الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذه الأحوال، ويستعظم هذه الأهوال، ويعلم أنّه الراعى المسئول، عن جملة هذه الفصول، وتحقّق أنّ القوم قد طووا بساط العدل، ولا عاد يفيد فيهم العذل، وما لم يجعل السيف مكان السوط (3)، وإلاّ فقد فات فى العدل الفوت، ونظر بعين سلطانه، أعزّ الله أنصاره، وكثّر فى أعوانه، وإذا كلمتهم على الضلالة متّفقة، ولا عاد فيهم على الرعايا شفقة، ورأى أنّه خلّد الله ملكه إذا خرج من بينهم، تفرّقت كلمتهم وصاح غراب البين ببينهم، واختار الله تعالى فى سريرته. فقوّى عزمه الشريف على خيرته، لتنسخ مناقبه الحسان بوصف سيرته
فلمّا كان يوم السبت الرابع والعشرين من شهر رمضان المعظّم، توجّه الركاب الشريف، من الديار المصريّة بنيّة الحجاز الشريف، وتوجّه على الدرب الشأمىّ فوصل-حرسه الله من الآفات، وأعانه فى جميع الحركات-إلى الكرك المحروس يوم الأحد ثامن شهر شوّال من هذه السنة. فأجمع الآراء الشريفة فيه على الإقامة، وقد تحقّق أنّهم إذا آل أمرهم إلى الفساد ستدركهم الندامة، وأنّهم بعد ركابه الشريف بعيدون من السلامة، فأقام أيّده الله فى ألذّ (15) عيش وأهناه، وأنضره وأبهاه
ذكر تغلّب بيبرس الجاشنكير على الممالك
حتى عاد بسوء تدبيره هالك
وذلك لمّا نفخ الشيطان، فى مناخره حتى جلس سلطان، ركب يوم السبت الثالث والعشرين من شوّال، وهى الساعة الثالثة من ذلك النهار، وهى الساعة التى أهلك الله تعالى فيها قوم عاد الأشرار
(3) السوط: الصوط
(15)
ألذ: اللد--وأنضره: وانظره
وكانوا قد اختلفوا على مولانا السلطان كتابا كثير الزور والبهتان.
واجتمعوا له قبل ركوبه بيوم، وكان نهار الجمعة بعد صلاة العصر بدار النيابة، ولم يتخلّف من متخلّف. وكان العبد واضع هذا التأريخ قايما (3) بينهم، أنظر لفعلهم وشينهم. فضربوا حلقة عامّة لجميع الأمرا البرجيّة البيبرسيّة، والأمرا السلاّريّة. وقرئ ذلك الكتاب المزورّ، الوارد بزعمهم عن ذلك الملك البدر المصوّر. وكان القارئ له بإعلان وإظهار، الأمير بهاء الدين أرسلان الدوادار. وهو يذكر فيه كلاما (7) يلين الصخور، كالدرّ المنثور، وأنّه قد نزل عن مملكة الديار المصريّة، والبلاد الشأميّة، مع جميع الممالك الإسلاميّة، خلا الكرك المحروس، فإنّه اختار الله تعالى أن يكون جنابها به مأنوس، وقصد بذلك الراحة من التعلّق بمظالم العباد، والتنزّه فى تلك البلاد، وأشار إليهم أن يختاروا من بينهم من يقوم بأمر الملك وسياسة الأمّة، فمن؟ لعلّ أن يكشف الله به تلك الغمّة
فلمّا انتهى قراية هذا الكتاب، الذى كان ثمرة عاقبته ضرب الرقاب، مخضوا بينهم الآرا، وما منهم إلاّ من فى كلامه وارى، فنهض (14) البغدادىّ الوزير، السيّئ الرأى والتدبير، حتى عاد عليه ذلك التدبير تدمير، وقال:
ما تقولوا، يا أمرا، فى امرأة حسنا كثيرة العشّاق والطلاّب، طلّقها زوجها بهذا الكتاب؟ فما تجد لها بعده أحدا (17) من الخطّاب، فلا بدّ لها من بعل يصونها، وهذا هو عين الصواب. -وافترقوا على هذا الكلام، الذى عاد فى القلب منه كلام، إلى ثانى نهار اجتمع منهم الكبير والصغير، وأجمع رأيهم على تملّك بيبرس الجاشنكير، وما عملوا أنّهم من تلك الساعة قد
(3) قائما: قايم
(7)
كلاما: كلام
(14)
فنهض: فنهط
(17)
أحدا: احد
أسلموه لمنكر ونكير. فركب فى ذلك التأريخ المذكور، وكان أيشم الشهور، ولقّب بالملك المظفّر، ولم يعلم أنّه عاد فريسة ذلك الليث الغضنفر (2).
ولقد عاينته لمّا خرج من دار النيابة راكب، والخمول قد حفّ بتلك الأكتاف والمناكب، وقد ظلله سواد بقتام، حتى عاد كأنّه راكب فى ظلام.
ولقد-شهد الله-سمعت عدّة من الناس فى ذلك الوقت تقول: انظروا ما على أكتاف هذا الرجل من الخمول! -ولقد كان فى حال إمرته أهيب، ولو امتنع عن هذا الأمر لكان له أصوب. وإنّما كيف كان له فى نفسه تصريف أو تدبير، وقد سبقت بهذه الأحكام المقادير؟ ولم يزل راكبا والأمرا (9) بين يديه مشاة، والغاشية محمولة بين يديه بغير غشاة. ودخل من باب القلّة كذلك حتى نزل فى منزله نزول الملوك، واستمرّ على ذلك السلوك، حتى جلس على تخت الملك ببرج الطارمة، وقلوب أكثر الجيوش متألّمة. هذا وهو قد بلّ لحيته بدموعه، وتحقّق أنّه أوّل يوم من أيّام قطوعه، وأنّ هذا منتهى سعادته، وآخر سيادته. ثمّ إنّ الأمرا اصطفّوا وقبّلوا الأرض بين يديه وزعق الجاويشيّة، فكان ذلك كأنّه نواح عليه. وأخلع فى تلك الساعة على الأمير سيف الدين سلاّر خلعة النيابة. هذا كلّه بعد التحليف بدار النيابة، واستمرّ التحليف ذلك اليوم والثانى والثالث. وما من حالف حلف إلاّ وتحقّق أنّه ناكث، وفى أيمانه حانث
وتوجّهوا الأمرا على البريد المنصور، لتحليف أهل القلاع والثغور.
فكان المتوجّه إلى الشأم المحروس عزّ الدين أيبك البغدادىّ وسيف الدين
(2) الغضنفر: الغظنفر
(9)
والأمرا: والمرآ
ساطى، فوصلا إلى دمشق يوم الأحد مستهلّ ذى القعدة، وحلّفوا من بها من الأمرا للسلطان الملك المظفّر، فريسة السلطان الملك الناصر الليث الغضنفر (2).
وكان تحليف أهل دمشق بالقصر الأبلق، وكلّ من الناس فى أيمانه يزوّق، لا يحقّق
وأحضر أيضا كتاب عن مولانا السلطان الملك الناصر، ادّعى نايب الشأم أنّه أنفذ إليه، وكان مكذوبا عليه، يتضمّن أنّه صحب الناس مدّة عشر سنين لم يؤذى أحدا (7) ولا أخرب بيت أحد، وأنّه قد اختار الانقطاع والعزلة فى الكرك المحروس، وليس له غرض فى الملك، وأنّه يأمرهم بالسمع والطاعة لمن يولّيه الله تعالى هذا الأمر، وأن تكون الشأميّين والمصريين متّفقين الكلمة، وأنّ نزوله عن الملك برضاه، لا اغتصاب. -وجميع ذلك لم يكن له صحّة، وإنّما كان مفتعلا (11) عليه، أحسن الله إليه. وقرئ هذا الكتاب على الأمرا بدمشق قبل التحليف، وأثبتوه على القاضى المالكىّ، وأنفذوه باقى القضاة. ثمّ شرعوا فى دقّ البشاير بالقلعة وعلى دور الأمرا، ونادوا فى البلد: سلطانكم المظفّر ركن الدين بيبرس، ادعوا له! -ثمّ أمر أن تزيّن دمشق. واستمرّ ذلك إلى يوم الأحد ثامن ذى القعدة
وحضر نايب السلطان يوم الجمعة المقصورة لسماع الخطبة. حكى لى الملك الكامل رحمه الله، قال: كنت مع الأمير جمال الدين الأفرم، وقد حضرنا لسماع الخطبة باسم الملك المظفّر وإسقاط اسم الملك الناصر حماه الله تعالى. قال: فلمّا وصل الخطيب إلى عند الاسم سها (19) فدعا للملك
(2) الغضنفر: الغظنفر
(7)
أحدا: احد
(11)
مفتعلا: مفتعل
(19)
سها: سهى
الناصر على عادته، ثم استرجع ودعا للملك المظفّر، -قال: فقلت للأفرم:
عجب إن أفلح صاحبك، -قال: فضحك الأفرم من كلامى. -
ثمّ خرجت الأمرا من الديار المصريّة على البريد المنصور إلى ساير الممالك الإسلاميّة للتحليف، كلّ ناس إلى جهة، وفى تعدادهم طول بغير فايدة. وعلى الجملة فإنّ فى هذاك النهار الجمعة خطب باسم المظفّر فى ساير الممالك الإسلاميّة. وأمّا ما كان من بيبرس الملقّب بالمظفّر، فإنّه ركب يوم السبت سابع الشهر ذى القعدة وعليه الخلعة السودا الخليفتيّة، وأرباب الدولة بين يديه عليهم الخلع
وكان فى أوّل هذه السنة قد عزل سعد الدين بن عطايا عن الوزارة، ووزر ضياء الدين بن النشايى. فكان ذلك اليوم حامل التقليد الخليفتىّ، وهو كيس أطلس أسود، ولست أذكر نسخته، فإنّ قلبى وقلمى لم يطاوعانى أثبت فى تأريخى معانى مفتعلة، ليس لها صحّة بل منتحلة. وإنّما كان فى أوّله يقول (13){إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} (14) وكان عدّة الخلع ألف ومايتى خلعة. هذا والناس ودّهم لو أخذ منهم أضعاف ما أنعم به عليهم، وأراحهم من نظره، لما حصل فى قلوب العالم من الوحشة، وكان هذا أمرا (16) من الله تعالى
وفيها توفّى نجم الدين خضر الملقّب بالملك المسعود بن الملك الظاهر رحمه الله. وتوفى عزّ الدين الرشيدىّ أستادار الأمير سيف الدين سلاّر، وحزن عليه سلاّر حزنا كثيرا (19)، وقال: ما أشكّ أنّ سعادتى ماتت بموته، وكان كذلك
(13) يقول. . . الرحيم: بالهامش
(14)
السورة 27 الآية 30
(16)
أمرا: أمر
(19)
حزنا كثيرا: حزن كثير