الخميس، وعنه: يُخيَّر، كما قدمنا.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا هو المعتمد؛ يعني: أنه يستحب كيف ما احتاج إليه. والضابط في ذلك ونحوه: الاحتياج، والله أعلم (3).
الثالثة: يستحب أن يدفن ما أخذ من شعرٍ أو ظفرٍ ونحوه، نص عليه الإمام أحمد رضي الله عنه، ففي "سؤالات مهنا" عن الإمام أحمد: قلت له: يأخذ من شعره وأظفاره أيدفنه أم يلقيه؟ قال: يدفنه، قلت: بلغك فيه شيءٌ؟ قال: كان ابن عمر رضي الله عنه يدفنه (4).
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفن الشعر والأظفار، قال:"لا يتلعب به سحرة بني آدم". وهذا الحديث أخرجه البيهقي من حديث وائل بن حجر رضي الله عنه (5).
قال في "شرح الوجيز" -بعد أن نقل أثر ابن عمر الذي أجاب به الإمام مهنا-: ولِمَا روت مِيل بنت مِشْرح الأشعري: أنها رأت أباها مِشْرحاً يقلم
(1) انظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (3/ 244).
(2)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(2763)، وقال: في هذا الإسناد من يجهل.
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 346).
(4)
رواه الخلال في كتاب: الترجل من "جامعه"(ص: 50).
(5)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان"(6488)، وكذا الطبراني في "المعجم الكبير"(22/ 32).
أظفاره، ثم يجمعها ويدفنها، ويخبر أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك. رواه البخاري في "تاريخه"(1).
وعن ابن جريج، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كان يعجبه دفن الدم (2).
وقال الإمام أحمد رضي الله عنه في قوله - تعالى -: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 25 - 26]، قال: يكفت الأحياء فيها الدم والشعر والأظافير، وتدفنون فيها موتاكم (3).
وفي حديث قبيصة بن ذؤيبٍ مرفوعاً: "ادْفِنوا شُعورَكم وأظفارَكُم ودماءكم، لا تلعبْ بها سَحَرَةُ بني آدمَ"(4).
وقلمت عائشة رضي الله عنها أظفارها، فدفنتها؛ كما في "مسائل حرب"(5).
ولأن ذلك من أجزائه، فاستحب دفنه كأعضائه.
وكذا عند الشافعية كما قاله الحافظ في "شرح البخاري"(6).
الرابعة: يُستحب غسلُ الأنامل بعد قصِّ الأظفار تكميلاً للنظافة. وقد قيل: إن الحك بها قبلَ غسلها يضرُّ بالبدن؛ والله الموفق (7).
(1) رواه البخاري في "التاريخ الكبير"(8/ 45)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(2513)، والطبراني في "المعجم الكبير"(20/ 322)، وفي "المعجم الأوسط"(5938).
(2)
رواه الخلال في كتاب: الترجل من "جامعه"(ص: 51).
(3)
رواه الخلال في كتاب: الترجل من "جامعه"(ص: 31).
(4)
رواه ابن حبان في "المجروحين"(3/ 144).
(5)
انظر: "شرح العمدة" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 243).
(6)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 346).
(7)
انظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 76).
(ونتف الإبط)، وفي رواية الكشميهني: الآباط: بصيغة الجمع.
والإبط -بكسر الهمزة والموحدة وسكونها، وهو المشهور، وصوبَّه الجواليقي، ويذكر ويؤنث-. وتأبَّط الشيء: وضعه تحت إبطه (1).
والمستحب البداءة بنتف اليمين؛ لعموم: "كان يحبُّ التيامُنَ في شأنه كلِّه"(2).
والأفضلُ النتفُ؛ لموافقة لفظ الحديث؛ ولأنه يذهب بالصّنان، فإن شق عليه النتف، حلقه، أو تنوَّر، كما في "الآداب الكبرى" للإمام ابن مفلح (3).
قال الحافظ ابن حجر في "شرح البخاري": يتأدَّى أصلُ السنَّة بالحلق، ولا سيما من يؤلمه النتف.
قال: وقد أخرج ابن أبي حاتم في "مناقب الإمام الشافعي" عن يونس بن عبد الأعلى، قال: دخلت على الشافعي، ورجلٌ يحلق إِبطَه، فقال: إني علمتُ أن السُّنَة النتفُ، ولكن لا أقوى على الوجع.
قال الغزالي: هو في الابتداء موجِع، ولكن يَسْهُل على مَنِ اعتاده. والحلقُ كافٍ؛ [لأنَّ](4) المقصود النظافة.
وتعقب: بأن الحكمة في نتفه أنه محل للرائحة الكريهة، وإنما ينشأ ذلك من الوسخ الذي يجتمع بالعرق فيه، فيتلبد ويهيج، فشُرع فيه النتفُ
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 344). وانظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 3)، و"لسان العرب" لابن منظور (7/ 253).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
وانظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/ 509).
(4)
في الأصل: "لكن".
الذي يضعفه، فتخفُّ الرائحة به، بخلاف الحلق؛ فإنه يقوِّي الشعرَ ويهيجه؛ فتكثر الرائحةُ لذلك (1).
وقال ابن دقيق العيد: من نظر إلى اللفظ، وقف مع النتف، ومن نظر إلى المعنى، أجازه بكل مُزيلٍ، لكن لين أن النتفَ مقصود من جهة المعنى - أيضاً -.
قال: وقد فرق لفظ الحديث بين إزالة شعر العانة، وإزالة شعر الإبط، فذكر في الثاني النتفَ، وذلك مما يدل على رعاية الهيئتين في محلَّيهما؛ فإن الشعر بالحلق يقوى أصله، ويغلظ جِرْمُه؛ ولهذا يصف الأطباء تكرارَ حلق الشعر في المواضع التي تراد قوته فيها.
والإبط إذا قويَ فيه الشعر، وغلظ جرمُه، كان أَفْوَحَ للرائحة الكريهة المؤذية لمن يقاربها، فناسب أنْ سُن فيه النتفُ المُضْعِفُ لأصله، المقللُ للرائحة الكريهة.
وأما العانة، فلا يظهر فيها من الرائحة الكريهة ما يظهر في الإبط؛ فزال المعنى المقتضي، ورجع إلى الاستحداد؛ لأنه أيسرُ وأخفُّ على الإنسان من غير معارض (2).
قال: والنص إذا احتمل معنًى مُناسباً يحتمل أن يكون مقصوداً في الحكم، لا يُترك، والذي يقوم مقام النتف في ذلك التنوُّرُ، ولكنه يرقُّ الجلد، فقد يتأذى صاحبُه به، ولاسيما إن كان جلده رقيقاً؛ والله الموفق (3).
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 344).
(2)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 86).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 344).
تتمة:
قد وعدنا في أول شرح هذا الحديث: بأن خصال الفطرة بلغت خمسةَ عشر، فهذه خمسة قد ذكرنا شرحها، وهي ما اتفق عليه الشيخان.
وفي "صحيح مسلم" من حديث عائشة رضي الله عنها: "عَشْرٌ من الفطرة"، فذكر الخمسة التي في حديث أبي هريرة، إلا الختان، وزاد:"إعفاء اللحية، والسواك، والمضمضة، والاستنشاق، وغسل البراجم، والاستنجاء" أخرجه مسلم عن ابن الزبير، مال في آخره: إن الراوي نسي العاشرةَ، إلا أن تكون المضمضة (1).
وأخرجه أبو عوانة في "مستخرجه" بلفظ: "عشرة من السنة"، وذكر "الاستنثار" بدل "الاستنشاق"(2).
وأخرجه النسائي، فذكره، إلا أنه ذكر "الختان" بدل "غسل البراجم"(3).
وأخرج الإمام أحمد، وأبو داود من حديث عيار نحوَه، إلا أنه ذكر "الانتضاح"(4).
وأخرج الطبري بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله - تعالى-: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124]، قال: ابتلاه بالطهارة، خمسٌ في الرأس، وخمسٌ في الجسد، فذكر مثل حديث
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه أبو عوانة في "مسنده"(1/ 190 - 191).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 264)، وأبو داود (54)، كتاب: الطهارة، باب: السواك من الفطرة، وابن ماجه (294)، كتاب: الطهارة، باب: الفطرة.
عائشة، إلا أنه ذكر "الفرق" بدل "إعفاء اللحية"(1).
وأخرجه ابن أبي حاتم، فذكر "غُسل الجمعة" بدل "الاستنجاء"(2).
فصارت من مجموع الأحاديث على اختلاف الروايات خمسَ عشرة، قد قدمنا منها خمسة، وبقي عشرة؛ فأما المضمضة، والاستنشاق، والاستنثار، والاستنجاء، والسواك، فهذه الخمسة قد قدمنا الكلامَ عليها في محالِّها.
وأما غسل الجمعة، فسيأتي الكلام عليه في محله - إن شاء الله تعالى-.
فلم يبق إلا إعفاءُ اللحية، والفرقُ، وغسلُ البراجم، والانتضاحُ، فلنتكلم عليها على الترتيب.
فنقول: أما إعفاء اللحية، فقال في "الفروع": ويُعْفي لحيتَه، وفى "المُذْهَب" للحافظ ابن الجوزي: ما لم يُسْتَهْجَنْ طولُها؛ وفاقاً لمالك، ويحرُمُ حلقها، ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية. ولا يُكره أخذُ ما زاد على القبضة منها، ونَصُّه: ولا بأس بأخذه وتحت حلقه؛ لفعل ابن عمر، لكن إنما فعله إذ حجَّ أو اعتمر، رواه البخاري (3).
وفي "المستوعب": وتركه أولى، وقيل: يكره. وأخذ الإمام أحمد من حاجبيه وعارضِه. نقله ابن هانىء (4).
وفي "الصحيحين" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن
(1) تقدم تخريجه.
(2)
رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(1/ 219).
(3)
رواه البخاري (5553)، كتاب: اللباس، باب: تقليم الأظافر.
(4)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 100).
النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"أَحْفُوا الشوارب، وأَعْفُوا اللِّحى"(1).
وفي لفظ آخر: "خالفوا المشركين، أَحْفوا الشوارب، وأَعْفوا اللحى"(2).
وفي بعض ألفاظ البخاري "وَفِّروا اللِّحَى"(3).
وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر، قبضَ على لحيته، فما فضل، أخذَ (4).
وفي "مسلم" عن أبي هريرة مرفوعاً: "جُزُّوا الشَّوارِبَ، وأَرْخوا اللِّحى، خالفوا المجوس"(5).
ضبطت لفظته: "أَرْجئوا" -بالجيم والهمزة-، أي: أَخِّروها، و-بالخاء المعجمة بلا همز-؛ أَي: أَطيلوها. قال النووي: وكل هذه الروايات بمعنى واحد (6).
واللِّحَى -بكسر اللام، وحُكي ضمُّها، وبالقصر والمد-: جمع لِحيةٍ - بالكسر فقط -: هي اسمٌ لما نبت على الخدين والذقن (7).
قال الكرماني: لعل ابن عمر رضي الله عنهما أراد الجمعَ بين الحلق
(1) تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
رواه مسلم (260)، كتاب: الطهارة، باب: خصال الفطرة.
(6)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 151).
(7)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 350). وانظر: "لسان العرب" لابن منظور (15/ 243)، (مادة. لحا).
والتقصير في النُّسْك، فحلق رأسه كلَّه، وقَصَّر من لحيته؛ ليدخل في عموم قوله - تعالى -:{مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27]. وخص ذلك من عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "وفِّروا اللِّحى"، فحمله على غير حالة النسك.
قال الحافظ ابن حجر: الذي يظهر: أن ابن عمر يحملُ الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تتشوه فيها الصورة بإفراط طول شعر اللحية أو عرضه؛ فقد قال الطبري: ذهب قومٌ إلى ظاهر الحديث، فكرهوا تناول شيءٍ من طولها ومن عرضها. وقال قومٌ: إذا زاد على القبضة، يُؤْخَذُ الزائد. ثم ذكر خبرَ ابن عمر، وكذلك عمر فعله برجل، ومن طريق أبي هريرة أنه فعله.
وأخرج أبو داود من حديث جابر بسندٍ حسنٍ، قال: كنا نعفِّي السِّبَال إلا في حَجٍّ أو عمرةٍ (1).
فقوله: نُعَفِّي -بضم أوله وتشديد الفاء-؛ أي: نتركه وافراً.
وهذا يؤيد ما نقل عن ابن عمر؛ فإن السِّبال -بكسر المهملة وتخفيف الموحدة- جمعُ سَبَلَة -بفتحتين-: هي ما طال من شعر اللحية، كما في "الفتح"(2).
فأشار جابر إلى أنهم كانوا يقصِّرون منها في النسك.
وقال الحسن البصري: يؤخذ من طول اللحية وعرضها ما لم يفحش. ونحوه عن عطاء.
وحملوا النهي على صنع ما كانت الأعاجم تفعله.
(1) رواه أبو داود (4201)، كتاب: الترجل، باب: في أخذ الشارب، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(5/ 302).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 350).
واختار الطبري قول الحسن، وعطاء، وقال: إن الرجل لو ترك لحيته لا يتعرض لها حتى فحش طولها وعرضها، لعرَّضَ نفسه لمن يسخر به.
واستدل بما أخرجه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها (1).
وأنكر الحفاظ هذا الحديث؛ منهم البخاري.
وحاصل ما ذهب إليه إمامنا وعلماؤنا: تحريمُ حلق اللحية،
وقال أبو شامة من الشافعية: وقد حدث قوم يحلقون لحاهم، وهو أشد مما نقل عن المجوس أنهم كانوا يقصونها.
وقال الإمام النووي: يستثنى من الأمر بإعفاء اللِّحَى: ما لو نبت للمرأة لِحْية، فإنه يستحب لها حلقُها (2). وكذا لو نبت لها شاربٌ أو عَنْفَقَةٌ (3)، والله الموفق.
وأما الفَرْق -بفتح الفاء وسكون الراء بعدها قاف-، فالمراد به: فرق شعر الرأس، وهو قِسْمته في المفرق، وهو وَسَطُ الرأس.
يقال: فرقَ شعرَه فَرْقاً -بالسكون-، وأصلُه من الفرق بين الشيئين.
والمَفْرِق: مكانُ انقسام الشعر من الجبين إلى داره وسط الرأس، وهو -
(1) رواه الترمذي (2762)، كتاب: الأدب، باب: ما جاء في الأخذ من اللحية، وقال: هذا حديث غريب، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: عمر بن هارون مقارب الحديث، لا أعرف له حديثاً ليس إسناده أصلاً، أو قال: ينفرد به إلا هذا الحديث.
(2)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 149).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 351).
بفتح الميم وبكسرها -، وكذلك الراء - تكسر وتفتح (1) -.
وفي "الصحيحين" وغيرهما: عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب موافقةَ أهل الكتاب فيما لم يؤمرْ فيه، زاد في لفظ من رواية معمر: في أمرٍ لم يؤمرْ فيه بشيء، وكان أهل الكتاب يَسْدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، فسدل النبي صلى الله عليه وسلم ناصيته، ثم فَرَق بعدُ (2).
وأخرجا من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: كأني أنظرُ إلى وَبيصِ الطِّيب في مفارق النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُحْرِم (3).
وفي لفظٍ: في مفرِق النبيِّ صلى الله عليه وسلم (4).
وفي روايةٍ في حديث ابن عباس: ثم أُمر بالفرق، ففرق، وكان الفرقُ آخرَ الأمرين (5).
قال القاضي عياض: سَدْلُ الشعر: إررسالهُ، يقال: سدلَ شعرَه: إذا أرسله، ولم يضمَّ جوانبه، وكذا الثوب.
(1) المرجع السابق (10/ 361).
(2)
رواه البخاري (5573)، كتاب: اللباس، باب: الفرق، ومسلم (2336)، كتاب: الفضائل، باب: في سدل النبي صلى الله عليه وسلم شعره وفرقه.
(3)
رواه البخاري (5574)، كتاب: اللباس، باب: الفرق، ومسلم (1190)، (2/ 848). كتاب: الحج، باب: الطيب للمحرم عند الإحرام.
(4)
رواه البخاري (268)، كتاب: الغسل، باب: من تطيب تم اغتسل وبقي أثر الطيب، ومسلم (1190)، (2/ 847)، كتاب: الحج، باب، الطيب للمحرم عند الإحرام.
(5)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(20518)، من طريق معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، به.
والفَرْق: تفريقُ الشعر بعضِه عن بعض، وكشفه عن الجبين. قال: والفرق سنة؛ لأنه الذي استقر عليه الحال.
قال: والذي يظهر أن ذلك وقع بوحي؛ لقول الراوي: إنه كان يحبُّ موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمرْ فيه بشيء. فالظاهر: أنه فرق بأمرٍ من الله. والصحيح: أن الفرق مستحبٌّ لا واجب، وهو قول عامة أهل العلم (1).
قال في "شرح الوجيز": فرقُ الشعر سنةٌ، نص عليه، وذكر حديث ابن عباس المتفق عليه.
قال: وفي شروط عمر رضي الله عنه على أهل الكتاب: أَلَّا يفرقوا شعورهم؛ لئلا يتشبهوا بالمسلمين (2).
وقال في "الفروع": ويتخذ الشعر، ويتوجَّه احتمالُ، لا، إن شَقَّه إكرامُه؛ وفاقاً للشافعي، ولهذا قال الإمام أحمد: هو سنةٌ، ولو نقوى عليه، اتخذناه، ولكن له كلفةٌ ومؤنةٌ.
قال: ويُسرِّحه، ويَفْرقه، ويكون إلى أذنيه، وينتهي إلى مَنْكِبيه؛ كشعره صلى الله عليه وسلم. ولا بأس بزيادته على مَنكبيه وجعله ذؤابةً. قال الإمام أحمد: أبو عبيدة رضي الله عنه كانت له عقيصتان، وكذا عثمان، انتهى (3).
وقال النووي: الصحيح: جواز السَّدْل والفرق، والله أعلم (4).
وأما غسل البراجم؛ فهو بالموحَّدة والجيم: جمع بُرْجُمَة -بضمتين-،
(1) انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (7/ 302).
(2)
وانظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 65).
(3)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 99 - 100).
(4)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (15/ 90).
وهي عُقَد الأصابع التي في ظهر الكف (1).
قال الخطابي: هي المواضع التي تتشنج، ويجتمع فيها الوسخ، ولاسيما من لا يكون طري البدن (2).
وقال الغزالي: كانت العرب لا تغسل اليدَ عقب الطعام، فيتجمع في تلك الغضون وسخٌ، فأمر بغسلها (3).
قال النووي: هي سنة مستقلة، ليست مختصة بالوضوء، يعني: أنها يحتاج إلى غسلها في الوضوء والغسل والتنظيف. وقد ألحق بها إزالة ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن، وقعر الصماخ؛ فإن في بقائه إضراراً بالسمع (4).
وأخرج ابن عدي من حديث أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتعاهُد البراجم عند الوضوء؛ لأن الوسخ إليها سريع (5).
وأخرج الحكيم الترمذي من حديث عبد الله بن بُسر، رفعه:"قُصُّوا أَظْفاركم، وادْفِنوا قُلاماتِكم، ونَقُّوا براجِمَكم"(6). وفي سنده مجهول.
وأخرج الإمام أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أبطأ جبريلُ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"لِمَ تبطىءُ عني؟ "، فقال: "ولمَ لا أُبطىء
(1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 113)، و"فتح الباري" لابن حجر (10/ 338).
(2)
انظر: "غريب الحديث" للخطابي (1/ 220 - 221).
(3)
انظر: "إحياء علوم الدين" للغزالي (1/ 219).
(4)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 150).
(5)
رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(1/ 261).
(6)
رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(1/ 185).
وأنتم لا تَسْتَنُّون؛ أي: لا تستاكون، ولا تقصون شواربكم، ولا تنقون رواجبكم؟! " (1).
والرواجب: جمع راجبة -بجيم وموحدة-.
قال أبو عبيد: البراجم والرواجب: مفاصل الأصابع كلها (2).
وقال ابن سِيْده: البُرْجُمَة: المفصلُ الباطنُ عند بعضهم، والرواجبُ: بواطنُ مفاصل أصولِ الأصابع. وقيل: قصبُ الأصابع. وقيل: ظهور السلاميات. وقيل: ما بين البراجم (3).
والبراجم: المُشَنَّجات من مفاصل الأصابع، وفي كل إصبعٍ ثلاث برجماتٍ، إلا الإبهام؛ فلها برجمتان (4).
وقال الجوهري: الرواجب: مفاصل الأصابع اللاتي تلي الأنامل، ثم البراجم، ثم الأشاجع التي على الكف (5).
وقال: أيضاً -: الرواجب: رؤوس السُّلاميات من ظهر الكف، إذا قبض القابضُ كَفَّه، نشزت، وارتفعت. والأشاجع: أصولُ الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف، واحدها أشجع (6).
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 243)، والطبراني في "المعجم الكبير"(12224)، وغيرهما بلفظ: أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: يارسول الله! لقد أبطأ عنك جبريل عليه السلام؟ فقال: "ولمَ لا يُبطىء عني، وأنتم حولي لا تستنون، ولا تقلمون أظافركم
…
الحديث".
(2)
انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 83).
(3)
انظر: "المحكم" لابن سيده (3/ 350)، (مادة: برجم).
(4)
انظر: "لسان العرب" لابن منظور (12/ 46)، (مادة: برجم).
(5)
انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 134)، (مادة: رجب).
(6)
انظر: "الصحاح" للجوهري (3/ 1236)، (مادة: شجع).
وقيل: عروق ظاهر الكف، والمعاني متقاربة، والله أعلم (1).
وأما الانتضاح: فسنة مندوبة.
قال في "الفروع": ومن استنجى، نضحَ فرجَه وسراويلَه (2)؛ قطعاً للوسواس.
قال أبو عُبيد الهَروي: هو أن يأخذ قليلاً من الماء، فينضحَ به مذاكيرَه بعد الوضوء؛ لينفي عنه الوسواس (3).
وقال الخطابي: انتضاحُ الماء: الاستنجاء به، وأصله من النضح، وهو الماء القليل (4).
فعلى هذا يكون هو والاستنجاء خصلةً واحدة. والمعتمد: أنه غيره؛ بدليل ما أخرجه أصحاب "السنن" من رواية الحكم بن سفيان الثقفي، أو سفيان بن الحكم، عن أبيه: أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، ثم أخذ حفنةً من ماءٍ، فانتضح بها (5).
وأخرج البيهقي من طريق سعيد بن جبير: أن رجلاً أتى ابنَ عباس رضي الله عنهما، فقال: إني أجد بللاً إذا قمتُ أصلي، فقال له ابن
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 338).
(2)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 92).
(3)
وانظر: "غريب الحديث" لابن الجوزي (2/ 413).
(4)
انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 63).
(5)
رواه أبو داود (168)، كتاب: الطهارة، باب: في الانتضاح، والنسائي (132)، كتاب: الطهارة، باب: النضح، وابن ماجه (461)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في النضح بعد الوضوء.
عباس: انضح بماءٍ، فإذا وجدت من ذلك شيئاً، فقل: هو منه (1).
وذكر الإمام شمسُ الدين بنُ أبي عمر في "شرح المقنع": روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جاءني جبريل، فقال: يا محمدُ! إذا توضأتَ، فانضحْ" حديثٌ غريب، انتهى (2).
قلت: رواه الترمذي، وابن ماجه في "سننهما"(3).
فهذه الخصالُ المصرَّح فيها بلفظ الفطرة.
وأما الخصال الواردة في المعنى، لكن لم يصرَّحْ فيها بلفظ الفطرة، فكثيرةٌ، منها: ما رواه الإمام أحمد في "المسند"، والترمذي، من حديث أبي أيوب، رفعه:"أربعٌ من سُنَنِ المُرسلين: الحياء، والتعطُّر، والسِّواك، والنكاح" قال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ غريب (4).
وأخرج البزار، والبغوي في "معجم الصحابة"، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"، من طريق مليح بن عبد الله الخطمي، عن أبيه، عن جده، رفعه:"خمسٌ من سُنَنِ المرسلين"(5)، فذكر المذكورة في الحديث المار،
(1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 162).
(2)
انظر: "الشرح الكبير" لشيخ الإسلام ابن أبي عمر المقدسي (1/ 94).
(3)
رواه الترمذي (50)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في النضح بعد الوضوء، وقال: غريب، وابن ماجه (463)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في النضح بعد الوضوء. وعندهما، وفي "الشرح الكبير" أيضاً:"فانتضحْ" بدل "فانضحْ".
(4)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 421)، والترمذي (1080)، كتاب: النكاح، باب: ما جاء في فضل التزويج والحث عليه، وقال: حسن غريب.
(5)
رواه البزار في "مسنده"(2/ 99 - "مجمع الزوائد" للهيثمي)، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"(2/ 254)، والبغوي في "معجم الصحابة"(521)، وغيرهم.
سوى النكاح، وزاد:"الحِلْم، والحِجامة". والحلم -بكسر الحاء المهملة وسكون اللام-.
وإذا تتبع ذلك من الأحاديث، كثر العدد؛ والله أعلم.
تنبيهات:
الأول: اختُلف في ضبط الحياء، في حديث أبي أيوب، فقيل:-بفتح الحاء المهملة والتحتية الخفيفة-، وقد ثبت في "الصحيحين": أن "الحياء من الإيمان"(1)، ويؤيده حديث البزار:"والحلم"؛ فإنه من ثمراته ولوازمه.
وقيل: بكسر المهملة، وتشديد النون-.
فعلى الأول: هي خصلة معنوية تتعلق بتحسين الخلق.
وعلى الثاني: هي خصلة حسية تتعلق بتحسين البدن، كما في "الفتح"(2).
قلت: لم يرض الإمام ابنُ القيم بذلك كله.
بل قال: سمعت شيخنا أبا الحجاج الحافظَ -يعني: المِزِّيَّ- يقول: كلاهُما غلط، وإنما هو الخِتان، فوقعت النون بالهامش، فذهبت، فاختلف في اللفظة. قال: وكذلك رواه المحاملي عن الشيخ الذي رواه عنه الترمذي بعينه، فقال: الخِتان.
قال: وهذا أولى من الحياء والحِنَّاء؛ فإن الحياء خلق، والحِنّاء ليس من
(1) رواه البخاري (24)، كتاب: الإيمان، باب: الحياء من الإيمان، ومسلم (36)، كتاب: الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها
…
، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 338).
السنن، ولا ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في خصاد الفطرة، ولا ندب إليه، بخلاف الختان. انتهى (1).
الثاني: يتعلق بخصال الفطرة مصالحُ دينية ودنيوية تُدرك بالتتبع، منها: تحسينُ الهيئة، وتنظيفُ البدن جملةً وتفصيلاً، والاحتياطُ للطهارتين، والإحسانُ إلى المخالطِ والمقارِب بكفِّ ما يتأذى به من رائحة كريهة، ومخالفةُ شعار الكفار من المجوس، واليهود، والنصارى، وعباد الأوثان، وامتثالُ أمر الشارع، والمحافظةُ على ما أشار إليه قوله - تعالى -:{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [التغابن: 3]؛ لما في المحافظة على هذه الخصال من مناسبة ذلك، فكأنه قيل: قد حَسَّنْتُ صورَكم، فلا تشوهوها بما يُقَبِّحُها، وحافظوا على ما يستمر به حسنُها، وفي المحافظة عليها محافظةٌ على المروءة، وعلى التآلف المطلوب؛ لأن الإنسان إذا بدا في الهيئة الجميلة، كان أدعى لانبساط النفسِ إليه، فيُقبل قولُه، ويُحمد رأيُه، والعكس بالعكس.
وفي "تحفة المودود" قد اشتركت خصال الفطرة في الطهارةِ والنظافة، وأخذِ الفضلات المستقذرةِ التي يألفها الشيطان ويجاورها من ابن آدم، وله بالعزلة اتصالٌ واختصاص. والله أعلم (2).
* * *
(1) انظر: "تحفة المودود بأحكام المولود" لابن القيم (ص: 159).
(2)
انظر: "تحفة المودود" لابن القيم (ص: 162).