الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِياءِ قَبْلِي، نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا؛ فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ، فَلْيُصَلِّ، وأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ، ولم تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً"(1).
(1) في تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (328)، في أول كتاب: التيمم، واللفظ له، و (427)، كتاب: المساجد، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"، و (2954)، كتاب: الخمس، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أحلت لكم الغنائم"، ومسلم (521)، في أول كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، والنسائي (432)، كتاب: الطهارة، باب: التيمم بالصعيد، و (736)، كتاب المساجد، باب: الرخصة في ذلك.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 435)، و"شرح مسلم" للنووي (5/ 3)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 113)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 249)، و"فتح الباري" لابن رجب (2/ 16)، و"النكت على شرح العمدة" للزركشي (ص: 54)، و"طرح التثريب" للعراقي (2/ 104)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 436)، و"عمدة القاري" للعيني (4/ 7)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 93)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (2/ 134).
(عن جابر بن عبد الله) الأنصاريِّ الخزرجيِّ (رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أُعْطِيت) -بالبناء للمجهول-؛ أي: أعطاني الله سبحانه (خمسًا)، بيَّن في رواية عمرو بن شعيب: أن ذلك كان في غزوة تبوك (1)، وهي آخر غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا تعديدٌ منه صلى الله عليه وسلم للفضائل التي خُصَّ بها دون سائر الأنبياء، وظاهره يقتضي: أن كل واحدة منها لم تكن لأحدٍ من قبله - صلوات الله عليه - (2)، وهو كالصريح في قوله صلى الله عليه وسلم:(لم يُعْطَهن أحدٌ من الأنبياء) عليهم السلام (قبلي).
وفي حديث ابن عباس: "لا أقولهن فخرًا"(3).
ومفهومه: أنه لم يختص بغير الخمس المذكورة، لكن روى مسلم، من حديث أبي. هريرة مرفوعًا:"فُضِّلْتُ على الأنبياءِ بستٍّ"(4).
وسأذكر في آخر شرح هذا الحديث أكثر من ذلك - إن شاء الله تعالى -.
الأولى من الخمس: قوله صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالرعب). زاد الإمام أحمد من حديث أبي أمامة رضي الله عنه: "يُقذف في قلوب أعدائي"(5).
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 222)، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(2)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 114).
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 301).
(4)
رواه مسلم (523)، في أول كتاب: المساجد ومواضع الصلاة. وانظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 436).
(5)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 248)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 222).
(مسيرة شهر) مفهومه: أنه لم يوجد لغيره النصرُ بالرعب في هذه المدة، ولا في أكثر منها، أما دونها، فلا.
لكن لفظ رواية عمرو بن شعيب: "ونُصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرةُ شهر"(1) فالظاهر -كما قال الحافظ ابن حجر-: اختصاصُه به مطلقًا، وإنما جعل الغاية شهرًا؛ لأنه لم يكن بين يديه وبين أعدائه أكثرُ منه. وهذه الخصوصية حاصلة في الإطلاق حتى لو كان وحده بلا عسكر، وهل هي حاصلة لأمته من بعده؟ فيه احتمال (2).
والرعب: هو الوَجَلُ والخوف لتوقُّع نزول محذورٍ (3).
قال في "القاموس": الرُّعْب -بالضم وبضمتين-: الفَزَعُ؛ رَعَبَهُ؛ كمنعَه: خَوَّفَه، فهو مرعوب، وَرَعِيبٌ، كرَعَّبهُ تَرْعِيبًا وَتَرْعابًا، فَرَعَبَ؛ كمنَع رُعْبًا -بالضم-، وارْتَعَبَ، انتهى (4).
الثانية: قوله صلى الله عليه وسلم: (وجُعلت) بالبناء للمفعول (لي) دون غيري (الأرضُ) -بالرفع- نائب الفاعل؛ أي: جعلَ الله لي الأرضَ (مسجدًا)؛ أي: موضع سجود، لا يختص السجود منها بموضع دون غيره، ويمكن أن يكون مجازًا عن المكان المبني للصلاة، وهو من مجاز التشبيه؛ لأنه لما جازت الصلاة في جميعها، كانت كالمسجد في ذلك (5).
(1) تقدم تخريجه قريبًا.
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 437).
(3)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 115).
(4)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 115)، (مادة: رعب).
(5)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 115)، وعنه أخذ الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(1/ 437).
قال ابن [التِّين](1): قيل: المراد: جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وجُعلت لغيري مسجدًا، ولم تُجعل له طهورًا؛ لأن عيسى عليه السلام كان يَسيح في الأرض، ويُصلي حيث أدركته الصلاة، كذا قال، وسبقه إلى ذلك الداودي.
وقيل: إنما أُبيحت لهم في موضع يتيقنون طهارته، بخلاف هذه الأمة، فأُبيح لها في جميع الأرض، إلَّا فيما تيقنوا نجاسته.
والأظهر: قولُ الخطابي، وهو أن مَنْ قبله إنما أُبيحت لهم الصلوات في أماكن مخصوصة، كالبِيَع والصوامع (2). ويؤيده رواية عمرو بن شعيب بلفظ:"وكان مَنْ قبلي إنما كانوا يُصَلُّون في كنائِسهم"(3)، وهذا نص في موضع النزاع، فثبتت الخصوصية.
ويؤيده أيضاً: ما أخرجه البزار من حديث ابن عباس بنحو حديث الباب، وفيه:"ولم يكن أحدٌ من الأنبياء يصلي حتى يبلغَ محرابَهُ "(4).
(وطهورًا): بالنصب عطفًا على مسجدًا.
وقد استدل به على أن الطهور هو المطهِّرُ لعْيره؛ لأنه لو كان المراد به: الطاهر، لم تثبت الخصوصية، والحديث سيق لإثباتها.
وقد روى ابن المنذر، وابن الجارود بإسنادٍ صحيح مرفوعًا: "جُعلت
(1) في الأصل "التيمي"، والتصويب من "الفتح".
(2)
انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 146).
(3)
تقدم تخريجه قريبًا.
(4)
رواه البزار في "مسنده"(8/ 258 - "مجمع الزوائد" للهيثمي)، وقال: فيه من لم أعرفهم. ورواه أيضًا: البخاري في "التاريخ الكبير"(4/ 114)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 433).
لي كلُّ أرضٍ طَيِّبَةٍ مسجدًا وطهورًا" (1).
قلت: وهذه في "الصحيحين" من حديث جابر، ولفظه:"وجُعلت لي الأرضُ طيبة طهورًا ومسجدًا"(2)، ومعنى طيبة: طاهرةً.
فلو كان معنى قوله: طهورًا: طاهرًا؛ للزم تحصيل الحاصل.
قال الخطابي: في قوله: "مسجدًا وطهورًا": فيه إجمالٌ وإبهام، وتفصيلُه في حديث حذيفة رضي الله عنه:"جُعلت لنا الأرضُ مسجدًا، وتربتُها لنا طَهورًا".
وهو عند مسلم، ولفظه:"جُعلت لنا الأرضُ كلُّها مسجدًا، وجُعلت تربتُها لنا طهورًا إذا لم نجدِ الماءَ"(3).
قال الخطابي: والحديث جاء على جهة الامتنان على هذه الأمة بأن رخص لهم في الطهور بالأرض، والصلاة في بقاعها، وكانت الأمم المتقدمة لا يصلون إلا في كنائسهم وبِيَعهم (4)،
ويتأيد بقوله صلى الله عليه وسلم: "وتربتُها لنا طهورًا" ما أسلفناه من اعتبار التراب. والزيادة من الثقة مقبولة.
(فأيَّما): مبتدأ فيه معنى الشرط، و"ما": زائدة للتأكيد (5).
و (رجلٍ): مجرور بالإضافة. والمراد: شخص ذكر أو أنثى، وإنما
(1) رواه ابن المنذر في "الأوسط"(2/ 12)، وابن الجارود في "المنتقى"(124)، عن أنس رضي الله عنه.
(2)
هو لفظ مسلم فقط دون البخاري، وقد تقدم تخريجه في حديث الباب.
(3)
رواه مسلم (552)، في أول كتاب: المساجد ومواضع الصلاة.
(4)
انظر: "معالم السنن" للخطابي (1/ 146).
(5)
انظر: "النكت على العمدة" للزركشي (ص: 54).
خص الرجل بالذكر؛ لشرفه، ولأنه المحتاج لذلك غالبًا.
(من أمتي): أمةِ الإجابة.
(أدركته الصلاة) المكتوبةُ، وهذه صيغة عموم يدخل تحتها من لم يجد ماء ولا ترابًا، ووجد شيئًا من أجزاء الأرض، فإنه يتيمم به (1). لا يقال: هو خاص بالصلاة؛ لأنا نقول: لفظ حديث جابر مختصر.
وفي رواية أبي أمامة عند البيهقي: "فأيُّما رجلٍ من أمتي أَتى الصلاةَ، فلم يجدْ ماء، وجدَ الأرض طهورًا ومسجدًا"(2).
وعند الإمام أحمد: "فعنده طهورُهُ ومسجدُه"(3).
وفي رواية عمرِو بنِ شعيب: "فأينما أدركتني الصلاةُ، تَمَسَّحْتُ وصَلَّيت"(4).
وفيه: ما ربما استدل به من جوَّز التيممَ بسائر أجزاء الأرض.
ولنا: أنه مخصوص العموم بحديث حذيفة، وهو خاص، فينبغي أن يُحمل العامُّ عليه، فتختص الطهورية بالتراب.
وفي حديث علي رضي الله عنه عند الإمام أحمد، والبيهقي بإسنادٍ حسن:"وجُعل الترابُ لي طهورًا"(5).
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 117).
(2)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 212).
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 248)، بلفظ: (فعنده مسجده، وعنده طهوره".
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 158)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 213).
ويقوي القول بأنه خاصٌّ بالتراب: أن الحديث سيق لإظهار التشريف والتخصيص، فلو جاز التيمم بغيره، لما اقتصر عليه؛ نعم؛ إذا لم يجد ماءً ولا ترابًا صلى على حسب حاله، والله أعلم (1).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (فليصلِّ): جملة فعلية محلها الرفع، خبر المبتدأ، وجملة الجار والمجرور؛ أعني:"من أمتي"، والفعل والمفعول والفاعل؛ أعني:"أدركته الصلاة" صفتان لرجل.
وقد عرف مما تقدم أن المراد: فليصل بعد أن يتيمم.
الثالثة: ما أشار إليها بقوله: (وأحلت) - بالبناء للمفعول- الي الغنائمُ) - بالرفع- نائب الفاعل، أي: أحل الله - جل شأنه - لي دون غيري الغنائمَ. وللكشميهني: المغانم (2).
قال في "النهاية": المَغْنَمُ والغنائمُ: ما أُصِيبَ من أموال أهل الحرب، وأَوْجَفَ عليه المسلمون بالخيل والرِّكَاب.
يقال: غَنِمْتُ أَغْنَمُ غُنْمًا وغَنيمَةً، والغنائم جمعُها، والمغانم: جمعُ مَغْنَم. والغُنْمُ-بالضم-: الاسم، -وبالفتح-: المصدر. والغانِم: آخِذُ الغنيمةِ، والجمع: الغانِمون (3).
(ولم تحل)، أي: الغنائم (لأحد) من الأنبياء- عليهم السلام (قبلي).
قال الخطابي: كان مَنْ تقدَّم على ضربين؛ منهم من لم يؤذنْ له في الجهاد، فلم تكن لهم مغانمُ. ومنهم: من أُذن لهم فيه، لكن كانوا إذا غنموا
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 438).
(2)
المرجع السابق، الموضع نفسه.
(3)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 389 - 390).
شيئًا، لم يحلَّ لهم أن يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته. وقيل: المراد؛ أنه خاص بالتصرف في الغنيمة يصرفها حيث شاء.
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": والأول أصوب، وهو أنَّ مَنْ مضى لم تحلَّ لهم الغنائم أصلًا (1).
الرابعة: ما أشار إليه بقوله: (وأُعطيت) -بالبناء للمفعول-.
و (الشفاعة): نائب الفاعل؛ أي: أعطاني الله الشفاعة.
قال ابن دقيق العيد: الأقربُ أن اللام فيها للعهد (2).
والمراد: بالشفاعة: العظمى في راحة الناس من هول الموقف، ولا خلاف في وقوعها. وكذا جزم النووي (3)، وغيره بذلك.
وقيل: الشفاعةُ التي اختص بها صلى الله عليه وسلم: أن يشفع في إدخال قوم الجنةَ بغير حساب؛ فإنها وردت لنبينا صلى الله عليه وسلم.
وقيل: الشفاعةُ بخروج مَنْ في قلبه مثقالُ ذرةٍ من إيمان؛ لأن شفاعة غيره تقع فيمن في قلبه أكثرُ من ذلك، قاله القاضي عياض (4).
قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر لي أن هذه مرادةٌ مع الأولى؛ لأنه يتبعها بها (5).
وقال البيهقي: يحتمل أن الشفاعة التي يختص بها: أن يشفع لأهل
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 438).
(2)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 118).
(3)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (5/ 4).
(4)
انظر: "إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 437).
(5)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 438).
الصغائر والكبائر، وغيره إنما يشفع لأهل الصغائر دون الكبائر (1).
أو أن الشفاعة المختصة به صلى الله عليه وسلم شفاعة لا تُرَد (2).
وقد وقع في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "وأُعطيت الشفاعةَ، فأَخَّرْتُها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئًا"(3).
وفي رواية عمرو بن شعيب: "فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله"(4).
فالظاهر: أن المراد بها: الشفاعةُ الأولى، لكن جاء التنويهُ بذكرها؛ لأنها غايةُ المطلوب من تلك؛ لاقتضائها الراحة المستمرة (5).
وقيل: إنها شفاعته لقوم قد استوجبوا النار، فيشفع فىِ عدم دخولهم لها، إلا أنه ثبت عدم اختصاصه بها.
وقيل: المراد: شفاعتُه بعد دخول الجنة في زيادة الدرجات لأهلها.
وهذه كالأولى مما لا ينكره المعتزلة، إلا أن الأظهر -والله أعلم- عدمُ إرادته إياها في هذا الحديث، والله الموفق (6).
الخامسة: مما أُعطيه صلى الله عليه وسلم وامتاز به على غيره من الأنبياء عليهم السلام
(1) انظر: "البعث والنشور" للبيهقي (ص: 55).
(2)
كما قاله القاضي عياض في "إكمال المعلم"(2/ 437).
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 301)، وعبد بن حميد في "مسنده"(643)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(31643)، والطبراني في "المعجم الكبير"(11085).
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 439).
(6)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 35 - 36).
ما أشار إليه في قوله: (وكان النبي) من الأنبياء (يُبعث) -بالبناء للمفعول-، والضمير المستتر نائب الفاعل؛ أي: يبعثه الله - سبحانه - (إلى قومه) الذي هو فيهم (خاصة) دون غيرهم، وهو منصوب على أنه مفعول مطلق.
يقال: خصَّه بالشيء، خَصًّا، وخُصوصًا، وخُصوصِيَّه، ويُفْتَح، وخَصيَّهً وتَخِصَّةً: فَضَّلَه، والخاصَّةُ ضدُّ العامَّة (1).
وفي لفظٍ لمسلم: "وكان كلُّ نبي يُبعث إلى قومه خاصَّةً"(2).
(وبُعثت إلى الناس عامة).
وفي لفظٍ: "إلى كلِّ أحمرَ وأسودَ"(3).
وفي "البخاري": "وبُعثت إلى الناس كافَّةً"(4).
وعند "مسلم" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "وأُرسلت إلى الخَلْق كافةً"(5).
فإن قيل: قد كان نوح مبعوثًا إلى أهل الأرض بعدَ الطوفان؛ لأنه لم يبقَ فيها إلا من كان مؤمنًا معه، وقد كان مرسلًا إليهم؟
فالجواب: إن هذا العموم لم يكن في أصل البعثة، وإنما اتفق له ذلك بالحادث الذي وقع، وهو انحصارُ الخلق في الموجودين عنده بعد هلاك سائر الناس، بخلاف عموم رسالة نبينا؛ فإنها من أصل البعثة، فثبت اختصاصه بذلك (6).
(1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 796)، (مادة: خصص)
(2)
تقدم تخريجه في حديث الباب.
(3)
هو لفظ مسلم المتقدم تخريجه في حديث الباب.
(4)
تقدم تخريجه في حديث الباب برقم (427) عنده.
(5)
تقدم تخريجه بلفظ: "فضلت على الأنبياء بست".
(6)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 114).
وأما قول أهل الموقف لنوحِ كما صحَّ في حديث الشفاعة: "وأنت أولُ رسول إلى أهل الأرض"(1)، فليس المراد به عمومَ بعثته، بل إثباتَ أولية إرساله.
وعلى تقدير أن يكون مرادًا، فهو مخصوص بتنصيصه سبحانه وتعالى في عدة آيات على أن إرسالَ نوح كان إلى قومه، ولم يذكر أنه أُرسل إلى غيرهم.
واستدل بعضهم لعموم بعثته: بكونه دعا على جميع أهل الأرض، فأُهلكوا بالغرق إلا أهلَ السفينة، ولولم يكن مبعوثًا إليهم، لما أُهلكوا؛ لقوله- تعالى-:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقد ثبت أنه أول الرسل.
وأجيب: بجواز أن يكون غيرُه أُرسل إليهم في أثناء مدة نوح، وعلم نوح بأنهم لم يؤمنوا، فدعا على من لم يؤمنْ من قومه وغيرِهم، فَأجيب.
واستحسن هذا الجوابَ الحافظُ في "الفتح"، قال: لكن لم يُنقل أنه نبي زمن نوح غيره (2).
ويحتمل: أن يكون معنى الخصوصية لنبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك: بقاءَ شريعته إلى يوم القيامة.
ونوحٌ وغيره بشَّر أن يبعث نبيٌّ في زمانه أو بعده فينسخُ بعض شريعته.
(1) رواه البخاري (4206)، كتاب: التفسير، باب: قول الله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]، ومسلم (193)، كتاب: الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها، عن أنس رضي الله عنه.
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 437).
ويحتمل أن يكون دعاؤه قومه إلى التوحيد بلغ بقية الناس، فتمادَوْا على الشرك، فاستحقوا العقاب، وإلى هذا نحا ابنُ عطية في تفسير سورة هود عليه السلام، قال: وغير ممكن أن نبوته لم تبلغ القريب والبعيد؛ لطول مدته (1).
ووجه ابن دقيق العيد: بأن توحيد الله تعالى يجوز أن يكون عامًا في حق الأنبياء، وإن كان التزامُ فروع شريعتِه ليس عامًا؛ فإن منهم من قاتل غيرَ قومه على الشرك وعبادةِ غير الله عز وجل، ولو لم يكن التوحيد لازمًا لهم، لم يقاتلوا، ولم يقتلوا، إلا على طريقة المعتزلة القائلين بالحسن والقبح العقلِيَّيْنِ.
ويجوز أن تكون الدعوة على التوحيد عامة، لكن على ألسنة أنبياء متعدِّدة، فيثبت التكليفُ به على سائر الخلق، وإن لم تعم الدعوة به بالنسبة إلى نبي واحد، انتهى (2).
ويحتمل: أنه لم يكن في الأرض عند إرسال نوح إلا قومُه، فبعثتُه خاصة؛ لكونها إلى قومه فقط، وهي عامة في الصورة؛ لعدم وجود غيرهم.
لكن لو اتفق وجودُ غيرهم، لم يكن مبعوثًا إليهم، وقائل هذا كأنه غَفَل عن آخر الحديث كما قدمناه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"وكانَ كلُّ نبيٍّ يُبعث إلى قو مِه "
…
الحديث (3).
(1) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (3/ 420) عند تفسير قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ
…
} الآية [هود: 36].
(2)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 114).
(3)
انظر فيما ذكره الشارح: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 436 - 437).
تتمة:
في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "فُضِّلْتُ على الأنبياءِ بستٍّ"، فذكر الخمسة المذكورة في حديث جابر، إلا عن الشفاعة، وزاد خصلتين، وهما:"وأُعطيتُ جوامعَ الكلم، وخُتِم بي النبيُّونَ". وهذا في "صحيح مسلم"، وأصل الحديث متفقٌ عليه (1).
وفي حديث حذيفة رضي الله عنه عند مسلم: "فُضِّلنْا على الناس بثلاثٍ: جُعلت صفوفُنا كصفوف الملائكة"، وذكر الأرض كما تقدم، وذكر خصلة أخرى (2).
وبيَّن أبو بكر بن أبي شيبة في "مسنده" من حديث حذيفة: أنها الآياتُ من آخر البقرة، ولفظه:"وأُوتيت هؤلاءِ الخصال من كنزٍ تحت العرش، من آخرِ سورةِ البقرة، لم يُعْطَ أحدٌ منه كانَ قبلي، ولا يُعطى أحدٌ منه كان بعدي"(3).
يشير إلى ما حَطَّ الله عن أمته من الإصْر، وتحميلِ ما لا طاقةَ لهم به، ورفعِ الخطأ والنسيان (4).
وفي "مسند الإمام أحمد" من حديث علي رضي الله عنه: "أعطيت أربعًا لم يُعْطَهُنَّ أحدٌ من أنبياء الله: أُعطيتُ مفاتيحَ الأرض، وسُمِّيتُ
(1) تقدم تخريجه عند مسلم. ورواه البخاري (6611)، كتاب: التعبير، باب: المفاتيح في اليد.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(31649)، والنسائي في "السنن الكبرى"(8022)، وابن خزيمة في "صحيحه"(263)، وابن حبان في "صحيحه"(1697)، وغيرهم.
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 439).
أحمدَ، وجُعلت أمتي خيرَ الأمم"، وذكر خصلة التراب (1).
قلت: خصلة إعطائه مفاتيحَ الأرض في "صحيح مسلم"، ولفظه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"بُعِثْتُ بجَوامعِ الكَلِم، ونُصِرْتُ بالرُّعْب، وبينا أنا نائم أُوتيتُ بمفاتيحِ خزائنِ الأرضِ، فوُضِعَتْ في يدي". قال أبو هريرة رضي الله عنه: فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنتم [تنتثلونها](2)، وهو في "صحيح البخاري" أيضًا (3).
وفي بعض طرقه: "بينا أنا نائم البارحةَ"(4). وقال -يعني: البخاري-: بلغني أن جوامع الكلم: أن الله يجمعُ الأمور الكثيرة التي كانت تُكتب في الكتب قبلَه في الأمر الأول، والأمرين، أو نحو ذلك، وذكره في كتاب: التعبير (5). وله في لفظٍ آخر: "مفاتيح الكلام"(6).
وعند البزار من حديث أبي هريرة رضي الله عنه -أيضاً من وجه آخر:
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 158)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(31647)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 213)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"(2/ 348)، وغيرهم.
(2)
في الأصل: "تتلونها"، والصواب ما أثبت كما في "الصحيحين"، ومعنى "تنتثلونها"؛ أي: تستخرجون ما فيها، وتتمتعون به، كما في "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 4).
(3)
رواه البخاري (2815)، كتاب: الجهاد والسير، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نُصرت بالرعب مسيرة شهر"، ومسلم (523)، في أول كتاب: المساجد ومواضع الصلاة.
(4)
رواه البخاري (6597)، كتاب: التعبير، باب: رؤيا الليل.
(5)
انظر: "صحيح البخاري"(6/ 2573).
(6)
تقدم تخريجه قريبًا برقم (6597) عنده، إلا أن فيه:"مفاتيح الكلم".
"فُضلْتُ على الأنبياء بستٍّ: غُفِرَ لي ما تقدَّمَ من ذنبي وما تأخَّر، وإني لصاحبُ لواءِ الحمدِ يومَ القيامة، تحته آدمُ فمَنْ دونه .... " الحديث (1).
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "فُضِّلْتُ على الأنبياء بخَصْلَتين: كان شيطاني كافرًا، فأعانني اللهُ عليه حتى أسلمَ، وكُنَّ أزواجي عونًا لي".
هذا حديث ابن عمر، ولفظه:"فُضِّلْتُ على آدم بخَصْلتين .... " الحديث.
وتمامُه: "وكان شيطانُ آدمَ كافرًا، وكانت زوجتُه عونًا على خطيئته" رواه البيهقي في "الدلائل"(2).
وأما حديث ابن عباس: "فُضِّلْتُ على الأنبياءِ بخَصْلَتين: كان شيطاني كافرًا .... إلخ". قال: ونسيت الأخرى (3).
ويمكن من تتبُّع الأحاديث في ذلك أن يُجمع من ذلك ما هو أكثر.
وقد ذكر أبو سعيد النيسابوري في كتابه: "شرف المصطفى": أن عدد الذي اختص به نبينا صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء: ستون خصلة.
(1) رواه البزار في "مسنده" بإسناد جيد، كما ذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 269).
(2)
رواه البيهقي في "دلائل النبوة"(2242) وقال: وهذه رواية محمد بن الوليد بن أبان، وهو في عداد من يضع الحديث. ورواه أيضاً: الخطيب في "تاريخ بغداد"(3/ 331)، وفي "تالي تلخيص المتشابه"(2/ 114)، ومن طريقه: ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(1/ 181)، وغيرهم.
(3)
رواه البزار في "مسنده"، وفيه إبراهيم بن صرمة، وهو ضعيف كما ذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد"(8/ 225، 269).
وقد أُفردت خصائصُه بالتأليف، فبلغت أضعافَ ذلك بكثير، فلا نطيل الكتاب بذكرها.
وقد ذكرنا منها طرفا صالحًا في "شرح نونيه الصرصري معارج الأنوار"، وفي "تحبير الوفاء"(1)، وغيرهما؛ فلعل النبى صلى الله عليه وسلم واطلع أولًا على بعض ما اختص به، ثم اطلع على الباقي، على أن العددَ لا مفهوم له عند الأكئر، فحينئذ يندفع الإشكال من أصله.
تنبيهات:
الأول: إن قيل: قد كان لسيدنا سليمان بن داود عليهما السلام ولغيره السراري، ومعلومٌ أن العبيد والإماء أثرُ الغنيمة، فما وجه قولِ الرسول صلى الله عليه وسلم:"أُحلت لي الغنائمُ ولم تحلَّ لأحدٍ قبلى"؟.
قلت: أجاب عن هذا الإمام الحافظ ابن الجوزي: أن الأنبياء كانوا إذا جاهدوا قدَّموا الغنيمة من الأمتعة والأطعمة والأموال، فنزلت نارٌ فأكلتها كلَّها من خُمْسِ النَّبيِّ وسهامِ أمَّته.
يدل له ما في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غزا نبيٌّ، فجمعوا ما غَنِموا، فأقبلت النارُ لتأكله، فأبتْ أن تطعمه، فقال النبي: فيكم غلول، فأخرجوا مثلَ رأس بقرةٍ، فوضعوه في المال، وأقبلت النار فأكلته، فلم تحلَّ الغنائمُ لأحدٍ ممَّنْ قبلنا، ذلك بأن الله تعالى رأى ضعفَنا وعجزَنا، فَطَيَّبَها لنا"(2).
(1) انظر الكلام على هذين الكتابين في مقدمة الكتاب، عند الحديث عن مؤلفات الشارح رحمه الله.
(2)
رواه البخاري (2956)، كتاب: الخمس، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أحلت لكم الغنائم"، ومسلم (1747)، كتاب: الجهاد والسير، باب: تحليل الغنائم لهذه =
قال ابن الجوزي: وأما العبيد والإماء والحيوانات، فإنها تكون ملكًا للغانمين دون الأنبياء، فلا يجوز للأنبياء أخذُ شيء من ذلك بسبب الغنيمة، بل بالابتياع والهدية ونحو ذلك، ومن هذا تسرَّى سليمان عليه السلام وغيره، فطابَ ذلك لنبّينا صلى الله عليه وسلم، فكان يأخذ الخمسَ، والصَّفِيَّ، ويتصرف فيه كيف شاء. هذا كلامه (1).
قلت: على أنه لا ينحصر ملكُ السراري والعبيد في الغنائم؛ إذ من الشرائع من كان يرى بيعَ نحو الأبناء، كما هو معروف، والله أعلم.
الثاني: فإن قيل: ما وجهُ اختصاصه صلى الله عليه وسلم بعموم البعثة، ومن المعلوم أن موسى- عليه السلام لما بُعِثَ في بني إسرائيل، لو جاءه غيرُهم من الأمم يسألونه تبليغَ ما جاء به عن الله عز وجل، لم يَسُغْ له كتمه، مع ما قدَّمنا من خبر نوح وهلاك العالَمِ بدعوته، وما ذاك إلا لعموم رسالته؟
قلت: أما الجواب عن أمر سيدنا نوحٍ، فقدمنا ما يشفي ويكفي.
وأما الجواب عن الأول: فقد أجاب الإمام ابنُ عقيلٍ، فقال: إن شريعة نبينا جاءت ناسخةً لكل شريعةٍ قبلها، وقد كان يجتمع في العصر الواحد النَّبيَّان، والثلاثةُ، والأكثرُ، يدعو كل واحدٍ إلى شريعةٍ تخصُّه، ولا يدعو غيرُه من الأنبياء إليها، ولا ينسخها، بخلاف نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فإنه دعا الكل، ونسخَه، وقال:"لو كان موسى حَيّا، ما وَسِعَهُ إلا اتِّباعي"(2)، وما كان
= الأمة خاصة، واللفظ له.
(1)
ولم أقف على كلامه هذا في شيء من كتبه المطبوعة، والله أعلم.
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 338)، وأبو يعلى في "مسنده"(2135)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(176)، وغيرهم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
يمكن أن يقول هذا عيسى في حق موسى، انتهى.
على أنه فرق بين من جاءه إنسان يسأله كشفَ ما جاء به ليدلَّه ويهديَه إليه، وبين من بُعث إلى كافة الناس، وأُمر بقتالهم حتى يتبعوه ويؤمنوا به، وبما جاء به من عند ربه - جل وعلا -، وهذا بيِّن، والله أعلم.