الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولنعود إلى سياقة التأريخ بمعونة الله تعالى وحسن توفيقه! -وفيها كان عودة الركاب الشريف الناصرىّ إلى مصره، واستقراره بقصره
ذكر عودة الركاب الشريف السلطانىّ المالكىّ
الناصرىّ إلى محلّ ملكه بالديار المصريّة وهى المملكة الثالثة
السبب فى ذلك ملخّصا: وذلك لمّا أراد الله تعالى من جبر هذه الأمّة المحمديّة، أعاد إليهم الدولة الناصريّة المحمديّة، بلطايف خفيّة، تدقّ على الأفهام الوفيّة. وذلك لمّا كان يوم الثلثا حادى عشرين جمادى الآخرة خرج من الديار المصريّة جماعة من المماليك السلطانيّة الناصريّة وهم ثلاث ماية نفر، يقدمهم من الأمرا الأمير سيف الدين أنغاى قبجق السلحدار والأمير علاء الدين مغلطاى القازانىّ، متوجّهين إلى الكرك المحروس، قاصدين مهاجرين إلى الأبواب الشريفة الناصريّة
وكان الوالد سقى الله عهده يومئذ متولى الأعمال الشرقيّة وولاية العربان، وقد أضيف إليه النظر على قطيا وأعمال أشموم الرمّان. وكان الوالى بقطيا يومئذ يسمّى بدر الدين ميخاييل، ووالى أشموم يسمّى أمين الدين. فعبروا تلك الطايفة المهاجرة من ظاهر بلبيس، ولم ينزلوا بها، ولا شقّوها، ولا آذوا أحدا (16) فيها، ولا فى ساير أعمالها. وذلك لما كانوا يروا لنا من حقوق خدمتهم من قبل. فإنّ أنغاى كان لم يزل يتردّد إلى الأعمال وكنّا نخدمه. فرأى لذلك ومنع ساير من معه من التعرّض بأذيّة. وكان عبورهم ببلبيس (19) الثالثة من ذلك النهار. فلمّا كان بعد
(16) أحدا: احد
(19)
ببلبيس: بليس
الظهر وصل خلفهم من يتبعهم تقدير ألفى فارس، يقدمهم من الأمرا الأمير سيف الدين الملك الجوكندار مع جماعة من الأمرا فى تعدادهم طول.
فكانوا المهاجرين فى تلك الساعة بمنزلة الخطّارة، والذين فى أثرهم فى بلبيس، وعادوا يقصرون فى طلبهم. حكى لى والدى وقد رأيته فى تلك الساعة قد لاقى الأمير سيف الدين الملك وهما يتناجيان سرا. فسألته بعد ذلك، قال: قلت له: يا خوند، تمهّل على نفسك، فإنّ القوم الذين خرجتم فى طلبهم مستقبلون، وهم والله على الحقّ وأنتم بخلاف ذلك. قال والدى:
فلمّا سمع قولى تبسّم وقال: والله لقد صدقت، يا جمال الدين. دعهم، كتب الله سلامتهم، وبلّغهم مأمنهم
ثمّ إن أوليك القوم وصلوا قطيا ثانى يوم الصبح، وقد عملوا الليل كلّه. فنهبوها وأخذوا جميع حاصلها بالصندوق، ولم يزالون يحثّون السير الليل والنهار حتى وصلوا سالمين إلى الكرك المحروس اليوم الثانى من شهر رجب الفرد. فتلقّاهم مولانا السلطان عزّ نصره ملتقى حسنا ورتّب لهم الراتب الجيّد من جميع ما يحتاجون إليه. وأمّا العسكر الذى كان قد خرج فى طلبهم فلم يلحقوا لهم أثرا (15) غير فرس قد وقف أو جمل هجين قد أعيا. فوصلوا إلى الغرابى وعادوا على الأثر إلى ديار مصر بالقاهرة
حدّثنى الملك الكامل رحمه الله فى سنة عشر وسبع ماية بدمشق المحروسة ونحن بها يومئذ، قال: لمّا وصلت هذه الجماعة من مصر إلى ركاب مولانا السلطان نفذ عقيب ذلك إلى دمشق نجّاب وصحبته ثلاثة مماليك أحدهم فجليس إلى عند نايب الشأم الأمير جمال الدين الأفرم،
(15) أثرا: اثر
وعلى أيديهم كتب من مولانا السلطان عزّ نصره إليه وإلى جميع الأمرا الكبار بدمشق تتضمّن طلب المساعدة والمؤازرة والنصرة، وأنّ ركابه الشريف يقصد الحضور إلى دمشق، قال: فلمّا وقف ملك الأمرا على الكتاب الذى وصل إليه طلب جميع الأمرا، واجتمعوا بالقصر الأبلق وقرأ عليهم كتابه. وأحضروا أيضا كتبهم الواصلة إليهم. وضربوا فى ذلك مشورا كبيرا (6). ثمّ كتبوا الجواب، وهو جواب واحد، يتضمّن من القول:
إن كان العسكر المصرىّ معك فنحن أيضا فى خدمتك، وإلاّ فلا طاقة لنا بالمصريّين، ولا نرى سفك دما الإسلام، ونحن تبع (8) للمصريّين والسلام. - قال الملك الكامل رحمه الله: هذا كان جواب الأفرم التعيس، يقول كذا، ووافقوه جماعة من الأمراء على ذلك ظاهرا، وأجابوه فى كتبهم بخلاف ذلك باطنا، بحيث لا أطلع على ذلك الأفرم
فلمّا كان بعد يويمات يسيرة حصل بدمشق أراجيف وأقاويل، واشتهر الأمر أنّ الركاب الشريف السلطانىّ قاصد دمشق، وأنّ بعد توجّه تلك الطايفة المهاجرة الأولة انفتح باب المهاجرة إلى أبوابه العالية، وعادت الناس يصلون إلى خدمته أفرادا وأزواجا من كلّ فجّ عميق رجالا وعلى كلّ ضامر (16)، حتى اجتمع فى خدمته جمع رضيهم لحركة ركابه الشريف.
فلمّا تحقّق الأمر عند نايب الشأم جمع الأمرا وضرب مشورا ثانيا (17).
فهم كذلك إذ ورد من مصر بريد من عند بيبرس الملقّب بالمظفّر، وكان وصوله آخر نهار الجمعة، وأخبر أنّ أمور المظفّر مستقيمة، وكانت أخبار سقيمة، وعلى يده كتاب من قبله إلى الأفرم يتضمّن:
(6) مشورا كبيرا: مشور كبير
(8)
تبع: تبعا
(16)
من كل. . . ضامر: قارن السورة 22 الآية 27
(17)
مشورا ثانيا: مشور ثانى
إنّما خرجت هذه الطايفة الشّرذمة اليسيرة عن الطاعة لسوء بختهم وقلّة بصايرهم، ونحن لهم فى أشدّ الطلب، وإن أمعنوا فى الهرب، وسوف يجنوا ثمرة اعتمادهم، ولا ينفعهم من صار إليه ملاذهم. -وفى الكتاب التأكيد على نايب الشأم بحفظ المؤازرة والتيقّظ (4) فى ساير الأحوال
ولمّا كان صبيحة ذلك اليوم وهو نهار السبت، اجتمع الأمرا وأحضر القضاة والمصحف المطهّر، وجدّدت الأيمان للمظفّر، ونادوا بدمشق:
سلطانكم المظفّر، ومن تكلّم فيما لا يعنيه شنق. -وعاد فى تلك الأيّام الناس يعبرون من ظواهر دمشق إلى البلد، وحصل فى أبواب دمشق الازدحام كأيّام الجفل
ثمّ حضر جندىّ وأخبر أنّ ركاب مولانا السلطان الملك الناصر وصل إلى مدينة أذرعات. وظهر من الأفرم المعاندة والمنع، وأنّه لا يمكّنه من العبور إلى دمشق البتّة. وكان قد سيّر قبل ذلك الأمير علاء الدين أيدغدى شقير الحسامىّ والأمير بدر الدين جوبان ليردّوا مولانا السلطان عن قصده. فعاد الأميران من عند مولانا السلطان، وقد أخلع عليهما وأنعم عليهما بذهب له صورة، وخفض (15) لهما جناحه الشريف من ليّن القول. فرجعا وقد استمالا إلى خدمته. ورأى ملك الأمرا أنّ أحواله مع أكثر الأمرا محلولة. فاحتاج أن يلين عن القساوة خوفا على نفسه. ثمّ إنّه سيّر الأمير سيف الدين بهادر آص والأمير سيف الدين بكتمر الحاجب ليشيرا على مولانا السلطان بالعودة إلى الكرك. فعادا إلى دمشق ليلة الثلثا وأخبرا أنّهما لم يجدا مولانا السلطان عزّ نصره بتلك المنزلة التى كان بها، وأنّه رجع إلى الكرك المحروس، ولم يعلم سبب ذلك
(4) والتيقظ: والتيقض
(15)
وخفض: وحفظ
حدّثنى أحد المماليك السلطانيّة بعد ذلك يعرف بالأرغونى، كان له بالأعمال الشرقيّة إقطاع (2) قبل ذلك على متوفّر العربان، وكان من جملة من توجّه وهاجر إلى الكرك المحروس، قال: كان سبب عودة ركاب مولانا السلطان إلى الكرك تلك المرّة أنّه لمّا وصل إلى مدينة أذرعات كما تقدّم من ذكر ذلك كان قد ذكر لأنغاى والقازانىّ أنّ كتب الأمرا الشأميّين قد وردت عليه تحثّه على الحضور إلى دمشق وكان جرى ذلك. فلمّا وصل إلى خدمته الأميرين الأوّلين وأخلع عليهما ورجعا ونظر أنغاى لظاهر الحال أنّهما منعاه من الوصول إلى دمشق حدّثته نفسه الرديئة (9) أنّه يغدر بمولانا السلطان، ولم يعلم أنّ الملايكة له أعوان. فاجتمع رأيه ورأى القازانىّ على الغدر الذى عاد عاقبته وبالا عليهما. فأطلع مولانا السلطان على بواطنهما فركب فى الليل فى مماليكه وثقاته ومن يعتمد عليه من عشا. فلم يصبح الصباح إلاّ وقد قطعوا بلادا كثيرة (13). فلمّا أصبحوا طلبوه، فلم يجدوه لطفا من الله وتأييدا من النصر. فعادوا لحقوا ركابه الشريف، وقد صار فى قلعة الكرك. فلم يريهم إلا عفوا ورضا، لكنّ أمرهم بالنزول فى الربط دون القلعة. فهذا كان سبب رجوعه-نصره الله-أوّل مرّة وسبب ذنب أنغاى حتى ظفره الله به. واستمرّ الحال كذلك إلى شهر شعبان المكرّم
قال الملك الكامل رحمه الله: فلمّا كان ثالث شعبان شاع الخبر بحضور الركاب الشريف إلى دمشق المحروسة. وأنّ الأمير سيف الدين قطلوبك والأمير سيف الدين الحاجّ بهادر قد توجّها إلى خدمته. وكان توجّه قبلهما الأمير ركن الدين بيبرس المجنون والأمير ركن الدين بيبرس العلايى
(2) إقطاع: اقطاعا
(9)
الرديئة: الرديه
(13)
بلادا كثيرة: بلاد كثيرة--تأييدا: تأييد