الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السادس
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بقَبْرَيْنِ، فقالَ:"إِنَّهُما لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذبَانِ في كبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُما، فَكَانَ لَا يَسْتَنْزِهُ مِنَ البَوْلِ، وأَمَّا الآخَرُ، فَكَانَ يَمْشِي بالنَّميمَةِ"، فأخذَ جَريدَةً رَطْبَةَ، فَشَقَّها نِصْفَين، فَغَرَزَ في كُلِّ قبرٍ واحِدَةً، فَقالوا: يا رسولَ الله! لِمَ فعلتَ هذا؟ قالَ: "لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُما مَالَمْ يَيْبَسَا"(1).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (213)، كتاب: الوضوء، باب: من الكبائر ألاّ يستتر من بوله، وهذا لفظه، و (215)، باب: ما جاء في غسل البول، و (1295)، كتاب: الجنائز، باب: الجريد على القبر، و (1312)، كتاب: الجنائز، باب: عذاب القبر من الغيبة والبول، و (5705)، كتاب: الأدب، باب: الغيبة، و (5708)، باب: النميمة من الكبائر. ورواه مسلم (292)، (1/ 240، 241)، كتاب: الطهارة، باب: الدليل على نجاسة البول، ووجوب الاستبراء منه، وأبو داود (20، 21)، كتاب: الطهارة، باب: الاستبراء من البول، والنسائي (31)، كتاب: الطهارة، باب: التنزه عن البول، و (2068، 2069)، كتاب: الجنائز، باب: وضع الجريدة على القبر، والترمذي (70)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في التشديد في البول، وابن ماجه (347)، كتاب: الطهارة، باب: التشديد في البول.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"معالم السنن" للخطابي (1/ 19)، و"عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 90)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 118)، =
(عن عبد الله بن عباسٍ رضي الله عنهما): عبدُ الله بنُ عباسِ بنِ عبد المطلبِ ابنُ عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حبرُ هذه الأمة، يكنى: أبا العباس، وأمه لُبَابة -بضم اللام وتخفيف الموحدة - بنتُ الحارث، أختُ ميمونة زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولد في الشِّعْب، وبنو هاشمٍ محصورون قبلَ الهجرة بثلاث سنين، وتوفي النبيُّ صلى الله عليه وسلم وله ثلاثَ عشرةَ سنةً.
ورجَّح الإمام أحمدُ أن عمره كان خمسَ عشرةَ سنةً، واستشكل بأن إقامته صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشر سنين.
قلت: يمكن بجبر الكسرين، والله أعلم.
دعا له صلى الله عليه وسلم بالحكمة والفقه والتأويل، وحنَّكه عليه الصلاة والسلام بريقه حين ولد، فمن أجل هذا كان يسمى: البحر؛ لِسَعَةِ علمه رضي الله عنه، ورأى جبريلَ مرتين.
قال مسروقٌ: كنتُ إذا رأيت ابن عباس، قلت: أجملُ الناس، فإذا تكلم، قلتُ: أفصحُ الناس (1).
وكان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرِّبه، ويُدنيه، ويشاوره مع جلَة الصحابة.
= و"المفهم" للقرطبي (1/ 551)، و"شرح مسلم" للنووي (3/ 200)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 61)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 28)، و"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" لابن الملقن (1/ 526)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 317)، و (10/ 470)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 114)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 111).
(1)
رواه الطبري في "تهذيب الآثار"(1/ 179)، وعبد الله بن الإمام أحمد في "فضائل الصحابة"(2/ 960)، لكن عن الأعمش.
وهو أحد المُكثرين؛ فإنه روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم ألف حديثٍ، وست مئة وستون حديثاً، اتفقا على خمسة وسبعين، وانفرد البخاري بمئةٍ وعشرة، ومسلم بتسعةٍ وأربعين، وهو أحد المفتين، والأئمةِ المتبوعين؛ فإنه كان له أتباعٌ يقولون بمذهبه رضي الله عنه.
مناقبه أكثرُ من أن تذكر، وأشهر من أن تشهر، وأزيد من أن تحصر.
توفي- رضوان الله عليه - بالطائف سنة ثمانٍ وستين في أيام ابن الزبير رضي الله عنهم، وهو ابن إحدى وسبعين سنةً، وكُفَّ [بصره] في آخر عمره، وهو القائل رضي الله عنه:[من البسيط]
إِنْ يَأْخُذِ اللهُ مِنْ عَيْنَيَّ نُورَهُمَا
…
فَفِي لِسَانِي وَقَلْبي مِنْهُمَا نُورُ
قَلْبِي ذَكِيٌّ وعَقْلِي غَيْرُ ذِي دَخَلٍ
…
وَفِي فَمِي صَارمٌ كَالَسَّيْفِ مَشْهُورُ (1)
(قال) ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما: (مَرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقَبْرَين)، وفي روايةٍ:"على قبرين"(2)، (فقال) عليه الصلاة والسلام:(إنهما)، وفي
(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/ 365)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 3)، و"فضائل الصحابة" لعبد الله بن الإمام أحمد (2/ 949)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 207)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 614)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 314)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 933)، و"تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي (1/ 173)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (29/ 285)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 291)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 258)، و"تهذيب الكمال" للمزي (15/ 154)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 331)، و"تذكرة الحفاظ" للذهبي أيضاً (1/ 40)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (8/ 295)، و"الوافي بالوفيات" للصفدي (17/ 121)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 141)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (5/ 242).
(2)
وهي رواية للبخاري ومسلم، وتقدم تخريجها في حديث الباب.
لفظٍ: "أما إنهما"(1) يعني: صاحبي القبرين (لَيعذَّبان). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . (2).
لا يعلمون سواء نَمَّها أولم ينمَّها.
وفي "الصحيحين": "لا يدخلُ الجنةَ نَمَّامٌ"(3)، وفي رواية:"قتَّاتٌ"(4).
قال الحافظ المنذري: النمامُ والقَتَّاتُ بمعنى واحد، وقيل: النمامُ: الذي يكون مع جماعةٍ يتحدثون حديثاً، فينمُّ عليهم، والقَتَّاتُ: الذي يتسمَّع عليهم وهم لا يعلمون، ثم ينمُّ، انتهى (5).
وفي "النهاية": "لا يدخلُ الجنةَ قتَّاتٌ": هو النمام، يقال: قَتَّ بالحديثِ، يقُتُّه: إذا زَوَّرَهُ، وهَيَّأه، وسَوَّاه.
قال: والقَشَّاش: الذي يسأل عن الأخبار، ثم ينمُّها (6).
(فأخذَ) النبيُّ صلى الله عليه وسلم (جريدةً) هي سَعَفُ النخل وأغصانُه التي يخرج فيها خوصها (رَطْبَةً) غير جافة.
(1) وهي رواية مسلم.
(2)
هنا سقط واضح من الأصل المحفوظ في المكتبة الظاهرية، بمقدار ورقة واحدة، ولم نستطع استدراكه.
(3)
رواه مسلم (105)، كتاب: الإيمان، باب: بيان غلظ تحريم النميمة، عن حذيفة رضي الله عنه.
(4)
رواه البخاري (5709)، كتاب: الأدب، باب ت ما يكره من النميمة، ومسلم (105)، (1/ 101)، كتاب: الإيمان، باب: بيان غلظ تحريم النميمة، عن حذيفة رضي الله عنه.
(5)
انظر: "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/ 323).
(6)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (4/ 11).
قال في "القاموس": الرطبُ: ضدُّ اليابس، ومن الغصن والريش وغيره: الناعمُ، انتهى (1).
وفي لفظٍ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في "الصحيحين": "فدعا بِعَسيبٍ رَطْبٍ"(2).
العسيبُ: الجريدةُ من النخل، وهي السَّعفةُ مما لا ينبت عليه الخوص، كذا في "النهاية"(3).
والمراد به هنا: مجرد الجريدة.
قال في "القاموس": العَسيبُ: جريدةٌ من النخل مستقيمةٌ يُكْشَط خوصُها، والذي لم ينبت عليه الخوص من السعف، انتهى (4).
قلت: فالعسيبُ يطلق على الشيئين معاً، والمراد هنا: الجريدة وخوصُها عليها لم يُكشط.
(فشقَّها)؛ أي: شقَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم تلك الجريدةَ الرطبةَ (نصفين). وفي لفظٍ: "فدعا بعسيبٍ رَطْبٍ، فشقَّه باثنينِ"(5)؛ يعني: جعله شقين متساويين، والنصفان تثنية نصف، وفيه أربع لغات، نِصف -بكسر النون وفتحها وضمها -، ونَصيف -بفتح النون وزيادة الياء (6)، ومنه حديث:"لو أنفقَ أحدُكم مثلَ أُحُدٍ ذهباً، ما أدَركَ مُدَّ [أحدِ] هِمْ ولا نَصيفَهُ"(7).
(1) انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 115)، (مادة: رطب).
(2)
تقدم تخريجه في حديث الباب.
(3)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 234).
(4)
انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 147)، (مادة: عسب).
(5)
وهي رواية البخاري ومسلم معاً، وقد تقدم تخريجها.
(6)
انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 15).
(7)
رواه البخاري (3470)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو =
(فغرزَ) صلى الله عليه وسلم، وفي لفظٍ:"غرسَ"(1)(في كل قبرٍ) من القبرين (واحدةً) من القطعتين، وفي لفظٍ:"ثم غرسَ على هذا واحداً، وعلى هذا واحداً"(2).
(فقالوا: يا رسول الله! لم فعلت هذا؟)
فيه: أنهم كانوا يبحثون عن العلة والسبب، ولم يكتفوا بمجرد المعاينة.
(قال) صلى الله عليه وسلم مجيباً لهم عن سؤالهم عن العلة والسبب الحامل له على فعله الذي فعله: (لعلَّه)؛ أي: هذا الذي فعلتُه (يُخَفَّفُ) -بضم أوله مبنياً للفاعل، ويحتمل بناؤه للمفعول، ويكون الضمير ضمير الشأن- (عنهما)؛ أي: صاحبي القبرين من عذابهما، (ما لم يَيْبَسا) أي: الجريدتان.
وفي حديث أبي أمامة رضي الله عنه عند الإمام أحمد: "ليخففن عنهما"(3).
ومن حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه في "صحيح ابنِ حِبَّان": فدعا بجريدتين من جرائدِ النخل، فجعلَ في كلِّ قبرٍ واحدة، قلنا: وهل ينفعهم ذلك؟ قال: "نعم، يُخَفَّفُ عنهما ما دامتا رَطْبتين"(4).
قال الخطابي: هذا عند أهل العلم محمولٌ على أن الأشياء ما دامت
= كنت متخذاً خليلاً"، ومسلم (2541)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: تحريم سبّ الصحابة رضي الله عنهم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(1)
وهي رواية مسلم فقط، وتقدم تخريجها.
(2)
وهي رواية البخاري ومسلم معاً.
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(5/ 266).
(4)
رواه ابن حبان في "صحيحه"(824).
على أصل خلقتها أو خضرتها وطراوتها، فإنها تسبح الله عز وجل حتى تجفَّ رطوبتها، أو تحول خضرتها، أو تُقْطَعَ من أصلها.
قال: فإذا خُفف عن الميت بوضعه صلى الله عليه وسلم الجريدةَ على قبره؛ لكونها تسبح الله، فبطريق الأولى والأحرى أن تُخَفِّفَ القُرَبُ، على اختلاف أسبابها، وإنَّ أعظمَ القُرَبِ كلامُ ربِّ العالمين الذي نزلَ به الروحُ الأمين على قلب أشرف المرسلين (1).
وقد أوصى بريدة رضي الله عنه أن يُجْعَلَ جريدة على قبره، ذكره البخاري (2).
وقد استحبَّ ذلك جماعة من العلماء من أصحابنا وغيرهم، وأنكره آخرون.
وقال الإمام النووي في "شرح مسلم": ذُكر أن العلماء استحبوا القراءة؛ لخبر الجريدة؛ لأنه إذا رُجي التخفيفُ لتسبيحها، فالقراءة أولى، انتهى (3).
(1) قال الخطابي في "معالم السنن"(1/ 19): وأما غرسه شِقَّ العسيب على القبر، وقوله:"لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا"، فإنه من ناحية التبرك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم، ودعائه بالتخفيف عنهما، وكأنه صلى الله عليه وسلم جعل مدة بقاء النداوة فيهما حداً لما وقعت به المسألة من تخفيف العذاب عنهما، وليس ذلك من أجل أن في الجريد الرطب معنى ليس في اليابس، والعامة في كثير من البلدان تفرش الخوص في قبور موتاهم، وأراهم ذهبوا إلى هذا، وليس لما تعاطوه من ذلك وجه، والله أعلم.
(2)
ذكره البخاري في "صحيحه" معلقاً بصيغة الجزم. ورواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(7/ 8) موصولاً، عن مورق العجلي، قال: أوصى بريدة الأسلمي أن توضع في قبره جريدتان.
(3)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (3/ 202).
تنبيهات:
الأول: قال قتادة: عذابُ القبر ثلاثةُ أثلاثٍ: ثلثٌ من الغيبة، وثلثٌ من النميمة، وثلثٌ من البول، رواه الخلال (1).
وقد ذكر بعضهم السرَّ والمناسبةَ في تخصيص الغيبة والنميمة والبول بعذاب القبر: وهو أن القبر أولُ منازل الآخرة، وفيه أنموذجُ ما يقع في يوم القيامة من العقاب والثواب، والمعاصي التي يعاقَبُ عليها يوم القيامة نوعان: حقٌّ لله، وحقٌّ لعباده، وأول ما يقضى فيه يوم القيامة من حقوق الله الصلاةُ، ومن حقوق العباد الدماءُ، والبرزخُ مقدمة عذاب الآخرة، فيقضى فيه في مقدمات هذين الحقين ووسائلهما؛ فمقدمة الصلاة: الطهارة من الحدث والخبث، ومقدمة الدماء: النميمة والوقيعة في الأعراض بالغيبة، وهي من أيسر أنواع الأذى، فيبدأ في البرزخ بالمحاسبة والعقاب عليهما، فيبدأ بالأخف فا لأخف، ويؤخر الأثقل إلى الأثقل.
نبه على هذا الحافظ ابن رجب، وتلميذُه البقاعي، والحافظُ ابنُ حجرٍ في "شرح البخاري"(2)، والحافظُ السيوطي في "البدور السافرة"(3)، وغيرُهم.
الثاني: قال الإمام ابن القيم في كتابه "الروح": قد أخبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الرجلين اللذين رآهما يعذبان في قبورهما يمشي أحدهما بالنميمة بين الناس، ويترك الآخرُ الاستبراءَ من البول.
(1) ورواه ابن أبي الدنيا في "الصمت وآداب اللسان"(189)، والبيهقي في "إثبات عذاب القبر"(238).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن جر (11/ 451).
(3)
انظر: "البدور السافرة في أحوال الآخرة" للسيوطي (ص: 446).
فهذا تركَ الطهارة الواجبة، وذلك ارتكبَ السببَ الموقع للعداوة بين الناس بلسانه، وإن كان صادقاً.
وفي هذا تنبيهٌ على أن الموقع بينهم العداوةَ بالكذب والزور والبهتان أعظمُ عذاباً، كما أن في ترك الاستبواء من البول تنبيهاً على أن من ترك الصلاةَ التي الاستبواءُ من البول بعضُ واجباتها وشروطها، فهو أشد عذاباً، انتهى (1).
الثالث: قال الإمام ابن القيم في كتاب "الروح ": اختلف الناس في هذين -يعني: صاحبي القبرين اللذين يعذبان-: هل كانا كافرين، أو مؤمنين؟!
فقيل: كانا كافرين، وقوله:"وما يعذبان في كبيرٍ"، يعني: بالإضافة إلى الكفر والشرك.
قالوا: ويدل عليه أن العذاب لم يرتفع عنهما، وإنما خفف، وأيضاً: فإنه خفف مدةَ رطوبة الجريدة فقط.
وأيضاً: فإنهما لو كانا مؤمنين، لشفع النبي صلى الله عليه وسلم فيهما، ودعا لهما، فرفع عنهما العذاب بشفاعته.
وأيضاً: ففي بعض طرق الحديث: أنهما كانا كافرين (2)، وهذا
(1) انظر: "الروح" لابن القيم (ص: 77).
(2)
رواه أبو موسى المديني في "الترغيب والترهيب" من حديت ابن لهيعة، عن أسامة بن زيد، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، قال: مرَّ نبي الله صلى الله عليه وسلم على قبرين من بني النجار هلكا في الجاهلية، فسمعهما يعذبان في البول والنميمة. قال: هذا حديث حسن، وإن كان إسناده ليس بالقوي، لكن معناه صحيح؛ لأنهما لو كانا مسلمين، لما كان لشفاعته إلى أن تيبسر الجريدتان معنى، ولكنه لما رآهما يعذبان، لم يستجز للطفه وعطفه حرمانهما من إحسانه، فشفع =
التعذيب زيادة على تعذيبهما بكفرهما وخطاياهما، وهو دليلٌ على أن الكافر يعذب بكفره وذنوبه جميعاً، وهذا اختيار أبي الحكم بن حيان.
وقيل: كانا مسلمينِ؛ لنفي النبيِّ صلى الله عليه وسلم التعذيب بسببٍ غيرِ السببين المذكورينِ، ولقوله:"وما يُعذبان في كبير"، والكفر والشرك أكبرُ الكبائر على الإطلاق، ولا يلزمُ أن يشفع النبيُّ صلى الله عليه وسلم لكل مسلمٍ يعذب في قبره من الحرام، فقد أخبر عن صاحب الشملةِ الذي قُتل في الجهاد: أن الشملة تشتعل عليه ناراً في قبره (1)، وكان مسلماً مجاهداً، ولا يعلم ثبوت هذه اللفظة، وهي قوله:"وكانا كافرين"، ولعلها لو صحت، فهي من قول بعض الرواة، وهذا اختيار أبي عبد الله القرطبي، انتهى كلام ابن القيم (2).
قلت: الذي تدل عليه الأحاديث: الثاني، ففي حديث أبي أمامة رضي الله عنه عند الإمام أحمد، قال: مر النبيُّ صلى الله عليه وسلم في يومٍ شديد الحر في بقيع الغَرْقَد، قال: فكان الناس يمشون خلفه، فلما سمع صوتَ النعال، وقر ذلك في نفسه، فجلس حتى قدَّمهم أمامه؛ لئلا يقع في نفسه شيءٌ من الكِبْر، فلما مر ببقيع الغرقد، إذا بقبرين قد دَفَنوا فيهما رجلين، قال: فوقف النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"من دفنتم هاهنا اليوم؟ "، قالوا: فلانٌ وفلانٌ، قالوا:
= لهما إلى المدة المذكورة.
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح"(1/ 321): الحديث الذي احتج به أبو موسى ضعيف كما اعترف به، وقد رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم، وليس فيه سبب التعذيب، فهو من تخليط ابن لهيعة.
(1)
رواه البخاري (3993)، كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر، ومسلم (115)، كتاب: الإيمان، باب: غلظ تحريم الغلول
…
، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
انظر: "الروح" لابن القيم (ص: 61).
يانبي الله! وما ذاك؟ قال: "أما أحدُهما؛ فكان لا يتنزه من البول، وأما الآخرُ، فكان يمشي بالنميمة"، وأخذ جريدةً رطبة، فشقها، ثم جعلها على القبر، قالوا: يا نبي الله! لم فعلت؟ قال: "ليخففن عنهما"، قالوا: يا نبي الله! حتى متى هما يعذبان؟ قال: "غيبٌ لا يعلمُه إلا الله"(1).
فهذا يدل دلالةً قاطعةً على أنهما مسلمان؛ فإن بقيع الغرقد جبَّانة (2) المسلمين في المدينة، والقبرانِ فيها، ودفنُهما حديث لا قديم، والله الموفق.
* * *
(1) تقدم تخريجه قريباً.
(2)
جبَّانة؛ أي: مقبرة، وتطلق أيضاً على الصحراء، والمنبت الكريم، أو الأرض المستوية. انظر:"القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1530)، (مادة: جبن).