المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر تعدية قراسنقر إلى التتار - كنز الدرر وجامع الغرر - جـ ٩

[ابن الدواداري]

فهرس الكتاب

- ‌ذكر الوقعة التى كانت بين التتارودخول سلامش الديار المصريّة

- ‌ذكر [حوادث] سنة تسع وتسعين وستّ ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌ذكر وقعة نوبة غازان بوادى الخزندار

- ‌ذكر ما جرى لدمشق من الأحوال الناكدة

- ‌ذكر رجوع غازان إلى الشرق

- ‌ذكر عودة جيوش الإسلامبالنصر إلى بلاد الشام

- ‌ذكر [حوادث] سنة سبع ماية هجريّة

- ‌ولنذكر الآن ما يخصّ حوادث الزمان:

- ‌ذكر عودة غازان خايب الآمال

- ‌ذكر لباس النصارى واليهود الأزرق والأصفر

- ‌ذكر ما جرى فى هذه السنة بين ملوك الهند

- ‌ذكر [حوادث] سنة إحدى وسبع ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌ذكر ما جرى للمجيرى عند حضورهبين يدى غازان

- ‌ذكر [حوادث] سنة اثنتين وسبع ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌ذكر نصرة الإسلام على التتار الليام

- ‌ذكر حدوث الزلزلة فى هذه السنة

- ‌ذكر ما جاء من القول فى حدوث الزلزلة

- ‌ومن كتاب عجايب المخلوقات وبدايع الموجودات

- ‌ذكر [حوادث] سنة ثلاث وسبع ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌ذكر دخول العساكر الإسلاميّة سيس

- ‌ذكر وفاة غازان وتملك خدابنداه

- ‌ذكر [حوادث] سنة أربع وسبع ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌[نسخة مكتوب السلطان الناصر إلى غازان خان بعد معركة شقحب]

- ‌تتمّة كلام المجيرىّ للوالد رحمهما الله تعالى جميعا

- ‌ذكر [حوادث] سنة خمس وسبع ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌ذكر ما كان بين عسكر حلب وأهل سيس

- ‌ذكر واقعة الشيخ تقىّ الدين بن التيميّة رحمه الله

- ‌ذكر ما جرى للشيخ تقىّ الدين بمصر المحروسة

- ‌ذكر السبب الموجب لهذه الفتن المذكورة

- ‌ذكر [حوادث] سنة ستّ وسبع ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة سبع وسبع ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌ذكر ما كان بين التتار وبين أهل كيلان

- ‌ذكر [حوادث] سنة ثمان وسبع ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌ذكر تغلّب بيبرس الجاشنكير على الممالكحتى عاد بسوء تدبيره هالك

- ‌ذكر [حوادث] سنة تسع وسبع ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌أشاير البشاير

- ‌ذكر عودة الركاب الشريف السلطانىّ المالكىّالناصرىّ إلى محلّ ملكه بالديار المصريّة وهى المملكة الثالثة

- ‌ذكر دخول مولانا السلطان عزّ نصره دمشق المحروسة

- ‌ذكر توجّه الركاب الشريف إلى الديار المصريّة

- ‌ذكر سبب توجّه القاضى علاء الدينابن الأثير فى ركاب مولانا السلطان إلى الكرك

- ‌ذكر نزول بيبرس عن الملك وهروبه

- ‌ذكر ما اتّصل بنا من مدايح التهانى البديعات الألفاظ والمعانى

- ‌ذكر القبض على بيبرس من الطريقوعودته إلى الأبواب العالية

- ‌ذكر [حوادث] سنة عشر وسبع ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة إحدى عشرة وسبع ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌ذكر سبب مسك بكتمر الجوكندار وكراىوبقيّة النوّاب

- ‌ذكر سبب تقفيز قراسنقر وآقوش الأفرمومن معهما ووصولهم إلى التتار

- ‌ذكر تعدية قراسنقر إلى التتار

- ‌ذكر [حوادث] سنة اثنتى عشرة وسبع ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌ذكر توجّه الركاب الشريف عزّ نصرهإلى الشأم المحروس بنيّة الغزاة

- ‌ذكر سبب مأتى التتار إلى الرحبة والسببفى عودتهم خايبين

- ‌ذكر [حوادث] سنة ثلاث عشرة وسبع ماية

- ‌ما يخصّ من الحوادث

- ‌ذكر ما كان من أمر قراسنقر بالبلادوالواقعة بين خدابنداه وطقطاى فى هذه السنة

- ‌ذكر الواقعة التى كانت بين الملكين خدابنداه وطقطاى

- ‌ذكر ما جرى لعسكر طقطاى لمّا عادوا هاربين

- ‌ذكر [حوادث] سنة أربع عشرة وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر أخذ ملطية وصفتها

- ‌ذكر الروك المبارك الناصرىّ

- ‌ذكر [حوادث] سنة خمس عشرة وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة ستّ عشرة وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة سبع عشرة وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة ثمان عشرة وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة تسع عشرة وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة عشرين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر تملّك الملك عماد الدين حماة وركوبه

- ‌ذكر [حوادث] سنة إحدى وعشرين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة اثنتين وعشرين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة ثلاث وعشرين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة أربع وعشرين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة خمس وعشرين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة ستّ وعشرين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة سبع وعشرين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر سبب دخول المأمون على بوران

- ‌ذكر [حوادث] سنة ثمان وعشرين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة تسع وعشرين وسبع ماية

- ‌[ما لخص من الحوادث]

- ‌ذكر [حوادث] سنة ثلاثين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة إحدى وثلاثين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة اثنتين وثلاثين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة ثلاث وثلاثين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة أربع وثلاثين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر [حوادث] سنة خمس وثلاثين وسبع ماية

- ‌ما لخص من الحوادث

- ‌ذكر ما تجدّد فى هذه السنة المباركة

- ‌ذكر عدّة ما استجدّ من الجوامع المعمورة بذكر الله تعالىفى أيّام مولانا السلطان

- ‌[ذكر أنكاد الزمان:]

- ‌[أنكاد] القرن الأوّل

- ‌[أنكاد] القرن الثانى

- ‌[أنكاد] القرن الثالث

- ‌[أنكاد] القرن الرابع

- ‌[أنكاد] القرن الخامس

- ‌[أنكاد] القرن السادس

- ‌ذكر الجوامع المباركةالتى انتشت فى دولة مولانا السلطان عزّ نصره

- ‌ذكر المستجدّ أيضا من الجوامع المباركةبالممالك الشاميّة

- ‌والمستجدّ أيضا بدمشق المحروسة

- ‌والمستجد أيضا بطرابلس

- ‌ذكر تتمّة الحوادث

- ‌ذكر سبب دخول سيس

- ‌ذكر عمارة قلعة جعبر فى هذا الوقت

- ‌[خاتمة الكتاب]

- ‌استدراك

الفصل: ‌ذكر تعدية قراسنقر إلى التتار

الدهر. وإذا أشرت علىّ بشى ما أخالفك. -ثمّ قال: قدّموا الخيل أركب وأتوجّه إليه، ويفعل الله ما يشا، وبكى. -قال: فبكى أيضا مهنّا، وقال: لا والله يامير شمس الدين، لا سمعت العرب بهذا، وأنا والله أعلم أنّه ما يبقى عليك. ثمّ أنشده يقول <من الوافر>:

ونفسك فز بها إن صبك ضيم (5)

وخلّ الدار تنعى من بناها

فإنّك واجد (6)

أرضا بأرض

ونفسك لن تجد نفسا سواها

ونفض ثيابه وقال: لا تعمل إلاّ مصلحتك ولا تقتل، وتقع فى العار بين البدو والحضر

‌ذكر تعدية قراسنقر إلى التتار

قال بيخان: فلمّا سمع الأمير يعنى قراسنقر هذا الكلام من مهنّا أمر فى تلك الساعة بالرحيل والتعدية، وودّع ابنه أمير علىّ وولده أمير فرح وأنا، يقول بيخان: فقلت: أنا أتوجّه فى ركابك ولا أموت إلاّ فى خدمك. -فقال: يا ولدى، لك أسوة بأولادى، إن ماتوا موت معهم وإن عاشوا عيش معهم. فأنا أعلم أنّ السلطان ما يضرّكم، ولا المطلوب إلاّ أنا. -هذا وهو يبكى كالمرأة الثكلى. وساق أمواله وخزاينه ودشاره وطلب الفراة، قال

(5) ضيم: ضيما--وخل: وخلى

(6)

واجد: واجدا

ص: 225

فقال له مهنّا: تمهّل على نفسك، فقد ورد علىّ الساعة قاصد من عند الأمير جمال الدين الأفرم يخبر أنّه واصل إلينا. -ثمّ وصل الأمير جمال الدين آخر ذلك النهار، وركب قراسنقر ومهنّا مع جماعتهما والتقوا الأفرم، وتكارشوا وتباكوا وتشاكوا. وقال الأفرم لقراسنقر: أيش هذا التهاون فى أرواحنا؟ اركب بنا وخلّص ذقوننا من الموت والعذاب! فقد وردت علىّ الأخبار من نصحايى (6) بما يسدّ الآذان ممّا جرى على خشداشنا من أنواع العذاب، وهو لنا فى أيشم النيّات. والله ما يقع منّا له أحد إلاّ ويتنوّع فى تعذيبه قبل قتله. وهذه العساكر قدموا الشأم بسببى وسببك لا غير. وقد عبرت فى طريقى على قلى والملك، وكنت قادرا (9) على كبستهم وأخذهم أسارى. ثمّ تركت ذلك حتى أنظر ما ترسم به. فإن رسمت سيّرنا العرب من خلفهم ونحن نأتيهم من قدّامهم ونأخذهم أشدّ أخذ. ثمّ نغير على البلاد ونحرق البيادر ونرجع إلى دمشق. فكلّ أمير فيها خايف على نفسه، وما يصدّقوا بنا، وتجتمع كلمتنا بالشأم. ونخرج الأموال، وننفق فى الرجال، وننزل غزّة. فأىّ من خرج من مصر فأسرناه. فقد بلغنى أنّ جميع من فيها خايفين أيضا. ومن لا يرجع إلينا ضربنا معه رأس. ويعطى الله النصر لمن يشا. ونموت على ظهور خيلنا ولا نموت فى العذاب الأليم. - فقال قراسنقر: يامير جمال الدين، لا تستعجل، فقد سيّرت إلى جماعة من الأمرا المصريين، وقد جانى الجواب بما أختار، وهؤلاء العرب فقد هلكوا معنا من السوق والسهر علينا الليل والنهار. وإنما الرأى أن نريح خيلنا ونرجع العرب مع الأمير مهنّا إلى الرحبة، وننزل على مشهد علىّ، ونستغلّ المغل وتشيل العرب مؤنهم، وننظر ما يتجدّد، ففى الليل والنهار عجايب. ونكتب

(6) نصحايى: نصحاى

(9)

قادرا: قادر

ص: 226

للسلطان نعرّفه أن يعطينا البيرة وقلعة الروم. فإن أجابنا قعدنا فيهما إلى <أن> تدركنا آجالنا، ونكون قد أمنّا على نفوسنا، ولا ندخل آخر العمر فى دماء المسلمين. وإن امتنع كان لنا رأى آخر. -ثمّ إنهما عدّيا إلى ذلك الجانب، ورجع مهنّا إلى الرحبة ليستغلّ. وكتبوا مطالعة للأبواب العالية يسألوا أن ينعم عليهما بقلعتى البيرة وقلعة الروم

فبينما هما (6) فى انتظار ما يتجدّد إذ وصل إليهما عزان السلحدار من عند الملك خدابنداه فى البريد طاير طيران، وصحبته ابن عمّ صاحب ماردين وابن قاضى بغداد، ونسخة اليمين لهم من جهة الملك خدابنداه.

وتحدّث معهما عزان حديثا كثيرا (9) ممّا حمّله خدابنداه مشافهة ممّا يطيّب خواطرهم ويستميلهم ويرغّبهم. وكان أيضا قد وصل إليهما الأمير بدر الدين الزردكاش من دمشق، خرج الظهر منها، والنايب بها يومئذ جمال الدين نايب الكرك

قلت وممّا أحكيه ما شاهدته بالمعاينة لا بالإخبار: إنّ كان الوالد سقى الله عهده إذ ذاك مهمندارا بالشأم، وقد انفصل من شادّ الدواوين بالسبب المذكور. فلمّا كان فى ذلك اليوم الذى خرج فيه الزردكاش طلب الأمير جمال الدين ملك الأمرا للوالد رحمه الله بعد الخدمة. وقال له:

يا جمال الدين، أنت قرناص ومملوك مصر، ولا تخفى عليك أحوال من يريد حركة. وقد بلغنى أنّ الزردكاش بيقصد الخروج من دمشق واللحوق بصهره الأفرم. فأشتهى منك تروح إليه فى حجّة شى تدبّره بعقلك

(6) هما: هم--عزان: يرد كذلك مرات بعد سطور، ولعله غزان

(9)

حديثا كثيرا: حديث كثير

ص: 227

وتنظر إلى أحواله كيف هو. فقد بلغنى أنّه بيخرج الساعة. فترجع تعرّفنى حتى نعمل بما نراه. -فخرج الوالد والعبد فى خدمته. وأتينا إلى دار الزردكاش فوجدناهم فى همّة وهرج، والأمير فى داره. فلمّا قالوا له:

جمال الدين المهمندار أتى إليك، خرج ووجهه كالزعفران صفرة، وعانق الوالد وحادثه، وأحضر سكّرا وليمونا (5) بثلج وأسقانا. ثم أمر بفرسين مسرجة قدّمهما للوالد. فامتنع الوالد وحلف لا يقبلهما وقال: يا خوند، إنّما حضر المملوك إلى باب الأمير بسبب الماء المعروف بالعكرشة الذى أصل مسيله من ضيعة الأمير ببلاد حوران، وهذا الماء من حقوق قرية خسفين الجولان إقطاع المملوك. وقد عمل المملوك بذلك محاضر مثبوتة على الحكّام بذلك. والمسئول من صدقات الأمير كتاب إلى الشحنة بضيعة الأمير أن يحمل الأمر فى ذلك على حكم المحاضر الشرعيّة. -فقال: يامير جمال الدين، أنت عمرك ما أتيت لى بيتا (12)، وقدّمت لك هؤلاء الخيل، حلفت ما تقبلهم، وأنا أقدّم لك كتب هذه الضيعة ملكا (13). -وأشهد عليه بتسليم ثمنها. فسبقه الوالد باليمين لا يقبل شيئا (14)، وحادثه ساعة، وهو فى غاية القلق حتى من جملة ما قال للوالد: يا خوند، حاشاك، لى صغير وهو فى هذه الساعة ينازع، ولمّا سمعت بخدمتك خرجت وخلّيته. -فنهض (16) الوالد، وخرج معنا بنفسه إلى عند الركوب، والوالد يحلف عليه وهو يأبى الرجوع، وهو لابس خفّه مسدود بغلطاقه التترىّ، وكذلك جميع مماليكه لابسين قماشهم. ثمّ إنّ الوالد رجع إلى ملك الأمرا وحكى له الصورة وقال له:

(5) سكرا وليمونا: سكر وليموا

(12)

بيتا: بيت

(13)

ملكا: ملك

(14)

شيئا: شى

(16)

فنهض: فنهظ

ص: 228

يا خوند، إن كان بلغك عنه حركة فلا شكّ فيها وهو يخرج الساعة. - فقال: الله يجعلها عليه طريقا (2) مباركة، -يقول هكذا والله وأنا أسمع، وما كان إلاّ حيثما فارقناه. وركب من ساعته أذان الظهر، وخرج من دمشق معاينة بالإجهار ولم يتبعه بشر. فهذا كان خروج الزردكاش

ولنعود إلى ما كان من أمر قراسنقر ورفقته! وكان من جملة كلام عزان لقراسنقر يقول: الملك القآن ملك البسيطة يسلّم عليك وعلى الأمرا الحاضرين معك ويقول: قد بلغه أنّكم عدّيتم إلى نحو بلادى، ودستم أرضى وطلبتم بابى، فأهلا بكم وسهلا! وقد سيّرت إليكم نسخة الأيمان ماية يمين، وأنا أعطيك بغداد والأمير جمال الدين سنجار وديار بكر، ومهما طلبتم عندى. -ومن هذا الكلام ومثله فى زيادة التأكيد والحثّ على توجّههم إليه

فبينما هم فى مثل ذلك إذ ورد عليهم قاصد يخبرهم أن قد مسك جماعة من الأمرا الكبار وجميع من كانوا فى التجريدة. وذلك أن لمّا لم يرا مولانا السلطان لتلك التجريدة أثرا (14)، وأنّهم كانوا سبب تشويش البواطن، وبلغه عنهم مداجاة وعدم مناصحة، استقدمهم ومسك جماعة كبيرة خلا الخطيرىّ والملك، فإنّه أعزّ الله أنصاره رأى لهما لمّا تحقّق عنده من حسن مناصحتهما. ومن قول القاصد لقراسنقر: إنّه قد جرّد لكم ألف مملوك، وأعطاهم الهجن والخيل والجياد، وأمرهم أن يدركوكم قبل توغّلكم فى البلاد، ورسم لعساكر الشأم أن يكونوا خلفهم لأجل

(2) طريقا: طريق

(14)

أثرا: أثر

ص: 229

النجدة. فعند ذلك أجمعوا آرايهم على الدخول إلى الملك خدابنداه، وتحالفوا على ذلك

وعقيب ذلك وصل إليهم سوتاى بعشرة آلاف من المغل. وكان هذا الأمير نازلا (4) على سنجار، فورد عليه مرسوم الملك خدابنداه أن يتوجّه ويلتقى الأمرا الإسلاميّة. فقدم عليهم وركبوا الجميع وقصدوا الأردوا، وانقطع أملهم من بلاد الإسلام، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلى العظيم، وأوقفهم أيضا على فرمان خدابنداه لهم، زيادة فى الترغيب والحثّ على سرعة مثولهم إليه. ولم يزالوا متوجّهين إلى أن وصلوا بغداد. فخرج كلّ من بها من النسا والرجال. هذا وقد طلبوا الأمرا وألبسوا مماليكهم العدد، وقدّموا قدّامهم ماية مملوك زرّاقين يلعبون بالنفط ووراهم ماية أخر يلعبون بالرماح كرّا وفرّا (11). وقد ترجّل فى خدمة قراسنقر عدّة كبيرة من المغل، ومنهم أخو (12) صاحب ماردين، وأخو صاحب سيس، ومن أمرا المغل تمرجو، وجنقر، وطحوا، وبزلار، وسوتاى يحجبهم. وفرشوا لهم تحت أرجل خيلهم الثياب النسيج والكمخا والخويى وغير ذلك. وكان لدخولهم بغداد يوم مشهود، خرجت فيه البنت فى خدرها. وأنزلوهم فى قصر الخلافة. ومدّ لهم خوان (16) عظيم. وقدّمت أهل بغداد لهم التقادم الحسنة من كلّ شئ مليح وكذلك صاحب العماديّة وصاحب جبال الغار. وأقاموا ببغداد ثلاثة أيّام

ثمّ توجّهوا طالبين الأردوا. فلمّا وصلوا بالقرب من منزلة القآن ألبسوا مماليكهم جميعهم القرقلات الأطلس وكذلك خيولهم البركستوانات الأطلس

(4) نازلا: نازل

(11)

كرا وفرا: كر وفر

(12)

أخو: ابن، مصحح بالهامش

(16)

خوان: اخوان

ص: 230

والخوذ الذهب البهادريّة. ونشروا صناجقهم، ودقّت طبلخاناتهم، ونعرت بوقاتهم، ولعب (2) الزرّاقين بالنار، وطلع الدخان، وكثر العجاج. ومدّ كلّ واحد من الأمرا قدّام طلبه خمسين جنيبا (3) ملبسة على أيدى الوشاقيّة والنجّابين.

ومدّ قراسنقر قدّام طلبه ماية جنيب مشهّرة شهب وخضر وبلق وحمر وصفر، كلّ عشرين لون وزىّ فى الملبوس، وقدّام عشرة قطر بغال خزانة وقدّامها صوغان الخزندار، وقدّامه عشر فهودة وسبعين بزدار، وتحت ركابه خمسين خرسانى وثلاثين برددار. وأقاموا ناموس مملكة الإسلام حتى دهشوا لمّا رأوا ذلك أمرا المغل. ولم يزالوا كذلك حتى قرّبوا من مجلس القآن. ترجّلت أمرا المغل، ودخلوا فى دست عظيم لا يعبّر عنه. وركب القآن بنفسه والتقاهم أحسن ملتقى. فلمّا وقعت عينهم عليه نزلوا وترجّلوا وضربوا جوك، وقد غضب الله تعالى عليهم ولعنهم وأعدّ لهم جهنّم وبئس القرار! ثمّ أمرهم بالركوب، فركبوا وعاد قراسنقر من على يمينه والأفرم من على يساره والزردكاش قدّام مع جوبان. وعاد القآن يحدّثهم ويضاحكهم ويكارشهم. هذا وهما كأنّهما يرياه فى المنام، لما دخل فى قلوبهم من وحشة الإسلام. ولم يزالوا كذلك حتى نزلوا مع القآن، وقد جعل لهما كراسى عن يمينه ويساره. ومدّ لهم خوان (16) كبير، أكثره خيول يخنى وخراف قشلميش. وحضر فى ذلك اليوم عدّة من رسل البلاد، مثل بلاد كوبك وبلاد كبلك وبلاد أزبك والكرج وبلاد الكلب وبرطاس وعبدة النار. وأعرض عليهم خدابنداه جيوشا (19) كالمطر، لكنّهم كالقشّ بغير ترتيب، وهم عدّة بلا عدّة. ثمّ

(2) ولعب: ولعبت

(3)

جنيبا: جنيب

(16)

خوان: اخوان

(19)

جيوشا: جيوش

ص: 231

انتقلوا فى ذلك اليوم إلى مخيّمهم فى منزلة بقرب منزلة القآن. ونقل إليهم شئ كثير من الإقامات والعلوفات

فلمّا كان الغد حضروا للخدمة، ومدّ لهم الخوان، وأخلع عليهم وعلى جميع من كان معهم حتى الغلمان. وأنعم على كلّ مملوك من مماليكهم ستّ ماية درهم سلطانيّة. وسيّر للأمرا القماش المفتخر مثل النسيج والنخّ واليرمك (5).

وسيّر إلى قراسنقر ثلاثين إكديش روميّة وستّة قطر بخاتى، وللأفرم مثله، وللزردكاش خمس أكاديش وقطار بخاتى. ولم يزالوا فى إنعام القآن سبعة أيّام، فى كلّ يوم إنعام جديد

ثمّ إنّ قراسنقر بعد ذلك سيّر تقدمته، وهو ما يذكر من الخيول العربية، وثلاثين حصانا مثل: قمر وبريد والحجازىّ والزاملىّ والمهناوىّ والحسانىّ، والنميرىّ وأبى (11) شامة وابن البحرين وابن الطويلة وزريق والخيال الكبير وعسّاف والبرقىّ وعدو الغزالى والأخوص والمغربىّ والخالدىّ والسلطانىّ وقشمر والعربيد وزعزاع والتركمانىّ وساق الكركىّ وطغج وابن العطال والميساوىّ والفضلىّ والعيساوىّ والكبكىّ، ومن الحجورة عشرة مثل: فهيدة وضبعة والحسانيّة وعبلة والدلقا وبنت الطويلة وبنت ميّاسة والمهناوية وبنت قمر والصالحيّة، وشدّ عليهم السروج الذهب والزرخونى والكنابيش الزركش.

فعادوا يشعلوا فى ضوء الشمس ممّا يأخذ بالبصر، وصحبتهم ماية مملوك على على يد كلّ واحد بقجة قماش سكندرىّ وعمل دار الطراز وماية خلعة طرد وحش مقصّب وشاشات خليفتيّة وكلوتات زركش وجتر أطلس مزركش وسبع أرقاب مزركشة وغير ذلك. وكذلك سيّر الأفرم تقدمته

(5) اليرمك: كذا فى الأصل وربما المقصود به «الأرمك»

(11)

وأبى: وابو

ص: 232

ممّا يقارب هذا، لكن ما وصل إلى جميع ما ذكرناه. فإنّ قراسنقر كان أسعد من الأفرم، بدليل أنّ قراسنقر كان طمّاعا خسيسا محصّلا (2)، وكانت نفسه تحدّثه بآمال خايبة وأمانى كاذبة بأنّه يكون منه ملك. فكانت آلات المملكة عنده مجهّزة. وأمّا الأفرم فإنّه كان رجلا قصيفا نهّابا وهّابا (4)، لا له تطلّع إلاّ إلى قدح ومليح. فلم يكن عنده بعض ما كان عند قراسنقر

قال الناقل لهذه الأخبار: فلمّا عاين خدابنداه تقدمة قراسنقر أعجبه إعجابا كبيرا، وأحضرهم فى اليوم الثانى، وقد جلس فى مجلس الشراب. وجدّد عليهما الخلع السنيّة. وحضروا أمرا المغل الكبار والخواتين. ودارت عليهم الكاسات، وشرب قراسنقر من ذلك القمز وقراقمز، وشرب الأفرم من ذلك الخمر العتيق. وأحضر قراسنقر جوقة مغانى جوار كأنهن الأقمار، وغنّوا بالطار والزمر، وأعجب ذلك الخواتين.

قال: فلمّا طاب قراسنقر ونسى الهمّ وطرحه خلفه، وقد احمرّ وجهه وتفرّقت شيبته التى قد ختم الله لها بالشقاوة بعد السعادة، نهض (13) قايما وضرب جوك للقآن وقال: أشتهى أكلّم القآن كلمتين. -فقال الملك خدابنداه:

تكلّم (15) بما تشتهى، يامير شمس الدين، ويكون كلامك أقوى من الحديد ولا تنجبه، ولا تخلّى كلاما (16) تريد تقول. -فقال: الله يحفظ القآن! ملكتوا البلاد العامرة والقلاع الحصينة وأخربتوها، والرعيّة عمارة الأرض قتلتوها، وجميع الأموال سبكتوها حجارة وتحت الأرض دفنتوها. وعندكم الخير كثير ما تعرفوا تعيشوا فيه. وفى بلادكم الغلال والأنعام والمواشى، وخيار

(2) طماعا خسيسا محصلا: طماع خسيس محصل

(4)

رجلا قصيفا نهابا وهابا: رجل قصيف نهاب وهاب

(13)

نهض: نهظ

(15)

تكلم: اتكلم

(16)

كلاما: كلام

ص: 233

أمير عندكم ما له عيشة غير أكلة دشيش، وخيولكم بلا علف سايبة فى الدشارات ما ترفد لسوق، كونها خالية من العلف. الله يحفظ القآن، يرسم للمملوك أدبّر هذا الحال بما أراه من المصلحة، وعلىّ (3) الضمان أنّى أفتح لك إلى آخر مغرب الشمس، فتكون ملك المشرق والمغرب. -وتكلّم كلاما كثيرا (5)، هذا زبدته وملخّصه. قال: يامير شمس الدين، قد فوّضت إليك جميع أمر مملكتى، افعل ما تراه من المصلحة

قال: ثمّ بعد ذلك جلس قراسنقر واستخرج الأموال وأحضر ضمان الأقاليم وصادرهم. وحصّل الأموال العظيمة ورتّب ترتيب ممالك الإسلام فى جميع آلات الملك. وجعل فى المطابخ الطبّاخين الماهرين يطبخوا أنواع الأطعمة المفتخرة. ورتّب شربخاناه وطشتخاناه وفرشخاناه، وعادوا الطشتداريّة يخدموا بالماورديّات. وكذلك رتّب للخواتين جميع الأشيا الحسنة من الحلاوات والأشربة والفواكه. وطلب لهنّ (12) المواشط من الأقاليم لإصلاح شأنهنّ.

وكذلك رتّب للأمرا وأقطعهم البلاد، وعاد لهم أستاداريّة، أقامهم لهم قراسنقر من مماليكه، وجعلهم عليهم كالعيون له يطالعونه بجميع ما يتكلّمون به.

وكذلك رتّب حمّام خشب بأحواض رصاص تحمل على البخاتى لأجل القآن والخواتين. قال: وأعجب هذا الحال الخواتين إعجابا كثيرا (16). وأمر أن تصاغ لهنّ (17) المصاغات المفتخرة. وعمل لهنّ من البدلات الزركش.

وفصّل لهنّ (18) القماش العالى، حتى أخذ بعقول كبارهم وصغارهم. هذا كلّه يجرى وجوبان ينظر وهو يتفطّر ويتميّز (19) من قراسنقر، ولا يقدر يفوه فى حقّه بشى

(3) علىّ: عليه

(5)

كلاما كثيرا: كلام كثير

(12)

لهن: لهم--شأنهن: شأنهم

(16)

إعجابا كثيرا: اعجاب كثير

(17)

لهن: لهم--لهن: لهم

(18)

لهن: لهم

(19)

يتميز: مير؟؟؟

ص: 234

الما رأى من ميل القآن والخواتين وكبار المغل إليه. هذا ما كان من أمر قراسنقر

وأمّا الأفرم فإنه لم يشتغل بشى ممّا اشتغل به قراسنقر من تدبير الأمور.

وإنما اندرج فى منادمة الملك خدابنداه وأخذ بقلبه وملك لبّه. فإنّ هذا الأفرم عمره حريف طيبة وصاحب لذّة وفكاهة، طيّب العشرة، حسن المحاضرة. فمال إليه خدابنداه بخلاف قراسنقر. ثمّ إنّ الأفرم ما تحدّث مع خدابنداه يوما واحدا (7) فى غير ما يلزمه من الحرفانيّة والمنادمة، ووصل من ذلك حتى لبس السراقوج بين يدى خدابنداه. واستقرّ أمرهما كذلك إلى حيث ما يذكر من بقيّة أمرهما عند مأتاهما بالتتار إلى الرحبة وعودتهما خايبين (9)

قلت: قد ذكرنا بمعونة الله تعالى جميع أخبار قراسنقر مفصّلة ملخّصة، وذلك ما صحّ نقله وحسن من إثباته فى هذا التأريخ المبارك.

وأمّا ما كان من مآثر سيّد الملوك، وملجأ كلّ غنىّ وصعلوك، مالك رقاب ملوك أملاك الأكاسر، مولانا وسيّدنا السلطان الأعظم الملك الناصر، لا زالت أعدايه من هيبة سلطانه مرتدّين ضالّين غير مهتدين، قد سلّت سيوفه عليهم فى اليقظة (15) والأحلام، حتى عادوا لا يلتذّون بلذيذ المنام. فكان كما قال أشجع السلمىّ فى الإمام، خليفة الأنام، فى تلك الأيام <من الكامل>:

وعلى عدوّك يا بن عمّ محمد

رصدان ضوء الصبح والإظلام (19)

فإذا تنبّه رعته وإذا غفا

سلّت عليه سيوفك الأحلام

(7) يوما واحدا: يوم واحد

(9)

خايبين: خايبان

(15)

اليقظة: اليقضه

(19)

انظر «كتاب خاص الخاص» ص 88

ص: 235

وقد أخذ معنى هذين البيتين (1) أحمد بن سيّد اللصّ من شعرا المغرب فى الماية السادسة، وسمّى باللصّ لإغارته على معانى الشعرا المقدّمين، فقال <من الوافر>:

تراه فى غداة الغيم شمسا

وفى الظلماء نجما أو ذبالا

يروّعهم معاينة ووهما

ولو ناموا لروّعهم خيالا

وفيها حصل تغيّر للمزاج الشريف السلطانىّ، كفاه الله شرّ ما يخاف ويحذر، ولطف به وإن كان لم يزل ملطوفا به فى كلّ قضاء وقدر.

وذلك لمّا كان الثالث والعشرين من شهر ذى القعدة من هذه السنة المباركة حصل التوعّك الذى كان آخرته إلى السلامة والعافية، ومنّ الله على الإسلام بنعمه الوافية، فكان من قول العبد فى ذلك <من الكامل>:

إذا ما اعتلّ سلطان الورى

اعتلّت الأرض ومن فيها (11)

فالله كافيه من الأسوا كما

أضحى لكلّ الخلق كافيها

وكان أصل ذلك ممّا حمل على خاطره الشريف من هذه الأحوال النكدة، ولا يطلع على سرّه أحدا، ولا يورّى الأعدا إلاّ تجلّدا، على أنّ سعة صدره الشريف لا يحدّ بالقياس، ولا يؤثّر (15) فيه وسواس الخنّاس، فهو بحمد الله كما قيل <من الكامل>:

لله صدر للإمام كأنّما

أقطار طاعته به قطمير

تتزاحم الأضداد فيه وتنثنى

عنه وليس لوقعها تأثير

وأثبت ما تراه نها وجأشا

إذا دهش المشاور والمشير (19)

(1) هذين البهتين: هذان البيتان

(11)

البيت مضطرب الوزن

(15)

يؤثر: ياثر

(19)

البيت مضطرب الوزن

ص: 236

قال الله تبارك وتعالى {ما (1)} يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ والقطمير قمع التمرة.

ولم تزل الناس والأمّة، تحت هذه الشدّة والغمّة، حتى أغاث الله عباده، وأمصاره وبلاده، ومنّ على الأنام، بعافية سيّد ملوك الإسلام، وزالت الآلام، ودخل الجمام، وسارت البشاير على أجنحة الحمام، وحصل السرور العامّ، للخاصّ والعامّ. وكان فى طول تلك الأيّام لا يدخل إليه غير سودى الجمدار، لما كان يتحقّقه منه من عقله الوافر وكتمه للأسرار.

ثمّ سأل منه عمّا تجدّد من الأخبار، فقبّل الأرض مرار، وقال:

هذا شكرا لله والملك القهّار، الذى منّ علينا بعافيتك، يا ملك الأقطار، أمّا الأحوال فمستقيمة. وقد كانت الدنيا لسقمك سقيمة، فالحمد لله على صدقاته العميمة، وأياديه الجسيمة. -فرسم له أن يطلب الأمير سيف الدين بينجار، ليسأل منه عن جليّة الأخبار. فلم يكن بأسرع أن حضر وقبّل الأرض بين يدى المواقف الشريفة، وفاز دون العالم بمشاهدة تلك الأخلاق اللطيفة، التى أرقّ من البارد الزّلال، وسمع تلك الألفاظ التى كالسحر الحلال

ثمّ برز المرسوم الشريف: أن يصرف من الخزانة المعمورة من خاصّيّة مال مولانا السلطان ألف دينار عين مصريّة، ويستفكّ بها من بالسجون، من أرباب الديون، وأن يغسل ما عليهم من المساطير الشرعيّة، ويفتقد من فى سجون الولاية من الرعيّة ويتتبّع صلاحهم، ويطلق سراحهم، فامتثل جميع ذلك، فى ساير الممالك. وجلس نصره الله على أعداه، وبلّغه قصده ومناه، يوم الخميس فى الإيوان، ومدّ الخوان (20)، وأخلع الخلع السنيّة على ساير الأمرا والمقدّمين والأعيان، وفرّق مثالات أخباز الجند المتوفّيين.

(1) ما: ولا--السورة 35 الآية 13

(20)

الخوان: الاخوان

ص: 237

وتصدّق بها على أولادهم الأيتام المنقطعين، وادّخر بذلك عند ربّ العالمين.

ثمّ ركب نهار السبت، ولعب الأكرة بالميدان. وطلع بعد العصر إلى القلعة المحروسة راكبا كالأسد الغضبان. وتوجّه البريد إلى ساير الممالك الإسلاميّة بهذه البشاير السنيّة

وفيها كان هدم الإيوان الأشرفىّ وتجديده، وزخرفته بأحسن صناعة مجيدة. ولم يزل كذلك حتى أمر بهدمه وعمارته فى سنة أربع وثلاثين وسبع ماية، حسبما يأتى من ذكر ذلك فى تأريخه

وفيها أعرض الحلقة المنصورة، وشملت ساير العساكر صدقاته المبرورة.

ومن كان قد كبر وعجز عن الخدمة، وكان له فى الإسلام سابقة وقدمة، فإن كان له ولد صالح للخدمة الشريفة، أنعم عليه بخبز أبيه وما يكون بيده، إن كان ذا (11) وظيفة، ويتصدّق على الشيخ براتب يموّنه لتقرّ بذلك عيونه. ومن صلح للزيادة زاده، وأكمد بذلك أضداده. ومن كانت سيرته ذميمة، وأحواله غير مستقيمة، قطعه وأنعم بإقطاعه على مستحقّه، وعرف له الواجب من حقّه، وخرج المقطوع يقلّب كفّيه، ولم يلق من حنين غير خفّيه. فكان ذلك العرض كيوم العرض، هذا قد فاز بحسناته، وهذا قد ندم على سيّئاته. فأمّا أصحاب اليمين، فمن القطع آمنين، وأمّا أصحاب الشمال، فقد خابت منهم الآمال. ولم يخرج من بين يديه من قريب ولا بعيد، إلاّ وقد فاز بوعد أو خسر بوعيد {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} (18) وكان قبل ذلك حصل تغيّر الخواطر الشريفة على القاضى فخر الدين ناظر الجيوش المنصورة وسلّم لفخر الدين أياز أستادار (20) الأعزّ، وصودر وأهين إهانة (21) كبيرة، وكذلك ولده شمس الدين عبد الله

(11) ذا: ذو

(18)

السورة 11 الآية 105

(20)

استادار: استدار

(21)

إهانة: اهنه

ص: 238

فلمّا كان هذا العرض كان قطب الدين بن شيخ السلاميّة جالسا فى العرض، وكذلك أمين الدين بن العنام وكريم الدين الصغير. وبين يدى مولانا السلطان من الأمرا الأمير سيف الدين أرغون النايب بالأبواب الشريفة، والأمير سيف الدين طغاى، والأمير سيف الدين كستاى الناصرىّ، هؤلاء من الأمرا الخاصّكيّة، وأمّا الأمرا أرباب المشور الجلوس فى ذلك الوقت، فالأمير سيف الدين قلى السلحدار والأمير علاء الدين أيدغدى شقير الحسامىّ، وأمير حاجب قايم بين يدى المواقف الشريفة الأمير سيف الدين بكتمر الحسامىّ. فلمّا شرع مولانا السلطان فى العرض المبارك، عادوا الدواوين الذين بين يديه الشريفتين قليلى الخبرة بالجيوش، ولا يعرفون الجندىّ الجيّد من غيره ولا القديم الهجرة بالأبواب الشريفة من المستجدّ. فرأى مولانا السلطان أنّ هذه الوظيفة (11) لا يقوم بها أحد مثل القاضى فخر الدين، فسيّر للوقت ورضى عنه وأخلع عليه وجلس فى بقيّة هذا العرض، وقال له:

يا فخر الدين، أعرضنا هذا الجيش فوقعنا فى بحر زاخر، ولا علمنا المستحقّ من غيره. -فجلس القاضى فخر الدين، وأعرض بخبرة ومعرفة تامّة.

وعرّف مولانا السلطان الدخيل فى الجنديّة من القرارىّ المستحقّ. وبطل كلام الحاجب وغيره. فلمّا كان آخر العرض قال لمولانا السلطان: يا خوند، أعطى الناس دستورا (17)! فما بقى قدّامك شى تعطيهم. -فكان الأمر كذلك، وفاز من فاز بالزيادة، وخسر من خسر بالقطع. فكان كما قال الله تعالى {السّابِقُونَ السّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ} (19)

هذا وقد راحت الأخبار لقراسنقر بما فعل مولانا السلطان عزّ نصره من التيقّظ لجيوشه، وحسن النظر الشريف فى أحوال عساكره.

(11) الوظيفة: الوضيفه

(17)

دستورا: دستور

(19)

السورة 56 الآيات 10 - 12

ص: 239

فحصل له من الذلّ والانكسار، ما ظهر عليه وبان، ممّا لحقه من هيبة مولانا السلطان، التى شاعت فى الأقطار حتى أعلنت بذلك الركبان، وتعلّقت بأجنحة العقبان. قال: فخلا بالأفرم وقال له: ما عندك من أخبار مصر والسلطان الملك الناصر؟ -فقال: أمّا أنا فقد شغلنى شرب الراح، ورشف الأقداح، ومغازلة الملاح، عن سماعى للأخبار الصّحاح. فما عندك من الأخبار؟ -فقصّ عليه القصص، وهو يتجرّع الغصص، فقال الأفرم: يامير شمس الدين، هذا ملك لله به عناية، ولا بدّ له فيه نهاية، ومن كانت لله فيه إرادة، فنهايته إلى السعادة. -فقال قراسنقر:

ما كنت أظنّ أنّ الأحوال بعدنا تستقيم، والملك لا شكّ عقيم. ونحن فكنّا ظالمين، فلقّانا ونصره علينا ربّ العالمين، ولا نعلم ما يكون من أمرنا مع هؤلاء الملاعين، الذين ليس لهم قول ولا دين، فلا حول ولا قوّة إلاّ (12) بالله العلىّ العظيم

قلت: ولقد حدّثنى من أثق بقوله: أن كان أكبر أسباب توجّه الأفرم إلى قراسنقر وعبوره معه إلى البلاد، أنّه كان سيّر إلى الشيخ صدر الدين بن وكيل بيت المال المعروف بابن المرحل المقدّم ذكره وشئ من رقيق شعره فى الجزء السابع من هذا التأريخ، وهو يقول له: تكشف لى الأخبار بمصر، وما يكون من أمرى، وتكتب إلىّ بذلك ملغزا. قال: فكتب إليه يقول <من الطويل>:

أيا جيرة بالقصر كان لهم مغنى

رحلتم فعاد القصر لفظا بلا معنى

وأظلم لمّا غاب نور جماله

وقد كان من شمس الضحى نوره أسنى

يعزّ علينا أن نرى الدار بعدكم

وما نحن فيها سادتى مثلما كنّا

(12) الا. . . العظيم: بالهامش

ص: 240

لقد كانت الدنيا بكم ذا نضارة (1)

ونعمى فأعمى الله عينا أصابتنا

سقيت ديار الظاعنين مدامعى

وقد شحّ ماء المزن يا ليته أغنى

وعيشكم ما الدار منذ رحلتم

زمانكم لا والذى أذهب الحسنا

ولا غنّت الورقا فأشجت بصوتها

ولا هزج يجزى ولا مطرب غنّى

ولا راقت الآصال إلاّ صبابة

ولا حرّكت ريح الصبا طربا غصنا

بروحى أفدى الظاعنين وإن هم

أبوا أنّ نومى بعدهم يقرب الجفنا

يعزّ علينا بعد دارى عنهم

وقد كنت منهم قاب قوسين أو أدنى (7)

لغزه

وإنّى ألاقى ما ألاقى من الذى

لسمعى قد أصمى وجسمى قد أضنى (9)

لقد كنتم يا جيرة الحىّ رحمة

أياديكم تمحو الإساءة بالحسنى

وكنتم لنا من إن دعونا تؤمّنوا

وإن هم دعوا أن يجمع الشمل أمّنّا

وإن عادت الأيّام تجمع شملنا

سجدنا لربّ العرش شكرا وشكّرنا

قال: فلمّا فهم جمال الدين الأفرم ما فيه من اللغز رحل من وقته والتحق بقراسنقر، وسيّر للشيخ صدر الدين عشرين ألف اكروس (14)

ولمّا وصلوا إلى ماردين، كان الملك المنصور نجم الدين إيلغازى مريضا (16). فخرج إليهم ولده الملك العادل علاء الدين علىّ، وأخرج لهم الإقامات، وتوجّه فى خدمتهم إلى نحو خدابنداه، ووصل إلى أخلاط.

فلحقه البريد يعرّفه أنّ والده الملك المنصور توفّى إلى رحمة الله. فرجع

(1) ذا نضارة: ذو نظارة

(7)

قاب قوسين أو أدنى: السورة 53 الآية 9

(9)

أضنى: اظنا

(14)

اكروس: كذا فى الأصل

(16)

مريضا: مريض

ص: 241