الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفيها أخلع على الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار خلعة النيابة بالأبواب العالية عوضا عن الجوكندار المقدّم ذكره، وجلس فى دست النيابة نهار السبت ثانى يوم قبض على بكتمر الجوكندار
وكذلك أخلع على الأمير جمال الدين آقوش الأشرفىّ المعروف بنايب الكرك بنيابة دمشق عوضا عن كراى المنصورىّ. فتجهّز وخرج على مهل فى طلبه
وفيها وردت الأخبار أنّ الأمير شمس الدين قراسنقر توجّه من طريق الحجاز الشريف راجعا عن الحجّ قاصدا لبيوت الأمير حسام الدين مهنّا بن عيسى أمير العربان بطىّ، مستجيرا به خوفا من السطوات الشريفة السلطانيّة
ذكر سبب تقفيز قراسنقر وآقوش الأفرم
ومن معهما ووصولهم إلى التتار
وذلك أنّ المراسيم الشريفة السلطانيّة أعلاها الله تعالى برزت بأن يجرّد خمسة آلاف فارس من الديار المصرية إلى الشأم المحروس، يقدمهم من الأمرا الأمير حسام الدين قرا لاجين أستادار، والأمير حسام الدين لاجين الجاشنكير المعروف بزيرباج، والأمير عزّ الدين أيدمر الخطيرىّ، بسبب المصالح الإسلاميّة. نفّذوا مناصحين قراسنقر إليه يقولون له: فخذ حذرك! فإنّ ما خرجت هذه التجريدة إلاّ بسبب القبض عليك. فخذ خلاصك ولا تقع كما وقع غيرك! -وفى جملة الرسالة إليه: والله إن وقعت له شوى لحمك وأطعمك
قلت: هذا حديث بيخان مملوك قراسنقر للعبد فى سنين العشرين والسبع ماية، لمّا كان بالديار المصريّة بعد عودته من عند أستاذه ومفارقته له على شاطى الفراة، لمّا عاد إلى نحو البلاد، حسبما نذكر من ذلك فى تأريخه إنشا الله تعالى. قال بيخان: فلمّا سمع قراسنقر ذلك نفّذ من ساعته ولده أمير علىّ بطلب دستور له إلى الحجاز الشريف، فرسم له بذلك فتجهّز. وقد حصل له السرور العظيم بذلك، وتوجّه من حلب طالبا للحجاز الشريف.
فورد عليه أيضا كتاب من مناصحيه وعيونه بالأبواب الشريفة: أن قد جرّد إلى الحجاز الشريف خمس ماية مملوك من المماليك السلطانيّة بسبب القبض عليك من الحجاز الشريف، ولو أنّك متعلّق بأستار الكعبة، فخذ خلاصك والسلام. -فعند ذلك حار فى أمره وضاقت مذاهبه، فرجع طالبا لبيوت مهنّا مستجيرا به، فوصل إليه وخرج له، والتقاه ملتقى حسنا، وأنزله عنده، وكان بينهما صحبة متأكّدة وأخوّة قديمة. فأطلعه على الكتب الواردة عليه من المناصحين. فقال له مهنّا: أقم عندى، حتى أكاتب مولانا السلطان فى أمرك، وأعرّفه أنّك رجعت عن عزم الحجاز لضعف حصل لك، وننظر بعد هذا ما يرد علينا ونفعل ما نراه
وأمّا ما كان من المجرّدين وأمرهم فإنهم نزلوا غزّة. فورد عليهم الخبر أنّ قراسنقر نزل الزرقا ورجع عن قصده الحجاز ورجع طالبا لحلب، وجفلت العربان من قدّامه وشالوا النار. فقال قرا لاجين للخطيرىّ: ما عندك من الرأى؟ -فقال: نصبر حتى نستصحّ الخبر، ونكاتب مولانا السلطان، ومهما رسم لنا بعد ذلك امتثلناه. -ثمّ ورد أيضا عليهم كتاب من بنى مهدىّ بصحّة عودة قراسنقر ونزوله على مهنّا
وفضل أخيه (1). فسيّروا للوقت طالعوا الأبواب الشريفة، وجعلوا كتاب بنى مهدىّ فى طىّ مطالعتهم
قال بيخان: إنّ قراسنقر هجم بيوت مهنّا على حريمه ومسك أذيال النسا اللاتى (4) لمهنّا، واستجار جيرة العرب. فألجأت مهنّا ضرورة الجيرة حتى أجاره، وقال له فى عرض كلامه: وتربة عيسى، ما يصيبك إلاّ ما يفضل عن رأسى، لكنك، يامير شمس الدين، أرميت روحك فى النار الحمرا وأرميتنا معك، فلا قوّة إلاّ بالله. كيف ما نظرت ما جرى على أسندمر، لمّا خالف المرسوم، وردّ تقليد طرابلس وتوجّه إلى حلب بغير دستور؟ - فقال: يامير حسام الدين، ما بقى فى الكلام فايدة، وأنا فى جيرتك والسلام.
وأنت كلامك مسموع عند مولانا السلطان عزّ نصره، وأشتهى تسيّر الأمير موسى ولدك، تسأله فيه ينعم علىّ بقلعة الروم أكون فيها نايبا (11)، وخلّصنى من حلب، فلى فيها سبعة وعشرين سنة. وقد ضجرت منها، ولا يحوجنى أدخل بلاد الكفر بعد الإيمان، وأنت تعرف أنّ صاحب سيس أعرض علىّ (13) قلاعه من قبل ذلك. وما من الواجب أن تضيع خدمتى، وقدم هجرتى فى هذا البيت، -وبكى بكاء كثيرا. فرقّ له مهنّا وجهّز ولده الأمير موسى وكتب مطالعة تعرض بين يدى المواقف الشريفة السلطانيّة أعزّ الله أنصارها (16)، وسيّر صحبته حصانا (17) أشهب، كان مولانا السلطان قد سمع به وسيّر طلبه منه، وحجرة خضرا، وثلاثة مماليك كالبدور الطلع، كان قد غار عليهم الأمير فضل وأخذهم من الدشار. وفى جملة المطالعة يستمطر سحاب كرمه الهامع، بلفظ كالدرّر تشنّف بحسنه المسامع، ويسأل لقراسنقر أن يتصدّق عليه بنيابة
(1) أخيه: اخاه
(4)
اللاتى: الذى
(11)
نايبا: نايب
(13)
علىّ: عليه
(16)
أنصارها: بالهامش
(17)
حصانا: حصان
قلعة الروم، وفيها فصل يعرّض بتوجّعه، كون أنّه شفع فى برلغىّ، فلم تقبل فيه شفاعته، وكان برلغىّ أصله من عند مهنّا قدّمه للسلطان الشهيد الملك الأشرف، نوّر الله ضريحه
قال بيخان: ولمّا توجّه موسى بن مهنّا من عند أبيه بهذه المطالعة والتقدمة، أشار مهنّا على قراسنقر بالعود إلى حلب. فامتثل أمره وتوجّه حتى صار بالقرب من تلّ الفرس، وكان بها يومئذ الأمير شهاب الدين قرطاى الحاجب. فلمّا بلغه عودة قراسنقر إلى حلب بغير مرسوم، منعه من الدخول إليها وسيّر يقول له: يامير شمس الدين، ما لك عندنا دخول إلاّ بمرسوم من مولانا السلطان عزّ نصره. -فأعاد عليه يقول:
كنت أظنّ أنّ كلّ أحد يقبح علينا إلاّ أنت، يامير شهاب الدين، ولكن هذا كلّه من الخمول، فتسيّر إلىّ (11) مملوكى جركس مع جميع أموالى وخزاينى. ولا تعوّقهم علىّ، فأنا نازل على تلّ الفرس حتى أنظر ما يرد علىّ من المرسوم وعليك أيضا بما تعتمده. -وكان قراسنقر قد سيّر للأمير مهنّا يعرّفه أنّ قرطاى منعه من الدخول إلى حلب، وعوّق مملوكه جركس وخزاينه وحريمه وأولاده. فسيّر مهنّا من وقته كتابا (15) إلى قرطاى على يد حاجبه محمد بن نصّار يقول له: يامير شهاب الدين، تطلق للأمير شمس الدين مملوكه وخزاينه وأولاده وحريمه، فإنّ مولانا السلطان سيّر يطلبه يكون نايبا بمصر عنده وقد رضى عليه، وأنت ما عندك خبر بذلك. -قال: فلمّا قرأ قرطاى الكتاب ندم على ما فرط منه فى حقّ قراسنقر، وأخرج جركس مملوكه مع جميع ماله وما كان له بحلب.
وسيّر يعتذر منه وحمل ثقله على ألفين جمل، وساق الأبقار والأغنام وخيل
(11) إلىّ: إليه
(15)
كتابا: كتاب
الدشار، وخرج من مماليكه وألزامه ألف فارس ملبّسين شاكين السلاح ومنهم رمّاحين وزرّاقين وغيرهم. وخرجوا أهل حلب بكمالهم حتى البنت فى خدرها لوداعه. وعاد فى ذلك اليوم (3) بكا وصراخ وعويل ممّا يبكى الحجارة، لمفارقة كلّ إلف إلفه. فإنّ كلّ إنسان من مماليكه وألزامه وحاشيته، قد صار له بحلب الأهل والأصهار والأصحاب والجيران والمعارف، فخرجوا الجميع لتوديعهم، وكان يوم مشهود. هذا وقد ضربت نقاراته وطبلخانته، ونعرت بوقاته، ونشرت صناجقه، وهو راكب قدّام ثقله، وذلك الأولة من نهار يوم الخميس
قال بيخان: إنّ قراسنقر لمّا استقلّ ركابه من حلب وصارت خلفه، التفت إلى نحوها وبكى حتى بلّت دموعه لحيته، وقال: صدق من قال: بيت الظالم خراب ولو بعد حين. -ثمّ طلب ناحية القبلة إلى فوق من بيوت مهنّا. فلمّا قرب من ديارهم خرج إليه مهنّا وفضل فى عشايرهم ووجوه قومهم، والتقوه ملتقى حسنا (13)، وأنزلوه قريبا منهم على شاطى الفراة.
وشاعت الأخبار فى جميع أقاليم الشأم بما جرى لقراسنقر. فتشوّش الناس والنوّاب بجميع الممالك الشأميّة. وسيّر الأفرم نايب طرابلس وكاتب الأمير مهنّا: إنّى أيضا واصل إليك بجماعة من أصحابى وألزامى وأمّا ما كان من المجرّدين الذين فى صحبة قرا لاجين وبقيّة الأمرا المذكورين، فإنّ المرسوم ورد عليهم بالسّوق إلى دمشق. فلم يزالوا كذلك حتى وصلوا دمشق. ثمّ اتّفق رأيهم أن ينزلوا حمص، وينتظروا (19) ما يرسم لهم به، وهم أيضا خايفين وجلين
(3) اليوم: بالهامش
(13)
حسنا: حسن--قريبا: قريب
(19)
وينتظروا: وينتظرون
ثمّ إنّ مولانا السلطان-أعزّ الله أنصاره، وضاعف اقتداره-لمّا بلغته هذه الأخبار المزعجة التى تصوّرت من الوهم الذى داخل قلوب الوجلين، من غير أن يكون لجميع ما توهّموه أو سمعوه من مناصحينهم صحّة، ولقد كانت نيّته المباركة لهم بخلاف ما توهّموه. وإنّما إذا أراد الله تعالى أمرا هيّأ أسبابه لينفذ قضاؤه وقدره. فعندها سيّر الأمير سيف الدين طقطاى بالأمان لقراسنقر وتقليد حلب على عادته ومستقرّ قاعدته، ويعتب عليه على ما قد خامره من الوهم الهذّيانىّ الذى لم تكن له صحّة. وفى الجملة: أنت رجل كبير، ونحن برأيك نقتدى فى الأمور الكبار، ترجع إلى كلام الجهلة والأعدا، وتفعل ما لا تفعله الصغار؟ الله الله، تترك هذا وترجع إلى حلب، وأنت طيّب القلب، منشرح الصدر، مبسوط الأمل. فأنت تعلم محلّك عندنا وعظم منزلتك. ونحن فقد أقمناك مقام أنفسنا فى جميع الممالك الشأميّة
قال بيخان: وكان قبل وصول طقطاى بيومين قد وصل إليه الأخبار من مناصحينه على جناح الحمام يقولوا له: الحذر الحذر! فإنّه قد كتب لقرا لاجين صحبة هذا طقطاى أنّ ساعة ترجع إلى حلب يطبق عليك بالجيوش، فيمسكك أنحس من مسك أسندمر. -ثمّ ورد على مهنّا مرسوم أن يتوجّه صحبة طقطاى ويلبّس قراسنقر الخلعة ويعيده إلى حلب. فامتثل ذلك. وحضر صحبة طقطاى واجتمعوا عند قراسنقر. ثمّ تحدّثوا معه فى امتثال المراسم الشريفة، وقبول الخلعة والتقليد والرجوع عمّا قد توهّمه
قال بيخان: فخلا قراسنقر بمهنّا وأوقفه على البطاقة التى وقعت له، وقال: يا با موسى، أنا الآن فى جيرتك، ومهما لحقنى من الضيم كان عيبه
عليك وعاره لازم لك. -فقال مهنّا: إذا كان الأمر على هذا الحال فلا والله ما أخفر ذمّتى ولا جيرتى، ولا تفعل إلاّ خلاصك، وأنا مساعدك على جميع مصالحك. -قال: ثمّ اجتمعوا بالأمرا وهما طقطاى وآقول المحمّدىّ، وقال قراسنقر: أمّا الخلعة والأرمغان، فقد قبلته على رأسى. وأمّا عودتى إلى حلب، فلا والله ما أقامر بنفسى، والروح عزيزة. وأنا بقيت رجل كبير ولا لى قدرة على تعذيب. ولو علمت أنّى إذا مثلت بين يديه قتلنى فى ساعتى وأراحنى لمّا والله تأخّرت. لكن أخشى من تعذيبى-
قال: ثمّ وصل كتاب إلى الأمير مهنّا صحبة الأمير سيف الدين أرغون وثلاث ماية قطعة قماش وخلعة بطرز زركش، والكتاب جواب كتابه الذى نفّذه صحبة ولده موسى، وفيه: أن قد كتبنا له بعودته إلى حلب. ثمّ أفكرنا أنّه لم يكن بقى عندنا من يحسن يقوم بأمر النيابة بالأبواب العالية. وأنّ مثل الأمير شمس الدين لا ينبغى أن يكون بعيدا عن نظرنا، لبركته وحسن تدبيره وسياسته. وقد حلفنا له الأيمان التى ليس فيها فسحة، أنّه عندنا العزيز الغالى بما يقف الجناب العالى على نسختها، فالله الله، تحكم بذلك وتسيّره إلينا، وهو طيّب القلب، منبسط الأمل، ليشاركنا فيما نحن فيه من مصالح المسلمين، وعلى الجملة فما أعرف حضوره إلاّ من اهتمامك وشفقتك
قال بيخان: فقرأ مهنّا الكتاب على قراسنقر وقال: يامير شمس الدين، قد سمعت، والمصلحة تتوجّه إلى بين يديه، فما أظنّ بعد هذه الأيمان يكون غدر، إنشا الله تعالى. -فقال قراسنقر: يا با موسى. أنا فى الأصل قطعة مملوك جركسىّ، رأسى ورجلى. ما يسوو ثلاث ماية درهم، وأيش هو أنا إذا قتلت؟ وإنما عيبى يبقى لازمك، وتلبس ثياب العاربين العربان إلى آخر