المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر سبب دخول المأمون على بوران - كنز الدرر وجامع الغرر - جـ ٩

[ابن الدواداري]

فهرس الكتاب

- ‌ذكر الوقعة التى كانت بين التتارودخول سلامش الديار المصريّة

- ‌ذكر [حوادث] سنة تسع وتسعين وستّ ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌ذكر وقعة نوبة غازان بوادى الخزندار

- ‌ذكر ما جرى لدمشق من الأحوال الناكدة

- ‌ذكر رجوع غازان إلى الشرق

- ‌ذكر عودة جيوش الإسلامبالنصر إلى بلاد الشام

- ‌ذكر [حوادث] سنة سبع ماية هجريّة

- ‌ولنذكر الآن ما يخصّ حوادث الزمان:

- ‌ذكر عودة غازان خايب الآمال

- ‌ذكر لباس النصارى واليهود الأزرق والأصفر

- ‌ذكر ما جرى فى هذه السنة بين ملوك الهند

- ‌ذكر [حوادث] سنة إحدى وسبع ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌ذكر ما جرى للمجيرى عند حضورهبين يدى غازان

- ‌ذكر [حوادث] سنة اثنتين وسبع ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌ذكر نصرة الإسلام على التتار الليام

- ‌ذكر حدوث الزلزلة فى هذه السنة

- ‌ذكر ما جاء من القول فى حدوث الزلزلة

- ‌ومن كتاب عجايب المخلوقات وبدايع الموجودات

- ‌ذكر [حوادث] سنة ثلاث وسبع ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌ذكر دخول العساكر الإسلاميّة سيس

- ‌ذكر وفاة غازان وتملك خدابنداه

- ‌ذكر [حوادث] سنة أربع وسبع ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌[نسخة مكتوب السلطان الناصر إلى غازان خان بعد معركة شقحب]

- ‌تتمّة كلام المجيرىّ للوالد رحمهما الله تعالى جميعا

- ‌ذكر [حوادث] سنة خمس وسبع ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌ذكر ما كان بين عسكر حلب وأهل سيس

- ‌ذكر واقعة الشيخ تقىّ الدين بن التيميّة رحمه الله

- ‌ذكر ما جرى للشيخ تقىّ الدين بمصر المحروسة

- ‌ذكر السبب الموجب لهذه الفتن المذكورة

- ‌ذكر [حوادث] سنة ستّ وسبع ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة سبع وسبع ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌ذكر ما كان بين التتار وبين أهل كيلان

- ‌ذكر [حوادث] سنة ثمان وسبع ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌ذكر تغلّب بيبرس الجاشنكير على الممالكحتى عاد بسوء تدبيره هالك

- ‌ذكر [حوادث] سنة تسع وسبع ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌أشاير البشاير

- ‌ذكر عودة الركاب الشريف السلطانىّ المالكىّالناصرىّ إلى محلّ ملكه بالديار المصريّة وهى المملكة الثالثة

- ‌ذكر دخول مولانا السلطان عزّ نصره دمشق المحروسة

- ‌ذكر توجّه الركاب الشريف إلى الديار المصريّة

- ‌ذكر سبب توجّه القاضى علاء الدينابن الأثير فى ركاب مولانا السلطان إلى الكرك

- ‌ذكر نزول بيبرس عن الملك وهروبه

- ‌ذكر ما اتّصل بنا من مدايح التهانى البديعات الألفاظ والمعانى

- ‌ذكر القبض على بيبرس من الطريقوعودته إلى الأبواب العالية

- ‌ذكر [حوادث] سنة عشر وسبع ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة إحدى عشرة وسبع ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌ذكر سبب مسك بكتمر الجوكندار وكراىوبقيّة النوّاب

- ‌ذكر سبب تقفيز قراسنقر وآقوش الأفرمومن معهما ووصولهم إلى التتار

- ‌ذكر تعدية قراسنقر إلى التتار

- ‌ذكر [حوادث] سنة اثنتى عشرة وسبع ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌ذكر توجّه الركاب الشريف عزّ نصرهإلى الشأم المحروس بنيّة الغزاة

- ‌ذكر سبب مأتى التتار إلى الرحبة والسببفى عودتهم خايبين

- ‌ذكر [حوادث] سنة ثلاث عشرة وسبع ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌ذكر ما كان من أمر قراسنقر بالبلادوالواقعة بين خدابنداه وطقطاى فى هذه السنة

- ‌ذكر الواقعة التى كانت بين الملكين خدابنداه وطقطاى

- ‌ذكر ما جرى لعسكر طقطاى لمّا عادوا هاربين

- ‌ذكر [حوادث] سنة أربع عشرة وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر أخذ ملطية وصفتها

- ‌ذكر الروك المبارك الناصرىّ

- ‌ذكر [حوادث] سنة خمس عشرة وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة ستّ عشرة وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة سبع عشرة وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة ثمان عشرة وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة تسع عشرة وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة عشرين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر تملّك الملك عماد الدين حماة وركوبه

- ‌ذكر [حوادث] سنة إحدى وعشرين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة اثنتين وعشرين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة ثلاث وعشرين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة أربع وعشرين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة خمس وعشرين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة ستّ وعشرين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة سبع وعشرين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر سبب دخول المأمون على بوران

- ‌ذكر [حوادث] سنة ثمان وعشرين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة تسع وعشرين وسبع ماية

- ‌[ما لخص من الحوادث]

- ‌ذكر [حوادث] سنة ثلاثين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة إحدى وثلاثين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة اثنتين وثلاثين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة ثلاث وثلاثين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة أربع وثلاثين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة خمس وثلاثين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر ما تجدّد فى هذه السنة المباركة

- ‌ذكر عدّة ما استجدّ من الجوامع المعمورة بذكر الله تعالىفى أيّام مولانا السلطان

- ‌[ذكر أنكاد الزمان:]

- ‌[أنكاد] القرن الأوّل

- ‌[أنكاد] القرن الثانى

- ‌[أنكاد] القرن الثالث

- ‌[أنكاد] القرن الرابع

- ‌[أنكاد] القرن الخامس

- ‌[أنكاد] القرن السادس

- ‌ذكر الجوامع المباركةالتى انتشت فى دولة مولانا السلطان عزّ نصره

- ‌ذكر المستجدّ أيضا من الجوامع المباركةبالممالك الشاميّة

- ‌والمستجدّ أيضا بدمشق المحروسة

- ‌والمستجد أيضا بطرابلس

- ‌ذكر تتمّة الحوادث

- ‌ذكر سبب دخول سيس

- ‌ذكر عمارة قلعة جعبر فى هذا الوقت

- ‌[خاتمة الكتاب]

- ‌استدراك

الفصل: ‌ذكر سبب دخول المأمون على بوران

المرحوم السيفىّ بكتمر الساقى. وذبح فى هذا المهمّ من الأغنام والأبقار والخيول ما لا يحصى كثرة، وعمل من التماثيل النفط شى يذهل العقول، وحمل من الشموع بالقناطير المقنطرة، وحمل قبل ذلك جهاز العروس.

وفيه من الأموال والمصاغ والأقمشة والأمتعة ما يجاوز حدّ القياس ولا يحصى بالتعبير. ووقف مولانا السلطان بنفسه الشريفة فى تعبية هذا الجهاز وفعل من المعروف، ما هو من جميل إحسانه معروف. وكان ذلك ليلة الجمعة ثالث عشر ذى الحجّة

‌ذكر سبب دخول المأمون على بوران

(8)

قال ابن عبد ربّه صاحب «كتاب العقد» : كان سبب صلة المأمون بن الرشيد رضى الله عنهما على بوران بنت الحسن بن سهل أنّ المأمون كان مغرا بحبّ الحسان من النسا. وكان إسحق بن إبراهيم الموصلىّ من أعزّ الخصيصين بالمأمون

قال أحمد بن محمد بن عبد ربّه: اغتبق المأمون ذات ليلة وعنده إسحق بن إبراهيم (14) المذكور. فلمّا جنّه الليل قال: يا إسحق، لا تبرح حتى أدخل إلى بعض جوارىّ وأعود إليك. فإنّ قصدى أن أواصل غبوقى بالاصطباح. فلا تبرح من مكانك. -ثمّ نهض (16) المأمون ودخل قصوره

قال إسحق: ففكّرت أنّ أمير المؤمنين بعد أن جاز إلى خلوته بعيد عليه الرجعة. وكان عندى جارية قد استجددتها عذراء وأنا مغرا بحبّها.

(8) هذه الحكاية والأشعار التى تخللتها غير موجودة فى كتاب العقد الفريد الذى نشرته لجنة التأليف والترجمة والنشر

(14)

إبراهيم: ابرهيم

(16)

نهض: نهط

ص: 323

فقلت: أنهض إلى منزلى وأقضى هذه الليلة وطرى، وأعاود أمير المؤمنين الصبح. -قال: فخرجت وطلبت دوابّى، فلم أجدهم لما خرج إليهم الخبر ببياتى عند أمير المؤمنين، قال: فقلت: أتمشّى فى بطاين بغداد، وأتنزّه فى طريقى بما أستطرفه من حديث العامّة، ممّا أصبح أحدّثه لأمير المؤمنين.

قال: فمشيت وأنا ثمل من الشراب. فبينا أنا فى بعض الأزقّة إذ عثرت فى زنبيل مدلّى من حايط مفروش وله عطريّة حسنة، وهو مشدود بأربعة حبال. قال: فحملنى الشراب أن جلست فيه. فما هو إلاّ (7) أن حسّ بثقلى فيه، وإذا به قد رفع. وطلعت إلى سطح حسن. فنظرت إلى عدّة جوار حسان. فقلن لى: معرفة أنت أم غير معرفة؟ -فقلت: بل غير معرفة. -فسررن بذلك وقلن: بسم الله، ونزلن قدّامى بشمعة كافوريّة فى سلّم. فنزلت إلى قاعة، لم أرا مثلها إلاّ (11) فى قصور المأمون. وفيها من الفرش والطرح ما يحيّر الناظر. فقالت لى تلك الجوارى: بسم الله، يا مولانا، اجلس! -قال: فجلست غير بعيد، وإذا بجارية قد خرجت من بعض تلك الأبواب، وبين يديها شمعة كافوريّة، وضوء جبينها يغلب على ضوء تلك الشمعة تحيّر الوصف فى بعض معانيها. قال: فلمّا نظرت إليها نهضت قايما. وقد داخلنى الزمع لحسن صورتها. فسلّمت بلسان فصيح وكلام عذب كالسحر. وجلست وجلست، فقالت: على الرحب والسعة، من تكون من الناس؟ -فقلت: من بعض تجّار بغداد. -فقالت: الاسم؟ فقلت: محمد. -فقالت: قرّب الله محلّك. -ثمّ أمرت بالأطعمة (19).

فأحضرت موايد لم أرهنّ إلاّ إن كنّ عند أمير المؤمنين. وعليهم من الطعام مثل ذلك. فقالت: بسم الله، أبا عبد الله، بحسب الممالحة! -قال:

(7) إلا: الى

(11)

إلا: الى

(19)

بالأطعمة: بالاطمعه

ص: 324

فتقدّمت وأكلت، وهى تلقمنى من أطايب تلك الأطعمة، وأنا قد ذهلت، لما قد جمع الله فيها من ساير الفنون الحسان. ثم رفعت الموايد، فقالت:

هل لك (3)، أبا عبد الله، فيما نكسر به زفر هذا الطعام؟ -فقلت: جعلت فداك، أى والله! -قال: فأحضرت أوانى المشروب، لم أرا مثلهنّ إلاّ عند المأمون. ثمّ شربت وأسقتنى. ثم قالت: أبا عبد الله، هل لك أن تسمع على هذا الشراب شيئا (6) من تلحين إسحق بن إبراهيم الموصلىّ؟ - فقلت: يا ستّ، ومن لى بذا؟ -قال: فأحضرت عودا (7) من عود يستغرق الوصف فى نعته. ثم أصلحته وضمّته ولعبت به استبداآت تحيّر العقول. قال إسحق: فخيّل لى أنّى فى الجنّة، وكدت أصيح طربا. ثمّ مسكت نفسى وكان بين يدينا فى جملة الحضرة زعفران رطب. فاستفتحت تنشد وتقول <من البسيط>:

اشرب على الزعفران الرطب متّكئا

وانعم نعمت بطول اللهو والطرب

فحرمة الكأس بين الناس واجبة

كحرمة الودّ والأرحام والنسب

قال إسحق: فخيّل لى والله أنّ المكان يرقص بجوانبه. ثمّ أمسكت وقالت: أبا عبد الله، هذا الشعر لأحمد بن هاشم، وقد أهدى زعفرانا لإسحق، حيّا الله إسحق! -فقلت: يا ستّ، فما كان من جواب إسحق إليه؟ - فقالت: وما كان قال؟ -فأنشدتها <من البسيط>:

اذكر أبا جعفر حقّا أمتّ به

إنّى وإيّاك مشغوفان بالأدب

وإنّنا قد رضعنا الكأس درّتها

والكأس حرمتها أولى من النسب

(3) هل لك: هلك

(6)

شيئا: شى

(7)

عودا: عود

ص: 325

قال إسحق: فأعجبها منّى ذلك وقالت: أبا عبد الله، هل لك أن تسمعنا على هذا العود شيئا (2)؟ فإنّى أراك كاملا. -فقلت: يا ستّ، <من البسيط>:

وا حسرتاه على ما كنت أحسنه

فقالت: لم يكمل شى أبدا. -ثمّ قالت: هل لك (5) فى ثلاثة أقداح متداركة تزيل الحشمة ما بيننا؟ -فقلت: حبّذا والله! -قال:

فشربت ثلاثة. ثمّ ملأت (7) الرابع وناولتنى. قال: فتناولته من يدها بعد ما قبّلتها. ثمّ ضمّت العود إلى صدرها وغنّت <من الخفيف>:

نعم عونا على الهموم ثلاث

مترعات <من> بعدهنّ ثلاث

بعدها أربع تتمّة عشر

لا بطاء لكنّهنّ حثاث

فإذا ناولتكهنّ جوار

عطرات بيض الوجوه خناث

تمّ فيها لك السرور وما طيّ

ب عيشا إلاّ الخناث الإناث

قال إسحق: فلم أملك نفسى دون أن غمى علىّ، وغبت عن الدنيا واستصغرت والله كلّ ما رأيت من عمرى كلّه. قال: ثمّ أمسكت.

وشرعنا فى المنادمة والحديث. وشرعت أحدّثها وأطرفها. وقد أعجبها حديثى، وقالت: أبا عبد الله، قليل يكون (16) مثلك فى عامّة بغداد.

وإنّما هذه الأحاديث تنقل لنا عن لطافة إسحق عند أمير المؤمنين. - فقلت: جعلت فداك، لى جار يحضر مجلس إسحق، وهو نديم لى.

فاقتبست منه. -فقالت: هو ذاك. -فبينا نحن فى ألذّ (19) عيش وأهناه،

(2) شيئا: شى

(5)

هل لك: هلك

(7)

ملأت: ملت

(16)

يكون: يكن

(19)

ألذ: اللد

ص: 326

وإذا بعجوز قد تمثّلت بين يديها وقالت: يا ستّاه، بلغ الوقت. -قال:

فنهضت. وقالت: أستودعك الله، أبا عبد الله، والمسئول من إحسانك عدم المعاودة، فما لنا عادة أن يعود إلينا <أحد> ثانيا قطّ. -قال:

فقبّلت يدها، وأنزلونى من مكان طلعت منه. وأتيت إلى منزلى وأنا كالنايم الذى رأى جميع ذلك فى الأحلام. قال: فما هجعت إلاّ قليلا (5).

وإذا برسل أمير المؤمنين ينبّهونى وقالوا: أجب، أبا محمد! -فأتيت إلى المأمون، فقال: يا إسحق، ما كان قولى لك؟ -فقلت: أحسن الله إلى أمير المؤمنين، لقد علمت أن أمير المؤمنين إذا صار فى قصوره استغرق فى لذّة وسنة، فلا يعود. وكان عندى جارية عذراء وأنا مشغوف بها. فتوجّهت حتى قضيت الملامة. -فقال: أوبقى لك عذر آخر؟ -فقلت: كلاّ، يا أمير المؤمنين. -فقال: أقم اليوم والليلة، فإنّى على عزم الصبوح. -فقلت:

حبّا وكرامة. -قال: فلمّا كان الوقت الذى يقوم فيه المأمون ويدخل إلى قصوره نهض وقال: إسحق، لا تبرح! -فقلت: حبّا وكرامة.

يا أمير المؤمنين. -قال: فما هو إلاّ أن توارى عنّى. -فتذكّرت بارحتى وما كنت فيها. قال: فحملنى ذلك على المخالفة وخرجت

فلم أزل إلى أن وقعت على الزنبيل، فجلست ورفعت. فقلن لى الجوارى: ما أنت صاحبنا البارح؟ -قلت: جعلت فداكم، أنا هو، وهذه الليلة لا غيرها. وكنّ الجوارى قد استملحننى فنزلن بى. -فلمّا حضرت الجارية قالت: أبا عبد الله، مخالفة واستجراء؟ -فقلت: كلاّ والله! وإنّما رقّ وعبوديّة، ولست بعايد بعدها أبدا. -قال: فجلست

(5) قليلا: قليل

ص: 327

وجلست، وأحضرت الموايد على الرسم والعادة. ثمّ أحضر الشراب فشربنا. ثمّ تناولت العود وقالت: اسمع تلحين إسحق، حيّا الله إسحق، والشعر لأبى الشيص! -ثمّ أنشدت تقول <من الطويل>:

تقول غداة البين إحدى نسابهم

لى الكبد الحرا و <أنت> لك الصبر

وقد خنقتها عبرة فدموعها

على خدّها بيض وفى نحرها صفر

قال: فحصل لى من الطرب ما لا عليه مزيد، مع كثرة تعجّبى لحسن علمها بألحانى وصناعتى، حتى لم تخلّ بدقّة واحدة. فقلت:

يا ستّاه، لقد سمعت جارى يحكى عن إسحق أنّ من جملة تلحينه أبياتا حسانا (9)، وله فيها صناعة جيّدة. -فقالت: أتحفظها؟ أنشدها! -فأنشدتها <من الطويل>:

قفى ودّعينا، يا مليح، بنظرة

فقد حان منّا، يا مليح، رحيل

أليس قليلا نظرة إن نظرتها

إليك وكلاّ ليس منك قليل (12)

عقيليّة أمّا ملاث (13)

إزارها

فدعصص وأمّا خصرها فنحيل

فيا جنّة الدنيا ويا غاية المنى

ويا سؤل نفسى، هل إليك سبيل

أراجعة نفسى إليك فأغتدى

مع الركب لم يكتب علىّ فتيل

فما كلّ يوم لى بأرضك حاجة

ولا كلّ يوم لى إليك رسول (16)

فقالت: شعر حسن لو سلم من التعريض فيه بما منال الثريّا دونه، ولكن اسمع شعر بنت الأعرابية تلحين إبراهيم أبى (18) إسحق، حيّا الله إسحق! - وأنشدت <من الطويل>:

(9) أبياتا حسانا: ابيات حسان

(12)

انظر شرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص 1340

(13)

ملاث: ملأت، انظر شرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص 1341

(16)

انظر شرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص 1342

(18)

أبى: ابو

ص: 328

تقول لأتراب لها وهى تمترى

دموعا على الخدّين من شدّة الوجد

أكلّ فتاة لا محالة نازل

بها مثل ما بى أم بليت به وحدى

بدالى بها حبّ ينشّب فى الحشا

فلم يبق فى جسمى سوى العظم والجلد

وجدت الهوى حلوا لذيذا بدوّه (4)

وآخره مرّ لصاحبه يردى

قال: فو الله لقد خيّل إلىّ أنّ المكان والحيطان ترقص رقصا، وغبت عن وجودى. فبينا نحن كذلك إذ هجمت العجوز فقالت: يا ستّاه، قرب الوقت. -فنهضت وقالت: مصحوبا بالسلامة واحذر المعاودة. - فقلت: يا ستّ، عن إذنك، أبدى كلاما. -فقالت: ما هو؟ -فقلت:

إنّ جارى الذى حدّثتك حديثه أخبر خلق الله تعالى بشعر اسحق وتلحينه وحكاياته ونوادره. فإن أذنت استصحبته ليلة غد، فترى عجبا. ثمّ إنّنا لا نعود أبدا. -فقالت: لقد شوّقتنى إلى صاحبك. فقد أذنت لك فى حضوره

ثمّ إنى نزلت من حيث طلعت، وأنا أشدّ الناس فرحا بإجابتها. فإنّنى تحقّقت أنّ المأمون سيكون لى معه شأن من الشأن ما لم أصدقه الحديث.

فإذا صدقته طالبنى بالمشاهدة لذلك. وقلت: ما ينجينى منه غير حضوره معى، وقد أتقنت أمره

قال إسحق: فلم أغمض فى منزلى إلاّ ورسل أمير المؤمنين قد أخذونى سحبا كغير ما كنت أعهد. فدخلت عليه، فإذا هو جالس جلسة الغضب، ومسرور قايم بين يديه. فلما رآنى قال: إسحق، هذا آخر أيامك من الدنيا وأول أيامك بالآخرة. -قال، فقوّيت نفسى وقلت: بل وحياة أمير المؤمنين، أوّل أيامى من الدنيا مع الإقبال علىّ من أمير المؤمنين وحسن

(4) بدوه: بديه

ص: 329

الجايزة العظيمة القدر، ورضى أمير المؤمنين على عبده. -فقال: أو على المعصية والمخالفة يكون الرضى والإقبال وحسن الجايزة؟ -فقلت: بل على صدقى فى حديثى، وفيه لمولانا أمير المؤمنين أوفر حظّ من اللذاذة (3). - فقال: خلوا عن أبى محمد! وخلا بى. -فحدّثته الحديث من أوّله إلى آخره إلى حين قولها لى «احذر المعاودة» فقال: ويلك يا إسحق، ولا عدت تقدر على الرجوع والعودة وأنا معك؟ -فقلت: بلى والله، يا أمير المؤمنين! -ثمّ كمّلت حديثى وإتقانى الأمر معها فى حضور صاحبى وجارى معى إليها. فقال: الويل لك، لو لم يكن هذا منتهى كلامك! فاجلس بنا بياض هذا اليوم، نشرب على لذّة هذا الحديث. -قال:

ثمّ لم نزل كذلك وهو يقول: كرّر علىّ الحديث يا إسحق إلى الليل! - فعاد كلّما مرّ من الليل دقيقة طالبنى بالتوجّه وأنا أنظره إلى حيث ما علمت جواز الوقت

فقمت وقام معى وهو لا يكاد يصدّق. فلم نزل نمشى إلى ذلك المكان.

وإذا زنبيلين مدلاّة. فجلست فى الواحد وجلس المأمون فى الآخر، ورفع بنا.

ثمّ نزلنا وجلسنا وجلست أنا فوقه وقلت: دع نفس الخلافة فى هذا الوقت! - فما استقرّ بنا الجلوس حتى خرجت كالطاووس الذكر بين أترابها وجواريها. فنهضنا لها، فقالت: مرحبا بضيفنا الجديد! وإنّما أنت عدت صاحب محلّ. -فشكرنا لها ودعينا. وأمّا المأمون فإنّه لما رآها اختبل فى عقله فلكزته، ففهم منّى فاستحضر جأشه. ثمّ جلسنا فقالت: أبا عبد الله! - فقلت: نعم. -فقالت: ما أنصفت صاحبك كونك أجلسته دون مجلسك. فهذا ضيف بخلافك. -فقمت وأجلسته فوقى. ثمّ أحضرت

(3) اللذاذة: الذاده

ص: 330

الموايد كأحسن من أوليك الأول. ثمّ أحضر الشراب فشربنا. ثمّ تنادمنا وكان المأمون أحسن خلق الله منادمة، وأرواهم لشعر وأحفظهم (2) لنادرة وحكاية. ثمّ قالت للمأمون: يا با محمد، هل تروى لإبراهيم الموصلىّ ما كان بينه وبين إبليس؟ -فقال: نعم، حدّثنا إبراهيم بن ماهان بن بهمن بن نسك، ثمّ غير ماهان، فقيل: إبراهيم بن ميمون الفارسىّ الأصل والنسب أبو (6) إسحاق قال: بينا يوم وقد أردت الخلوة بنفسى وأوصيت بوّابى لا يأذن لأحد علىّ، وخليت بنفسى لأمر أهمّنى إذ دخل علىّ شيخ ألحى (8) أعور العين اليمنى، حسن البزّة طيّب الرايحة. فسلّم وجلس من غير أن آذنه. ثمّ حادثنى، فأجده أحذق الناس بحديث وأرواهم لشعر وأحفظهم لنادرة. قال: فسرّى عنّى بعض ما كنت قد أضمرته لبوّابى، كونه أذن لهذا من غير مشورتى ولا لسابقة معرفة. وقلت: إن البوّاب أراد يسرّنى بمحاضرة هذا الشيخ، لما علم ما فيه من طيب العشرة. -قال:

ثمّ قال لى ذلك الشيخ: يا إبراهيم، لعلّك تسمعنا شيئا (13) من مطرباتك. - قال: فتراجع إلىّ غضبى كونه أسا الأدب علىّ من وجهين، الواحدة تسميته لى بغير كنية، والأخرى استجراه علىّ ويأمرنى بأن أغنّيه. -قال: ثمّ تذكّرت حسن محاضرته وطيب مؤانسته ورجعت إلى مواساة العشرة.

فقلت: سمعا وطاعة. -ثمّ تناولت العود وضربت، أصنع ما كنت قد أحدثته من الاستبداآت وغنّيت <من الطويل>:

وإنى لتعرونى لذكراك قرّة (19)

كما انتفض العصفور بلّله القطر

فيا حبّها زدنى جوى كلّ ليلة

ويا سلوة الأيّام موعدك الحشر

هجرتك حتى قيل ما يعرف الهوى

وزرتك حتى قيل ليس له صبر

(2) وأحفظهم: واحفضهم

(6)

أبو: ابى--بينا: بيننا

(8)

ألحى: اللحى

(13)

شيئا: شى

(19)

قرة: بالهامش «نسخة: هزة»

ص: 331

قال: فطرب ذلك الشيخ طربا جيّدا وقال: أحسنت والله، يا إبراهيم. -قال: فو الله لقد داخلنى من الحنق أن أضرب العود فى رأسه. ثمّ استرجعت، فقال: زدنى، يا إبراهيم (3)! -قال: فقلت فى نفسى: اصبر على هذا الشيخ الجاهل فى هذا اليوم واجعلها أحنفيّة! قال: ثمّ غيّرت الطريقة التى كنت عليها وضربت استبداء مقترحا (5) وغنّيت <من الكامل>:

الحبّ أوّل ما يكون مجانة (7)

تأتى به وتسوقه الأقدار

حتى إذا سلك الفتى لجج الهوى

جاءت أمور لا تطاق كبار

نزف البكاء دموع عينك فاستعر

عينا لغيرك دمعها مدرار

من ذا يعيرك عينه تبكى بها

أرأيت عينا للبكاء تعار

قال: فتمايل الشيخ طربا ونعر ارتياحا وقال: أحسنت والله، يا با إسحق. - قال: فقلت: رجع الشيخ عن إساءته. -ثمّ قال: لعلّ إحسانك فى الازدياد. -قال: فقلت: حبّا وكرامة. -ثمّ غيّرت الطريقة وانتقلت إلى غيرها وغنّيت <من البسيط>:

يا مورى الزّند قد أعيت قوادحه

اقبس إذا شئت من قلبى بمقباس

ما أقبح الناس فى عينى وأسمجهم

إذا نظرت فلم أبصرك فى الناس

قال: فقال: مليح والله. فهل لا أكافئك على إحسانك؟ -قال: فقلت فى نفسى: وما عسى أن يكون فى قدرة هذا الشيخ الأحمق لى فى المكافأة؟ - قال: فقلت: بلى والله، يا عمّ. -قال: فتناول العود وسارّه شيئا (19)

(3) إبراهيم: ابرهيم

(5)

مقترحا: مقترح

(7)

مجانة: بالهامش «نسخة: لجاجة»

(19)

شيئا: شى

ص: 332

لا سمعت مثله قطّ. فلمّا اعتدل ضرب به طرايق غريبة، حتى خيّل لى أنّ الأركان ستقع علينا طربا. ثمّ أنشد يقول <من الطويل>:

ولى كبد مقروحة من يبيعنى

بها كبدا (3) ليست بذات قروح

أباها علىّ الناس ما يشترونها

ومن يشترى ذا قرحة (4) بصحيح

أئنّ (5)

من الشوق الذى فى جوانحى

أنين غصيص بالشراب جريح

قال: فو الله لقد خيّل لى أنّى طاير بين السما والأرض لما لحقنى من الطرب. -ثمّ قال: أزيدك؟ -فقلت: زادك الله من كلّ خير. - قال: فتبسّم وقال: ليس لدعاك إجابة. -قال: فتعجّبت من كلامه أكثر من إعجابى بغناه. ثمّ غيّر تلك الطريقة وانتقل إلى غيرها، فكانت أعجب وأغرب من الأولى. ثمّ غنّى <من الطويل>:

ألا يا حمامات اللّوى عدن عودة

فإنّى إلى أصواتكنّ حنين

فعدن فلمّا عدن كدن يمتننى

وكدت بأسرارهنّ أبين (12)

دعوت بترداد الهديل كأنّما

شربن سلافا أو بهنّ جنون

فلم ترا عينى مثلهنّ حمايما

بكين ولم تدمع لهنّ عيون

قال: فلم أملك نفسى دون صرخت ومزّقت أثوابى. -قال:

ونظرت إلى الشيخ، فإذا به يتبسّم. ثمّ أمسك وقال: أزيدك الثالث؟ -فقلت: بلى، يا عمّ، فلم أرا والله مثلك منذ خلقت. - فقال: صدقت، ومن لك بذلك؟ -قال: فتعجّبت أيضا من جوابه.

(3) كبدا: كبد

(4)

قرحة: بالهامش «نسخة: عرة»

(5)

أئن: آان

(12)

المصراع الثانى مضطرب

ص: 333

ثمّ انتقل عن تلك الطريقة إلى أغرب من الاثنتين، وضرب ضربا ما سمعت مثله قطّ، ثمّ غنّى <من الطويل>:

ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد

فقد زادنى مسراك وجدا على وجد

أإن هتفت ورقاء فى رونق الضحى

على فنن (4) غضّ النبات من الرّند

بكيت كما يبكى الوليد صبابة

وذبت من الحزن المبرّح والجهد

وقد زعموا أن المحبّ إذا دنا

يملّ وأنّ النأى يشفى من الوجد

بكلّ تداوينا فلم يشف ما بنا

على أنّ قرب الدار خير من البعد

قال: فصرخت صرخة أعظم من الأولى وغمى علىّ من شدّة الطرب، ففتحت عينى فلم أنظر أحدا (9)، وأجد جوارىّ حولى فقلت: ويلكنّ، الشيخ. -فقلن: أىّ الشيوخ؟ ما رأينا أحدا (10). وإنّما سمعنا عندك اليوم ما لم نسمعه قطّ، ودخلنا عليك لمّا سمعنا صرختك. فلم نجد عندك أحدا (11). - فقلت: علىّ بالبوّاب! -فأدخل علىّ. فقلت: ويلك، الشيخ الذى أدخلته علىّ ما فعل؟ -فقال: والله لم يدخل عليك اليوم من أحد. -قال:

فتحيّرت فى أمرى، وإذا أنا بقايل يقول، ولم أنظر له شخصا (14): يا لكاع، إنّ نديمك منذ اليوم الشيخ أبو (15) مرّة فلا ترتاع. -فقلت: بالله ألا ما ألقيت علىّ الأصوات. -فقال: قد ألقيتهم فى محفوظك (16) حتى عادوا أرسخ من الحجر. -قال: فأخذت العود وضربت. فإذا أنا صايب فى جميع الأصوات الثلاثة

(4) فنن: غصن

(9)

أحدا: احد

(10)

أحدا: أحد

(11)

أحدا: احد

(14)

شخصا: شخص

(15)

أبو: ابا

(16)

محفوظك: محفوضك

ص: 334

قال إسحق: فلمّا سمعت الجارية ذلك من المأمون ابتهجت سرورا به وقالت لى: والله، يا با عبد الله، ما ذكرت عن صاحبك هذا قيراطا (2) ممّا احتوى عليه من المجموع الحسن. -قال: فلمّا رأى المأمون إعجابها به قال: إنّ صاحبى ذكر لى من إحسانك فيما تحكينه عن إسحق بن إبراهيم من ضربه وتلحينه. وقد أحببت سماعه، فليس العيان كالخبر. -فقالت:

حبّا وكرامة. -ثمّ أمرت بالعود، فأحضر وضمّته إليها وضربت ضربا جيّدا من اقتراحاتى وقالت: هذا من مقترح إسحق، حيّا الله إسحق! - ثمّ غنّت <من الطويل>:

تشرّب قلبى حبّها ومشى به

تمشّى حميّا الكأس فى كفّ شارب

ودبّ هواها فى عظامى فشفّها

كما دبّ فى الملسوع سمّ العقارب (10)

قال: فأتت والله بالسحر المبين ونظرت إلى المأمون وقد احمرّت عيناه. قال: فغمزته. ثمّ وكزته فرجع. ثمّ إنّها غيّرت تلك الطريقة وضربت، وقالت: وهذا من تلحين إسحق، حيّا الله إسحق! -وغنّت <من الكامل>:

لمّا رأيت الليل سدّ طريقه

عنّى وعذّبنى الظلام الراكد

والنجم فى كبد السماء كأنّه

أعمى تحيّر ما لديه قايد

ناديت من طرد الرقاد بصدّه

أنت البلاء طريفه والتالد

ألقيت بين جفون عينى فرقة

فإلى متى أنا ساهر يا راقد

وسعى بها واش فقالوا إنّها

لهى التى تشقى بها وتكابد

فجحدتهم ليكون غيرك ظنّهم

إنّى ليعجبنى المحبّ الجاحد

(2) قيراطا: قيراط

(10)

العقارب: العقاب

ص: 335

قال إسحق: فو الله، لم تتمّ الجارية هذا الشعر إلاّ والمأمون قد نظر إلىّ نظرة كدت أموت فرقا. وصرخ وقال: إسحق! -فقمت قايما وقبّلت الأرض وقلت: لبّيك، يا أمير المؤمنين. -فلمّا نظرت الجارية إلى ذلك نهضت كالغزال النافر ودخلت بعض المقاصير. فقال المأمون: لمن هذه الدار؟ -فقلت: لا علم والله لعبدك، يا أمير المؤمنين. -فقال:

علىّ بصاحبها الساعة هاهنا! -قال: فخرجت، فأجد العجوز والجوارى (6) فى دهليز المكان وهنّ يرعدن لمّا تحقّقوا الأمر. فقلت: ويلكنّ، لمن الدار؟ -فقلن: لعبد أمير المؤمنين الحسن بن سهل. -فقلت: ليحضر الساعة! وعرّفوه من محلّه. -قال: فلم يكن بأسرع أن حضر وهو يرعد كالسعفة. فقبّل الأرض بين يدى المأمون، فقال له: يا حسن، ما هذه الجارية منك؟ -فقال: أمة أمير المؤمنين ابنتى. -فقال: بكر أم ثيّب؟ -قال: بل بكر عذرا، يا أمير المؤمنين. -قال: أزوجنى إيّاها. -قال: فقبّل الأرض وقال: هى من بعض الإماء، يا أمير المؤمنين. -قال: فأخذ يده عليها فى تلك الساعة. -وقال: أصلح من شأنها وليكون العقد فى الملأ (15) العام. -ثمّ فتح لنا باب السرّ وخرجنا إلى قصر الخلافة. فهذا كان سبب زواج بوران بالمأمون

ومن رواية صاحب «العقد» إلى حين الخبر مع إبليس رواه الثعالبىّ فى كتاب «لطائف المعارف» فذيّلته على الحكاية هاهنا، ولم أذيّل بقيّة الحكاية فى كتابى «أعيان الأمثال» . وقد بقى ممّا رواه الثعالبى فى بيان الأشعار التى فى هذه الحكاية وممّا رواه أيضا أبو الفرج صاحب «كتاب الأغانى» الكبير الجامع ما العبد ذاكره. ثمّ بعده أذكر تتمّة الخبر فى الزواج والمهمّ الذى لأجله أوردنا هذه الحكاية العجيبة لتكملة الفايدة لما رويناه إنشاء الله تعالى

(6) والجوارى: والجوار

(15)

الملأ: الملاء

ص: 336

أمّا الأشعار التى كانت بين إسحق وبوران فقد روينا كلّ شر وصاحبه وملحّنه. وأمّا اللواتى جرين بحضرة المأمون، فالأوّل لأبى صخر الهذلىّ، وهو ممّا غنّى به بحضرة موسى الهادى، تلحين ابن شريح المقدّم ذكره فى هذا التأريخ، وبقيّة الشعر (4) يقول <من الطويل>:

عجبت لسعى الدهر بينى وبينها

فلمّا انقضى ما بيننا سكن الدهر

فيا هجر ليلى قد بلغت بى المدى

وزدت على ما لم يكن يبلغ الهجر

أما والذى أبكى وأضحك والذى

أمات وأحيا والذى أمره أمر

لقد تركتنى أحسد الوحش أن أرى

أليفين (8) منها لا يروعهما الذّعر

قال صاحب الأغانى: وهذا الشعر فيه أيضا لمعبد تلحين، وقد تقدّم ذكر معبد. والثانى الذى أوّله يقول «الحبّ أوّل (10) ما يكون لجاجة» فهو للأحنف بن قيس المقدّم ذكره أيضا فى هذا التأريخ، والتلحين فيه لابن جامع وقد ذكرناه أيضا. والثالث الذى أوّله يقول «تشرّب قلبى حبّها (12)» فهو لإبراهيم أبى (13) إسحق المذكور وتلحينه له. وأمّا ما روى من غنا إبليس فلم يذكر لهم قايل ولا ملحّن فأذكره. وأمّا الشعر الآخر الذى أوّله يقول «لمّا رأيت (15) الليل سدّ طريقه» فهو للعبّاس بن الأحنف، وقد تقدّم ذكر واقعته (16) فيه، وكيف قدّم للصلاة عليه لمّا مات على غيره ممّن كان أكبر منه بقوله هذا الشعر، والله أعلم

(4) وبقية الشعر: انظر ص 331

(8)

أليفين: الليفين

(10)

الحب أول ما إلخ: انظر ص 332

(12)

تشرب قلبى حبها: انظر ص 335

(13)

أبى: ابو

(15)

لما رأيت إلخ: انظر ص 335

(16)

تقدم ذكر واقعته: لم يرد فى هذا الجزء خبر تقديمه هذا

ص: 337

وأمّا أمر الوليمة العظيمة القدر التى ما رأى (1) الناس مثلها من أوّل ما كانت الدنيا، فقد ذكرها جماعة السلف رضى الله عنهم مثل: محمد بن جرير الطبرىّ، والمسعودىّ، والثعالبىّ، وابن عساكر مع جماعة أخر من أرباب التواريخ أنّ الحسن بن سهل احتفل فى دخول ابنته بوران على المأمون احتفالا ما شهدوا الناس مثله من قبل، حتى كانت وليمة بنت المعتزّ بالله تركواز. ولا زالت دعوة بوران على المأمون تدعى دعوة الإسلام حتى جاءت (7) دعوة تركواز ابنة المعتزّ. فقال الناس هى مثله، وقيل: إنّ دعوة تركواز لا نظير لها. -فأمّا ما يحكى من جملة جلالة دعوة بوران: أنّ الحسن بن سهل أقام للمأمون بما يصلح له ولجميع قوّاده وأصحابه أربعين يوما، واحتفل بما لم يرا مثله نفاسة وكثرة (10)

وحكى المبرّد، قال: سمعت الحسن بن رجا يقول: كنّا نجرى أيّام مقام المأمون عند الحسن بن سهل على ستّة وثلاثين ألف ملاح (12)، ولقد عزّ بنا الحطب يوما. فأوقدنا تحت القدور الخيش مغموسا فى الزيت. ولمّا كانت ليلة البناء وجلّيت بوران على المأمون، فرش لها حصير من ذهب وجئ بمكيل مرصّع بالجواهر فيه درّ كبار، فنثرت على تلك النسا اللاتى (15) حضرن وفيهنّ زبيدة أمّ جعفر وحمدونة بنت الرشيد. فما مسّ من حضر من الدرّ شيا. فقال المأمون: شرّفن أبا محمد وأكرمنه. فمدّت كلّ واحدة منهنّ يدها، فتناولت درّة. وعاد ذلك الدرّ يلوح على تلك الحصير الذهب.

فقال المأمون: قاتل الله الحسن بن هانى، كأنّه رأى هذا حيث يقول:

كأنّ صغرى وكبرى من قواقعها

حصباء درّ على أرض من الذهب

(1) رأى: راء

(7)

جاءت: جآات

(10)

وكثرة: وكثر

(12)

ملاح: كذا فى الأصل

(15)

اللاتى: التين

ص: 338

وكان فى المجلس شمعة عنبر فيها مايتى منّ (1)، فضجّ المأمون من دخانها، فعملت له أمثال الشمع. فكان الليل فيه مدّة مقامه كالنهار. ولمّا كانت دعوة القوّاد نثرت عليهم أكر العنبر محشوّ فيها أوراق بأسما ضياع وآلاف من الدراهم وعدّة من الخيول وإبل وعقارات. فمن وقعت فى يده أكرة كشف عمّا فيها، فإن كانت ضيعة أشهد له بها، أو عقار أو غير ذلك وصل إليه فى يومه، وندب لذلك وكلاء بهذا السبب. وقيل إنّه حصر ما أنفق فى هذه الدعوة، فكان تسعة آلاف ألف دينار

ولمّا زفّت بوران على المأمون بعد أيّام، توهّم القوّاد أنّ هذا الحال ممّا تغيّر له المأمون على الحسن بن سهل. وبلغ ذلك الحسن، كتب للمأمون يقول: قد تولّى أمير المؤمنين من تعظيم عبده فى قبول أمته سببا لا يتّسع له الشكر عنه إلاّ بمعونة التوفيق، فرأيه أدام الله عزّه فى إخراج توقيع بتزيين حالى فى العامّة والخاصّة بما يراه صوابا إنشا الله تعالى. -فخرج إليه التوقيع:

الحسن بن سهل زمام على جميع أمور الخاصّة وكفّ (14) أسباب العامّة، وإحاطة بالنفقات ونقد بالولاة، وإليه الخراج والبريد واختيار القضاة، جزاء لمعرفته بالحال التى قرّبته منّا، وإثابة لشكره إيّانا على ما أوليناه

وجميع ذلك بخطّ يد المأمون: ثمّ أحضره وقرّبه وأدناه وأقطعه أعمال الصلح بكمالها، وعاتبه على اجتهاده وما حمله على نفسه. فقال له: يا أمير المؤمنين، أتظنّ أنّ هذا من مال الحسن بن سهل؟ والله ما هو إلاّ مالك

(1) مايتى من: مايتى منا

(14)

كف: كف

ص: 339

ردّ إليك. وأردت أن يفضّل الله أيّامك على جميع أيّام من ملك، كما فضّلك على جميع خلقه. فأمر له بألفى ألف دينار حملا معجّلا

وأمّا الثانية دعوة تركواز ابنة المعتزّ بالله، فقد ذكرتها وسقتها فى كتابىّ «حدايق الأحداق» و «أمثال الأعيان» وملخّصها أن المعتزّ بالله جلس بعد فراغ القوّاد والأكابر من المأكل، ومدّت بين يديه مراقع ذهب مرصّعة بأنواع الجواهر، وعليها أمثلة من العنبر والندّ والمسك المعجون على صفة جميع الصور. وجعلت بساطا ممدودا، وأحضر القوّاد والجلسا وأصحاب المراتب، فوضعت بين أيديهم صوانى الذهب مرصّعة بالجواهر من الجانبين فيهم المباخر الذهب المرصّعة (9). وبين السماطين فرجة، وجاء الفرّاشون بزنابيل قد غشّيت بالأطلس مملوءة دراهم ودنانير نصفين. فصبّت فى تلك الفرجة حتى ارتفعت على الصوانى. وأمر الحاضرون أن يشربوا (11) من شا ما شا، وأن ينتقل كلّ من شرب من تلك الدنانير والدراهم بثلاث حفنات ما حملت يديه، وكلّما خفّ موضع صبّ عليه من الزنابيل التى مع الفرّاشين حتى يردّ على حالته. ثمّ وقف فى آخر المجلس غلمان، كأنّهم اللؤلؤ والمرجان، فصاحوا: إنّ أمير المؤمنين يأمركم ليأخذ من شا ما شا. - قال: فمدّ الناس أيديهم إلى المال، فأخذوه عن آخره، وكان الرجل منهم يثقل ما معه، فيخرج به، فيسلّمه إلى غلمانه، ثمّ يعود إلى مكانه. ولمّا تقوّض المجلس خلع على الناس خمسة آلاف خلعة. وحملوا على خمسة آلاف مركب من الذهب والفضّة، وأعتق خمسة آلاف نسمة. هذا ملخّص هذه الوليمة، والله أعلم

(9) فيهم. . . المرصعة: بالهامش

(11)

يشربوا: يشربون

ص: 340

وكان الحسن بن سهل أخا (1) الفضل بن سهل المعروف بذى الرياستين، وكانا مجوسيين (2) فى أيّام الرشيد. وكان الفضل قد ظهرت ليحيى بن خالد البرمكىّ مخايل فضله ودلايل عقله وهو على دينه. فقال يحيى بن خالد:

يا فضل، أسلم! أجد السبيل إلى اصطناعك. -فأسلم على يدى الرشيد، ولم يزل فى جنبته حتى رقى رتبته. وكان قد ذكره يحيى بن خالد للرشيد، فأجمل الثنا عليه فأمر بإحضاره. فلمّا رآه أفحم، فنظر الرشيد إلى يحيى كالمستفهم، ففهم الفضل، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ من أدلّ الدليل على فراهة العبد أن تملك هيبة مولاه لسانه وقلبه. -فقال الرشيد: إن كنت سكتّ لتقول هذا القول لقد أحسنت. وإن كان هذا شئ اعتراك عند الحصر لقد أجدت. -وزاد فى إكرامه وبرّه وتقريبه، وجعل لا يسأله بعد ذلك عن شئ إلاّ أجابه بأفصح لسان وأجود بيان

قال سهل بن هرون أحد (12) فلاسفة الإسلام: وممّا حفظ من كلام ذى الرياستين الفضل بن سهل ممّا رأينا تخليده فى الكتب، ليؤتمّ به وينتفع بمنقول حكمته، قوله: من ترك حقّا فقد غبن حظا، ومن قضى حقّا فقد أحرز غنما، ومن أتى فضلا فقد أوجب شكرا، ومن أحسن توكّلا لم يعدم لله صنعا، ومن ترك لله (16) شيا لم يجد لما ترك فقدا، ومن التمس بمعصية لله حمدا عاد ملتمس ذلك عليه ذمّا. ومن طالب بخلاف الحقّ له دركا عاد ما أدرك من ذلك له موبقا. وذلك أوجب الفلح للمحسنين، وجعل سوء العاقبة للمسيئين المقصّرين

وكان ذو الرياستين يقبل صواب القايلين بما فى قوّته من صفا الغريزة وجودة النحيزة. فهو كما قال أبو الطيّب المتنبّى <من الخفيف>:

ملك منشد القريض لديه

يضع الثوب فى يدى بزّاز

(1) أخا: اخى

(2)

مجوسيين: مجوسا

(12)

أحد: احدى

(16)

لله: الله

ص: 341

ثمّ إن العبد خرج عن شرط الاختصار، حتى عاد كالمهذار. وإنّما سقنا هذا الكلام لفوايد عدّة، أحدها أنّ الكتب تملّ إذا كانت على منوال واحد فى الحديث. فقصدنا تطريز الكلام، بنوادر الأحكام. والأخرى ليكون ذلك ردّا على من يتشرّع بغير شرع، ويتّبع الخلاف ويدّعى فى العلم فلسفة، فيقول: إنّ ما أنفق فى هذا المهمّ الناصرىّ إسراف، فقصدنا أن ننبّه أنّ مولانا السلطان متّبع لا مبتدع، مقصّر عن كلّ أمر مخترع، لا يخرج عمّا استنّه السلف، وأنّه أعزّ الله أنصاره نعم الخلف، أمدّ الله على كافّة المسلمين ظلّه، ورفع فوق السّماكين محلّه

وفيها كانت الفتنة بإسكندريّة فى شهر رجب الفرد بين أهلها ومتولّيها ركن الدين بيبرس الكركرىّ، ورجموه بالثغر مرّة. ثمّ إنّه سايس أمره فيها. فلمّا كان فى شهر رجب رجموه أيضا، وهرب منهم إلى دار النيابة.

فتبعوه، فغلّق الباب فأرادوا حريقه بالنار. فلمّا عاين منهم الجدّ وأنّهم لا يرجعون عنه، بطّق بصورة الحال، فرسم للأمير علاء الدين الجمالىّ الوزير بالتوجّه إليه فى أسرع وقت. فتوجّه إلى الثغر وصحبته ثلاثة أمرا، فيهم سيف الدين طوغان الشمسىّ، مملوك الأمير سيف الدين سنقر الطويل، وكان يومئذ شادّ الدواوين بالأبواب العالية فى خدمة الأمير علاء الدين الجمالىّ.

فوصل الأمير علاء الدين الجمالىّ إلى الثغر المذكور، ومسك جماعة كبيرة، ووسّط منهم وقطع أحدا (18) وثلاثين نفرا، ممّن كانوا أصحاب الفتن ورءوس الأحزاب. ثمّ قبض على جماعة من كبار البلد ممّن استحسنوا لأوليك المفتنين، وجناهم ما جملته ألف ألف درهم وسبعين ألف درهم، وحمل ذلك

(18) أحدا: احد

ص: 342

إلى الأبواب العالية. ثمّ وسعهم حلم مولانا السلطان وعفوه وسعة صدره الشريف الذى كما قيل <من الكامل>:

لله صدر للإمام كأنّما

أقطار طاعته (3) به قطمير

تتزاحم الأضداد فيه فتنثنى

عنه وليس لوقعها تأثير

وفيها وصل الأمير سيف الدين تنكز ملك الأمرا بالشأم المحروس إلى الأبواب العالية زايرا، ففاز بتقبيل الأرض بين يدى المواقف الشريفة السلطانيّة، فلمّا كان يوم الأحد خامس ربيع الآخر، تغيّرت الخواطر الشريفة على مماليكه الأميرين، الأمير سيف الدين طشتمر الساقى، والأمير سيف الدين قطلوبغا، وكان ذلك أوّل هذا النهار. ثمّ رجع مولانا السلطان إلى أصله الشريف ولينه الطاهر. فإنّ هؤلاء الأمرا عنده بمحلّ الأولاد، يلاحظهم بعين التربية والشفقة. فلمّا كان أذان الظهر من ذلك اليوم رسم للأمير سيف الدين طشتمر أن يسكن القلعة ويستقرّ على إمرته وإقطاعه. ورسم للأمير سيف الدين قطلوبغا بالتوجّه إلى دمشق المحروسة أمير ماية مقدّم ألف. فتوجّه صحبته ملك الأمرا. وذلك يوم السبت حادى عشر ربيع الآخر

وفيها انفصل شهاب الدين بن المهمندار من نقابة الجيوش المنصورة.

وتولّى عزّ الدين دقماق مكانه، ومشى فى النقابة بخلاف ما كانا عليه متقدّماه

(3) طاعته: طاعة

ص: 343