المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث العاشر عن نُعَيْم الْمُجْمِرِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، - كشف اللثام شرح عمدة الأحكام - جـ ١

[السفاريني]

فهرس الكتاب

- ‌الفَصْلُ الأَوَّلُفي ترجمة الإمام أحمد

- ‌الفَصْلُ الثَّانيفي ترجمة مؤلّف "العمدة

- ‌[كتاب الطهارة]

- ‌الحديث الثالث

- ‌ باب:

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌باب الاستطابة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب السواك

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌باب المسح على الخفين

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب المزي وغيره

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب الجنابة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌باب التيمم

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌باب الحيض

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌كتاب الصلاة

- ‌باب المواقيت

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

الفصل: ‌ ‌الحديث العاشر عن نُعَيْم الْمُجْمِرِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه،

‌الحديث العاشر

عن نُعَيْم الْمُجْمِرِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَّه قالَ: "إنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ، فَلْيَفْعَلْ"(1).

وفي لفظٍ: رأيتُ أبَا هريرةَ يتوضَّأُ، فَغسَلَ وَجْهَهُ ويَدَيْهِ حتَّى كَادَ يَبْلُغُ المَنْكِبَيْنِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ حتَّى رَفَعَ إلى السَّاقَيْنِ، ثمَّ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الوُضُوء، فَمَنِ استَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ، فَلْيَفْعَلْ"(2).

وفي لفظٍ لمسلم: سمعتُ خليلي صلى الله عليه وسلم يقولُ: "تَبْلُغُ الحِلْيَةُ مِنَ المُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الوُضُوءُ"(3).

(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:

رواه البخاري (136)، كتاب: الوضوء، باب: فضل الوضوء، والغر المحجلون من آثار الوضوء.

(2)

رواه مسلم (246)، (1/ 216)، كتاب: الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، وعنده:"يأتون" بدل "يدعون".

(3)

رواه مسلم (250)، (1/ 219)، كتاب: الطهارة، باب تبلغ الحلية حيث يبلغ الوضوء، والنسائي (149)، كتاب: الطهارة، باب: حلية الوضوء.

* مصَادر شرح الحَدِيث:

"الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 192)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (2/ 43، 53)، و"المُفهم" للقرطبي (1/ 499)، =

ص: 157

(عن نُعَيْمٍ) -بضم النون وفتح العين المهملة- ابنِ عبدِ الله (المُجْمِرِ) -بضم الميم الأولى وإسكان الجيم وكسر الميم الثانية-، ويقال:-بفتح الجيم وتشديد الميم بعدها راء-، سمي بذلك؛ لأنه كان يُجْمر مسجدَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: يبخره، والمجمرُ صفة لعبد الله، ويطلق على ابنه نُعيم مجازاً، وقيل: صفةٌ لنعيم.

قال البرماوي (1): ولا يمتنع أن يكون صفةً لكل منهما، وأنه كان يبخر.

وقيل: سُمي المجمِر؛ لأن عبد الله كان يأخذ المجمر قدام عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه إذا خرج إلى الصلاة في رمضان.

ونعيمٌ هذا من خيار التابعين، مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، روى عن أبي هريرةَ وغيرِه. قال نعيم: جالست أبا هريرةَ عشرين سنة.

روى عنه ابنُه محمدُ بنُ نُعيم، ومالكُ بنُ أنس الإمامُ، وغيرُهما، وكنيته: أبو عبد الله (2)، فروى نعيم - رحمه الله تعالى - (عن أبي هريرة)

= و"شرح مسلم" للنووي (3/ 140)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 45)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 20)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 235)، و"عمدة القاري" للعيني (2/ 246)، و"فيض القدير" للمناوي (2/ 184)، و"سبل السلام" للصنعاني (1/ 50).

(1)

تقدم التعريف بالإمام البرماوي، وكتبه التي ينقل عنها الشارح رحمه الله في كتابه هذا.

(2)

وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 309)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (8/ 460)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 476)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 395)، و"الإرشاد في معرفة علماء الحديث" للخليلي (1/ 216)، و"تهذيب الكمال" للمزي (29/ 487)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (5/ 227)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (10/ 414).

ص: 158

صاحبِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وحافظِ عصره من الصحابة المكرمين - رضي الله عنه وعنهم أجمعين -.

(عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: إِنَّ أُمَّتي) الذين اتَّبعوني؛ فالمراد: أمةُ الإجابة، (يُدْعَوْنَ) -بضم أوله -؛ أي: ينادَوْن ويسمَّوْن (يومَ القيامةِ) في موقف الحساب أو الميزان، أو غير ذلك مما يُدعى إليه الناسُ في ذلك اليوم.

(غُرًّا) -بضم المعجمة وتشديد الراء-، جمع أغر؛ أي: ذو غرة. وأصل الغرة: لمعةٌ بيضاء تكون في جبهة الفرس، ثم استُعمل في الجَمال والشهرة وطيبِ الذكر. والمراد بها هنا: النور الكائن في وجوه أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم (1).

و"غراً" منصوبٌ على المفعولية ليدعون، أو على الحال (2)؛ أي: إنهم إذا دُعوا على رؤوس الأشهاد نُودوا بهذا الوصف، وعلى هذه الصفة.

(مُحَجَّلين): -بالمهملة والجيم-: وهو الخلخال (3)، والمراد هنا: النور (من آثارِ الوُضوءِ) -بضم الواو- ويجوز -فتحها- على أنه الماء المستعمل في الوضوء، فيكون الغرة والتحجيل نشأ عن الفعل بالماء، قاله ابن دقيق العيد (4).

(1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 354)، و"فتح الباري" لابن حجر (1/ 236).

(2)

وهو الأقرب، كما ذكر ابن دقيق في "شرح العمدة"(1/ 45)، وتبعه الزركشي في "النكت على العمدة" (ص: 21).

(3)

انظر: "الفائق في غريب الحديث" للزمخشري (3/ 62)، و"مختار الصحاح" (ص: 197)، و"لسان العرب" لابن منظور (5/ 14)، (مادة: غرر) و (مادة: حجل).

(4)

انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 46).

ص: 159

تنبيهٌ:

استدل بهذا الحديث على أن الوضوءَ من خصائص هذه الأمة جماعةٌ، منهم: الحليمي من الشافعية.

وذكر الإمام ابن مفلح حديث: "هذا وضوئي ووضوءُ الأنبياءِ قبلي"(1) من عدة طرقٍ، وقال: يحتمل أن يكون هذا الحديث حسناً؛ لكثرة طرقه، قال: وعلى هذا لا يكون الوضوء من خصائص هذه الأمة، وقاله أبو بكر بن العربي المالكي، وغيرُه، قال: وقد ذكر بعض أصحابنا التيممَ من خصائص هذه الأمة؛ للخبر الصحيح، فدلَّ أن الوضوء ليس كذلك، وقاله القرطبي المالكي، وغيرُه، وعلى هذا يكون المراد بهذا الحديث: أن أمته صلى الله عليه وسلم يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء: أنهم امتازوا بالغرة والتحجيل، لا بالوضوء.

وقال ابن عبد البر: قد يجوز أن تكون الأنبياء يتوضؤون، فيكتسبون بذلك الغرة والتحجيل، ولا يتوضأ أتباعهم كما جاء عن موسى عليه السلام: أنه قال: أجدُ أمةً كلُّهم كالأنبياء، فاجعلها أمتي، قال:"تلك أمةُ محمدٍ"، في حديثٍ فيه طولٌ.

(1) رواه ابن ماجه (420)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في الوضوء مرة ومرتين وثلاثاً، من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه، إلا أن لفظه: "

ووضوء المرسلين

". وقد رواه باللفظ الذي ساقه الشارح: الطيالسي في "مسنده" (1924)، وأبو يعلى الموصلي في "مسنده" (5598)، وابن حبان في "المجروحين" (2/ 161 - 162)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (3/ 246)، والدارقطني في "سننه" (1/ 79)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 80)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 160

قال: وقد قيل: إن سائر الأمم كانوا يتوضؤون، قال: ولا أعرفه من وجهٍ صحيحٍ (1)، انتهى (2).

ونظر الحافظ ابنُ حجرٍ في قول الحليمي: إن الوضوء من خصائص هذه الأمة؛ قال: لأنه ثبت عند البخاري في قصة سارة عليها السلام مع الملكِ الذي أعطاها هاجر: أن سارةَ لما همَّ الملك بالدنوِّ منها، قامت تتوضأ وتصلي (3)، ومن قصة جريج الراهب: أنه قام فتوضأ وصلى، ثم كلم الغلام (4).

قال: فإن ظاهره: أن الذي اختصت به هذه الأمة هو الغرة والتحجيل، لا أصل الوضوء، وقد صرح بذلك في روايةٍ لمسلمٍ عن أبي هريرة -أيضاً- مرفوعاً، قال:"لكم سيما ليست لأحدٍ غيركم"(5). وله من حديث حذيفة نحوه (6).

وللطحاوي: "ولا يأتي أحدٌ من الأمم كذلك"(7).

(1) انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 193).

(2)

انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 324 - 325).

(3)

رواه البخاري (6550)، كتاب: الإكراه، باب: إذا استكرهت المرأة على الزنا، فلا حد عليها، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

رواه البخاري (2350)، كتاب: المظالم، باب: إذا هدم حائطاً، فليبنِ مثله، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(5)

رواه مسلم (247)، كتاب: الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء.

(6)

رواه مسلم (248)، كتاب: الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء.

(7)

رواه الطحاوي قي "شرح معاني الآثار"(1/ 40)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 161

و"سيما" -بكسر المهملة وإسكان الياء-، أي: علامةٌ، والله أعلم (1).

(فمن)؛ أي: أيُّ إنسانٍ (استطاع)؛ أي: استفعالٌ من الطاعة؛ والمراد: من قدرَ وأطاقَ.

ويقال: اسطاع، يحذفون التاء استثقالاً لها مع الطاء، ويكرهون إدغام التاء فيها، فتحرك السين، وهي لا تحرك أبداً، وقرأ حمزة غير خلَاّدٍ:{فَمَا اسْطَاعُوا} [الكهف: 97]، فجمع بين الساكنين (2).

وبعض العرب يقول: استاع يستيع، وبعض يقول: إسطاع يسطيع -بقطع الهمزة- بمعنى: أطاع يطيع. قاله في "القاموس"(3).

(منكم) معشَر المتوضئين من هذه الأمة (أن يُطيل غُرَّته) بمجاوزة محل الفرض؛ بأن يغسل اليدين إلى ما فوق المِرْفقين حتى يبلغ العَضُدَين، والرجلين إلى ما فوق الكعبين حتى يبلغ منتهى الساقين.

(فليفعلْ) ذلك؛ أي: فليُطِل الغرةَ والتحجيل. واقتصر في الحديث على إحداهما؛ لدلالتها على الأخرى، نحو قوله تعالى:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]، واقتصر على ذكر الغرة مع أنها مؤنثة، دون التحجيل وهو مذكر، وتغليب المذكر أشيعُ وأشهر؛ كالقمرين؛ لأن محل الغرة أشرفُ أعضاء الوضوء، وأول ما يقع عليه النظر من الإنسان، على أن في رواية مسلمٍ من طريق عمارة بن غزيّة، ذكرَ الأمرين، ولفظه:

(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 236).

(2)

انظر: "إعراب القرآن" للنحاس (2/ 295)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (2/ 271)، و"معجم القراءات القرآنية"(4/ 17).

(3)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 962)، (مادة: طوع).

ص: 162

"فليطِلْ غرته وتحجيلَه"، قاله الحافظ ابن حجر (1).

وقال ابن بَطَّالٍ: كنى أبو هريرةَ بالغرة على التحجيل؛ لأن الوجه لا سبيل إلى الزيادة في غسله (2).

قال ابن حجرٍ: وفيما قاله نظرٌ؛ لأنه يستلزم قلبَ اللغة، وما نفاه ممنوع؛ لأن الإطالة ممكنة في الوجه، بأن يغسل إلى صفحة العنق مثلاً، وفي هذ انظر لا يخفى.

ونقل الرافعي عن بعضهم: أن الغرة تطلق على كل من الغرة والتحجيل، انتهى (3).

قلت: ظاهر صنيع الحافظ عبدِ الحق في "الجمع بين الصحيحين" اتفاقُهما على ذكر الغرة والتحجيل معاً، فإنه ذكر حديث نعيم بن عبد الله المُجمِر، قال: رأيت أبا هريرة رضي الله عنه يتوضأ، فغسل وجهه، فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق. ثم قال لي: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ. وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنتم الغُرُّ المُحَجَّلون يومَ القيامة من إسباغِ الوضوءِ، فمن استطاعَ منكم فليطِلْ غرتَه وتحجيلَه"(4).

(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 236)، نقلاً عن "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 46).

(2)

انظر: "شرح ابن بطَّال على البخاري"(1/ 235).

(3)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 236).

(4)

تقدم تخريجه.

ص: 163

وفي لفظٍ آخر: فغسل وجهه ويديه حتى كاد أن يبلغ المنكبين، ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أمتي يأتون يومَ القيامة غُرًّا مُحَجَّلين من أثرِ الوضوءِ" الحديث (1).

قال الحافظ عبدُ الحق: وقال البخاري: "يُدعون" بدل "يأتون"(2).

فهذا - على قاعدته واصطلاحه - يدل على أنهما لم يختلفا إلا في لفظة "يأتون" كما نبه عليه - رحمة الله تعالى -، مع أن البخاري لم يذكر:"وتحجيله" فيما رأيته في النسخ، ولا سيّما والحافظ ابن حجرٍ عزا ذلك لمسلمٍ حسب (3).

تنبيهات:

الأول: ظاهر "الصحيحين" وغيرِهما: أن قوله: "فمن استطاع منكم .... إلخ" من الحديث.

وذكر الإمام المحقق ابنُ القيم: أنه مدرَج من كلام أبي هريرة رضي الله عنه (4).

يؤيد ذلك ما رواه الإمام أحمد في "المسند"، وفي آخره: قال نعيمٌ: لا أدري قوله: "من استطاع .. إلخ" من قول النبي صلى الله عليه وسلم، أو من قول أبي هريرة (5).

(1) تقدم تخريجه.

(2)

انظر: "الجمع بين الصحيحين" للإشبيلي (1/ 203)، حديث رقم (329).

(3)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 236). وقد عزاه قبله إلى مسلم فقط: البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 77).

(4)

انظر: "حادي الأرواح"(ص: 137)، و"إغاثة اللهفان" كلاهما لابن القيم (1/ 181).

(5)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(2/ 334).

ص: 164

قال الحافظ ابن حجرٍ في "الفتح": ولم أر هذه الجملة في رواية أحدٍ ممن روى هذا الحديثَ من الصحابة، وهم عشرة رضي الله عنهم، ولا ممن رواه عن أبي هريرة غير رواية نعيم هذه، انتهى (1). وهذا يؤيد ما مال إليه المحقق ابن القيم، وشيخُه شيخُ الإسلام (2): أنه مدرج، والله أعلم.

الثاني: اختلف العلماء - رحمهم الله تعالى ورضي عنهم - في استحباب ذلك، وفيه روايتان عن الإمام أحمد:

إحداهما: استحباب التجاوز لمحل الفرض لإطالة الغرة والتحجيل، وهذا الصحيح من المذهب، جزم به في "المغني"، و"الشرح"، وابن رزين، وغيرهم، وقدمه في "الفروع"، و"الرعاية"، وابن تميم، وغيرهم، واختاره المجد؛ وفاقاً لأبي حنيفة والشافعي (3).

ولحديث: "تبلغُ الحِليةُ من المؤمنِ حيثُ يبلغُ الوضوءُ" متفق عليه من حديث أبي هريرة، ولفظه: عن أبي حازم، قال: كنت خلف أبي هريرة رضي الله عنه وهو يتوضأ للصلاة، فكان يمدُّ يده حتى تبلغ إبطَه، فقلت: يا أبا هريرة! ما هذا الوضوء؟ فقال: يا بني فروخ! أنتم هاهنا؟ لو علمتُ أنكم هاهنا، ما توضأت هذا الوضوء، سمعتُ خليلي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 236).

(2)

انظر: "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 279).

(3)

انظر: "المغني" لابن قدامة (74)، و "شرح العمدة" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 214)، و"الفروع" لابن مفلح (1/ 126)، و"الإنصاف" للمرداوي (1/ 168)، و"كشاف القناع" للبهوتي (1/ 103).

ص: 165

"تبلغُ الحليةُ من المؤمن حيثُ يبلغُ الوضوءُ". لم يقل البخاري: يا بني فروخ! إلى قوله: هذا الوضوء (1).

قوله: "يا بني فروخ! ": أراد بهم الأعاجم.

قال في "النهاية": قال الليث: بلغنا أن فروخ كان من ولد إبراهيم عليه السلام بعد إسماعيل وإسحاق، فكثر نسله، ونما عدده، فولد العجم الذين في وسط البلاد. هكذا حكاه الأزهري، انتهى (2).

وفي " القاموس": وفرُّوخ؛ كتنُّور: أخو إسماعيلَ وإسحاقَ، وأبو العجمِ الذين في وسط البلاد (3).

ولأن أبا هريرة رضي الله عنه فعل ذلك، وهو راوي الحديث، وكذا ابن عمر رضي الله عنهما، أخرجه ابن أبي شيبة، وأبو عبيد بإسناد حسن (4).

وقيل: المستحب من ذلك: إلى نصف العضد والساق.

والرواية الثانية عن الإمام أحمد: عدمُ استحباب ذلك، وهو مذهب الإمام مالك، واختيار ابن القيم الجوزية.

(1) قلت: بل الحديث من أفراد مسلم كما تقدم تخريجه في حديث الباب، وهكذا نسبه لمسلم وحده: المصنف رحمه الله، ومن قبله البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 56)، والنووي في "رياض الصالحين" (ص: 254)، والمنذري في "الترغيب والترهيب"(1/ 91)، وابن حجر في "التلخيص الحبير"(1/ 88)، والعيني في "عمدة القاري"(22/ 72)، وغيرهم كثير.

(2)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 425).

(3)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 328)، (مادة: فرخ).

(4)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(604). عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان ربما بلغ بالوضوء إبطه في الصيف.

ص: 166

قال في "إغاثة اللهفان": قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حَدَّ حدوداً فلا تعتدوها"(1)، والله سبحانه قد حدّ المرفقين والكعبين، فلا ينبغي تعديتُهما، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينقل مَنْ نقلَ عنه وضوءه أنه تعداهما؛ لأن ذلك أصل الوسواس، ومادته، ولأن فاعله إنما يفعله قربةً وعبادةً؛ والعبادات مبناها على الاتباع، ولأن ذلك ذريعة إلى غسل الفخذ والكتف، وهذا مما يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يفعلوه ولا مرةً واحدةً؛ ولأن هذا من الغلو في الدين، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إياكم والغُلُوَّ في الدين"(2)، ولأنه تعمُّق، وهو منهي عنه، ولأنه عضوٌ من أعضاء الطهارة؛ فكره مجاوزته؛ كالوجه (3).

وقال في كتابه "حادي الأرواح إلى منازل الأفراح"، بعد سياقه لحديث أبي حازم: قد احتج بهذا من يرى استحباب غسل العضد وإطالته، والصحيح: أنه لا يستحب، وهو قول أهل المدينة، وعن الإمام أحمد روايتان.

قال: والحديث لا يدل على الإطالة؛ فإن الحلية إنما تكون زينة في الساعد والمعصم، لا في العضد والكتف.

قال: وأما قوله: "فمن استطاع منكم أن يُطيل غُرته فليفعلْ"، فهذه الزيادة مدرجة في الحديث من كلام أبي هريرة رضي الله عنه، لا من

(1) رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(22/ 221 - 222)، والدارقطني في "سننه"(4/ 184)، والحاكم في "المستدرك"(7114)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 12)، وغيرهم، عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه.

(2)

رواه النسائي (3057)، كتاب: الحج، باب: التقاط الحصى، وابن ماجه (3029)، كتاب: المناسك، باب: قدر حصى الرمي. ورواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 215)، وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

انظر: "إغاثة اللهفان" لابن القيم (1/ 181).

ص: 167

كلام النبيِّ صلى الله عليه وسلم، بيّن ذلك غيرُ واحد من الحفاظ، وذكرَ كلامَ نعيمُ الذي رواه الإمام أحمد (1).

وقال: وكان شيخنا يقول: هذه اللفظة لا يمكن أن تكون من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الغرة لا تكون في اليد، ولا تكون إلا في الوجه، وإطالتها غير ممكنةٍ، إذ يدخل في الرأس، ولا يسمى ذلك غرةً، انتهى (2). وقال ابن بطالٍ وطائفة من المالكية: لا تستحب الزيادة على الكعب والمرافق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"من زادَ على هذا، فقد أساءَ وظلمَ"(3).

والحاصل: أن مذهب أبي هريرة رضي الله عنه، وكذا ابن عمر رضي الله عنهما، ومذهب أبي حنيفة، والشافعي، ومعتمد الروايتين من مذهبنا استحبابُ تجاوز محل الفرض، وقيده بعض العلماء، بنصف العضد والمرفق.

ومذهبُ مالكٍ، وأنصُّ الروايتين كما قال ابنُ قاضي الجبل في "الفائق"(4) عن إمامنا، واختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذيه ابن القيم وابن قاضي الجبل: عدمُ الاستحاب، والله أعلم.

(وفي لفظٍ) للإمام مسلمٍ: في هذا الحديث: قال نُعيم بنِ عبد الله المجمر: (رأيتُ أبا هريرةَ) رضي الله عنه (يتوضأ، فغسلَ) أبو هريرة

(1) وتقدم تخريجه.

(2)

انظر: "حادي الأرواح" لابن القيم (ص: 137 - 138).

(3)

تقدم تخريجه، وانظر:"فتح الباري" لابن حجر (1/ 236).

(4)

للإمام أبي العباس أحمد بن الحسن بن عبد الله المقدسي المعروف بابن قاضي الجبل، المتوفى سنة (771 هـ). كتاب:"الفائق في المذهب" في فروع الحنابلة، انظر:"ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب (2/ 454)، و"المدخل المفصل" لبكر أبو زيد (2/ 991).

ص: 168

(وجهَهُ ويَدَيه)، يعني: واحدةً بعد واحدةٍ؛ بأن قدم يده اليمنى ثم اليسرى، كما ذكرناه آنفاً (حتى كادَ يبلُغ) بغسلِهما (المَنْكِبين) -تثنية مَنْكِبٍ- وهو ما بين الكتف والعنق، كما في "النهاية"(1).

وفي "القاموس": المنكب: مجتمع رأس الكتف والعضد، مذكر (2)، وهذا الظاهر.

قال في "المطلع": العاتق: موضع الرداء من المنكب، يذكر ويؤنث (3)، يعني: العاتق. وكتب عليه بعض الفضلاء بأن العاتق بين المنكب والعنق، قال: والصحيح تذكيره، وجمعه عواتق، وعُتُق -بضم التاء وكسرها-، انتهى.

(ثم غسل رجليه)؛ أي: بعد مسح رأسه، كما تقدم في سياق الحديث بتمامه، وإنما اقتصر على ذكر اليدين والرجلين بعد غسل الوجه؛ لبيان المقصود منه، وهو قوله:(حتى رفع) في غسل كل واحدةٍ من رجليه (إلى الساقين) تثنية ساق؛ وهو ما بين الكعب والركبة، وجمعه سوق وسيقان وأَسْؤُق، -بهمز الواو-؛ لتحمل الضمة، كما في "القاموس"(4).

(ثم قال) أبو هريرة رضي الله عنه: (سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنَّ أُمتي يُدْعون).

ولفظ مسلمٍ: "يأتون"(يومَ القيامةِ غُرًّا) بالنور في وجوههم (مُحَجَّلين) في أرجلهم.

(1) انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (5/ 112).

(2)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 179)، (مادة: نكب).

(3)

انظر: "المطلع على أبواب المقنع" لابن أبي الفتح (ص: 62).

(4)

انظر: "القاموس المحيط" للفيروزأبادي (ص: 1156)، (مادة: سوق).

ص: 169

وهل المراد به: الحلي، أو أمرٌ زائدٌ عليه؟

الحق: الثاني؛ وهو نورٌ يتلألأ في سائر أعضاء الوضوء لهذه الأمة (من أَثر الوضوء)، بإفراد أثر في هذه الرواية المضاف إلى الوضوء، فيؤدي مؤدَّى الجمع، (فمن استطاعَ منكم أن يُطيلَ غرته، فليفعلْ)؛ أي: فليُطل الغرة والتحجيل -كما مر-.

قلت: ليس هذا من أفراد مسلم، بل متفق على هذه الرواية، وإنما اختلفا في لفظة "يدعون"، فقال مسلمٌ:"يأتون".

(وفي لفظٍ لمسلم) -أيضاً-: قال أبو هريرة رضي الله عنه: (سمعتُ خليلي) يعني: النبيَّ (صلى الله عليه وسلم يقولُ: تبلغُ الحِليةُ من المؤمن) بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم من التيجان والأساور والخلاخيل، وغيرِها من اللؤلؤ والذهب والفضة وغيرها يوم القيامة في الجنة، (حيثُ)؛ أي: إلى المحل الذي (يبلغُ الوضوءُ) من الأعضاء.

قلت: ليس هذا اللفظ من أفراد مسلم، بل متفقٌ عليه، كما تقدم في سياقه عن أبي حازم (1).

قال ابن القيم في "حادي الأرواح": عن الحسن رحمه الله قال: الحلي في أهل الجنة على الرجال أحسنُ منه على النساء (2)، وأخرج ابنُ أبي الدنيا عن داودَ بنِ عامرِ بنِ سعدِ بنِ أبي وقاص، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "لو أن رجلاً من أهلِ الجنة اطلع، فبدا سوارُه، لطمسَ ضوءَ الشمس، كما تطمسُ الشمسُ ضوءَ النجوم"(3).

(1) بل هو من أفراد مسلم، كما سبق التنبيه عليه والاستدراك من كلام الحفاظ.

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(214).

(3)

رواه الترمذي (2538)، كتاب: صفة الجنة، باب: ما جاء في صفة أهل الجنة، =

ص: 170

وذى في "حادي الأرواح" عن أبي هريرة: أن أبا أمامةَ رضي الله عنهما حدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم، وذكرَ حليَ أهلِ الجنة، فقال:"مُسَوَّرون بالذهبِ والفضةِ، مُكَلَّلون بالدُّرِّ، عليهم أكاليلُ من دُرٍّ وياقوتٍ متواصلة، وعليهم تاجٌ كتاجِ الملوك، جُرْدٌ مُكَحَّلون"(1).

تنبيه:

إن قلت: كيف ساغ لأبي هريرة رضي الله عنه أن يقولَ عن سيد العالم النبيِّ المصطفى صلى الله عليه وسلم: (سمعتُ خليلي) مع ما ثبت وصح عنه عليه الصلاة والسلام: "لو كنتُ مُتَّخِداً خليلاً غيرَ ربي، لاتخذتُ أبا بكرٍ .... الحديث"(2)؟

قلت: ليس في هذا كبيرُ إشكال؛ لأن أبا هريرةَ رضي الله عنه أخبر أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خليلُه، وهو أن حبَّ المصطفى قد تخلَّلَ في لحم أبي هريرةَ وَعَصبِه وعظمه، ولا يلزم منه أن يكون أبو هريرة رضي الله عنه خليلاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا بيِّنٌ ظاهرٌ، والله أعلم.

* * *

= وقال: غريب، والإمام أحمد في "المسند"(1/ 169)، وابن أبي الدنيا في "صفة الجنة"(276).

(1)

رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"، كما نسبه إليه ابن كثير في "تفسيره"(3/ 558)، والسيوطي في "الدر المنثور" (7/ 26). وانظر:"حادي الأرواح" لابن القيم (ص: 137).

(2)

رواه البخاري (3454)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر" ومسلم (2382)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 171