الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السادس
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ، فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعاً"(1)، ولِمُسْلِمٍ:"أُولاهُنَّ بالتُّرَابِ"(2). وله في حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مُغَفَّلٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ في الإِنَاءِ، فَاغْسِلُوهُ سَبْعاً، وعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بالتُّرَابِ"(3).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (170)، كتاب: الوضوء، باب: الماء يغسل به شعر الإنسان، ومسلم (279)، (1/ 234)، كتاب: الطهارة، باب: حكم ولوغ الكلب، والنسائي (63)، كتاب: الطهارة، باب: سؤر الكلب، وابن ماجه (364)، كتاب: الطهارة، باب: غسل الإناء من ولوغ الكلب، وهذا لفظ البخاري.
(2)
رواه مسلم (279)، (1/ 234)، كتاب: الطهارة، باب: حكم ولوغ الكلب، وأبو داود (71)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء بسؤر الكلب، والنسائي (338)، كتاب: المياه، باب: تعفير الإناء بالتراب من ولوغ الكلب فيه، والترمذي (91)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في سؤر الكلب، إلا أنه قال:"أولاهن أو أخراهن".
(3)
رواه مسلم (280)، كتاب: الطهارة، باب: حكم ولوغ الكلب، وأبو داود (74)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء بسؤر الكلب، والنسائي (67)، كتاب: الطهارة، باب تعفير الإناء الذي ولغ فيه الكلب بالتراب، وابن ماجه (365)، كتاب: الطهارة، باب: غسل الإناء من ولوغ الكلب. =
(عن أبي هريرةَ رضي الله عنه: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: إِذَا شَرِبَ) كذا هو في "الموطأ"(1)، وتبعه البخاري، وقد ذكره مسلمٌ - أيضاً -، في لفظ:"إِذَا شَرِبَ"(2)، والمشهورُ عن أبي هريرة من رواية جمهورِ أصحابه عنه:"إِذَا وَلَغَ"، وهو المعروفُ في اللغة، يقال: ولَغ يلَغ - بالفتح فيهما -: إذا شربَ بطرفِ لسانه، أو أدخلَ لسانَه فيه فحرَّكه، وقال ثعلب: هو أن يُدخلَ لسانَه في الماء وغيرِه من كل مائعٍ فيحرِّكَهُ، زادَ ابنُ درستويه: شربَ أو لم يشربْ، وقال مكي: إذا كانَ غير مائع، يقالُ: لعقه، قال المُطَرَّزِي: فإن كان فارغاً، يقال: لَحَسَهُ (3).
وادعى ابنُ عبد البر أن لفظ "شرب" لم يروه إلا مالكٌ، وأن غيره رووه بلفظ:"وَلَغَ"(4).
قال الحافظ ابن حجر: وليس كذلك، فقد رواه ابنُ خُزيمةَ وابنُ المنذر
= * مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (1/ 39)، و"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 206)، و"عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي" لابن العربي المالكي (1/ 133)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (1/ 101)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 538)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 182)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 26)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 274)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 38)، و"فيض القدير" للمناوي (4/ 272)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 22)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 41).
(1)
رواه الإمام مالك في "الموطأ"(1/ 34).
(2)
وقد روياه من طريق الإمام مالك في "صحيحيهما" كما تقدم تخريجه.
(3)
انظر: "الصحاح" للجوهري (4/ 1329)، و"لسان العرب"، لابن منظور (8/ 460)، (مادة: ولغ)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 225)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 274).
(4)
انظر: "التمهيد"(18/ 264)، و"الاستذكار" كلاهما لابن عبد البر (1/ 205).
من طريقين عن هشامِ بنِ حسان بلفظِ: "إذا ولغ"(1)، كذا أخرجه مسلم وغيره من طرقٍ عنه، ورواه عن أبي الزناد شيخ مالكٍ بلفظِ:"إذا شرب"، ورواه ابن عمر، أخرجه الجوزقي (2)، وكأن أبا الزناد حدث باللفظين؛ لتقاربهما في المعنى، لكن الشرب أخص من الولوغ، فلا يقوم مقامه.
ومفهوم الشرط في قوله: "إذا ولغ" يقتضي قصرَ الحكم على ذلك، نعم إذا قلنا: إن الأمر بالغسل للتنجيس يتعدى الحكم إلى ما إذا لحس أو لعق مثلاً، ويكون ذكر الولوغ للغالب، ويلحق في الحكم بقية أعضائه؛ لأن فمه أشرفُها، فالباقي من باب أولى على الصحيح، وللخصم أن ينفصل عن هذا بأن فمه محل استعمال النجاسة (3).
(الكَلْبُ): فاعل "شرب"، وهو الحيوان المعروف، شديدُ الرياضة، كثير الوفاء، وهو لا سَبُعٌ ولا بهيمةٌ، حتى كأنه من الخلق المركب؛ لأنه لو تم له طباع السبعية، ما ألف الناس، ولو تم له طباع البهيمية، ما أكل لحم الحيوان، لكن في الحديث إطلاق البهيمية عليه في قول الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله! إن لنا في البهائم أجراً؟ قال: "نَعَمْ، فِي كُلِّ كَبدٍ حَرَّى رَطْبَةٍ أَجْرٌ"، من حديث المرأة التي سقت الكلب، رواه البخاري ومسلم (4).
(1) رواه ابن خزيمة في "صحيحه"(95)، وابن المنذر في "الأوسط"(1/ 304).
(2)
انظر: "نصب الراية" للزيلعي (1/ 132)، و"التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 23).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 274 - 275).
(4)
رواه البخاري (2234)، كتاب: المساقاة، باب: فضل سقي الماء، ومسلم (2244)، كتاب: السلام، باب: فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"في كل كبد رطبة أجر"، لكن من حديث =
وفي بعض طرق البخاري: "في كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ"(1).
ولا فرق في الحكم بين كون الكلب أهلياً أو سلوقياً- نسبة إلى سلوق مدينة باليمن، تنسب إليها الكلاب السلوقية -، وكلاهما في الطبع سواء، وفي طبعه احتلام، وتحيض إناثه. (في إناءِ)؛ أي: وعاء (أَحَدِكمْ) معشرَ الأمة، ظاهره العموم في كل آنية، ومفهومه يخرج الماء المستنقع مثلاً، وبه قال الأوزاعي مطلقاً، لكن إذا قلنا بأن الغسل للتنجيس كما هو المشهور، يجري الحكم في القليل من الماء دون الكثير، ويلغي اعتبار الإضافة التي في "إناء أحدكم"؛ لعدم توقف الطهارة على ملكه. يؤيد المشهور ما في الرواية الصحيحة عند مسلم وغيره:"طَهُورُ إِناءِ أَحَدِكُمْ"(2)(فَلْيَغْسِلْهُ)؛ أي: الإناءَ، وهو متروك اعتبار الظاهر؛ لعدم توقف طهارته على أن يكون هو الغاسل، زاد مسلم والنسائي من طريق علي بن مُسْهر، عن الأعمش، عن أبي صالح وأبي رزين، عن أبي هريرة في هذا الحديث:"فَلْيُرِقْهُ"(3)، وهو يقوي القول: بأن الغسل للتنجيس؛ إذ المُراقُ أعمُّ من أن يكون ماء أو طعاماً، فلو كان طاهراً، لم يؤمر بإراقته؛ للنهي عن إضاعة المال، لكن قال. النسائي: لا أعلم أحداً تابع عليَّ بنَ مُسْهر على زيادة: "فليرقه"(4)، وقال
= الرجل الذي سقى كلباً؛ وليس عندهما قوله: "حرّى"، وقد رواه القضاعي في "مسند الشهاب"(112)، عن سراقة بن جعشم رضي الله عنه بلفظ:"في كل كبد رطبة أجر"، ولم أره بهذا اللفظ عند غيره، والله أعلم.
(1)
رواه البخاري (2334)، كتاب: المظالم، باب: الآبار على الطرق إذا لم يتأذ بها.
(2)
تقدم تخريجه في حديث الباب.
(3)
تقدم تخريجه عندهما.
(4)
انظر: "سنن النسائي"(1/ 53).
حمزة الكناني: إنها غير محفوظة، وقال ابن عبد البر: لم يذكرها الحفاظ من أصحاب الأعمش؛ كأبي معاوية وشعبة (1)، وقال ابن منده: لا تُعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه إلا عن علي بن مسهر بهذا الإسناد.
قال الحافظ ابن حجر: ورد الأمر بالإراقة أيضاً من طريق عطاء، عن أبي هريرة مرفوعاً، أخرجه ابن عدي (2)، لكن في رفعه نظر، والصحيح أنه موقوف.
وكذا ذكر الإراقةَ حمادُ بنُ زيد، عن أيوبَ، عن ابن سيرينَ، عن أبي هريرة موقوفاً، وإسناده صحيح، أخرجه الدارقطني (3)، وغيره، انتهى (4).
قال الحافظ ابنُ عبدِ الهادي في كتابه "تنقيح التحقيق على أحاديث التعليق": روى الدارقطنيُّ من طريق عليِّ بنِ مُسْهِرٍ، عن الأعمش، عن أبي صالح وأبي رزين، عن أبي هريرة مرفوعاً، "إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ في إناءِ أحدِكُمْ، فَلْيُهْرِقْهُ ولْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ"(5).
وظاهر قوله: "فليغسله" يقتضي الفورَ، لكن حمل الجمهور الفورية على الاستحباب، إلا لمن أراد أن يستعمل ذلك الإناء (6) (سبعاً)؛ أي: سبع مرات، ولم يقع في رواية مالك التتريب، ولا ثبت في شيء من الروايات
(1) انظر: "التمهيد" لابن عبد البر (18/ 273).
(2)
رواه ابن عدي في "الكامل في الضعفاء"(2/ 366)، ووقع في المطبوع: عن عطاء، عن الزهري، قال، فذكره.
(3)
رواه الدارقطني في "سننه"(1/ 64)، وقال: صحيح موقوف.
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 275).
(5)
انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي الحنبلي (1/ 52 - 53).
(6)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 275).
عن أبي هريرة، إلا عن ابن سيرين، على أن بعض أصحابه لم يذكره، وروي أيضاً عن الحسن، وأبي رافع عند الدارقطني (1)، وعبد الرحمن والد السُّدّي عند البزار (2)، واختلف الرواة عن ابن سيرين في محل غسلة التتريب، فـ (لمسلم) وغيره من طريق هشامِ بنِ حسانَ، عنه:(أولاهن)؛ أي: الغسلات، تكون (بالتراب)، وهي رواية الأكثر عن ابن سيرين، وقال سعيد بن بشير عنه:"أولاهن" أيضاً، أخرجه الدارقطني (3)، وقال أبان عن قتادة:"السابعة" أخرجه أبو داود (4)، والشافعي عن سفيان، عن أيوب، عن ابن سيرين:"أُولاهُنَّ أو أُخراهُنَّ"(5)، وفي رواية السدي "إحداهُنَّ"(6)، وكذا في رواية هشامِ بنِ عروةَ، عن أبي الزناد، (وله)؛ أي: لمسلمٍ (في حديث عبد الله بن مُغَفّل) رضي الله عنه بضم الميم، وفتح الغين المعجمة، وتشديد الفاء فلام - ابن عبد غنم بن عفيف المزني، من ولد طابخة بن إلياس بن مضر، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في إلياس بن مضر، يكنى: أبا سعيد، وقيل: أبا عبد الرحمن، أحد البكائين الذين نزل فيهم:{وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] الآية، وذكر ابن ماكولا أن لأبيه مغفّل صحبة أيضاً، وكذلك ابن عبد البر في "الاستيعاب"، ولكنه مات عام الفتح بطريق مكة قبل أن يدخلها، ولهم أخ آخر من الصحابة
(1) انظر: "سنن الدارقطني"(1/ 64 - 65).
(2)
انظر: "مجمع الزوائد" للهيثمي (1/ 287).
(3)
رواه الدارقطني في "سننه"(1/ 64)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 241).
(4)
رواه أبو داود (73)، كتاب: الطهارة، باب: الوضوء بسؤر الكلب.
(5)
رواه الإمام الشافعي في "مسنده"(ص: 8)، وفي "الأم"(1/ 6).
(6)
عند البزار، والمتقدم ذكرها قريباً.
يسمّى: عبد الله بن مغفل بن عبد نُهْم -بضم النون وسكون الهاء فميم- خزاعي، وعبد الله صاحب الترجمة رضي الله عنه نزل البصرة، يروي عنه الحسن البصري كثيراً.
روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وأربعون حديثاً، اتفقا على أربعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بهذا الحديث.
توفي رضي الله عنه بالبصرة بآخر خلافة معاوية سنة ستين، وقيل: سنة تسع وخمسين، وصلّى عليه أبو برزة الأسلمي بوصية منه، وهو أحد العشرة الذين أرسلهم عمر رضي الله عنه وعنهم - على البصرة يفقهون الناس (1).
قال رضي الله عنه: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا وَلَغَ الكلبُ) الألف واللام فيه للجنس؛ أي: أيّ كلب ولغ (في الإناءِ)؛ أي: في أي إناء، أو للعهد، (فاغسِلُوهُ)؛ أي: الإناءَ الذي ولغ فيه الكلب (سَبْعاً) من المرات، نعم كل غسلة ما باشره الكلب، والمائع حيث كان دون القلتين، (وَعَفِّروهُ)؛ أي: الإناءَ (الثامنةَ)؛ أي: في الغسلة الثامنة؛ (بالترابِ) الطَّهورِ على المعتمد من المذهب.
(1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 23)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 996)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 680)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 395)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 271)، و"الإكمال" لابن ماكولا (7/ 203)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 483)، و"تهذيب الكمال" للمزي (16/ 173)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 242)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (6/ 38)، و"التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة" للسخاوي (2/ 95).
وروى حديث عبد الله بن مغفل أيضاً: الإمام أحمد (1)، وغيره، وطريق الجمع بين هذه الروايات أن يقال:"إحداهن" مبهمة، و"أولاهن" معينة، ولفظة "أو" وإن كانت في نفس الخبر، فهي للتخيير، فمقتضى حمل المطلق على المقيد: أن يُحمل على إحداهما؛ لأنَّ فيه زيادة على الرواية المعينة، وهو الذي صرح به علماؤنا (2).
قال في "شرح الوجيز": وله استعمالُ الترابِ في أي غسلة شاء، إذا أتى عليه من الماء ما يزيلُه ليحصل المقصودُ منه.
وفي "الفروع": وتُغسلُ نجاسةُ كلب، نص عليه؛ وفاقاً للشافعي، وقيل: ولوغه؛ وفاقاً لمالك، تعبداً سبعاً؛ وفاقاً لمالك والشافعي، بتراب في أي غسلةٍ شاء، وهل الأولة أولى أو الأخيرة أو سواء؟ فيه روايات (3).
قلت: الذي استقر عليه المذهب كونُ التراب في الأولى أولى؛ ليأتي الماء من بقية الغسلات عليه، فينظف المحل منه بإزالة أثره عنه، ونص الشافعي في "الأم" على التخيير، وكذا "البويطي"، وصرح به المرعشي وغيرُه من الشافعية، وذكره ابنُ دقيقِ العيدِ والسبْكِي بحثاً، وهو منصوصٌ، نبه عليه الحافظُ ابنُ حجرٍ في "شرح البخاري"(4)، وإن كانت لفظة "أو" شكاً من الراوي؛ فروايةُ مَنْ عَيَّنَ ولم يشكَّ أولى من رواية من أَبْهَمَ أو شَك، فيبقى النظرُ في الترجيح بين روايةِ "أولاهن"، ورواية "السابعة"،
(1) رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 56). وتقدم تخريجه عند الأربعة إلا الترمذي، وذلك في حديث الباب.
(2)
انظر: "القواعد والفوائد الأصولية " لابن اللحام (ص: 285).
(3)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 203).
(4)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 276).
ورواية "أولاهن" أرجح من حيث الأكثرية والأحفظية، ومن حيثُ المعنى أيضاً؛ لأن تتريب الأخيرة يستدعي غسلةً أخرى لتنظيفه، وقد نص الشافعي على أولوية الأُولى.
وفي هذا الحديث دليلٌ: على أن حكمَ النجاسة يتعدى عن محلها إلى ما يجاورها بشرط كونه مائعاً.
وعلى تنجيس المائعات إذا وقع في جرمها نجاسة.
وعلى تنجيس الإناء الذي يتصل بالمائع.
وعلى أن الماء القليلَ ينجُس بوقوع النجاسة فيه، وإن لم يتغير؛ لأن ولوغَ الكلب لا يغير الماءَ الذي في الإناء غالباً، وتؤخذ قلتُه في الحديث من كونه في الإناء؛ لأنه لا يكون إلا قليلاً غالباً، ويناط الحكم بالغالب الأكثر دون النادر.
وعلى أن ورود الماء على النجاسة يخالف ورودها عليه؛ لأنه أمر بإراقة الماء لما وردتْ عليه النجاسة، وهو حقيقة في إراقة جميعه، وأمر بغسله، وحقيقته تتأدى بما يسمى غسلاً، ولو كان ما يُغسلُ به أقل مما أريق.
تنبيهات:
أحدها: ظاهر حديث عبد الله بنِ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه يقتضي كونَ الغسلات ثمانيةً، وبه قال الحسنُ البصري، وقيل: إنه لم يقل به غيرُه، ولعل المراد بذلك: من المتقدمين، قاله ابن دقيق العيد (1).
قلتُ: هو رواية عن الإمام أحمد كما في "الفروع"(2) وغيره.
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 29).
(2)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 203).
الثاني: ظاهره الاكتفاء بالتعفير، والذي جزم به متأخرو علمائنا لا يكفي ذَرُّ التراب على المحل، بل يعتبر مائع يوصله إليه، ذكره أبو المعالي، و"التلخيص"، وفاقاً للشافعي، وقيد المتأخرون كون المائع ماءً طهوراً، ولعل ذلك حيث اعتبروها من السبع، وإلا فلا.
واستظهر في "الفروع"(1): يكفي ذَرُّه، ويُتبعه الماءَ، وهو ظاهر كلام جماعة، وصوبه في "الإنصاف"(2)؛ لاقتضاء حديث عبدِ الله بنِ مُغَفلٍ رضي الله عنه الاكتفاء بذلك؛ فإنه يشعر بالاكتفاء بالتتريب بذر التراب على المحل، وإن كان خلطه بالماء لا ينافي كونه تعفيراً لغة؛ لأن لفظ التعفير يطلق على ذَرِّهِ على المحل، وعلى إيصاله بالماء إليه، لكن الحديث الذي دل على اعتبار مسمى الغسلة يدل على خلطه بالماء، وإيصاله إلى المحل به، وذلك أمر زائد على مطلق التعفير، على تقدير شمول اسم التعفير للصورتين معاً؛ أعني: ذر التراب وإيصاله بالماء، فكان العمل به أولى، فلهذا اعتبرنا إيصاله بالماء إلى المحل، على المعتمد، ولا بد من استيعاب محل الولوغ بالتراب، والمذهب: يكفي مسحاً فيما يضر كالشاش دون غيره.
الثالث: جزم علماؤنا بإقامة نحو الأُشنان مما له قوة الإزالة مقامَ التراب، لا غسلة ثامنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "شرح عمدة الفقه": هذا أقوى الوجوه (3)، وصححه في "التصحيح"، والمجد في "شرحه"، و"تصحيح
(1) المرجع السابق، الموضع نفسه.
(2)
انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 311).
(3)
انظر: "شرح العمدة" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 87).
المحرر" (1)؛ لأن كلاً من الصابون والأشنان والنخالة أبلغ من التراب في الإزالة، فنصه على التراب تنبيهٌ عليها، ولأن التراب جامد أمر به في إزالة النجاسة، فأُلحقَ به ما يماثِلُهُ؛ كالحجر في الاستجمار.
وقيل: لا يُجزئه؛ لأنه طهارة أمر فيها بالتراب، فلم يقم غيره مقامه؛ كالتيمم، ولأن الأمر به تعبد، فلا يقاس عليه غيره.
وقال ابن حامد: إنما يجوز العدول إلى غير التراب عند عدمه، أو إفساد المحل المَغسول به، فأما مع وجوده وعدم الضرر، فلا (2).
الرابع: مثل الكلب الخنزيرُ والمتولَّدُ منهما، أو من أحدهما في ذلك على المذهب فعينُ هَؤلاءِ نَجِسة؛ خلافاً لمالك، فأما نجاسة عين الكلب، فلنجاسة ما ولغ فيه، فإذا ثبت نجاسة فمه من نجاسة لعابه، فإنه جزء من فمه، وفمه أشرف ما فيه، فبقية بدنه أولى كما أشرنا إليه آنفاً، و- أيضاً - إذا كان لعابه -وهو عَرَق فمه- نجساً، ففمه نجس؛ لأن العرق جزء متحلِّبٌ من الفم، فجميع عرقه نجس، فجميع بدنه نجس.
وأما الخنزير، فقال الإمام أحمد: هو شرٌّ من الكلب (3)؛ لقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] الرجس: النجس، قال الماوردي: الضمير في قوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} عائد على الخنزير؛ لكونه أقرب مذكور، ونازعه أبو حيانَ فقال: عائد على اللحم؛ لأنه إذا كان في الكلام مضاف ومضاف إليه، عاد الضمير إلى المضاف؛ لأن المضاف هو
(1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 204)، و"الإنصاف" للمرداوي (1/ 312).
(2)
المرجعان السابقان.
(3)
انظر: "الإنصاف" للمرداوي (1/ 310).
المحدث عنه، والمضاف إليه وقع ذكره بطريق العرض، وهو تعريف المضاف أو تخصيصه (1).
وما ذكره الماوردي أولى من حيث المعنى؛ لأن تحريم اللحم قد استفيد من قوله {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} ، فلو عاد الضمير عليه، لزم خلو الكلام من فائدة التأسيس، فوجه عوده إلى الخنزير؛ ليفيد تحريمَ الشحم والكبد والطحال وسائر أجزائه.
وقال القرطبي في تفسير سورة البقرة: ولا خلاف أن جملة الخنزير محرمة، إلا الشعر؛ فإنه يجوز الخرز به (2).
ونقل ابن المنذر الإجماعَ على نجاسته (3)، ونقلُه الإجماعَ مخدوشٌ، فإن الإمام مالكاً يخالف فيه، نعم هو أسوأ حالاً من الكلب؛ فإنه يستحب قتله، ولا يجوز الانتفاع به في حالة، بخلاف الكلب.
قال في "الفروع": المذهبُ: نجاسةُ كلبٍ وخنزيرٍ ومتولَّد من أحدهما؛ خلافاً لمالك، وعنه - أي: الإمام أحمد -: غير شعر، اختاره أبو بكر، وشيخنا -يعني: شيخ الإسلام-، وفاقاً لأبي حنيفة (4).
الخامس: خالف ظاهرَ هذا الحديث الحنفيةُ والمالكيةُ، فأما الحنفيةُ، فلم يقولوا بوجوب السبع، ولا التتريب، واعتذر الطحاوي منهم بأمور:
منها: كون أبي هريرة راويه أفتى بثلاث غسلات، فثبت بذلك نسخُ السبع، وتُعقب بأنه يحتمل أن يكون أفتى بذلك لاعتقاده ندبية السبْع، أو أنه
(1) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (4/ 674).
(2)
انظر: "تفسير القرطبي"(2/ 233).
(3)
انظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم (ص: 149).
(4)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 203).
نسي ما كان رواه، ومع الاحتمال لا يثبت نسخ، مع أنه قد ثبت عنه رضي الله عنه أنه أفتى بالغسل سبعاً، ورواية من روى عنه موافقة فتباه أرجح من رواية من روى مخالفتها إسناداً ونظراً، أما النظر، فظاهر، وأما الإسناد، فالموافقة وردت من رواية حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين، عنه، وهذا من أصح الأسانيد، وأما المخالفة، فمن رواية عبدِ الملك بنِ أبي سليمان، عن عطاء، عنه، وهو دون الأول في القوة بكثير.
ومنها: أن العَذِرة في النجاسة أشدُّ من سُؤْرِ الكلب، ولم تقيَّد بالسبع، فيكون الولوغُ كذلك بالأولى.
وتُعُقِّبَ بأنه لا يلزم من كونها أشدَّ استقذاراً أن تكون أشدَّ في تغليظ الحكم، وبأنه قياس في مقابلة النص، وهو فاسدُ الاعتبار.
ومنها: دعوى أن الأمر بذلك كان عند الأمر بقتل الكلاب، فلما نُهي عن قتلها، نُسِخَ الأمرُ بالغَسْلِ.
وتعقب بأن الأمر بقتلها كان في أوائل الهجرة، والأمرَ بالغسلِ متأخرٌ جداً؛ لأنه من رواية أبي هريرة، وعبد الله بن مُغفلٍ، وقد ذكر ابن مُغَفلٍ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالغسل، وكان إسلامُه سنة سبعٍ، كأبي هريرة.
ومنها: إلزامُ من يقول باعتبار السبعِ بإيجاب ثمان غسلات، عملاً بظاهر حديث ابن مغفلٍ، وهو في مسلم كما مر، ولفظه:"وعَفِّرُوهُ الثامِنَةَ في الترابِ"، وفي رواية الإمام أحمد:"بالتراب"(1).
وأجيب بأنه لا يلزم من كونهم لا يقولون بظاهر حديث ابن مغفل أن تترك أنت وأصحابُك العمل بالحديث أصلاً ورأساً؛ لأن اعتقاد من يقول
(1) تقدم تخريجه عند الإمام أحمد في "المسند".
بالسبع إن كان متجهاً، فذاك، وإلا، فكلٌّ ملومٌ في ترك العمل به، قاله ابن دقيق العيد (1).
وقد اعتذر بعضهم عن العمل بمقتضاه بالإجماع على خلافه، ونظر فيه غير واحد؛ لأنه ثبت القول بذلك عن الحسن البصري، وهو مروي عن الإمام أحمد أيضاً من رواية حرب الكرماني عنه.
قال في "الفروع": وتُغسلُ نجاسةُ كلبٍ، نص عليه؛ وفاقاً للشافعي، وقيل: ولوغه؛ وفاقاً لمالك تعبداً، سبعاً؛ وفاقاً لمالك والشافعي، وعنه: ثمانياً، انتهى (2).
قال الحافظ ابن حجر: ونُقل عن الشافعي أنه قال: هو حديث لم أقف على صحته، قال: ولكن هذا لا يثبت العذرَ لمن وقف على صحته.
وجنح بعضُهم إلى ترجيح حديث أبي هريرة على حديث ابن مُغَفل، والترجيح لا يصار إليه مع إمكان الجمع، والأخذ بحديث ابن مغفل يستلزم الأخذ بحديث أبي هريرة، بلا عكس، وزيادة الثقة مقبولة، ولو سلكنا الترجيح في هذا الباب، لم نقل بالتتريب أصلاً؛ لأن رواية مالك بدونه أرجحُ من رواية مَنْ أثبتَه، ومع ذلك قلنا به؛ أخذاً بزيادة الثقة.
وجمع بعضهم بين الحديثين بضرب من المجاز، فإنه لما كان التراب جنساً غير الماء، جعل اجتماعهما في المرة الواحدة معدوداً باثنتين، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن قوله:"وعفروه الثامنة" ظاهر في كونها غسلة مستقلة،
(1) انظر ما أورده الشارح من كلام الطحاوي في: "شرح معاني الآثار" له (1/ 23)، وما أورده من تعقبات عليه:"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 26 - 27)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 277).
(2)
انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 203).
لكن إن وقع التعفير في أوله قبل ورود الغسلات، كانت الغسلات ثمانية، ويكون إطلاقُ الغسلة على التتريب مجازاً (1)، وهذا الجمع من مرجحات كون التراب في الأولى (2).
فإن قلت: فقد روى الدارقطني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً في الكلب يلغ في الإناء: "يغسله ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً"(3).
قلت: أجاب الحافظ ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" بأن الحديث تفرد به عبدُ الوهابِ بنُ الضحاك، قال الدارقطني: إنه متروكُ الحديث، وفيه إسماعيلُ بن عياش ضعيف، وقال أبو حاتم بنُ حِبان: لا يحتج بحديثه، وقد رواه الدارقطني عن أبي هريرة موقوفاً أنه قال: يغسل ثلاثاً، ثم قال: لم يروه غيرُ عبد الملك عن عطاء، والصحيحُ: سبع مرات، قال ابن الجوزي: وقد رفعه حسين الكرابيسي، قال: ولم يرفعه غيرُه، ولا يحتج بحديثه، انتهى (4).
قال الحافظ ابنُ عبدِ الهادي: حسينٌ الكرابيسيُّ فقيهٌ صاحبُ تصانيف، قال فيه الأزدي: ساقط لا يرجع إلى قوله، وقال الخطيب: حديثه يعز جداً؛ لأن الإمام أحمد كان يتكلم فيه بسبب مسألة اللفظ، قال ابن عدي في الكرابيسي: له كتب مصنفة، وذكر فيها اختلاف الناس من المسائل، وكان حافظاً لها، وذكر في كتبه أخباراً كثيرة، ولم أجد منكراً غير ما ذكرت من
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 28 - 29).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 277 - 278).
(3)
رواه الدارقطني في "سننه"(1/ 65)، وانظر:"السنن الكبرى" للبيهقي (1/ 240)
(4)
انظر: "التحقيق في أحاديث الخلاف" لابن الجوزي (1/ 74).
الحديث -يعني: هذا-، قال ابن عدي: والذي حمل الإمامَ أحمدَ بنَ حنبلٍ عليه من أجل اللفظ في القرآن، فأما في الحديث، فلم أر به بأساً (1).
وأما المالكية، فلم يقولوا بالتتريب أصلاً، مع إيجابهم السبْعَ على المشهور عندهم؛ لأن التتريب لم يقع في رواية مالك، وقد صحت فيه الأحاديث، فالعجب منهم كيف لم يقولوا بها، وعن مالك رواية أن الأمر بالتسبيع للندب، والمعروف عنده أنه للوجوب، لكنه للتعبد؛ لكون الكلب طاهراً عندهم، وعن مالك رواية: أنه نجس، لكن قاعدته أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، فلم يجب التسبيع للنجاسة، بل للتعبد، ويرد عليهم قوله صلى الله عليه وسلم في صدر هذا الحديث فيما رواه مسلم وغيره:"طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ"؛ لأن الطهارة تستعمل إما عن حدث أو خبث، ولا حدث على الإناء، فتعين الخبث.
وأجابوا بمنع الحصر؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث، وقد قيل: طهور المسلم، ولأن الطهارة تطلق على غير ذلك؛ كقوله - تعالى -:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ"(2).
والجواب عن الأول: بأن التيمم ناشىءٌ عن حدثٍ، فلما قام مقامَ ما يُطهر الحدث، سُمي طَهوراً، ومن يقول بأنه يرفع الحدث يمنع هذا الإيراد من أصله.
(1) انظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 55).
(2)
رواه النسائي (5)، كتاب: الطهارة، باب: الترغيب في السواك، والإمام أحمد في "المسند"(6/ 47)، وابن خزيمة في "صحيحه"(135)، وابن حبان في "صحيحه"(1067)، وغيرهم. وعلَّقه البخاري في "صحيحه"(2/ 286)، كلهم من حديث عائشة رضي الله عنها.
وعن الثاني: أن ألفاظ الشرع إذا دارت بين الحقيقة اللغوية والشرعية، حُملت على الشرعية، إلا إذا قام دليل على إرادة غيرها.
قال الإمام المحقق ابنُ القيم في كتابه "بدائع الفوائد": من ادعى صرفَ لفظ عن ظاهره، وعين له مجازاً، لم يتم له ذلك إلا بعد أربع مقاماتٍ:
أحدها: بيان امتناع إرادة الحقيقة.
الثاني: بيان صلاحية اللفظ للمعنى الذي عينه، وإلا، لكان مفترياً على اللغة.
الثالث: بيان تعيين ذلك المحمل، إن كان له عدة مجازاتٍ.
الرابع: الجواب عن الدليل الموجب لإرادة الحقيقة، فما لم يقم بهذه الأمور، فدعواه صرف الكلام عن ظاهره باطلة.
وإن ادعى مجرد صرف اللفظ عن ظاهره، ولم يعين محملاً، لزمه أمران:
أحدهما: بيان الدليل الدال على امتناع إرادة الظاهر.
الثاني: جوابه عن المعارض، انتهى (1).
وادعى بعض المالكية: أن المأمورَ بالغسل من ولوغه: الكلبُ المنهيُّ عن اتخاذه، دون المأذون فيه.
وهذا ساقطٌ؛ لأن اللام في "الكلب" للجنس، أو تعريف الماهية، وكلاهما يدل على عموم الكلاب.
وفرق بعضهم بين الكلب البدوي والحضري.
(1) انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (4/ 1009).
وبعضهم قال: المراد بالكلب: الكَلِب، وكلها لا تفيد عند التحقيق فائدةً.
وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما التصريح بأن الغسل من ولوغ الكلب؛ لأنه رجسٌ، رواه محمد بن نصر المروزي، بإسنادٍ صحيحٍ (1)، ولم يصح عن أحدٍ من الصحابة خلافه.
والمشهور عن المالكية أيضاً: التفرقة بين إناء الماء، فيراق ويغسل، وبين إناء الطعام، فيؤكل، ثم يُغسل الإناء تعبُّداً؛ لأن الأمر بالإراقة عام، فيخص الطعامُ منه بالنهي عن إضاعة المال.
وعورض بأن النهي عن إضاعة المال مخصوصٌ بالأمر بالإراقة، ويترجح بالإجماع على إراقة ما يقع فيه النجاسة من قليل المائعات، ولو عظم ثمنه، فثبت تخصيص عموم النهي عن الإضاعة بخلاف الإراقة.
وإذا ثبتت نجاسة سؤره، كان أعم من أن يكون لنجاسة عينه، أو لنجاسةٍ طارئةٍ. لكن الأول أرجحُ، إذ هو الأصل، ولأنه يلزم على الثاني مشاركة غيره له في الحكم، والله الموفق.
* * *
(1) ورواه ابن المنذر في "الأوسط"(1/ 306). وانظر: "التمهيد" لابن عبد البر (18/ 268)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 276).