الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاضى المالكىّ والحنبلىّ جرى بينهما كلام كثير. فلمّا سمع ملك الأمرا ذلك رجع عن المكاتبة بسببهم وأمر بتجهيزهم إلى الأبواب العالية وتوجّهوا.
فلمّا كان (3) يوم الجمعة سابع شهر شوّال وصل البريد، وأخبر أن كان وصول القاضى نجم الدين والشيخ تقىّ الدين إلى الديار المصريّة يوم الخميس ثانى وعشرين رمضان المعظّم من هذه السنة المذكورة
ذكر ما جرى للشيخ تقىّ الدين بمصر المحروسة
وذلك أنّه لمّا وصل فى ذلك التأريخ المذكور، عقد له مجلس (7) فى دار النيابة بحضور الأمير سيف الدين سلاّر، وأحضروا العلما والأيمّة القضاة الأربعة، وحضر الأمير ركن الدين بيبرس. فتكلّم القاضى شرف الدين بن عدلان الشافعىّ، وادّعى (10) على الشيخ تقىّ الدين دعوى شرعيّة فى أمر عقيدته.
فعند ذلك قام الشيخ تقىّ الدين وحمد الله تعالى وأثنى عليه وتلجلج. ثمّ أراد أن يذكر الله ويذكر عقيدته فى فصل طويل. فقالوا له: يا شيخ، الذى بتقوله معلوم، ولا حاجة إلى الإطالة، وأنت قد ادّعى عليك هذا القاضى بدعوى شرعيّة، أجيب عنها! -فأعاد القول فى التحميد وحاد عن الجواب، فلم يمكّن فى تتمّة تحاميده. فقال: عند من هى هذه الدعوى؟ -فقالوا:
عند القاضى زين الدين المالكىّ. -فقال: عدوّى وعدوّ مذهبى. -فكرّروا عليه القول مرارا، ولم يزدهم على ذلك شيئا وطال الأمر. فعند ذلك حكم القاضى المالكىّ باعتقاله على ردّ الجواب. فقال الشيخ {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} (19) فأقاموه من المجلس واعتقل، وسجن أيضا إخوته فى برج من أبراج القلعة
(3) فلما كان: بالهامش
(7)
مجلس: مجلسا
(10)
ادعى: ادعا--دعوى: دعوا
(19)
السورة 12 الآية 33
فبلغ القاضى أنّ جماعة من الأمرا يتردّدون إليه وينفذون له المآكل الطيّبة. فطلع القاضى واجتمع بالأمير ركن الدين فى قضيّته وقال: هذا يجب عليه التضييق إذا لم يقتل، وإلاّ فقد ثبت كفره. -فنقلوه هو وإخوته ليلة عيد الفطر إلى الجبّ بالقلعة
وكان بعد قيام ابن التيميّة من المجلس قد تكلّم قاضى القضاة بدر الدين ابن جماعة رحمه الله فى مسايل القرآن العظيم وشئ من عقيدة الإمام الشافعىّ رضى الله عنه. فقيل لقاضى القضاة الحنفىّ: ما تقول؟ -قال: كذا أعتقد. -فقيل لقاضى القضاة شرف الدين الحنبلىّ: ما تقول؟ -فتلجلج، فقال له الشيخ شمس الدين القروىّ (9) المالكىّ: قم، جدّد إسلامك! وإلاّ لحقوك بابن التيميّة وأنا أحبّك وأنصحك. -فخجل. فلقّنه القاضى بدر الدين بن جماعة القول، فقال مثل قوله، وانفصل الحال
ثم كتب إلى دمشق كتاب يتضمّن أنّ مولانا السلطان خلّد الله <ملكه> قد رسم: أىّ من اعتقد عقيدة ابن التيميّة حلّ ماله ودمه. - وبعد صلاة الجمعة حضروا القضاة جميعهم بمقصورة الخطابة بجامع دمشق ومعهم الأمير ركن الدين بيبرس العلايى أمير حاجب الشأم يوم ذاك.
وجمعوا جميع الحنابلة، وأحضر تقليد قاضى القضاة نجم الدين بن صصرى باستمراره على القضا وقضا العسكر ونظر الأوقاف مع زيادة المعلوم، وقرأه زين الدين أبو بكر. وقرئ عقيبه نسخة الكتاب الذى وصل فيما يتعلّق بمخالفة عقيدة الشيخ تقىّ الدين بن التيميّة وإلزام الناس بذلك، خصوصا الحنابلة. فكان ما هذا نسخته:
(9) للقروى: القونى، مصحح بالهامش
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذى تنزّه عن الشبيه (2) والنظير، وتعالى عن المثيل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (3)
نحمده على أن ألهمنا العمل بالسنّة والكتاب، ورفع فى أيّامنا أسباب الشكّ والارتياب
ونشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، شهادة من يرجو (6) بإخلاصه حسن العقبى والمصير
وننزّه الخالق عن التحييز فى جهة لقوله تعالى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (9)
ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذى نهج سبل النجاة لمن سلك طريق مرضاته، وأمر بالتفكّر فى آلاء الله ونهى عن التفكّر فى ذاته
صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين علا بهم منار الإيمان وارتفع، وشيّد الله بهم قواعد الدين الحنيفىّ ما شرع، فأخمد بهم كلمة من حاد عن الحقّ ومال إلى البدع
وبعد: فإنّ العقايد الشرعيّة، وقواعد الإسلام المرعيّة، وأركان الإسلام العليّة، ومذاهب الدين المضيّة، هى الأساس الذى يبنى الإيمان (16) عليه، والمؤمّل الذى يرجع كلّ أحد إليه. والطريق التى من سلكها {فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً} (18) ومن زاغ عنها فقد استوجب عذابا أليما. فلهذا
(2) الشبيه: التشبيه
(3)
السورة 42 الآية 11
(6)
يرجو: يرجوا
(9)
السورة 57 الآية 4
(16)
الإيمان: بالهامش
(18)
السورة 33 الآية 71
يجب أن تنفّذ أحكامها ويؤكّد زمامها (1)، وتصان عقايد هذه الأمّة عن الاختلاف، وتزان قواعد الأيمّة بالايتلاف، وتخمد ثوائر البدع، ويفرّق من قوّتها ما جمع
وكان التقىّ بن التيميّة فى هذه المدّة قد سلّط (4) لسان قلمه، ومدّ عنان كلمه، وتحدّث فى مسايل الذات والصفات، ونصّ فى كلامه على أمور منكرات، وتكلّم فيما سكت عنه الصحابة والتابعون، وفاه بما يخفيه السلف الصالحون، وأتى فى ذلك بما أنكره أيمّة الإسلام، وانعقد على خلافه اجتماع العلما والحكّام، وشهر من فتاويه فى البلاد ما استخفّ به عقول العوامّ، فخالف فى ذلك علما عصره، وأيمّة شأمه ومصره، وبعث رسايله إلى كلّ مكان، وسمّى فتاويه أسماء {ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ} (10)
ولمّا اتّصل بنا ذلك، وما سلكوا مريدوه من هذه المسالك، وأظهروه من هذه الأحوال وأشاعوه، وعلمنا أنّه {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ} (13) حتى اتّصل بنا أنّهم صرّحوا فى حقّ الله بالحرف والصوت والتجسيم، قمنا فى الله تعالى مستعظمين لهذا النبإ العظيم. فأنكرنا هذه البدعة، وأنفنا أن نسمع عن من تضمّه ممالكنا هذه السّمعة. وكرهنا ما فاه (16) به المبطلون، وتلونا قوله {سُبْحانَ اللهِ عَمّا يَصِفُونَ} (17) فإنّه جل جلاله تنزّه عن العديل (18) والنظير {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (19)
(1) ويؤكد زمامها: بالهامش
(4)
سلط: تسلط
(10)
السورة 53 الآية 23
(13)
السورة 43 الآية 54
(16)
فاه: افاه
(17)
السورة 37 الآية 159 والسورة 23 الآية 91 - -الله: بعده بالهامش «وتعالى»
(18)
العديل: التعديل
(19)
السورة 6 الآية 103
وتقدّمت مراسمنا باستدعا التقىّ بن التيميّة المذكور إلى أبوابنا عند ما شاعت فتاويه شأما ومصرا، وصرّح فيها بألفاظ (2) ما سمعها ذو فهم إلاّ وتلا {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} (3)
ولمّا وصل إلينا، تجمّع أولو (4) الحلّ والعقد، وذوو التحقيق والنقد، وحضر قضاة الإسلام، وحكّام الأنام، وعلما الدين، وفقها المسلمين، وعقد له مجلس شرع، فى ملأ من الأيمّة والجمع، فثبت عند ذلك عليه، جميع ما نسب إليه، بمقتضى خطّ يده، الدالّ على معتقده، وانفصل ذلك الجمع، وهم لعقيدته منكرون، وآخذوه (8) بما شهد به قلمه عليه {سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ} (9)
وبلغنا أنّه كان استتيب فيما تقدّم، وأخّره الشرع الشريف لمّا تعرّض إلى ذلك وأقدم. ثمّ عاد بعد ردعه ومنعه، ولم تدخل تلك النواهى فى سمعه
فلمّا ثبت ذلك فى مجلس الحكم العزيز المالكىّ، حكم الشرع الشريف بأن يسجن هذا المذكور، ويمنع من التصرّف والظهور
ومرسومنا هذا يأمر بأن لا يسلك أحد ما سلكه المذكور من هذه المسالك، وينهى عن التشبّه به فى اعتقاد مثل ذلك، أو يغدو له فى هذا القول متّبعا، أو لهذه الألفاظ مستمعا، أو يسرى فى التجسّم مسراه، أو أن يفوه بجهة للعلوّ، مخصّصا أحدا (18) كما فاه، أو يتحدّث إنسان فى صوت أو حرف، أو يوسّع القول فى ذات أو وصف، أو يطلق لسانه بتجسيم،
(2) بألفاظ: باللفاظ--ذو: ذوو
(3)
السورة 18 الآية 74
(4)
أولو: اولوا--وذوو: ودوى
(8)
وآخذوه: وو اخدوه
(9)
السورة 43 الآية 19
(18)
أحدا: احد
أو يحيد (1) عن طريق الحقّ المستقيم، أو يخرج عن رأى الأمّة، أو ينفرد عن علماء الأيمّة، أو يحيّز الله تعالى فى جهة، أو يتعرّض إلى حيث وكيف، فليس لمن يعتقد هذا المجموع عندنا غير السيف
فليقف كلّ أحد عند هذا الحدّ، ف {لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (5) فليلزم (5_) كلّ من الحنابلة بالرجوع عمّا أنكره الأيمّة من هذه العقيدة، والخروج من هذه المشتبهات الشديدة، ولزوم ما أمر الله به من التمسّك بمذاهب أهل الإيمان الحميدة، فإنّه من خرج عن أمر الله تعالى {فَقَدْ ضَلَّ سَااءَ السَّبِيلِ} (8) وليس له منّا غير السجن الطويل من مقيل
ومتى أصرّوا على الامتناع، وأبوا (9) إلاّ الدفاع، فليس لهم عندنا حكم ولا قضاء ولا إمامة، ولا نسنح لهم فى بلادنا بشهادة ولا منصب ولا إقامة، ونأمر بإسقاطهم من مراتبهم، وإخراجهم من مناصبهم. وقد حذّرنا وأعذرنا، وأنصفنا حيث أنذرنا
فليقرأ مرسومنا هذا على المنابر، ليكون أعظم زاجر وأعدل ناه وآمر. وليبلّغ للغايب الحاضر
والخطّ الشريف أعلاه، حجّة بمقتضاه
وكتب هذا المرسوم عدّة نسخ، ونفذ إلى ساير الممالك الإسلاميّة.
وتولّى قراية هذا المرسوم الوارد بدمشق القاضى شمس الدين محمد بن شهاب الدين محمود الموقّع، وبلّغ عنه ابن صبيح المؤذّن. وأحضروا الحنابلة بعد ذلك، واعترفوا عند قاضى القضاة جمال الدين المالكىّ بأنّهم جميعهم
(1) يحيد: يتحيد
(5)
السورة 30 الآية 4
(5_) فليلزم: فليزم
(8)
السورة 2 الآية 108
(9)
وأبوا: وأبو