المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الأول عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، وَاسْمُهُ: سَعْدُ بْنُ إِياسٍ، قَالَ: - كشف اللثام شرح عمدة الأحكام - جـ ١

[السفاريني]

فهرس الكتاب

- ‌الفَصْلُ الأَوَّلُفي ترجمة الإمام أحمد

- ‌الفَصْلُ الثَّانيفي ترجمة مؤلّف "العمدة

- ‌[كتاب الطهارة]

- ‌الحديث الثالث

- ‌ باب:

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌باب الاستطابة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب السواك

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌باب المسح على الخفين

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب المزي وغيره

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب الجنابة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌باب التيمم

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌باب الحيض

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌كتاب الصلاة

- ‌باب المواقيت

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

الفصل: ‌ ‌الحديث الأول عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، وَاسْمُهُ: سَعْدُ بْنُ إِياسٍ، قَالَ:

‌الحديث الأول

عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، وَاسْمُهُ: سَعْدُ بْنُ إِياسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ -وَأَشَارَ بيَدِهِ إلَى دَارِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللهِ تَعَالَى؟ قَالَ: "الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا"، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "بِرُّ الوَالِدَيْنِ"، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ"، قال: حَدَّثَنِي بِهِنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ، لَزَادَني (1).

(1) * تَخْرِيج الحَدِيث:

رواه البخاري (504)، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: فضل الصلاة لوقتها، و (2630)، كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل الجهاد والسير، و (5625)، كتاب: الأدب، باب: السبر والصلة، و (7096)، كتاب: التوحيد، باب: وسمَّى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عملًا، ومسلم (85)، (1/ 89 - 90)، كتاب: الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، والنسائي (610) كتاب: المواقيت، باب: فضل الصلاة لمواقيتها، والترمذي (173)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الوقت الأول من الفضل، و (1898)، كتاب: البر والصلة، باب: منه.

* مصَادر شرح الحَدِيث:

"عارضة الأحوذي" لابن العربي (1/ 284، 8/ 92)، و"إكمال المعلم" للقاضىِ عياض (1/ 349)، و"المفهم" للقرطبي (1/ 278)، و"شرح مسلم" للنووي (2/ 72)، و"شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 131)، و"فتح الباري" لابن رجب (3/ 39)، و"النكت على العمدة" للزركشي (ص: 61)، و"فتح الباري" لابن حجر (2/ 9)، و"عمدة القاري" =

ص: 534

(عن أبي عمرٍو الشيباني) التابعيِّ (واسمه: سعدُ بن إياس) -بكسر الهمزة وتخفيف المثناة تحت-، والشيباني -بفتح الشين المعجمة-؛ لأنه من بني شَيبان.

وتقدمت هذه النسبة في ترجمة سيدنا الإمام أحمد رضي الله عنه، وربما قيل لأبي عمرو هذا: البكريُّ، نسبةً إلى بَكْرِ -بفتح الموحدة- ابنِ وائل، وهو مخضرَمٌ أدركَ الجاهلية والإسلام.

قال: أذكر أني سمعتُ برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أرعى إبلًا لأهلي بكاظِمَةَ، فقيل: خرج نبيٌّ بتهامة (1).

وهو معدود من التابعين؛ لعدم رؤيته النبيَّ صلى الله عليه وسلم.

وكان من أصحاب ابن مسعود، يروي عنه كثيراً، وعن علي، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن أرقم، وغيرهم.

وروى عنه: الشعبيُّ، والأعمش، وسَلَمَةُ بنُ كُهَيْل، وغيرُهم.

قال يحيى بن معين: هو ثقةٌ، زاد هبة الله بن الحسن: مجمَعٌ على ثقته.

مات سنة إحدى ومئةٍ، وقيل: سنة خمسٍ وتسعين، وعمره يوم مات مئة وعشرون سنةً (2).

= للعيني (5/ 13)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (8/ 37).

(1)

رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(6/ 104)، والبخاري في "التاريخ الكبير"(4/ 47)، والطبراني في "المعجم الكبير"(5532).

(2)

وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (1/ 68)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 47)، و"الثقات" لابن حبان (4/ 273)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 583)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 421)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 258)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 173)، و"الإصابة في =

ص: 535

(قال) أبو عمرٍو الشيبانيُّ: (حدثني صاحبُ هذه الدار، وأشار) أبو عميرٍو (بيده إلى دار عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه).

في هذا: الاكتفاءُ بالإشارة المفهِمة عن التصريح، وقد صرح باسم ابن مسعودٍ في رواياتٍ عند الإمام أحمد (1)، وعند البخاري في: الجهاد (2)، ومسلم في: التوحيد (3)، والنسائي (4)، وغيرهم (5).

وعبد الله بن مسعودٍ: هو أبو عبد الرحمن بنُ مسعودِ بنِ غافل -بالغين المعجمة والفاء -بن شَمْخٍ -بفتح الشين المعجمة وسكون الميم وبالخاء المعجمة-. وقيل: ابن حبيب بن شمخٍ بن قار -بالقاف-، وقيل:- بالفاء والراء المخففة-، وعليه اقتصر النووي (6)، بنِ مخزوم بن صاعد -بالصاد والعين المهملتين- بنِ كاهل بنِ الحارث بنِ تميم بنِ سعد بنِ هُذيل بنِ مُدْركة بن إلياسَ بنِ مضرَ، الهذليُّ، حليفُ بني زهرة، وأمُّه أمُّ عبدٍ بنتُ عبدِ وَدِّ بنِ سواء، من هذيلٍ، أسلمت وهاجرت.

وكان إسلام عبد الله قديمًا في أول البعثة، حين إسلام سعيد بن زيد وزوجته فاطمةَ بنتِ الخطاب قبلَ عمر بزمانٍ.

وقيل: إنه كان سادسًا في الإسلام.

= تمييز الصحابهَ" (3/ 254)، و"تهذيب التهذيب" كلاهما لابن حجر (3/ 406).

(1)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 451).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

رواه النسائي (611)، كتاب: المواقيت، باب: فضل الصلاة لمواقيتها.

(5)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 9).

(6)

انظر: "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 269).

ص: 536

وفي "الصحيحين" مرفوعًا: "خُذُوا القرآنَ عن أربعٍ: عن عبدِ الله، وسالمٍ مولى أبي حُذَيفة، ومُعاذٍ، وأُبَيِّ بنِ كَعْبٍ"(1).

وروى الدارقطني أنه قال رضي الله عنه: لقد رأيتُني سادسَ ستة، وما على الأرض مسلمٌ غيرُنا (2).

وكان صاحبَ سواكِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونعلِه وطهورِه في سفره.

وقال له صلى الله عليه وسلم: "إِذْنُكَ عَلَيَّ أَنْ ترفعَ الحجابَ، وتسمعَ سِوادي"(3)، وهو بكسر السين: السرار.

وفي "مسند الإمام أحمد": سوادي: سري، قال: أَحَلَّ له أن يسمعَ سِرَّه (4).

وروى الإمام أحمد عنه، قال: كنتُ لا أُحْبَس عن النجوى، وعن كذا، وعن كذا (5).

(1) رواه البخاري (3597)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب أبي كعب رضي الله عنه، ومسلم (2464)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه - رضي الله تعالى عنهما -، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

(2)

ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(33880)، وابن حبان في "صحيحه"(7062)، والطبراني في "المعجم الكبير"(8406)، والحاكم في "المستدرك"(5368)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 126).

(3)

رواه مسلم (2169)، كتاب: السلام، باب: جواز جعل الإذن رفع حجاب أو نحوه من العلامات.

(4)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 388).

(5)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 427)، وأبو يعلى في "مسنده"(5291)، والحاكم في "المستدرك"(7367).

ص: 537

هاجر للحبشه، وشهد بدرًا وما بعدها، وصلَّى إلى القبلتين، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وقال صلى الله عليه وسلم:"رَضيتُ لأُمَّتِي ما رَضِيَ لها ابنُ أُمِّ عَبْدٍ"(1).

وكان يشبهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في سَمْته وهَدْيه؛ كما ثبت ذلك في "صحيح البخاري" من حديث حذيفة (2).

وكان رضي الله عنه خفيفَ اللحم، شديدَ الأُدْمَة، قصيرًا، يكاد طِوالُ الرجالِ إذا جلس يوازيه قائمًا.

وليَ القضاءَ بالكوفة، وبيتَ المال بها لعمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، وصدرًا من خلافة عثمان رضي الله عنه، ثم جاء فوالي المدينة المنورة، فمات بها سنة اثنتين. وقيل: ثلاث وثلاثين، ودفن بالبقيع، كما قاله ابن الأثير في "جامع الأصول"(3).

وجزم به الإمام الحافظ ابن الجوزي، قال: وهو ابن بضع وستين سنةً.

روى عنه: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومن بعدهم من الصحابة رضي الله عنهم.

روي عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانُ مئةٍ وثمانيةٌ وأربعون حديثًا، وأسقط ابن الجوزي الثمانية الزائدة على الأربعين، اتفقا منها على أربعة وستين، وانفرد البخاري بأحدٍ وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين (4).

(1) رواه البزار في "مسنده"(1986)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(6879)، والحاكم في "المستدرك"(5387)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(33/ 120)، عن ابن مسعود رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (5746)، كتاب: الأدب، باب: في الهدي الصالح.

(3)

انظر: "جامع الأصول" لابن الأثير (14/ 484 - قسم التراجم).

(4)

وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 150)، و"الثقات" لابن =

ص: 538

فمما اتفقا عليه من حديثه: هذا الحديث، وهو قوله رضي الله عنه:(قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله تعالى؟).

وفي رواية: أيُّ العمل أفضل (1)؟

وإنما سأل رضي الله عنه عن ذلك؛ طلبًا لمعرفة ما ينبغي تقديمُه منها؛ حرصًا على معرفة الأفضل؛ ليتأكد القصد إليه، وتشتد المحافظة عليه (2).

ومعنى المحبة من الله تعالى: تعلُّق الإرادة بالثواب؛ أي: أكثر الأعمال توابًا، قاله ابن العربي (3).

(قال) عليه الصلاة والسلام: (الصلاة على وقتها).

هكذا رواية شعبة وأكثر الرواة.

وفي رواية الإمام أحمد، ولهما، وغيرهم:"لوقتها"(4).

و"على" قيل: هي بمعنى اللام، وقيل: لإرادة الاستعلاء على الوقت.

= حبان (3/ 208)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (1/ 124)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (3/ 987)، و"تاريخ بغداد" للخطيب (1/ 147)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (33/ 54)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (3/ 381)، و"تهذيب الكمال" للمزي (16/ 121)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 461)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (4/ 233)، و"تهذيب التهذيب" له أيضاً (6/ 24).

(1)

تقدم تخريجه في حديث الباب برقم (2630) عند البخاري، و (85)، (1/ 89) عند مسلم.

(2)

انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 131).

(3)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/ 102).

(4)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(1/ 442)، وتقدم تخريجهما عندهما في حديث الباب.

ص: 539

وفائدته: تحقيق دخوله ليقع الأداء فيه، واللام: للاستقبال، مثل قوله تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]؛ أي: مستقبلاتٍ عِدَّتَهن.

وقيل: للابتداء؛ كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، وقيل: بمعنى: في؛ أي: في وقتها، كما في رواية علي بن حفص، وهو شيخٌ صدوقٌ من رجال مسلمٍ من أصحاب شعبة، فقال: الصلاة في أول وقتها، إلا أنه كبر، وتغير حفظه.

قال الحافظ ابن حجر: ورواه الحسن بن علي المعمري في "اليوم والليلة"، عن أبي موسى محمد بن المثنى، عن غندر، عن شعبة، كذلك. قال: والظاهر: أن المعمري وَهِمَ فيه.

وأطلق النووي في "شرح المهذب": أن رواية "في أول وقتها" ضعيفةٌ (1).

وفيه نظر؛ لأن لها طريقًا أخرى أخرجها ابن خزيمة في "صحيحه"، والحاكم (2)، وغيرهما (3).

تنبيهان:

الأول: لعل الأعمال محمولة هنا على البدنية، كما قيل: أفضلُ عبادات البدن: الصلاة، واحترزوا عن عبادات المال.

وأما عملُ القلوب: ففيه ما هو أفضل؛ كالإيمان (4).

(1) انظر: "المجموع شرح المهذب" للنووي (3/ 52).

(2)

رواه ابن خزيمة في "صحيحه"(327)، والحاكم في "المستدرك"(674).

(3)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 10).

(4)

انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 132).

ص: 540

وذكر أكثر علمائنا: أن أفضل الأعمال بعدَ الجهاد والعلم: الصلاةُ؛ خلافًا للشافعي في تقديمها؛ للأخبار في أنها أحبُّ الأعمال إلى الله، وخيرُها، ولأن مداومته صلى الله عليه وسلم على فعلها أشدُّ، ولقتل مَنْ تركها تهاونًا، ولتقديم فرضِها، وإنما أضاف إليه سبحانه الصومَ في قوله:"كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له إلا الصومَ، فإنه لي"(1)؛ لأنه لم يُتعبد به غيرُه في جميع المِلل، بخلاف غيره.

وإضافةُ عبادةٍ إلى غير الله قبل الإسلام لا يوجب عدمَ أفضليَّتها في الإسلام؛ [فإن](2) الصلاة في الصفا والمروة أعظمُ منها في مسجد من مساجد قرى الشام إجماعًا، وإن كان ذلك المسجدُ ما عُبِدَ فيه غيرُ الله قَطُّ، وقد أضافه إليه بقوله:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18]، فكذا الصلاةُ مع الصوم (3).

ومحصل ما أجاب به العلماء عن هذا الحديث وغيره؛ مما اختلفتْ فيه الأجوبةُ بأنه أفضلُ الأعمالط بأن الجواب: إنما اختلف لاختلاف السائلين؛ فأعلمَ كلَّ قومٍ بما يحتاجون إليه، أو بما لهم فيه رغبةٌ، أو بما هو لائقٌ بهم، أو كان الاختلاف باختلاف الأوقات؛ بأن يكون العملُ في ذلك الوقت أفضلَ منه في غيره، فقد كان الجهاد في ابتداء الإسلام أفضلَ الأعمال (4).

قال ابن دقيق العيد: مثال ذلك: أن يُحمل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من قوله:

(1) رواه البخاري (5583)، كتاب: اللباس، باب: ما يذكر في المسك، ومسلم (1151)، كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

في الأصل: "في أنَّ".

(3)

انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 468).

(4)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 9).

ص: 541

"ألا أخبرُكم بأَفضلِ أعمالِكم، وأزكاها عندَ مَليكِكم، وأرفعِها في درجاتكم؟ "(1)، وفسره بذكر الله، على أن يكون ذلك أفضلَ الأعمال بالنسبة للمخاطبين بذلك، أو مَنْ هو في مثل حالهم، ولو خوطب بذلك الشجاعُ الباسلُ المتأهِّلُ للنفع الأكبر في القتال، لقيل له: الجهاد، ولو خوطب به مَنْ لا يقوم مقامَ هذا في القتال، ولا يتمحَّضُ حالُه لصلاحية التبتُّل للذكر، وكان غنيًا ينتفع بصدقة ماله، لقيل له: الصدقةُ، وهكذا في بقية أحوال الناس، قد يكون الأفضلُ في حق هذا، مخالفًا للأفضل في حق ذاك، بحسب ترجيح المصلحة التي تليق به، انتهى (2).

وقد تظافرت النصوص على أن الصلاة أفضلُ من الصدقة، ومع ذلك، ففي وقت مواساة المضطر تكون الصدقة أفضلَ.

أو تحمل أن صيغة "أفضل" ليست على بابها، بل المراد: إثباتُ الفضلِ لها، أو المر اد: من أفضل الأعمال، فحذفت "من"، وهي مرادةٌ (3).

الثاني: البدار إلى الصلاة في أول أوقاتها أفضلُ من التراخي فيها؛ لأنه إنما شُرط فيها أن تكون أحبَّ الأعمال إذا أقيمت لوقتها المستحبِّ، قاله ابن بطال (4).

وقال ابن دقيق العيد: ليس في هذا الحديث ما يقتضي أولَ الوقت أو آخرَه، وكأن المقصود منه الاحترازُ عما إذا وقعت خارجَ الوقت قضاءً (5).

(1) رواه الترمذي (3377)، كتاب: الدعوات، باب: منه، وابن ماجه (3790)، كتاب: الأدب، باب: فضل الذكر، والإمام أحمد في "المسند"(5/ 195).

(2)

انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 132).

(3)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 9).

(4)

المرجع السابق، الموضع نفسه.

(5)

انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 132).

ص: 542

وتُعقب: بأن إخراجها عن وقتها محرَّمٌ، ولفظ "أَحَبّ": يقتضي المشاركة في الاستحباب، فيكون المرادُ الاحترازَ عن إيقاعها آخر الوقت.

وأجيب: بأن المشاركة إنما هي بالنسبة إلى الصلاة وغيرها من الأعمال؛ فإن وقعت الصلاة في وقتها، كانت أحبَّ إلى الله من غيرها من الأعمال، فوقع الاحترازُ عما إذا وقعت خارجَ وقئها من معذورٍ؛ كالنائم، والناسي؛ فإن إخراجه لها عن وقتها لا يوصف بالتحريم، ولا بكونه أفضلَ الأعمال، مع كونه محبوبًا، لكن إيقاعها في الوقت أحبُّ (1).

(قلت: ثم أيُّ؟)، قيل: الصوابُ عدم تنوين "أي"؛ لأنه غير موقوف عليه في الكلام، والسائل ينتظر الجواب، والتنوينُ لا يوقف عليه، فتنوينُه ووصله بما بعدَه خطأ، بل يوقف عليه وقفةً لطيفةً، ثم يؤتى بما بعده، قاله الفاكهاني.

وحكى ابن الجوزي عن ابن الخشاب الجزمَ بتنوينه؛ لأنه معربٌ غير مضافٍ (2).

وفيه: بأنه مضاف تقديرًا، والمضاف إليه محذوفٌ لفظًا. والتقدير: ثم أيُّ العمل أحبُّ؟ فيوقف عليه بلا تنوينٍ.

وقد نص سيبويه على أنها تبنى إذا أُضيفت؛ أي: وحُذف صدرُ صلتها (3).

واستشكله الزجَّاجُ، فقال: ما تبين لي أن سيبويهِ غلط إلا في موضعين؛

(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 9 - 10).

(2)

انظر: "مشكل الصحيحين" لابن الجوزي (1/ 292).

(3)

انظر: "الكتاب" لسيبويه (1/ 399).

ص: 543

هذا أحدهما، فإنه يسلم أنها تعرب إذا أفردت، فكيف يقول ببنائها إذا أضيفت؟!.

وقد أجيب عنه: بما هو مذكورٌ في محالِّهِ (1).

(قال) صلى الله عليه وسلم: (بِرُّ الوالدين). وفي رواية: بزيادة: ثم (2).

قال بعضهم: هذا الحديث موافقٌ لقوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]، وكأنه أخذه من تفسير ابن عُينية حيث قال: من صلَّى الصلواتِ الخمس، فقد شكر الله، ومن دعا لوالديه عقبَها، فقد شكر لهما (3).

وقدم في هذا الحديث بر الوالدين على الجهاد، وهو دليلٌ على تعظيمه، ولا شك في أن أذى الوالدين في غير ما يجبُ ممنوعٌ منه، وأما ما يجب من البر في غير هذا، ففي ضبطه إشكالٌ كبيرٌ، قاله ابن دقيق العيد (4).

وقال ابن التين: تقديمُ البر على الجهاد يحتمل وجهين:

أحدهما: التعدية إلى نفع الغير.

والثاني: أن الذي يفعله يرى أنه مكافأةٌ على فعلهما، فكأنه يرى أن غيره أفضلُ منه، فنبهه على إثبات الفضيلة فيه.

قال الحافظ ابن حجر: والأول ليس لواضحٍ، ويحتمل أنه قُدِّم لتوقف الجهاد عليه؛ إذ من بر الوالدين استئذانُهما في الجهاد؛ لثبوت النهي عن

(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 10).

(2)

وهي رواية لهما، برقم (504. 5625) عند البخاري، و (85)، (1/ 90) عند مسلم.

(3)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 10).

(4)

انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 132).

ص: 544

الحهاد بغير إذنهما (1)، وقوله صلى الله عليه وسلم:"ففيهما فجاهِدْ"(2).

وفي "مسند الإمام أحمد"، من حديث أبي سعيد رضي الله عنه: هاجر وجلٌ، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"هل باليمنِ أبواك؟ "، قال: نعم، قال:"أَذِنا لك؟ "، قال: لا، قال:"ارجعْ فاستأذِنْهما، فإن أذنا لك، وإلا فبرَّهما"(3).

ولا ريب أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، والله أعلم.

(قلت: تْم أي؟)؛ أي: أيُّ العمل بعدَ برِّ الوالدين أحبُّ إلى الله تعالى؟ (قال: الجهاد في سبيل الله).

ولا شك أن مرتبة الجهاد في الدين عظيمة، والقياس يقتضي أنه أفضل من سائر الأعمال التي هي وسائل؛ فإن العبادات على قسمين؛ منها ما هو مقصود لنفسه، ومنها ما هو وسيلةٌ إلى غيره، وفضيلةُ الوسيلة لحسب فضيلة المتوسَّل إليه، فحيث تعظُمُ فضيلة المتوسَّل إليه، تعظُمُ فضيلة الوسيلة، ولما كان الجهاد في سبيل الله وسيلةً إلى إعلانِ الدين ونشره، وإخمالِ الكفر ودَحْضِه، كانت فضيلةُ الجهاد بحسب فضيلة ذلك (4).

ولهذا كان المعتمَدُ عند علمائنا: أنه أفضل تطوُّعات البدن، أطلقَه

(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 401).

(2)

رواه البخاري (2842)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الجهاد بإذن الأبوين، ومسلم (2549)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: بر الوالدين وأنهما أحق به، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

(3)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(3/ 75)، وأبو داود (2530)، كتاب: الجهاد، باب: في الرجل يغزو وأبواه كارهان، وابن حبان في "صحيحه"(422)، وغيرهما.

(4)

انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (1/ 132 - 133).

ص: 545

الإمامُ والأصحاب، كما في "الفروع"، فالنفقةُ فيه أفضلُ.

ونقل جماعةٌ: الصدقةُ على قريبه المحتاج أفضلُ، مع عدم الحاجة إليه، ذكره الخلال وغيره (1). ويأتي الكلام عليه في بابه -إن شاء الله تعالى-.

(قال) ابن مسعودٍ رضي الله عنه: (حدثني بهن)؛ أي: الخصالِ المذكورةِ ([رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم]).

وفيه: تقريرٌ وتأكيدٌ لما تقدم، وأنه باشر السؤال وسمع الجواب.

(ولو استزدتُه) صلى الله عليه وسلم، (لزادني)؛ من هذا النوع، وهي مراتب أفضل الأعمال، أو من مطلق المسائل المحتاج إليها.

زاد الترمذي، من طريق المسعودي، عن الوليد:. فسكت عني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولو استزدتُه لزادني (2)؛ فكأنه استشعر منه مشقةً. ويؤيده ما في روايةٍ لمسلم: فما تركت أستزيده إلا [إ] رعاء عليه (3)؛ أي: مشقةً عليه؛ لئلا يسأم (4).

وفي الحديث: تعظيم بر الوالدين، وأن أعمال البر يفضل بعضُها على بعضٍ.

وفيه: السؤال عن مسائلَ شتى في وقتٍ واحدٍ، والرفقُ بالعالم، والتوقُّفُ عن الإكثار عليه خشيةَ ملاله، وما كان عليه الصحابةُ من تعظيمِ النبي صلى الله عليه وسلم، والشفقةِ عليه صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك، والله أعلم (5).

(1) انظر: "الفروع" لابن مفلح (1/ 464).

(2)

تقدم تخريجه في حديث الباب برقم (1898) عنده.

(3)

تقدم تخريجه في حديث الباب.

(4)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (2/ 236).

(5)

انظر: "فتح الباري" لابن حجر (2/ 10).

ص: 546