الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الروح يوم النشور. . ثم أيها الذي يشهد علينا أو لنا بين يدي العليم الحكيم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم؟.
ولا يفوتنا أن نتذكر هنا كذلك أن هذا الجسم المكون من عناصر الأرض على اختلافها، من مائع وطيار وجامد، وما لا يحصيه بعد الله سوى ذوي التخصص، قد قضى المبدع العظيم أن يكون موته وتلاشيه سببا في انحلاله إلى كل هذه الأصول، وأن تأخذ كل ذرة منه سبيلها إلى مناسبها، فيلحق بعضها بأجسام أناسي أخرى عن طريق الغذاء أو الدواء أو الهواء. . إلى ما يتصور وما لا يتصور في علم بشر، فكل ذرة منه إذن ستشارك في بناء وعمل الأجسام التي صاحبتها. . ومع يقيننا التام بقدرة الخالق على رجع كل ذرة ونوية إلى أصلها الأول، نوقن كذلك بقدرته على تكوين هذه (الأجزاء الفضلية) - حسب تعبير المرحوم الشيخ حسين الجسر في (الرسالة الحميدية) - تكوينا جديدا على الوجه الذي يشاؤه، وأن كلتا الحالتين في ميزان العظمة الإلهية سواء. . وإنما نستنبط هذا من خبر الوحي عن تبديل جلود أهل النار، مع أن البديل غير المبدل منه. وكفى بهذا دلالة على كون العذاب على الذات وليس الجلود- وأشباهها من أجزاء الهيكل الإنساني - سوى تجسيم لصورة الذات المعذبة. . وهي قضية مشهودة ملموسة في تجارب الإنسان اليومية عن طريق الأحلام والرؤى. . فكم من نائم يعاني أنواع العذاب والآلام، وآخر يتمتع بأصناف النعيم دون أن يشعر بعذابه أو نعيمه جاره أو ضجيعه. . ولا تعليل لذلك إلا بكون الألم واللذة من خصائص الروح دون الجسم.
الله أنبتكم
.
والآن هلم أخي القارئ نختم مطافنا الحافل بذلك المشهد الرائع،
الذي نطالعه في الحديث الطويل الذي أخرجه الشيخان وفيه يقص علينا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وآله خبر أولئك العصاة الذين لم يعملوا خيرا وشملتهم رحمة الله أخيرا، فكانوا آخر من يغادر النار «وقد عادوا حمما- فحما ورمادا- فيلقيهم الله في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل (1)» .
والحبة قبل أن تصير إلى حميل السيل لم تكن لتحمل أي دلالة على الحياة، ولكنها ما إن تستقر في ذلك المقر حتى تدب فيها الحركة، وتشرع كوامنها في التفتح والازدهار.
وتشدني هذه الصورة الشائقة للمتفحمين، وهم يستقبلون نعمة الله، إلى قوله في سوره نوح {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} (2){ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} (3) فتستوقفني ظاهرة الإنبات مقابلة بالإخراج، فأتساءل عن مدلولها. . وأرجع إلى تقرير المفسرين فلا أراهم يزيدون على القول بعلاقة المشابهة بين خلق الإنسان من عناصر الأرض وخلق النبات منها، وكذلك يقفون في موضوع الخروج والإخراج على المعنى العام للإعادة دون تفكير أو تصور لنوعه.
وأحس هنا باعثا يحفزني على التساؤل: ألا يمكن أن يكون إنشاء الخلق للإنسان الأول على الطريقة نفسها التي أنشأ بها أنواع النبات، وذلك بإيداعه سبحانه بذرة كل من النوعين أحضان الأرض تتفاعل مع عناصرها، حتى إذا شاء إبرازهما أتاح لهما الأسباب المساعدة على النماء فأخذ كل منهما سبيله إلى الظهور على الوجه المقرر له؟. .
(1) انظر جمع الفوائد رقم 10.000 و 10.051.
(2)
سورة نوح الآية 17
(3)
سورة نوح الآية 18