الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنها التزام الكيفيات والهيئات المعينة كالذكر على هيئة الاجتماع على صوت واحد. . ومنها التزام عبادات معينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة: كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته والاحتفال بيوم الإسراء والمعراج وتخصيصه بعبادة معينة علما بأن تأريخه قد اختلف في تحديده وحتى لو عرف فإن الله لم يميزه بعبادة مخصوصة، وغير ذلك من البدع التي أحدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الغر الميامين الذين كان لهم قصب السبق في الذب عن حياض الإسلام والدفاع عن السنة المطهرة.
أصل بدعة المولد:
ولما كانت البدع كثيرة يجل عنها الحصر فإني سوف أقصر الكلام بإيجاز على بدعة خطيرة ومحدثة عظيمة تمس شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم
بدعة الاحتفال بعيد مولده صلى الله عليه وسلم
.
وإن المتتبع للتاريخ الإسلامي يجد أن مثل هذه الاحتفالات لم تكن موجودة عند المسلمين الأوائل بل ولا في القرون المفضلة حتى جاءت الدولة الفاطمية والتي انتسبت إلى فاطمة ظلما وعدوانا بل إن المحققين من المؤرخين يرون أنهم ينحدرون من أصل يهودي يقال لهم العبيديون وهم أبناء ميمون بن ديصان المشهور بالقداح قيل إنه يهودي وقيل مجوسي وقد استمرت دولتهم في مصر من (357 - 467هـ) وقد احتفل الفاطميون بأربعة موالد: مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب وولديه الحسن والحسين رضي الله عنهم جميعا. فهم أول من أحدث ذلك كما ذكر المقريزي وغيره. وظلت هذه البدعة يعمل بها حتى جاء (بدر الجمالي) الوزير الأول للخليفة الفاطمي (المستعلي بالله) وكان هذا الوزير شديد التمسك بالسنة، فأصدر أمرا
بإلغاء هذه الموالد، وما أن مات (بدر الجمالي) حتى عادت البدعة من جديد.
واستمر الأمر على هذا الحال حتى جاء عهد صلاح الدين الأيوبي، وكان أيضا من المتمسكين بالسنة، فألغى هذه الاحتفالات، وتم تنفيذ هذا الإلغاء في كل أنحاء الدولة الأيوبية، ولم يخالف في ذلك إلا الملك المظفر الذي كان متزوجا من أخت صلاح الدين.
وقد ذكر المؤرخون أن احتفالات الملك المظفر بالمولد كان يحضرها المتصوفة حيث يكون الاحتفال من الظهر إلى الفجر، وكان ما ينفق في هذا الاحتفال يزيد عن ثلاثمائة ألف دينار.
واستمرت بعد ذلك هذه الاحتفالات إلى يومنا هذا، بل توسعوا فيها حتى امتدت إلى الاحتفال بمولد كل عظيم في نظر العامة وإن كان من الملحدين بحجة أنه من الأولياء، ولا يخفى على الجميع مدى المنكرات والموبقات التي ترتكب في أسواق الموالد من شرب للخمور، ولعب للميسر، ورقص وغناء، تؤديه النسوة في مجامع الرجال وغير ذلك من الكبائر، حتى أصبحت كلمة المولد يضرب بها المثل في كل المجالات للفوضى والاستهتار، وأعظم من هذا كله اعتقاد هؤلاء الجهال أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحضر المولد، ولهذا يقومون له محيين ومرحبين، بل يزعم بعضهم أنه يصافحه، وهذا من أعظم الباطل بل هو غاية الجهالة والضلالة. فإن الرسول- صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة ولا يتصل بأحد من الناس، بل هو منعم في قبره وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة كما قال الله تعالى {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} (1){ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (2)
(1) سورة المؤمنون الآية 15
(2)
سورة المؤمنون الآية 16
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة وأنا أول شافع وأول مشفع (1)» . ونحن لا نلوم العامة الذين يفعلون مثل هذه الأمور وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ولكن اللوم يوجه إلى العلماء المنتسبين إلى العلم، أولئك الذين يعرفون طريق الحق ولكنهم يحيدون عنها، ولا ينكرون أن الاتباع أولى من الابتداع، ولكنهم يتجاهلون هذا الحق الذي لا يجادل فيه، فكيف يجهل هؤلاء أن حقيقة الحفاوة بذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، تتركز في اتباع ما جاء به، وإحياء سنته، وأن هذه الذكرى الطيبة ليست مؤقتة بزمن وليست محددة بشهر ربيع الأول، بل ينبغي أن نحييها ونحتفي بها في كل لحظة من لحظات حياتنا وفي كل بقعة حللنا بها وذلك باتباع سنته والسير على نهجها، وما أظن أن مسلما يجهل أن الاحتفال بفكرة " المولد النبوي " أو غير ذلك من الموالد فكرة مبتدعة جاءتنا- متأخرة، وفيها تشبه باليهود والنصارى الذين لا يعرفون من الدين إلا الاحتفالات على رأس السنة بعيد ميلاد المسيح عليه السلام أو غيره من الذي دس عليهم وليس من دينهم. ونحن قد قلدناهم في هذا العمل كما قلدناهم في أمور كثيرة وهذا بلا شك مصداق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:«لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه). قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: (فمن (2)» ، متفق عليه.
وقد خشي النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على أمته فقال: «لا تجعلوا قبري عيدا (3)» ، والعيد اسم لكل ما يعود ويتكرر أي لا تخصصوا لقبري يوما بعينه تعودونه فيه، فمن خصص يوما من السنة كالثاني عشر من ربيع
(1) رواه مسلم في (الفضائل).
(2)
صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3456)، صحيح مسلم العلم (2669)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 84).
(3)
رواه أبو داود في "المناسك"، باب زيارة القبور.
الأول وقع تحت هذا التحذير، ونحن بهذا لا ننكر زيارة قبره صلى الله عليه وسلم إذا فعلت بالطريقة المشروعة وبدون شد رحال أو تخصيص يوم أو شهر معين لأن شد الرحال من أجل العبادة خاص بالمساجد الثلاثة التي جاءت في الحديث «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى (1)» ، والأعياد المعروفة في الإسلام ثلاثة أعياد فقط، عيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد الأسبوع الذي هو يوم الجمعة، وما عدا ذلك من الأعياد المحدثة ما هو إلا ضرب من البدع الضالة التي قلدنا فيها أعداءنا. ولا شك أن العواطف الكاذبة ودعوى حب الرسول صلى الله عليه وسلم هي التي حدت بنا إلى أن نبتدع ولا نتبع، وكيف تجتمع دعوى محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مخالفة أمره في النهي عن الإحداث في الدين (الضدان لا يجتمعان) على حد قول القائل:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه
…
هذا لعمرك في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته
…
إن المحب لمن يحب مطيع
وقد جعل الله تعالى ميزان محبته ودليلها هو اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم: قال تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) وبمنطوق الآية لا يعتبر محبا لله من خرج على الاتباع ولجأ إلى الابتداع، ما من شك في أنه يجب على كل مسلم أن يقدم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى على نفسه فقد روى الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال:«لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين (3)» .
(1) رواه مسلم في "الحج" وأبو داود في المناسك"، باب إتيان المدينة
(2)
سورة آل عمران الآية 31
(3)
صحيح البخاري الإيمان (15)، صحيح مسلم الإيمان (44)، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5013)، سنن ابن ماجه المقدمة (67)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 207)، سنن الدارمي الرقاق (2741).
لكن هذه المحبة يجب أن تكون في الإطار الصحيح الذي جعله الله فيه بعيدا عن الغلو والتفريط فكأن أولئك الغلاة والمفرطين لم يسمعوا حديث عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله (1)» . وأي غلو أعظم من قول القائل:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
…
سواك عند نزول الحادث العمم
فإن من جودك الدنيا وضرتها
…
ومن علومك علم اللوح والقلم
ترى ماذا ترك لله بعد أن جعل جميع الكون بما فيه علم اللوح والقلم من إيجاد البشر. إن شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم غنية عن هذا الإطراء وحسبه فخرا أن الله اختاره ليكون رحمة للعالمين وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وهذه المنزلة وإن كانت أشرف منزلة ينالها مخلوق إلا أن ذلك لا يخرجه عن كونه بشرا تجري عليه السنن الكونية التي تجري على البشر من الولادة والحياة والموت وغير ذلك من سنن الله في البشر، قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (2).
إن هؤلاء الغلاة قد أساءوا كل الإساءة إلى شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يلفقونه من الأحاديث الكاذبة والأخبار الزائفة التي تجعله في مصاف الإله، مما فتح ثغرة ينفذ منها أعداء الإسلام والمسلمين إلى السخرية من الإسلام والطعن في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إننا نعتز كل الاعتزاز بشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه سيد ولد آدم ونعتز بتلك المعاني الحية والمبادئ القيمة التي جاء بها من عند الله، لكن يجب
(1) رواه البخاري في باب (واذكر في الكتاب مريم).
(2)
سورة الكهف الآية 110
أن لا يحملنا هذا الاعتزاز على الخروج عن حدود المنزلة الصحيحة التي شرفه الله بها. وإننا نتساءل ماذا سنقول بعد الثناء العطر الذي أثنى الله به عليه من نحو قوله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (1) وقوله تعالى {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (2) وماذا سنقول بعد أن نوه الله باسمه ورسالته خمس مرات كل يوم كلما رفع الأذان، وماذا سنقول بعد قول الله تعالى {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (3) وآيات وأحاديث كثيرة تتحدث عن سمو منزلته، لا يمكن حصرها في مثل هذه العجالة، وفيما أوردناه غنية لمن تدبر وتأمل {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (4).
ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام، تلك الشبهة التي يتعلق بها أرباب الموالد ولا سيما مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك فهمهم الخاطئ الذي ينطبق عليه قول الشاعر: وآفته من الفهم السقيم. . . وهو ما توهموه من الحديث الذي رواه مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه «أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم الإثنين، فقال صلى الله عليه وسلم: هو يوم ولدت فيه، وفيه أنزل علي (5)» فقد تمسك هؤلاء بلفظة «يوم ولدت فيه (6)» ثم عينوا هذا اليوم بالثاني عشر من ربيع الأول، وذلك تخصيص من عند أنفسهم وهذا الاستدلال ظاهر البطلان لوجوه كثيرة، منها:
1 -
أن المطلوب في هذا اليوم أعني يوم الإثنين هو الصوم اقتداء
(1) سورة القلم الآية 4
(2)
سورة التوبة الآية 128
(3)
سورة الشرح الآية 4
(4)
سورة ق الآية 37
(5)
مسند أحمد بن حنبل (5/ 297).
(6)
صحيح مسلم الصيام (1162).
بالرسول صلى الله عليه وسلم، بينما نرى أصحاب تلك الموالد يخصصون ذلك اليوم الذي عينوه للأكل والشرب والطرب فضلا عن ما أحدثوه من أذكار، وهتافات لا نجد لها برهانا ولا هدى ولا حجة صحيحة.
2 -
أن الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم هو صوم يوم الإثنين من كل أسبوع دائما، ولم يقيد ذلك بسنة أو شهر أو أسبوع بعينه، بينما هؤلاء يخصصون يوما واحدا في السنة هو التاسع أو الثاني عشر من ربيع الأول على اختلاف بينهم حتى وإن لم يوافق هذا اليوم يوم الإثنين وبذلك يتضح وجه مخالفتهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
3 -
أن صيام يوم الإثنين له خصوصية أخرى، إضافة إلى ما ذكر في هذا الحديث، وذلك أنه يوم تعرض فيه الأعمال على الله تعالى فندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى صومه كي تعرض أعمال العبد على ربه، وهو صائم، وذلك أحرى لقبولها، كما جاء ذلك في أكثر من حديث عنه صلى الله عليه وسلم.
فأي الفريقين أولى بالاتباع، وأقرب إلى الصواب؟ أهم أولئك الذين يصومون الإثنين من كل أسبوع ويعيشون ذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل لحظة من لحظات حياتهم بمتابعته والصلاة والسلام عليه كلما ذكر. أم أولئك الذين لا يعرفون ذكراه إلا يوما واحدا في السنة بلا هدى، ولا كتاب مبين. {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1).
دفع توهم:
وإذا كان القرآن والسنة النبوية وما جاء عن سلف الأمة وعلى رأسهم الصحابة قد دل على التحذير من البدع وأن هذه الأمور التي ذكرناها آنفا بما فيها الاحتفال بالموالد دخيلة على الدين فإن ثمة سؤالا مفاده: ما هي
(1) سورة الأنعام الآية 81
الشبه والأدلة التي تشبث بها المبتلون بحب هذه البدع؟ والجواب على ذلك أن نقول: إن هذه الشبه لا تخرج عن أمرين، إما نصوص صحيحة يحرفون فيها الكلم عن مواضعه ويصرفونها عن معانيها الحقيقية وإما أحاديث واهية أو موضوعة شحنوا بها كتبهم ونسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبا وزورا.
مثال ذلك حديث «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، (1)» وحديث «اختلاف أمتي رحمة» وحديث «توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم» وغير ذلك من الأحاديث الملفقة والتي تصدى لها علماء السنة بالبحث والتنقيب وبينوا عللها وخطورتها وما تنطوي عليه تلك الأحاديث المنكرة من المعاني الخطيرة والدس الرخيص على الإسلام، وإتاحة الفرص لنيل الأعداء من الإسلام، ولكن الله قيض لهذه الأمة من طهر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم من الدخيل وذلك بعلم الإسناد الذي لا شك أنه من أعظم ما ميز الله به هذه الأمة. قال عبد الله بن المبارك رحمه الله:(لولا الإسناد لقال في السنة من شاء ما شاء).
ولما كانت هذه الأحاديث التي تعلقوا بها كثيرة فإني لن أتوسع في سردها وإنما أحيل إلى كتب السنة وما ألف في خدمتها ففيها غنية لمن رزقه الله العقل وحسن البصيرة ولكن الذي سنلقي عليه الضوء بشيء من الكشف والبيان هي تلك النصوص التي صرفوها عن ظاهرها زاعمين أنها تؤيد ما أحدثوه من البدع، منها:
أولا: حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه الذي رواه مسلم في صحيحه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/ 379).
ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء (1)».
فقد تمسكوا بلفظة «من سن في الإسلام سنة حسنة (2)» وفرعوا على ذلك الفهم أن البدع قسمان، بدعة حسنة وبدعة قبيحة ففسروا السنة هنا بالبدعة وكأن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: من سن أي من أحدث وابتدع، وهذا مردود من أربعة وجوه.
الوجه الأول: سبب ورود الحديث، فقد قال جرير رضي الله عنه: «كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه قوم عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى فيهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالا فأذن، وأقام فصلى ثم خطب فقال: إلى آخر الآية والآية التي في الحشر.
تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة). قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من سن. . وذكر الحديث (6)». فقد ظهر أن سبب ورود الحديث هو حاجة هؤلاء القوم، لذا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة فبادر هذا الصحابي بصدقته وتبعه الناس في ذلك على أمر أمره به النبي صلى الله عليه وسلم فضلا عما ورد في القرآن من الحث على الصدقة، فهذه القصة نفسها تنقض مفهومهم الخاطئ.
(1) صحيح مسلم الزكاة (1017)، سنن النسائي الزكاة (2554)، سنن ابن ماجه المقدمة (203)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 359)، سنن الدارمي المقدمة (514).
(2)
صحيح مسلم الزكاة (1017)، سنن النسائي الزكاة (2554)، سنن ابن ماجه المقدمة (203)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 359)، سنن الدارمي المقدمة (514).
(3)
رواه مسلم في "الزكاة"، باب الحث على الصدقة وأنواعها وأنها حجاب من النار.
(4)
سورة النساء الآية 1 (3){يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}
(5)
سورة النساء الآية 1 (4){إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}
(6)
سورة الحشر الآية 18 (5){اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}
الوجه الثاني: ما تقدم من الفرق بين السنة والبدعة من أن السنة هي الطريق المتبع والبدعة هي الإحداث في الدين، هذا المفهوم هو الذي عليه علماء الأمة خلفا عن سلف ولم ينقل عن أحد منهم أنه فسر السنة الحسنة بالبدعة التي يحدثها الناس من عند أنفسهم ولم ينزل الله بها من سلطان.
الوجه الثالث: فهم السلف قاطبة من قوله صلى الله عليه وسلم: «من سن سنة (1)» أي أحيا سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم حين يميتها الناس ويتبعه الناس في هذا الإحياء الذي دعاهم إليه يوضح ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه مسلم فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيء (2)» فإن قوله: من دعا إلى هدى تفسير لما أجمل في قوله من سن سنة حسنة، وبالمقابل «من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيء (3)» . وقد دلت الأحاديث على أن كل بدعة ضلالة بدون استثناء لأي نوع من البدع فمن دعا إلى بدعة محدثة في الدين فقد دعا إلى ضلالة سواء سماها بدعة حسنة أو لم يسمها كذلك.
الوجه الرابع: قالوا: بأن البدعة قسمان - حسنة وقبيحة - وهو تقسيم من عند أنفسهم ولمحض عقولهم الفاسدة، ونحن نوجه إليهم هذا السؤال: كيف نعرف أن هذا العمل حسن أو قبيح؟ وبالطبع سيجيب كل عاقل بأن الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع ولا يعرف هذا إلا بالرجوع إلى الكتاب والسنة، فيقال لهم حينئذ: إن الكتاب والسنة قد دلا على ذم البدع كما تقدم في الأدلة، فما وجه تقسيمكم هذا؟
(1) صحيح مسلم الزكاة (1017)، سنن الترمذي العلم (2675)، سنن النسائي الزكاة (2554)، سنن ابن ماجه المقدمة (203)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 359)، سنن الدارمي المقدمة (512).
(2)
صحيح مسلم العلم (2674)، سنن الترمذي العلم (2674)، سنن أبو داود السنة (4609)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 397)، سنن الدارمي المقدمة (513).
(3)
صحيح مسلم العلم (2674)، سنن الترمذي العلم (2674)، سنن أبو داود السنة (4609)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 397)، سنن الدارمي المقدمة (513).
ثانيا: يستدل كثير من أهل البدع بما يروى عن عمر رضي الله عنه من قوله: نعمت البدعة هذه ردا على من أنكر عليه أمره الناس بصلاة التراويح جماعة في المسجد خلف أبي بن كعب يستدلون بهذه القصة توهما منهم أن ما فعله عمر بدعة، وهذا باطل من وجوه. .
الوجه الأول: أن عمر رضي الله عنه لم يفعل بدعة وإنما فعل سنة كان النبي صلى الله عليه وسلم قد فعلها ثم تركها خشية أن تفرض على الأمة كما بين صلى الله عليه وسلم ذلك ولم ينه الناس عن فعلها مما يؤكد بقاء سنيتها.
الوجه الثاني: أنه قال هذه الجملة على سبيل المجاز فتسميتها بدعة باعتبار أنها لم تفعل في عهد أبي بكر رضي الله عنه تجوزا لأن عمر هو الذي بدأ إحياء هذه السنة خصوصا وقد زالت علة خشية الفرضية بانتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى.
الوجه الثالث: ربما قال عمر ذلك تهكما بمن قال له إنك فعلت بدعة فلعلم عمر أنها ليست بدعة رد عليه بهذه الجملة على سبيل الإنكار.
هذا وهناك شبه أخرى قد يتعلقون بها ولو تأملناها لوجدناها لا تخرج عن هذا الإطار الذي هو تحميل النصوص ما لا تحتمل من المعاني الفاسدة الباطلة.
وهناك تقسيمات للبدع ذكرها القرافي وغيره لا نجد لها مستندا أو معيارا صحيحا يمكن أن يؤخذ به كتقسيمهم البدع إلى حقيقية وإضافية، أو حسنة وسيئة، أو كلية وجزئية، أو بسيطة ومركبة، أو فعلية وتركية، أو غير ذلك من التقسيمات المصطنعة المتكلفة التي لا تستند إلى دليل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
صفحة فارغة
من أعلام المجددين
الشيخ الإمام
محمد بن عبد الوهاب
حياته دعوته ثمرات دعوته
بقلم: د. صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
التعريف بشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن مشرف النجدي التميمي، ولد سنة 1115 هـ، ونشأ في بيت علم. فوالده من علماء البلاد وتولى القضاء في عدة جهات، وجده الشيخ سليمان كان عالما جليلا وإماما في الفقه وهو المفتي في البلاد في وقته، وقد تخرج على يديه عدد كثير من العلماء وطلبة العلم. وعمه الشيخ إبراهيم بن سليمان كان من أجلة العلماء فنشأ الشيخ محمد في هذا الجو العلمي وكان حاد الذهن متوقد الذكاء سريع الحفظ، حفظ القرآن الكريم قبل سن العاشرة، ودرس على والده كتب الفقه الحنبلي. وكان كثير المطالعة والقراءة للكتب إلى جانب قراءته على والده، فقرأ في كتب التفسير والحديث والأصول، وعني عناية خاصة بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وكتب العلامة ابن القيم، وكان لكتب هذين الإمامين أكبر الأثر في تكوين شخصيته العلمية المتميزة والأخذ بيده إلى مصادر العلم الصحيحة، فتكون لديه الاتجاه السليم منذ صغره وتركزت في قلبه العقيدة الصحيحة وتخرج على كتب هذين الإمامين المحققين.