الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الثَّاني
في ترجمة مؤلّف "العمدة
" (1)
هو أبو محمد الإمامُ عبدُ الغنيِّ بنُ عبدِ الواحدِ بنِ عليِّ بنِ سرورِ بنِ رافعِ بنِ حسنِ بنِ جعفرٍ الجمَّاعيليُّ، المقدسيُّ، الحافظُ، الزاهدُ، تقيُّ الدين، حافظُ وقتِه ومحدِّثُه وإمامُه، الحنبليُّ، الأثريُّ.
وُلد بجمّاعيلَ من جبلِ "نابُلُسَ" من الأرض المقدسة، سنة إحدى وأربعين وخمس مئة.
قال الإمام الحافظ الضياءُ: أظنه في ربيع الآخرِ من السنة، كما حدثتني والدتي قالت: الحافظُ أكبرُ من أخي الموفق بأربعة أشهر، ومولدُ الموفق في شعبانَ من السنة المذكورة.
وقال الحافظ المنذري: ذكر أصحابُه عنه ما يدل على أن مولدَه سنة
(1) وانظر ترجمته في: "التقييد" لابن نقطة (ص: 370)، و"المستفاد من ذيل تاريخ بغداد" لابن النجار (18/ 168)، و"سير أعلام النبلاء"(21/ 444)، و"تذكرة الحفاظ" كلاهما للذهبي (4/ 1372)، و"ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب (2/ 5)، و"الوافي بالوفيات" للصفدي (19/ 21)، و"طبقات الحفاظ" للسيوطي (ص: 487)، و"النجوم الزاهرة" لابن تغري بردي (6/ 185)، و"المقصد الأرشد" لابن مفلح (2/ 152)، و"شذرات الذهب " لابن العماد (4/ 345). وقد جمع الحافظ ضياء الدين أبو عبد الله المقدسي سيرته في جزأين، ساق منها الذهبي في "السير" جملة وافرة، ونقل عنها المؤلف هنا معظم ترجمته.
أربع وأربعين وخمس مئة، وكذا ذكر ابن القطيعي في "تاريخه"؛ أنه سألَ الحافظَ عبدَ الغني عن مولده؛ فقال: إما في سنة ثلاث، أو في سنة أربع وأربعين وخمس مئة.
قال الحافظُ ابنُ رجبٍ: والأظهرُ أنه سنة أربع.
وقدم "دمشقَ" صغيراً بعد الخمسين، فسمعَ بها من أبي الحازم بن هلال، وأبي المعالي بن صابر، وأبي عبدِ الله محمدِ بنِ حمزةَ بنِ أبي جميلٍ القرشي، وغيرهم، ثم رحل إلى "بغدادَ" سنة إحدى وستين هو والإمام الموفقُ، فأقاما ببغداد أربع سنين، وكان الإمام الموفقُ ميلُه إلى الفقه، والحافظُ ميلُه إلى الحديث، فنزلا على الشيخ قطبِ دائرةِ الوجود سيدِنا الشيخِ عبدِ القادر - قدسَ اللهُ سره -، فكان يراعيهما، ويحسنُ إليهما، وقرأ عليه شيئاً من الحديث والفقه.
وحكى الإمامُ الموفَّق أنهما أقاما عنده نحوَ أربعين يوماً، ثم مات، وأنهما كانا يقرأن عليه كل يوم درسين من الفقه، فيقرأ هو من "الخرقي"، والحافظ من كتاب "الهداية".
قال الحافظ الضياء: وبعد ذلك اشتغلا بالفقه والخلاف على ابن المَنِّي، وصارا يتكلمان في المسألة، ويناظران، وسمعا من أبي الفتح بن البَطي، وأحمدَ بنِ المعتز الكوفي، وأبي بكر بن الناقور، وهبة الله بنِ الحسنِ بنِ هلالٍ الدقاق، وأبي زرعة، وغيرِهم، ثم عادا إلى "دمشق".
ثم رحل الحافظ سنة ست وستين إلى "مصر" و"الإسكندرية"، وأقام هناك مدة، ثم عاد، ثم رجع إلى "الإسكندرية" سنة سبعين، وسمعَ بها من الحافظ السلفي، وأكثر عنه حتى قيل: لعله كتبَ عنه ألفَ جزء، وسمع من غيرِه أيضاً، وسمع بمصرَ من أبي محمد بن بري النحْوي وجماعة، ثم عاد
إلى "دمشق"، ثم سافر بعد السبعين إلى "أصبهان"، وكان قد خرج إليها وليس معه إلا قليلُ فُلوس، فسهل اللهُ له من حَمَلَه وأنفقَ عليه، حتى دخل "أصبهان"، وأقام بها مدة، وسمع بها الكثير، وحصل الكتبَ الجيدةَ، ثم رجعَ وسمع بهمدان من عبد الرزاق بن إسماعيل الفرماني، والحافظ أبي العلاء، وغيرهما، وبأصبهان من الحافظين أبي موسى المديني، وأبي سعد الصائغ، وطبقتهما، وسمع بالموصل من خطيبها أبي الفضل الطوسي، وكتب بخطه المتقن ما لا يوصف كثرةً، وعاد إلى "دمشق"، ولم يزل ينسخ ويصنفُ ويحدثُ ويفيدُ المسلمين ويعبدُ الله - تعالى -، حتى توفاه الله على ذلك.
وقد صنف في فضائل الحافظ وسيرته: الحافظُ ضياءُ الدين في جزأين، وذكر أن الفقيهَ مكي بنَ عمرَ بنِ نعمةَ المصريَّ جمع فضائله أيضاً.
قال الحافظ الضياءُ: كان شيخُنا الحافظُ لا يكادُ أَحد يسأله عن حديث إلا ذكره، وبينه، وذكر صحته أو سقمَه، ولا يُسأل عن رجل إلا قالَ: هو فلان بن فلان الفلاني، ويذكر نسبه.
قال الحافظُ ابنُ رجبٍ: قال الحافظُ الضياء: كان الحافظُ عبدُ الغني أميرَ المؤمنين في الحديث.
قال: وسمعتُ شيخَنا الحافظَ عبدَ الغني يقول: كنت يوماً بأصبهان عندَ الحافظ أبي موسى، فجرى بيني وبين بعض الحاضرين منازعةٌ في حديث، فقال: هو في "صحيح البخاري"، فقلت: ليس هو فيه، قال: فكتب الحديثَ في رقعة، ورفعها إلى الحافظ أبي موسى يسأله عنه، قال: فناولني الحافظ أبو موسى الرقعةَ، وقال: ما تقول هل هذا الحديث في البخاري أم لا؟ فقلت: لا، فخجل الرجل وسكت.
قال: وقد رأيتُ فيما يرى النائمُ وأنا بمدينة "مرو" كأَن الحافظَ عبدَ الغني جالسٌ، والإمامُ محمدُ بنُ إسماعيلَ البخاريُّ بين يديه يقرأ عليه من جزء أو كتاب، وكان الحافظُ يرد عليه شيئاً، أو ما هذا معناه.
قال: وسمعت أبا الطاهر إسماعيلَ بنَ ظفر النابلسي يقول: جاء الحافظ - يعني: عبدَ الغني -، فقال رجلٌ حلفَ بالطلاق: إنك تحفظُ مئَة ألفِ حديث، فقال: لو قال أكثرَ، لصدقَ.
قال الحافظ الضياء: وشاهدت الحافظَ - غير مرة - بجامع "دمشق"، يسألُه بعضُ الحاضرين، وهو على المنبر: اقرأْ لنا أحاديثَ من غير الجزء، فيقرأ الأحاديت بأسانيدها عن ظهرِ قلبه.
قال: وسمعتُ أبا سليمانَ بنَ الحافظِ يقول: سمعتُ بعضَ أهلنا يقول: إن الحافظَ سُئِلَ: لم لا يقرأُ الأحاديث من غير كتاب؟ فقال: إني أخافُ العُجْبَ.
وقال التاج الكندي - يعني: أبا اليُمْن -: لم يكن بعدَ الدارقطني مثلُ الحافظِ عبد الغني، وقال: لم ير الحافظُ عبدُ الغني مثلَ نفسِه، وقال: رأيتُ ابنَ ناصرٍ، والحافظَ أبا العلاءِ الهمداني، وغيرَهما من الحفاظ؛ ما رأيتُ أحفظَ من عبدِ الغني المقدسي.
وقال أبو نزارٍ الإمامُ ربيعةُ بنُ الحسنِ اليمني الشافعي: رأيتُ الحافظ السلَفي، والحافظَ أبا موسى، وكان الحافظُ عبدُ الغني بنُ عبد الواحد أحفظَ منهما.
قال الحافظ ضياءُ الدين المقدسي: وأنشدنا إسماعيلُ بن مظفرٍ، قالَ: أنشدنا أبو نزارٍ ربيعةُ بنُ الحسن، في الحافظِ عبدِ الغني المقدسي:[من البسيط]
يا أَصْدَقَ النَّاسِ في بَدْوٍ وفي حَضَرٍ
…
وَأَحْفَظَ الناسِ فيما قالَتِ الرُّسُلُ
إِنْ يَحْسُدُوكَ فلا تَعْبَأْ بِقَائِلِهِمْ
…
هُمُ الغُثَاءُ وأَنْتَ السَّيِّدُ البَطَلُ
قالَ: وأنشدَنا: [من الكامل]
إِنْ قِيسَ عِلْمُكَ في الوَرَى بِعُلومِهِمْ
…
وَجَدُوكَ سَحْبَاناً وَغَيْرُكَ باقِلُ
قال الحافظ الضياء: وشاهدتُ بخط الحافظ أبي موسى المديني على كتاب "تبيين الإصابة لأوهامٍ حصلت في معرفة الصحابة" الذي أملاه الحافظُ عبدُ الغني، وقد سمعه عليه أبو موسى، وأبو سعيدٍ الصائغُ، وأبو العباس بنُ ينال، وخلقٌ كثير.
يقول أبو موسى - عفا الله عنه -: قَلَّ مَنْ قدمَ علينا من الأصحاب يفهمُ هذا الشأن كفهم الشيخِ الإمامِ أبي محمدٍ عبدِ الغني بنِ عبدِ الواحدِ المقدسيِّ - زاده الله توفيقاً -، وقد وُفِّقَ لتبيين هذه الغلطات، ولو كان الدارقطني وأمثالُه في الأحياء، لصوبوا فِعْلَه، وقَل من يفهم في زماننا كما فهم - زاده اللهُ علماً وتوفيقاً -.
قال الحافظ الضياء: وكل مَنْ رأينا من المحدثين، ممن رأى إفادةَ عبد الغني، وجرى له ذكرُ حفظهِ ومذاكرتهِ؛ قالَ: ما رأينا مثلَه، أو نحوَ هذا.
قال الضياء: وسمعتُ الحافظَ يقول: كنتُ عند ابن الجوزي يوماً، فقال: وزيره ابن محمد الغَساني؟ فقلتُ: إنما هو وزيره، فقالَ: أنتم أعرفُ بأهلِ بلدكم.
وذكره ابن النجار في "تاريخه"، فقال: حدث بالكثير، وصنف تصانيفَ حسنةً في الحديث، وكان غزيرَ الحفظ، من أهل الإتقان والتجويد، قائماً بجميع فنون الحديث، عارفاً بقوانينه وأصوله، وعلله، وصحيحه وسقيمه،
وناسخه ومنسوخه، وغريبه ومُشْكله، وفقهه ومعانيه، وضبطِ أسماء رواته، ومعرفة أحوالهم.
وكان رضي الله عنه كثيرَ العبادة، وَرِعاً، متمسكاً بالسنة على قانون السلَف.
ولم يزل بدمشق يحدثُ، وينتفعُ به الناسُ، إلى أن تكلم في الصفات والقرآن بشيء أنكره عليه أهل التأويل من الفقهاء والمتكلمين، وعُقد له مجلسٌ بدار السلطان، حضره القضاةُ والفقهاء، فأصر على قوله، فأُخرج إلى مصرَ، وأقام بها إلى حين وفاته.
وكان رضي الله عنه يصلي كل يوم وليلة ثلاث مئة ركعة، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، دُعِي إلى أن يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، فامتنع، فمُنع من التحديث بدمشق، فسافر إلى مصر، فأقام بها إلى أن مات رضي الله عنه.
وقال أبو عبد الله محمدُ بن مبارك الجويني المحدثُ: ما سمعت السلَفي يقول لأحد: الحافظ، إلا لعبد الغني المقدسي.
وقال بعض المصريين: ما كنا إلا مثلَ الأموات، حتى جاء الإمامُ الحافظُ عبدُ الغني، فأَخْرَجنا من القبور.
وقال أبو الحسن علي بنُ نجا الواعظ بالقَرافة - على منبره -: قد جاء الإمامُ الحافظُ عبدُ الغني، وهو يريد أن يقرأ الحديث، فأشتهي أن تحضروا مجلسه ثلاثَ مراتٍ، وبعدها أنتم تعرفونه، وتحصُلُ لكم الرغبة، فجلس أولَ يوم بجامع القَرافة، فقرأ أحاديث بأسانيدها، عن ظهرِ قلبه، وقرأ جزءاً، ففرحَ الناسُ بمجلسه فرحاً كثيراً، فقال ابنُ نجا: قد حصل الذي كنتُ أريدُه في أولِ مجلس، وبكى الناس حتى غُشِيَ على بعضهم.
وقال الإمامُ نجمُ بنُ الإمامِ عبدِ الوهاب بنِ الإمامِ أبي الفَرَجِ الحنبلي - وقد حضرَ مجلسَ الحافظِ عبد الغني -: يا تقي الدينِ! واللهِ لقد حملتَ الإسلام، وأقسمُ لو أمكنني ما فارقتُك، ولا مجلساً من مجالسك.
وقال الحافظ الضياء: سألتُ خالي الإمامَ موفق الدين عن الحافظ عبد الغني، فكتبَ بخطه، وقرأتُه عليه: كان جامعاً للعلم والعمل، وكان رفيقي في الصبا، وفي طلب العلم، وما كنا نستبق إلى خير إلا سبقني إليه، إلا القليل، وكمل اللهُ فضيلتَه بابتلائِه بأذى أهل البدعةِ، وعداوتهم إياه، وقيامِهم عليه، ورُزق العلمَ وتحصيلَ الكتب الكثيرة، إلا أنه لم يُعَمَّرْ حتى يبلغَ غرضَه في روايتها ونشرِها - رحمه الله تعالى -.
قال الحافظ الضياء: كان شيخُنا الحافظُ رحمه الله لا يكادُ يُضيعُ شيئاً من زمانه بلا فائدة، فإنه كان يصلي الفجرَ، ويلقنُ الناسَ القرآنَ، وربما قرأ شيئاً من الحديث، فقد حفظْنا منه أحاديثَ جمة تَلَقيناها، ثم يقوم ويتوضأُ، ويصلي ثلاثَ مئةِ ركعةٍ، بالفاتحة والمعوذتينِ، إلى قبيلَ وقتِ الظهر، ثم ينام نومةً يسيرة إلى وقت الظهر، ثم يصلي الظهر، ويشتغل إما بالتسميع للحديث، أو بالنسخ إلى المغرب، فإن كان صائماً، أفطر بعدَ المغرب، وإنْ كان مفطراً، صلى من المغرب إلى عشاء الآخرة، فإذا صلى العشاءَ الآخرةَ، نامَ إلى نصفِ الليل أو بعدَه، ثم قام كأن إنساناً يُوقظه، فيتوضأُ ويصلي لحظة، ثم يتوضأُ ويصلي كذلك، ثم يتوضأُ ويصلي إلى قرب الفجر، فربما توضأَ في الليلة سبعَ مراتٍ أو ثمانيةً أو أكثرَ، فإذا قيل له في ذلك، قال: ما تطيب لي الصلاةُ إلا ما دامت أعضائي مرطبة، ثم ينام نومةً يسيرةً إلى الفجر، وهذا دأبُه، وكان لا يكاد يصلي صلاتين مفروضتين [بوضوءٍ واحدٍ]، وكان يستعمل
السواك كثيراً، حتى كأن أسنانه البَرَدُ، وكان قد وضعَ الله له الهيبةَ في قلوب الخلق.
ذكروا أن الحافظ لما دخل على الملك العادل في مصر، قام له، فلما كان اليومُ الثاني من دخوله عليه، إذ الأمراءُ قد جاؤوا إلى الحافظ، فقالوا: آمنا بكراماتِك يا حافظُ، وذكروا أن العادل قال: ما خِفْتُ من أحد ما خفتُ من هذا، فقلنا: أيها الملك! هذا رجل فقيهٌ أَيش خفتَ من هذا؟ قال: لما دخل، ما خُيل إلي إلا أنه سَبُعٌ يريدُ أن يأكلَني، فقلتُ: هذه كرامةٌ للحافظ. قال الحافظ الضياء: وما أعرف أحداً من أهل السنة رأى الحافظَ إلا أحبه حباً شديداً، ومدحَه مدحاً كثيراً.
قال أبو الثناء محمودُ بنُ سلامةَ الحراني: كان الحافظ بأصبهانَ، فيصطف الناسُ في السوق فينظرون إليه، وقال: لو أقام الحافظُ بأصبهانَ مدةً، وأراد أن يملكَها، لَمَلَكها، يعني: من حبهم له، ورغبتِهم فيه.
قال الحافظ الضياءُ: ولما وصلَ إلى مصرَ أخيراً، كنا بها، وكان إذا خرج يومَ الجمعة إلى الجامع لا نقدرُ نمشي معه من كثرة الخلق، يتبركون به، ويجتمعون حوله.
قال الحافظ الضياء: كان الحافظُ عبدُ الغني ليس بالأبيضِ الأمهق، بل يميل إلى السمرة، حسنَ الشعر، كَثَّ اللحية، واسعَ الجبين، عظيمَ الخَلْق، تامَّ القامة، كأن النورَ يخرج من وجهه، وكان قد ضعُف بصرُه من كثرة البكاء والنسخ والمطالعة، وكان حسنَ الخُلُق، رأيتُه وقد ضاقَ صدرُ بعض أصحابِه في مجلسه وغضبَ، فجاء إلى بيته، وترضاه وطيب قلبَه، وكان سخياً جواداً كريماً، لا يدخر ديناراً ولا درهماً، ومهما حصل له أخرجَه.
قال الإمام الموفق عنه: كان جواداً يُؤثر بما تصلُ إليه يده سراً وعلانيةً.
وللحافظ كراماتٌ كثيرةٌ منقولةٌ بالأسانيد، وكان يقول: أبلغُ ما سأل العبدُ ربه ثلاثةُ أشياء: رضوانُ الله عز وجل، والنظرُ إلى وجهه الكريم، والفردوسُ الأعلى.
وقال الحافظ عبدُ الغني رضي الله عنه: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم يمشي وأنا أمشي معه، إلا أن بيني وبينه رجلاً.
قال الضياء: وسمعت أبا العباس أحمدَ بنَ عبد الله المحول حكى عن رجل فقيه، وكان ضريراً، وكان يبغض الحافظ، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، ومعه الحافظُ، ويده في يده، جاء مع عمرو بن العاص وهما يمشيان، والحافظُ يقول له: يا رسول الله! حدثْتُ عنك بالحديثِ الفلاني، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: صحيح، ويقول: حدثت عنك بالحديث الفلاني، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: صحيح، حتى عددتُ مئةَ حديثِ، قال: فأصبحَ فتابَ من بُغْضه.
قال: وسمعت الحافظَ أبا موسى بنَ الحافظ عبدِ الغني قال: حدثني رجل من أصحابنا قال: رأيت الحافظَ في النوم يمشي مستعجلاً، فقلت: إلى أين؟ قال: أزورُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: وأين هو؟ قال: في المسجد الأقصى، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أصحابه، فلما رأى الحافظَ، قام له النبي صلى الله عليه وسلم وأجلسه إلى جنبه، قال: فبقي الحافظُ يشكو إليه ما لقيَ ويبكي ويقول: يا رسول الله! كذبت في الحديثِ الفلاني والحديث الفلاني، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: صَدَقْتَ يا عبدَ الغني رضي الله عنه.
ومن تصانيف الحافظ عبد الغني: كتاب "المصباح في عيون الأحاديث الصحاح" ثمانية وأربعون جزءاً، يشتمل على أحاديث الصحيحين، وكتاب "نهاية المراد من كلام خير العباد" في السنن، نحو مئتي جزء، كتاب
"اليواقيت" مجلدة، كتاب "الآثار المرضية في فضائل خير البرية" أربعة أجزاء، كتاب "الروضة" أربعة أجزاء، كتاب "الذكر" جزآن، كتاب "الإسراء" جزآن، كتاب "التهجد" جزآن، كتاب "الصفات" جزآن، "محنةُ الإمام أحمد" ثلاثة أجزاء، كتاب "ذم الربا" جزء كبير، "ذم الغِيبة" جزء ضخم، "فضائل مكة" أربعة أجزاء، كتاب "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" جزء، "فضائل رمضان" جزء، كتاب "الأربعين"، كتاب "الأربعين" آخر، وكتاب "الأربعين من كلام رب العالمين"، و"أربعين" أخرى بسند واحد، كتاب "اعتقاد الإمام الشافعي" جزء كبير، كتاب "الحكايات" سبعة أجزاء، وكتاب "غيبة الحفاظ في تحقيق مشكل الألفاظ" في مجلدين، وأجزاء أخرجها من الأحاديث والحكايات، كان يقرؤها في المجالس، تزيد على مئة جزء، وجزء في "مناقب عمر بن عبد العزيز"، هذه كلها بالأسانيد.
ومن الكتب بلا أسانيد: كتاب "الأحكام" على أبواب الفقه، في ستة أجزاء، كتاب "العمدة"- هذا - في الأحكام مما اتفق عليه الشيخان البخاري ومسلم، كتاب "دُرر الأثر" على حروف المعجم، تسعة أجزاء، كتاب "سيرة النبي صلى الله عليه وسلم" جزء كبير، كتاب "النصيحة في الأدعية الصحيحة" جزء، كتاب "الاقتصاد في الاعتقاد" جزء، كتاب "تبيين الإصابة لأوهام حصلت في معرفة الصحابة" الذي ألفه أبو نعيم الأصبهاني، جزء كبير، كتاب "الكمال في معرفة الرجال" يشتمل على رجال الصحيحين والسنن الأربع، في عشر مجلدات، وفيه أسانيد، وغير ذلك.
وقد امتُحن وأُوذي وأُخرج من الشام إلى مصر، وكان قد سأل ربه - تعالى - أن يرزقه مثل حال الإمام أحمد، فرزقه الصلاة، ثم ابتُلي بعد ذلك بالمحنة، وأُوذي.
قال الحافظ الضياء: ثم إن الحافظ ضاق صدرُه، فخرج من "دمشق"، ومضى إلى "بعلبك"، فأقام بها مدة يقرأ الحديث، ثم توجه إلى مصر، ولم يعلم أصحابُنا بسفره، فبقي مدة في "نابلس" يقرأ الحديث، قال الضياء: وهذا ما سمعته من أصحابنا، وكنت أنا بمصر، ثم ارتحل إلى مصر.
وقال الحافظ أبو موسى - ولد الحافظ عبد الغني -: مرض والدي - رحمه الله تعالى - في ربيع الأول سنة ست مئة مرضاً شديداً منعه من الكلام والقيام، واشتد به مدة ستةَ عشرَ يوماً، قال: وكنت كثيراً ما أسأله: ما تشتهي؟ فيقول: أشتهي الجنة رحمه الله لا يزيد على ذلك، فلما كان يوم الإثنين، جئت إليه، وكان عادتي أبعث من يأتي كل يوم بكرةَ النهار بماء حار من الحمام، يغسل به أطرافه، فلما جئنا بالماء على العادة، مد يدَه، فعرفنا أنه يريد الوضوء، فوضأْته وقت صلاة الفجر، ثم قال: يا عبد الله! قم فصل بنا وخفف، فقمتُ فصليتُ بالجماعة، وصلى معنا جالساً، فلما انصرفَ الناس، جئتُ فجلست عند رأسه، وقد استقبلَ القبلةَ، فقال لي: اقرأ عندَ رأسي سورة يس، فقرأتُها، فجعل يدعو الله وأنا أُؤَمن، فقلتُ: هاهنا دواءٌ قد عملناه تشربُه، فقال: يا بني! ما بقي إلا الموتُ، فقلت: ما تشتهي شيئاً؟ قال: أشتهي النظرَ إلى وجه الله - تعالى -، قلت: ما أنتَ عني راضٍ؟ قال: بلى واللهِ أنا عنكَ راضٍ وعن إخوتِك، وقد أجزتُ لك ولإخوتك ولابن أخيك إبراهيمَ.
قال الحافظ الضياء: وسمعتُ أبا موسى يقول: أوصاني أبي عند موته: لا تضيعوا هذا العلمَ الذي تعبْنا عليه -يعني: الحديث- فقلتُ: ما توصي بشيء؟ قال: ما لي على أحدٍ شيءٌ، قلت: توصيني بوصية؟ قال: يا بني! أوصيك بتقوى الله، والمحافظةِ على طاعته، فجاء جماعةٌ يعودونه،
فسلموا عليه، فرد عليهم، وجعلوا يتحدثون، ففتح عينيه وقال: ما هذا الحديث؟! اذكُروا الله، قولوا: لا إله إلا الله، فقالوها ثم قاموا، فجعل يذكرُ الله ويحركُ شفتيه بذكره، ويشير بعينيه، فدخل رجلٌ فسلم عليه وقال: أما تعرفني يا سيدي؟ قال: بلى، فقمتُ لأناوله كتاباً من جانب المسجد، فرجعت وقد خرجتْ روحُه، وذلك يوم الإثنين الثالث والعشرين من شهر ربيعٍ الأولِ سنةَ ست مئة، وبقي ليلة الثلاثاء في المسجد، واجتمع الغدَ خلقٌ كثير من الأئمة والأمراء، ما لا يحصيهم إلا اللهُ عز وجل.
قال ولدُه: ودفناه يومَ الثلاثاء بالقَرافة مقابلَ قبرِ الشيخِ أبي عمرِو بنِ مرزوقٍ في مكانٍ ذكرَ لي خادمُه عبدُ المنعم أنه كان يزور ذلك المكانَ، ويبكي فيه إلى أن يبل الحَصى، ويقول: قلبي يرتاح إلى هذا المكان - رحمه الله تعالى، ورضيَ عنه، وألحقه بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ورثاه غيرُ واحد من العلماء، منهم الإمامُ أبو عبدِ الله محمدُ بنُ سعدٍ المقدسي الأديبُ بقصيدةٍ طويلةٍ أَولُها قولُه:[من البسيط]
هذَا الذِي كُنْتُ يَوْمَ البَيْنِ أَحْتَسِبُ
…
فَلْيَقْضِ دَمْعُكَ عَنِّي بَعْضَ ما يَجِبُ
يا سائِرِينَ إلى مِصْرٍ بِرَبِّكُمُ
…
رِفْقاً عَلَيَّ فَإِن الأَجْرَ مُكْتَسَبُ
قُولُوا لِساكِنِها حُيِّيتَ مِنْ سَكَنٍ
…
يا مُنْيَةَ النَّفْسِ ماذا الصَّدُّ والغَضَبُ
بالشَّامِ قَوْمٌ وفي بَغْدَادَ قد أَسِفُوا
…
لا البُعْدُ أَخْلَقَ بَلْواهُمْ وَلا الحِقَبُ
قَدْ كُنْتَ بِالْكُتْبِ أَحْياناً تُعَلِّلُهُمْ
…
فَاليومَ لا رُسُلٌ تَأْتي وَلا كُتُبُ
أُنْسِيتَ عَهْدَهُمُ أَمْ أَنْتَ في جَدَثٍ
…
تَسْفِي وَتَبْكي عَلَيْكَ الريحُ والسُّحُبُ
بَلْ أَنْتَ في جَنَّةٍ تَجْني فَواكِهَها
…
لا لَغْوَ فيها وَلا غَوْلٌ وَلا نَصَبُ
يا خَيْرَ مَنْ قالَ بَعْدَ الصَّحْبِ: حَدَّثَنا
…
ومَنْ إليهِ التُّقَى والدينُ يَنْتَسِبُ
لَوْلاكَ ماتَ عَمُودُ الدينِ وانْهَدَمَتْ
…
قَواعِدُ الحَقِّ وَاغْتالَ الهُدَى عَطَبُ
فَاليومَ بَعْدَكَ جَمْرُ الغَيِّ مُضْطَرِمٌ
…
بَادي الشرارِ وَرُكْنُ الرُّشْدِ مُضْطَرِبُ
فَلْيَبْكِيَنْكَ رَسُولُ اللهِ ما هَتَفَتْ
…
وُرْقُ الحَمامِ وتَبْكي العُجْمُ والعَرَبُ
لَمْ تَفْتَرِقْ بِكُما حالٌ فَمَوْتُكُما
…
في الشهْرِ واليومِ هذا الفَخْرُ والحَسَبُ
أَحْيَيْتَ سُنَّتَهُ مِنْ بَعْدِ ما دُفِنَتْ
…
وَشِدْتَها وَقَدِ انْهَدَّتْ لَها رُتَبُ
وَصُنْتَها عَنْ أَباطيلِ الرُّواةِ لَها
…
حَتى اسْتَنَارَتْ فَلا شَكٌّ ولا رِيَبُ
ما زِلْتَ تَمْنَحُها أَهْلاً وَتَمْنَعُها
…
مَنْ كانَ يُلْهيه عَنْها الثَّغْرُ وَالشَّنَبُ
قَوْمٌ بِأَسْمَاعِهِمْ عَنْ سَمْعِها صَمَمٌ
…
وفي قُلوبِهِمُ مِنْ حِفْظِها قُضُبُ
تَنُوبُ عَنْ جَمْعِها مِنْهُمْ عَمائِمُهُمْ
…
أَيْضاً وَتُغْنِيهِمُ عَنْ دَرْسِها اللقَبُ
يا شامِتينَ وَفينا مَنْ يَسُوءُهُمُ
…
مُسْتَبْشِرينَ وهَذَا الدَّهْرُ مُحْتَسِبُ
ليسَ الفَناءُ بِمَقْصورٍ على سَبَبٍ
…
ولا البَقاءُ بِمَمْدودٍ له سَبَبُ
ما ماتَ مَنْ عِزُّ دِينِ اللهِ يعْقبُهُ
…
وإِنَّمَا المَيْتُ منكُمْ مَنْ لَهُ عَقِبُ
وَلا يُقَوَّضُ بَيْتٌ كانَ يَعْمَدُهُ
…
مِثْلُ العِمادِ وَلا أَوْدَى لَهُ طُنُبُ
عَلَى العَلِيِّ جَمَالِ الدينِ بَعْدَكُما
…
تَحْيَا العُلومُ بِمُحْيِي الدِّينِ والعَرَبُ
ويَسْبِقُ الخَيْلَ تَالِيهَا وَإِنْ بَعُدَتْ
…
وَغَايَةُ السَّبْقِ لا تَعْبَا لَهُ النُّجُبُ
مِثْلَ الدَّرَاري السَّوارِي شَمْلُها أَبَداً
…
نَجْمٌ يَغُورُ ويَبْقَى بَعْدَهُ شُهُبُ
مِنْ مَعْشَرٍ هَجَرُوا الأَوْطانَ وَانْتَهَكوا
…
حِمَى الخُطُوبِ وأَبْكارَ العُلا خَطَبُوا
شُمُّ العَرَانِينِ بُلْجٌ لَوْ سَأَلْتَهُمُ
…
بَذْلَ النُّفُوسِ لَمَا هابُوا بأَنْ يَهَبُوا
بِيضٌ مَفَارِقُهُمْ سُودٌ عَواتِقُهُمْ
…
يَمْشي مُسابِقُهُمْ مِنْ حَظِّهِ التعَبُ
نورٌ إذا سُئِلوا نارٌ إذا حَمَلُوا
…
سُحْبٌ إذا نَزَلوا أُسْدٌ إذا رَكِبوا
الموقِدُونَ ونارُ الخَيْرِ خامِدَةٌ
…
والمُقْدِمون ونارُ الحربِ تَلْتَهِبُ
هذَا الفَخارُ فإنْ تَجْزَعْ فَلا حَرَجٌ
…
على مُحِبٍّ وإِنْ تَصْبِرْ فَلا عَجَبُ
قال الحافظ الضياء: سمعتُ أبا إسحاقَ إبراهيمَ بنَ محمودٍ البعليَّ قال: جاء قومٌ من التجار إلى الشيخ العماد وأنا عندَه، فحدثوه أن النورَ يُرى على قبر الحافظِ عبدِ الغني كل ليلةٍ، أو كل ليلةِ جمعةٍ.
قال: وسمعتُ الحافظَ أبا موسى بنَ الحافظ قال: حدثني صنيعةُ الملكِ هبةُ اللهِ بنُ علي بنِ حيدرةَ، قال: لما خرجتُ للصلاة على الحافظ؛ لَقِيَني هذا المغربي، وأشارَ إلى رجل معه، فقال لي: أين تروحُ؟ قلتُ: إلى الصلاة على الحافظ، فجاء معي وقال: أنا رجلٌ غريبٌ، ورأيتُ البارحةَ في النوم كأني في أرض، وفيها قومٌ عليهم ثيابٌ بيضٌ، وهم كثيرون، فقلت: مَنْ هؤلاء؟ فقيل لي: هؤلاء ملائكةُ السماء نزلوا لموتِ الحافظ عبد الغني، فقلتُ: وأين هو؟ فقيل لي: اقعد عندَ الجامعِ حتى يخرج صنيعةُ الملك، فامضِ معه، قال: فلقيتُه واقفاً عندَ الجامع.
قال: وسمعتُ الإمامَ أبا العباسِ أحمدَ بنَ محمدِ بنِ عبدِ الغني سنة اثنتي عشرةَ وست مئة قال: رأيتُ البارحةَ الكمالَ -يعني: أخي عبد الرحيم، وكان توفي تلك السنة- في النوم، وعليه ثوب أبيضُ، فقلت له: يا فلانُ! أين أنت؟ قال: في جنة عَدْنٍ، قلت: أيما أفضلُ الحافظُ عبدُ الغني أو الشيخُ أبو عمر؟ فقال: ما ندري، وأما الحافظُ، فكل ليلةِ جمعةٍ يُنصب له كرسي تحت العرش، ويُقرأ عليه الحديثُ، ويُنثر عليه الدر والجوهر، وهذا نصيبي منه، وكان في كُمه شيء، وقد أمسك بيده على رأسها.
وقد ذكروا له مناماتٍ عظيمةً وكراماتٍ جسيمةً رحمه الله، ورضي عنه -. وقد سمع الحديث من الحافظ خلقٌ كثير، وحدَّث بأكثرِ البلاد التي دخلها؛ كبغداد، ودمشق، ومصر، ودمياط، وأصبهان، ونابلس، وبعلبك، والإسكندرية، وغيرها.
وروى عنه خلقٌ كثير، منهم ولداه: أبو الفتح، وأبو موسى، وعبد القادر الزهاوي، والإمام موفق الدين، والحافظُ الضياء، وابنُ خليل، والفقيهُ اليونيني، وأحمد بنُ عبدِ الدائم، وعثمانُ بن مكي الشارعي، وغيرهم.
قال الحافظ ابن رجب في "الطبقات": وآخرُ مَنْ سمع منه: محمدُ بنُ مهلهل الحسني، وآخرُ من روى عنه: أحمدُ بنُ أبي الخير سلام الحدادُ.
ومن فتاوى الحافظ عبد الغني أنه سُئل عن حديث: "مَنْ قالَ لا إلهَ إلا اللهُ دخلَ الجنةَ"(1) هل هو منسوخ؟ فأجاب: بل هو محكم ثابت، زِيدَ فيه وضُم إليه شروطٌ أُخَرُ، وفرائضُ فرضها الله - تعالى - على عباده، وذكر قولَ الزهري في ذلك.
وسُئل عمنْ كان في زيادة من أحواله، فحصل له نقصٌ، فأجاب: أما هذا، فيريد المجيب عنه أن يكون من أرباب الأحوال وأصحاب المعاملة، وأنا أشكو إلى الله تقصيري وفُتوري عن هذا وأمثاله من أبواب الخير، وأقولُ وبالله التوفيقُ: إن من رزقه الله خيراً من عمل، أو نورَ قلب، أو حالةً مرضيةً في جوارحه وبدنه، فلْيحمدِ الله عليها، ولْيجتهدْ في تقييدِها بكمالها، وشُكرِ الله عليها، والحذرِ من زوالها بزلة أو عثرة، ومن فقدَها، فليكثرْ من الاسترجاعِ، ويفزعْ إلى الاستغفار والاستقامة، والحزنِ على ما فاته، والتضرع إلى ربه، والرغبة إليه في عودها إليه، فإن عادتْ، وإلا عاد إليه ثوابُها وفضلها - إن شاء الله -.
(1) رواه ابن حبان في "صحيحه"(151)، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه بهذا اللفظ. وروى مسلم (26)، كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، عن عثمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة".
وسُئل مرةً أخرى في معنى ذلك فأجاب: أما فقدانُ ما يجدُه من الحلاوة واللذة، فلا يكون دليلاً على عدم القبول - إن شاء الله تعالى -، فإن المبتدىء يجد ما لا يجد المنتهي، فإنه ربما ملت النفس وسئمت لتطاول الزمان وكثرة العبادة، وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان ينهى عن كثرة العبادة، والإفراط فيها، ويأمر بالاقتصاد؛ خوفاً من الملل، وقد رُوي أن أهل اليمن لما قدموا المدينة، جعلوا يبكون، فقال أبو بكر رضي الله عنه: وهكذا كُنا حتى قستِ القلوبُ (1).
وسُئل عن يزيدَ بنِ معاويةَ، فأجاب بما حاصله: من لم يحبه، لا يلزمْه ذلك؛ لأنه ليس من الصحابة الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيلتزم محبتهم إكراماً لصحبتهم، وليس ثم من أمر يمتاز به عن غيره من خلفاء التابعين؛ كعبد الملك وبنيه، قال: وإنما يمنع من التعرض للوقوع فيه؛ خوفاً [من] السبق إلى أبيه، وسداً لباب الفتنة.
وقال الحافظ: رُوي عن إمامنا أحمد أنه قال: من قال: الإيمان مخلوقٌ، فهو كافر، ومن قال: قديم، فهو مبتدع.
قال: وإنما كفر من قال بخلقه؛ لأن الصلاة من الإيمان، وهي تشتملُ على قراءة، وذكرِ اللهِ عز وجل، ومن قال بخلق ذلك، كفر، وتشتملُ على قيام وقعود، وركوع وسجود وسكوت، ومن قال بقدم ذلك، ابتدع.
وسُئل عن دخول النساء الحمامَ، فأجاب: إذا كان للمرأة عذرٌ، فلها أن تدخل لأجل الضرورة، والأحاديثُ في هذا أسانيدُها متقاربة، قد جاء النهي
(1) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(35524)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 33 - 34).
والتشديد في دخولهن، وجاءت الرخصة للنفَساء والسقيمة، والذي يصح عندي أنها إذا دخلت من عذر، فلا بأس- إن شاء الله تعالى -، وإن استغنت عن الدخول، وكان لها عنه غَنَاء، فلا تدخل، وهذا رأينا في أهلنا، ومن يأخذ بقولنا، نسأل الله التوفيق والعافية.
* * *
فائدة:
قد روينا "العمدة" وسائرَ مصنفات الحافظ عبد الغني - رحمه الله تعالى - عن عدة من أشياخنا، منهم - بل من أجلهم -: الثلاثةُ أشياخ المعمرين: الشيخُ عبدُ القادر التغلبي الحنبلي، والشيخُ عبدُ الغني النابلسي العارفُ، والشيخُ عبدُ الرحمنِ المجلدُ الحنفي، عن شيخ الإسلام تقي الدين عبدِ الباقي البعلي مفتي السادة الحنابلة بدمشق المحروسة، وهو والدُ أبي المواهب، عن الشيخ شمسِ الدين محمدٍ الميدانيِّ، قال: أخبرنا الشيخُ شهابُ الدين أحمدُ الطيبي الكبير، أخبرنا أبو البقاء كمال الدين السيدُ ابنُ حمزة، عن أبي العباس أحمدَ بنِ عبد الهادي، أخبرنا التاجُ بنُ بردس، قال: أخبرنا عبدُ الدائم، عن الإمام الحافظ عبد الغني المقدسي، بها. ولي بكتبه عدة أسانيدَ، منها العالي والنازل.
وقد رويت "عمدة الأحكام" على عدة من الأعلام، فقرأتها روايةً ودرايةً بطرفيها على شيخنا القدوةِ عبدِ الرحمن المجلد الحنفي المعمَّر، وقد روى عن مشايخَ من المتقدمين، ومن أعلى أسانيدِه عن النجم الغزي، عن والدِه البدر، عن القاضي زكريا، عن الحافظ ابنِ حجرٍ العسقلاني - رحمه الله تعالى -، وأسانيدُه معلومة، وهذا أوان الشروع في المقصود.