الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الأول
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَهُ فِي بَعْضِ طُرُقِ المَدِينهِ، وهو جُنُبٌ، قال: فَانْخَنَسْتُ مِنْهُ، فَذَهَبْتُ، فَاغْتَسَلْتُ، ثُمَّ جِئْتُ، فقالَ:"أَيْنَ كنتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ "، قال: كُنْتُ جُنُباً، فَكَرِهْتُ أَنْ أُجالِسَكَ وَأَنا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، فقالَ:"سُبْحَانَ اللهِ! إنَّ المُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ"(1).
(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:
رواه البخاري (279)، كتاب: الغسل، باب: عرق الجنب، وأن المسلم لا ينجس، و (281)، باب: الجنب يخرج ويمشي في السوق وغيره، ومسلم (371)، كتاب: الحيض، باب: الدليل على أن المسلم لا ينجس، وأبو داود (231)، كتاب: الطهارة، باب: في الجنب يصافح، والنسائي (269)، كتاب: الطهارة، باب: مماسة الجنب ومجالسته، والترمذي (121)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في مصافحة الجنب، وابن ماجه (534)، كتاب: الطهارة، باب: مصافحة الجنب.
* مصَادر شرح الحَدِيث:
"عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 184)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 226)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 618)، و"شرح مسلم" للنووي (4/ 65)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 89)، و"العدة في شرح العمدة" لابن العطار (1/ 198)، و"فتح الباري" لابن رجب (1/ 344)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 46)، و"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" لابن الملقن (2/ 6)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 290)، و"عمدة القاري" للعيني (3/ 237)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (1/ 25).
(عن أبي هريرة) عبدِ الرحمنِ بنِ صخرٍ (رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه)؛ أي: لقي النبي عليه الصلاة والسلام أبا هريرة (في بعض طرقِ) جمع طريق، وهي المَحَجَّة: الجادة المسلوكة للسابلة، سميت بذلك؛ لأنها محلُّ طَرْقِ الأقدامِ وقَرْعها (1)؛ يعني: في بعض سكك (المدينة) المنورة، أصلُها مأخوذ من قولهم: مَدَدنَ بالمكان: إذا أقام، فهي فعيلةٌ، [وجمعَها مدائن]، فتكون -بالهمز-. وقيل: مَفْعَلَة من دِينَ: إذا مُلِك -بلا همز- كما لم تُهمز مَعايش (2).
وصار هذا عَلَماً على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم بالغلبة، لا بالوضع، فلا يجوز ترك الألف واللام منها إلا في نداء، أو إضافة، وجمعها: مُدُن -بسكون الدال وبضمها-، ومدائن -بهمزٍ ودونه-؛ فالهمز على أنها من فَعيلة، كما مر (3).
(وهو)؛ أي: أبو هريرة رضي الله عنه (جنبٌ) -بضم الجيم والنون-، وهو من صار جنباً بجماعٍ أو إنزالٍ، فهو جنبٌ، وأَجنبَ، فهو مُجْنِبٌ (4)، والجملة حاليةٌ.
(قال) أبو هريرة رضي الله عنه: (فانخنست) -بنون فخاء معجمة فنون فسين مهملة-؛ أي: مضيتُ عنه مستخفياً، ولذا وُصف الشيطانُ بالخَنَّاس.
قال الإمام ابن القيم في "بدائع الفوائد": الخنّاس: فَعَّال من خنس
(1) انظر: "المغني" لابن قدامة (1/ 405).
(2)
انظر: "الصحاح" للجوهري (6/ 2201)، (مادة: مدن).
(3)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 155)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 42).
(4)
انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (2/ 362).
يخنس، إذا توارى واختفى، ومنه قول أبي هريرة: لقيني النبيُّ صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة وانا جنبٌ، فانخنست منه. وحقيقة اللفظة: اختفاءٌ بعد ظهور، فليست لمجود الاختفاء؛ ولهذا وصفت بها الكواكب في قوله - تعالى -:{فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير: 15 - 16].
قال قتادة: هي النجوم تبدو بالليل، وتخنس بالنهار فتختفي ولا ترى (1).
وفي روايةٍ عند البخاري: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جنبٌ، فأخذ بيديَ، فمشيت معه حتى قعد، فانسللت (منه) (2)؛ أي: من مجالسته ومحادثته وأنا جنب؛ تعظيماً واحتراماً له صلى الله عليه وسلم.
(فذهبت) في "البخاري": فانسللت، فأتيت الرحل؛ أي: مسكني ومنزلي، (فاغتسلت) من الجنابة، (ثم) بعد غسلي (جئت) النبي، (فقال) صلى الله عليه وسلم:(أين كنت) وفي روايةٍ: أن أبا هريرة ذهب فاغتسل، فتفقده النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاءه، قال: "أين كنت (يا أبا هريرة؟ قال) أبو هريرة: (كنت جنباً)(3).
وفي لفظٍ قال: يا رسول الله! لقيتني وأنا جنبٌ (فكرهت أَن أجالسك وأنا على غير طهارة). وفي لفظٍ: حتى أغتسل (4).
(1) رواه عبد بن حميد في "تفسيره"، كما عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (8/ 432). وانظر:"بدائع الفوائد" لابن القيم (2/ 479).
(2)
تقدم تخريجه في حديث الباب، برقم (281) عنده.
(3)
وهي رواية مسلم المتقدم تخريجها في حديث الباب.
(4)
وهي رواية مسلم المتقدم تخريجها.
وفي هذا: استحباب الطهارة عند ملابسة الأمور العظيمة، واستحباب احترام أهل الفضل، وتوقيرهم، ومصاحبتهم على أكمل الهيئات.
وفيه: تفقد الكبير أصحابه، والشيخِ تلامذتَه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم فقد أبا هريرة لما انسلَّ من عنده.
(فقال) النبي صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله!) تعجب صلى الله عليه وسلم من اعتقاد أبي هريرة رضي الله عنه التنجس من الجنابة؛ أي: كيف يخفى عليه هذا الظاهر، مع شدة اعتنائه بالفحص عن حقائق الأمور، والكشف عن غوامضها؟!
وفيه: استحبابُ استئذان التابع للمتبوع إذا أراد أن يفارقه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: "أين كنت؟ "، فأشار إلى أنه كان ينبغي له أَلَّا يفارقه حتى يعلمه.
وفيه: استحبابُ تنبيه المتبوع لتابعه على الصواب، وإن لم يسأله (1)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:(إن المؤمن لا ينجس)؛ من نَجَس، ونَجُس -بالفتح والضم- ينجَس وينجُس كذلك (2).
وعبر صلى الله عليه وسلم بالعبارة الدالة على أن كل مؤمن لا ينجس بالجنابة؛ لإفادة الحكم العام؛ فإنه لو خَصَّ أبا هريرة، لسبق لبعض الأفهام قصرُ الحكم على المخاطب.
وتمسك بمفهومه بعضُ أهل الظاهر، فقال بنجاسة عين الكافر، وقوَّاه بقوله - تعالى -:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28].
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 391).
(2)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 90)، و"لسان العرب" لابن منظور (6/ 226)، (مادة: نجس).
وأجاب الجمهور عن الحديث: بأن المؤمن طاهر الأعضاء؛ لاعتياده مجانبة النجاسة؛ بخلاف المشرك؛ لعدم تحفظه عن النجاسات.
وعن الآية: بأن المراد أنهم نجس في الاعتقاد، ولاستقذار رائحتهم، فإن الله أباح نكاح نساء أهل الكتاب، ومعلومٌ أن عَرَقهن لا يسلم منه مَنْ يضاجعهن؛ ومع ذلك لم يجب عليه من غسل الكتابية إلا مثلُ ما يجب عليه من غسل المسلمة؛ فدل على أن الآدمي الحيَّ ليس بنجس العين، وكذا الميت، على الصحيح المعتمد؛ لظاهر قوله - تعالى -:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70]، فمن كرامته: طهارة عينه حياً وميتا (1).
قال ابن دقيق العيد: قد استُدل بهذا الحديث على طهارة الميت من بني آدم، وهي مسألة مختلَف فيها.
والحديث دل بمنطوقه على أن المؤمن لا ينجس، فمنهم من خص هذه الفضيلة بالمؤمن، والمشهور التعميم.
قال: وبعضُ الظاهرية يرى أن المشرك نجس في حال حياته، آخذاً بظاهر قوله - تعالى -:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28].
ويقال للشيء: إنه نجس، بمعنى: أن عينه نجسة. ويقال فيه: إنه نجس، بمعنى: أنه متنجس بإصابة النجاسة له.
ويجب أن يُحمل الحديث على المعنى الأول، وهو أن عينه لا تصير نجسة، وأما بالمعنى الثاني، فيمكن أن تصيبه نجاسة فيتنجس (2).
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 390).
(2)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 90).
قال الحافظ ابن حجو: وأمخوب القرطبيُّ في "شرح مسلم"(1)، فنسب القول بنجاسة الكافر إلى الشافعي.
واستدل البخاري بالحديث على طهارة عرق الجنب؛ لأن بدنه لا ينجس بالجنابة، فكذلك ما تَحَلَّب منه، وعلى تصرُّف الجنب في حوائجه قبل أن يغتسل (2).
وفيه دليلٌ: على جواز تأخير الاغتسال عن أول وقت وجوبه.
وبَوَّبَ به ابنُ حبان: في الرد على من زعم أن الجنب إذا وقع في البئر، فنوى الاغتسال أن ماء البئر ينجس (3).
فائدة:
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - عما إذا كان الرجل جنباً، فقصَّ ظفرَه، أو شاربه، أو مشط رأسه، هل عليه لثمشيء في ذلك؛ فقد أشار بعضهم إلى أن الجنب إذا قص شعره أو ظفره، فإنه تعود إليه أجزاؤه في الآخرة، فيقوم يوم القيامة وعليه قسطٌ من الجنابة بحسب ما نقص من ذلك، أو على كل شعرة قسطٌ من الجنابة، فهل ذلك كذلك أم لا؟
فأجاب: بأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في "الصحيح" من حديث حذيفة -يعني: لمسلم- (4)، وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة رضي الله عنهما: أنه لما ذكر له الجنب، فقال:"إن المؤمن لا ينجس". وفي
(1) انظر: "المفهم" للقرطبي (2/ 630).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 391).
(3)
انظر: "صحيح ابن حبان"(4/ 69).
(4)
سيأتي تخريجه قريباً.
"صحيح الحاكم": "حياً ولا ميتاً"(1).
قال: وما أعلم على كراهة إزالة شعر الجنب وظفره دليلاً شرعياً، بل قد قال صلى الله عليه وسلم للذي أسلم:"ألقِ عنك شعرَ الكفر، واختتن"(2)، فأمر الذي أسلم أن يغتسل، ولم يأمره بتأخير الاختتان وإزالة الشعر عن الاغتسال، فإطلاق كلامه صلى الله عليه وسلم جواز الأمرين.
وكذلك تؤمر الحائض بالامتشاط في غسلها، مع أن الامتشاط يذهب ببعض الشعر، انتهى (3).
ولفظ حديث حذيفة رضي الله عنه الذي أشار إليه، هو ما رواه مسلم عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه وهو جنب، فحاد عنه، فاغتسل أجاء، فقال: كنت جنباً، فقال:"إن المسلم لا ينجس"(4). والله أعلم.
* * *
(1) رواه الحاكم في "المستدرك"(1422)، والدارقطني في "سننه"(2/ 70)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 360)، وغيرهم، عن أبن عباس رضي الله عنهما. ورواه البخاري في "صحيحه"(1/ 422)، عن ابن عباس رضي الله عنهما معلقاً موقوفاً.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (21/ 120 - 121).
(4)
رواه مسلم (372)، كتاب: الحيض، باب: الدليل على أن المسلم لا ينجس.