المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ أنواع المكاسب المحرمةمن ربا وغيره - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ١٦

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌موضوع العددالحكورات

- ‌المسألة الثانية: الزيادة في الأجرة أثناء المدة:

- ‌ نقول عن بعض الفقهاء

- ‌الفتاوى

- ‌ احتشاش المرعى وبيعه واختصاص من يحش ويبيع فيه ضرر وتضييق على أرباب السوائم

- ‌ باع بقرة على رجل لا يعرفه ثم إن البقرة شردت من بيت مشتريها إلى بيته

- ‌ القيام عند القبر للاستغفار أو الدعاء للميت بعد دفنه

- ‌ الزكاة في حلي المرأة

- ‌ ترجمة القرآن

- ‌ لبس البدلة

- ‌ الأضحية عن الميت

- ‌الرضاع الذي يحصل به التحريم

- ‌ أفطر بالبلد ثم أقلعت به الطائرة فرأى الشمس

- ‌المرأة التي توفي عنها زوجها بعد العقد وقبل الدخول تلزمها العدة والإحداد

- ‌تخصيص يوم السابع ويوم الأربعين أو يوم آخر سواهما بذبيحة تذبح عن الميت

- ‌كمال هذا الدين:

- ‌سبيل المؤمنين:

- ‌الكتاب والسنة مصدر كل سعادة:

- ‌ذم التفرق وبيان أسبابه:

- ‌حفظ هذا الدين وبقاؤه:

- ‌وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة:

- ‌المرجع عند التنازع:

- ‌حكم الإحداث في الدين:

- ‌حرص الصحابة على لزوم الكتاب والسنة والبعد عن البدع:

- ‌ من أقوال التابعين وغيرهم من السلف في الحث على اتباع السنة والتحذير من البدع

- ‌ الفارق والميزان الذي نميز به بين البدعة والسنة

- ‌أمثلة من البدع الشائعة بين المسلمين:

- ‌الانقطاع للعبادة وترك الكسب الحلال وإقامة المآتم وقراءة القرآن

- ‌ بدعة الاحتفال بعيد مولده صلى الله عليه وسلم

- ‌رحلاته:

- ‌حالة المسلمين عند ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب:

- ‌عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌أصول دعوة الشيخ رحمه الله

- ‌المراحل التي مرت بها دعوة الشيخ محمد

- ‌المراجع التي يعتمد عليها الشيخ رحمه الله وعلماء الدعوة من بعده

- ‌ثمرات دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وآثارها:

- ‌الشبه التي أثيرت حول دعوة الشيخ والرد عليها:

- ‌نشأة علم نقد الحديث

- ‌ الأسباب التي دعت إلى الاهتمام بنقد الحديث:

- ‌ صغار الصحابة يحتاطون في قبول الحديث:

- ‌ نقد الحديث في دور التابعين:

- ‌ النقد في عصر أتباع التابعين:

- ‌ نبذ عن الأئمة النقاد في عصر التابعين:

- ‌ ظهور التقعيدات العامة للنقد:

- ‌أقوال العلماءفي حكم من تاب من الكسب الحرامكالربا وأنواع المكاسبالمحرمة الأخرى

- ‌ماذا يفعل من تاب من الكسب الحرام كالرباوأنوع المكاسب المحرمة الأخرى

- ‌المقدمة

- ‌ الربا

- ‌ أنواع المكاسب المحرمةمن ربا وغيره

- ‌(فصل في الحلال والحرام والمشتبه فيه وحكم الكثير والقليل من الحرام)

- ‌ حكم المال المغلول

- ‌ مقتطفات من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوثالعلمية والإفتاء في كيفية التخلص من المكاسب المحرمة

- ‌مصادر البحث

- ‌وصف المخطوط

- ‌نص الرسالة

- ‌قضية البعثفي ضوء الوحي والعقل

- ‌من المشهود إلى المحجوب

- ‌بين الحياة والموت

- ‌الرحلة الجديدة

- ‌شهادة كونية

- ‌ونسي خلقه

- ‌الأصل المفقود

- ‌بلى شهدنا

- ‌من المسؤول

- ‌موجود فوق المادة

- ‌ذلك هو الإنسان

- ‌ليس الموت بالعدم المحض

- ‌مناط الثواب والعقاب

- ‌الأحلام والرؤى

- ‌الله أنبتكم

- ‌صمام الأمن

- ‌الحاجة إلى الرسالة:

- ‌الإسلام بمعناه العام:

- ‌إعلان الوحدة الكبرى للدين:

- ‌قاعدة التصور الإسلامي وآثارها:

- ‌التوحيد قاعدة كل رسالة من عند الله:

- ‌التوحيد مفتاح دعوة الرسل:

- ‌حقيقة واحدة:

- ‌ثبات. . لا تطور

- ‌لا نفرق بين أحد من رسله:

- ‌الكفر بواحد من الرسل كفر بالجميع:

- ‌التصور الإسلامي لوحدة الرسالة والرسل:

- ‌ولله في هذا حكمة:

- ‌هذا الدين وهذه الأمة:

- ‌بين الإيمان والإسلام:

- ‌معنى الإيمان لغة:

- ‌معنى الإسلام لغة:

- ‌موازنة بين الإسلام والإيمان في اللغة:

- ‌الإيمان والإسلام في الاصطلاح الشرعي:

- ‌معنى الإيمان شرعا:

- ‌معنى الإسلام شرعا:

- ‌هل الإيمان والإسلام مترادفان أم متغايران

- ‌أصل معنى كلمة " الإسلام

- ‌الدين واحد والشرائع متعددة:

- ‌كل دين عقيدة ومنهج حياة:

- ‌هل اسم الإسلام خاص بهذه الأمة

- ‌لماذا سمي الدين بالإسلام

- ‌وهذه الأمة. . . الأمة المسلمة:

- ‌الأقليات الإسلامية.ظروفها وآمالها وآلامها

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌ أنواع المكاسب المحرمةمن ربا وغيره

وحول التصدق بالأرباح المكتسبة عن طريق البنوك التي تتعامل بالربا، ورد هذا السؤال لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ مفتي المملكة ورئيس القضاة في وقته رحمه الله تعالى:

إذا سلمت بضاعة تبع شركة الأسمنت واشتغلت الشركة في أموالها فوردت مكائن وأخذت مقاولات عمارات وكسبت أرباحا من البنك، وقدموا لك بيان حسابك، ووجدت فيه قسما يختص بأرباح البنك وهي أرباح ربوية فهل تقبضها وتجعلها مع مالك أو تردها على البنك أو تتصدق بها؟

فأجاب رحمه الله تعالى بقوله:

هذه الزيادة التي أخذت مقابل أرباح البنك تتصدق بها والله أعلم والسلام عليكم (1).

وفيما يلي سأذكر بمشيئة الله وعونه وتوفيقه بعض ما تيسر من كلام العلماء رحمهم الله تعالى في كيفية التخلص من أنواع المكاسب المحرمة الأخرى، ويدخل فيه أيضا الربا، وإنما أفردت الكلام عنه فيما سبق؛ لأنه من أعظم المكاسب المحرمة إثما وأنكاها عقوبة. نسأل الله العافية.

(1) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، جـ 7، صفحة 178.

ص: 222

ب-‌

‌ أنواع المكاسب المحرمة

من ربا وغيره

عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى

ص: 222

الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب (1)». رواه البخاري ومسلم.

يقول ابن رجب في شرح هذا الحديث:

ويتفرع على هذا معاملة من في ماله حلال وحرام مختلط، فإن كان أكثر ماله الحرام فقال أحمد: ينبغي أن يتجنبه إلا أن يكون شيئا يسيرا شيئا لا يعرف. واختلف أصحابنا هل هو مكروه أو محرم على وجهين، وإن كان أكثر ماله الحلال جازت معاملته والأكل من ماله، وقد روى الحارث عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال في جوائز السلطان: لا بأس بها ما يعطيكم من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعاملون المشركين وأهل الكتاب مع علمهم أنهم لا يجتنبون الحرام كله، وإن اشتبه الأمر فهو شبهة والورع تركه، قال سفيان يعجبني ذلك وتركه أعجب إلي، وقال الزهري ومكحول: لا بأس أن يؤكل منه ما لم يعرف أنه حرام بعينه فإن لم يعرف في ماله حرام بعينه ولكن علم أن فيه شبهة فلا بأس بالأكل منه نص عليه أحمد في رواية حنبل. وذهب إسحاق بن راهويه إلى ما روي عن ابن مسعود وسليمان وغيرهما من الرخصة وإلى ما روي عن الحسن وابن سيرين في إباحة الأخذ بما يقضى من الربا والقمار. ونقله عنه ابن منصور وقال الإمام أحمد في المال المشتبه حلاله بحرامه: إن كان المال كثيرا أخرج منه قدر الحرام وتصرف في الباقي، وإن كان المال قليلا اجتنبه كله؛ وهذا لأن القليل إذا تناول منه شيئا فإنه يتعذر معه السلامة من الحرام بخلاف الكثير.

(1) صحيح البخاري الإيمان (52)، صحيح مسلم المساقاة (1599)، سنن الترمذي البيوع (1205)، سنن النسائي البيوع (4453)، سنن أبو داود البيوع (3329)، سنن ابن ماجه الفتن (3984)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 270)، سنن الدارمي البيوع (2531).

ص: 232

ومن أصحابنا من حمل ذلك على الورع دون التحريم وأباح التصرف في القليل والكثير بعد إخراج قدر الحرام منه، وهو قول الحنفية وغيرهم، وأخذ به قوم من أهل الورع منهم بشر الحافي. ورخص قوم من السلف في الأكل ممن يعلم في ماله حرام ما لم يعلم أنه من الحرام بعينه فصح كما تقدم عن مكحول والزهري، وروي مثله عن الفضل بن عياض وروي في ذلك آثار عن السلف (1).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى وقال تعالى تم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك (4)» رواه مسلم. - مما جاء في شرح هذا الحديث يقول ابن رجب: وأما الصدقة بالمال الحرام فغير مقبولة كما في صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول (5)» وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما تصدق عبد بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه (6)» وذكر الحديث، وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يكتسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك فيه ولا يتصدق به فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ

(1) جامع العلوم والحكم، من ص 58 إلى ص 62، وله زيادة تفصيل في الموضوع فارجع إليه.

(2)

صحيح مسلم الزكاة (1015)، سنن الترمذي تفسير القرآن (2989)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 328)، سنن الدارمي الرقاق (2717).

(3)

سورة المؤمنون الآية 51 (2){يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}

(4)

سورة البقرة الآية 172 (3){يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}

(5)

صحيح مسلم الطهارة (224)، سنن الترمذي الطهارة (1)، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (272)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 73).

(6)

صحيح البخاري الزكاة (1410)، صحيح مسلم الزكاة (1014)، سنن الترمذي الزكاة (661)، سنن النسائي الزكاة (2525)، سنن ابن ماجه الزكاة (1842)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 431)، موطأ مالك الجامع (1874)، سنن الدارمي الزكاة (1675).

ص: 224

بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث (1)» ويروى من حديث دراج عن ابن حجيرة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من كسب مالا حراما فتصدق به لم يكن له فيه أجر وكان إصره عليه» أخرجه ابن حبان في صحيحه ورواه بعضهم موقوفا على أبي هريرة، وفي مراسيل القاسم بن مخيمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أصاب مالا من مأثم فوصل به رحمه وتصدق به أو أنفقه في سبيل الله جمع ذلك جميعا ثم قذف به في نار جهنم» . وروي عن أبي الدرداء ويزيد بن ميسرة أنهما جعلا مثل من أصاب مالا من غير حلة فتصدق به مثل من أخذ مال يتيم وكسا به أرملة، وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عمن كان على عمل فكان يظلم ويأخذ الحرام ثم تاب فهو يحج ويعتق ويتصدق منه فقال: إن الخبيث لا يكفر الخبيث، وكذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الخبيث لا يكفر الخبيث، ولكن الطيب يكفر الخبيث، وقال الحسن: أيها المتصدق على المسكين ترحمه ارحم من قد ظلمت (2).

واعلم أن الصدقة بالمال الحرام تقع على وجهين: أحدهما: أن يتصدق به الخائن أو الغاصب ونحوهما على نفسه، فهذا هو المراد من هذه الأحاديث أنه لا يتقبل منه يعني أنه لا يؤجر عليه بل يأثم بتصرفه في مال غيره بغير إذنه. ولا يحصل للمالك بذلك أجر لعدم قصده ونيته. كذا قاله جماعة من العلماء منهم ابن عقيل من أصحابنا، وفي كتاب عبد الرزاق من رواية زيد بن الأخنس الخزاعي أنه سأل سعيد بن المسيب قال: وجدت لقطة أفأتصدق بها؟ قال لا يؤجر أنت ولا صاحبها. ولعل مراده إذا تصدق بها قبل تعريفها الواجب. إلى أن قال:

واعلم أن من العلماء من جعل تصرف الغاصب ونحوه في مال غيره

(1) مسند أحمد بن حنبل (1/ 387).

(2)

جامع العلوم والحكم، ص 87 ـ 88.

ص: 225

موقوفا على إجازة مالكه، فإن أجاز تصرفه فيه جاز. وقد حكى بعض أصحابنا رواية عن أحمد أنه من أخرج زكاته من مال مغصوب ثم أجازه المالك جاز وسقطت عنه الزكاة. وكذلك خرج ابن أبي الدنيا رواية عن أحمد أنه إذا أعتق عبد غيره عن نفسه ملتزما ضمانه في ماله ثم أجازه المالك جاز ونفذ عتقه. وهو خلاف نص أحمد. وحكي عن الحنفية أنه لو غصب شاة فذبحها لمتعته وقرانه ثم أجازه المالك أجزأت عنه (1).

الوجه الثاني من تصرفات الغاصب في المال المغصوب: أن يتصدق عن صاحبه إذا عجز عن رده إليه وإلى ورثته فهذا جائز عند أكثر العلماء: منهم مالك وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم. قال ابن عبد البر: ذهب الزهري ومالك والثوري والأوزاعي والليث إلى أن الغال إذا تفرق أهل العسكر ولم يصل إليهم أنه يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي، روي ذلك عن عبادة بن الصامت ومعاوية والحسن البصري، وهو يشبه مذهب ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أنهما كانا يريان أن يتصدق بالمال الذي لا يعرف صاحبه، وقال قد أجمعوا في اللقطة على جواز الصدقة بها بعد التعريف وانقطاع صاحبها، وجعلوه إذا جاء مخيرا بين الأجر والضمان، وكذلك المغصوب. انتهى.

وروي عن مالك بن دينار قال سألت عطاء بن أبي رباح عمن عنده مال حرام ولا يعرف أربابه ويريد الخروج منه؟ قال: يتصدق به ولا أقول: إن ذلك يجزئ عنه. قال مالك كان هذا القول من عطاء أحب إلي من زنة ذهب. وقال سفيان فيمن اشترى من قوم شيئا مغصوبا: يرده إليهم، فإن لم يقدر عليهم يتصدق به كله ولا يأخذ رأس ماله، وكذا قال فيمن باع شيئا ممن تكره معاملته لشبهة ماله قال: يتصدق بالثمن وخالفه ابن

(1) لمزيد من التفاصيل والإيضاح في هذا الموضوع جامع العلوم والحكم لابن رجب، من ص 88 حتى صفحة 90

ص: 226

المبارك وقال: يتصدق بالربح خاصة. وقال أحمد يتصدق بالربح، وكذا قال فيمن ورث مالا من أبيه وكان أبوه يبيع ممن يكره معاملته: إنه يتصدق منه بمقدار الربح ويأخذ الباقي وقد روي عن طائفة من الصحابة نحو ذلك: منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه، والمشهور عن الشافعي رحمه الله في الأموال الحرام أنها تحفظ ولا يتصدق بها حتى يظهر مستحقها، وكان الفضيل بن عياض يرى أن من عنده مال حرام لا يعرف أربابه أنه يتلفه ويلقيه في البحر ولا يتصدق به. وقال لا يتقرب إلى الله إلا بالطيب. والصحيح الصدقة به؛ لأن إتلاف المال وإضاعته منهي عنه، وإرصاده أبدا تعريض له للإتلاف واستيلاء الظلمة عليه، والصدقة به ليست عن مكتسبه حتى يكون تقربا منه بالخبيث وإنما هي صدقة عن مالكه ليكون نفعه له في الآخرة حيث يتعذر عليه الانتفاع به في الدنيا (1).

ونستخلص مما سبق في شرح الحديثين ما يلي:

أ- معاملة من في ماله حلال وحرام مختلط: إن كان أكثره الحرام فينبغي تجنبه وهو الأولى؛ لأن الإمام أحمد رحمه الله تعالى قال: (ينبغي أن يتجنبه إلا أن يكون شيئا يسيرا لا يعرف).

وإن كان المال شبهة فالورع في تركه بل هو ما ينبغي عملا بقوله عليه الصلاة والسلام: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول العمى يوشك أن يرتع فيه (2)» ، والمال المشتبه حلاله بحرامه إن كان المال كثيرا أخرج منه قدر الحرام وتصرف في الباقي، وإن كان المال قليلا اجتنبه كله.

ب- أن الصدقة بالمال الحرام غير مقبولة لما تقدم من قوله عليه أفضل الصلاة والسلام: «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا (3)» ، ولقوله

(1) جامع العلوم والحكم، ص 88، 89، 90.

(2)

صحيح البخاري الإيمان (52)، صحيح مسلم المساقاة (1599)، سنن الترمذي البيوع (1205)، سنن النسائي البيوع (4453)، سنن أبو داود البيوع (3329)، سنن ابن ماجه الفتن (3984)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 270)، سنن الدارمي البيوع (2531).

(3)

صحيح مسلم الزكاة (1015)، سنن الترمذي تفسير القرآن (2989)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 328)، سنن الدارمي الرقاق (2717).

ص: 227

أيضا: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول (1)» . وغير ذلك من الأحاديث التي مرت. والمقصود بذلك أن السارق أو الغاصب أو الخائن مثلا، لا يجوز له أن يتصدق بما سرقه أو بما اغتصبه أو بما خانه أو جحده عن نفسه فإنه لا يقبل منه ولا يؤجر عليه بل يأثم بتصدقه بمال غيره بغير إذنه ولا يحصل للمالك أيضا بذلك أجر لعدم قصده ونيته

جـ - أن السارق للمال أو الغاصب أو الخائن له إذا أراد أن يتصرف في هذا المال بعد توبته يجوز له أن يتصدق به عن صاحبه إذا عجز عن رده إليه أو إلى ورثته. وهذا هو الأولى وذلك لاختيار الإمام أحمد رحمه الله تعالى وغيره من الأئمة، ومنهم الإمام مالك وأبو حنيفة كما قالوا في الغال إذا تفرق العسكر أنه يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي، وكما قالوا في جواز التصدق باللقطة بعد تعريفها وانقطاع صاحبها وجعلوه إذا جاء مخيرا بين أن يكون أجر التصدق بها له أو الضمان.

وهذا ما أراه نظرا؛ لتظافر الأدلة السابقة عليه؛ ولأن القائل به كثير من أهل العلم رحمهم الله تعالى.

ولأن إتلاف المال وإضاعته منهي عنه، وإرصاده أبدا تعريض له للإتلاف واستيلاء الظلمة عليه، والصدقة به ليست عن مكتسبه حتى يكون تقربا بالخبيث، وإنما هي صدقة به عن مالكه. والله أعلم

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن الأموال التي يجهل مستحقها مطلقا أو مبهما فإن هذه عامة النفع لأن الناس قد يحصل في أيديهم أموال يعلمون أنها محرمة لحق الغير إما لكونها قبضت ظلما كالغصب وأنواعه من الجنايات والسرقة والغلول. وإما لكونها قبضت بعقد فاسد من ربا أو ميسر، ولا يعلم عين المستحق لها. وقد يعلم أن المستحق أحد رجلين ولا يعلم عينه، كالميراث الذي يعلم أنه لإحدى الزوجين الباقية دون المطلقة. والعين التي يتداعاها اثنان فيقر بها ذو اليد لأحدهما

(1) صحيح مسلم الطهارة (224)، سنن الترمذي الطهارة (1)، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (272)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 73).

ص: 228

فمذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة ومالك وعامة السلف إعطاء هذه الأموال لأولى الناس بها. ومذهب الشافعي أنها تحفظ مطلقا ولا تنفق بحال. فيقول فيما جهل مالكه من الغصوب والعواري والودائع إنها تحفظ حتى يظهر أصحابها كسائر الأموال الضائعة. ويقول في العين التي عرفت لأحد رجلين: يوقف الأمر حتى يصطلحا ومذهب أحمد وأبي حنيفة فيما جهل مالكه أنه يصرف عن أصحابه في المصالح كالصدقة على الفقراء، وفيما استبهم مالكه القرعة عند أحمد والقسمة عند أبي حنيفة. إلى أن قال: وتحريم هذه جميعا يعود إلى الظلم فإنها تحرم لسببين:

أحدهما: قبضها بغير طيب نفس صاحبها ولا إذن الشارع، وهذا هو الظلم المحض كالسرقة، والخيانة، والغصب الظاهر، وهذا أشهر الأنواع بالتحريم.

والثاني: قبضها بغير إذن الشارع. وإن أذن صاحبها وهي العقود والقبوض المحرمة كالربا ونحو ذلك والواجب على من حصلت بيده ردها إلى مستحقها. فإذا تعذر ذلك فالمجهول كالمعدوم وقد دل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في اللقطة: «فإن وجدت صاحبها فارددها إليه وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء (1)» وكذلك اتفق المسلمون على أن من مات ولا وارث له معلوم فماله يصرف في مصالح المسلمين.

إلى أن قال: وله دليلان قياسيان قطعيان كما ذكرنا من السنة والإجماع فإن ما لا يعلم بحال أو لا يقدر عليه بحال، هو في حقنا بمنزلة المعدوم، فلا نكلف إلا بما نعلمه ونقدر عليه. والدليل الثاني: القياس مع ما ذكرنا من السنة والإجماع أن هذه الأموال لا تخلو إما أن تحبس، وإما أن تتلف، وإما أن تنفق.

فأما إتلافها فإفساد لها {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (2) وهو إضاعة لها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن إضاعة المال، وإن كان في مذهب أحمد ومالك

(1) سنن أبو داود اللقطة (1709)، سنن ابن ماجه الأحكام (2505)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 162).

(2)

سورة البقرة الآية 205

ص: 229

تجويز العقوبات المالية تارة بالأخذ وتارة بالإتلاف كما يقوله أحمد في متاع الغال، وكما يقوله أحمد ومن يقوله من المالكية في أوعية الخمر ومحل الخمار. وغير ذلك. فإن العقوبة بإتلاف بعض الأموال أحيانا كالعقوبة بإتلاف بعض النفوس أحيانا. وهذا يجوز إذا كان فيه من التنكيل على الجريمة من المصلحة ما شرع له ذلك.

وأما حبسها دائما أبدا إلى غير غاية منتظرة بل مع العلم أنه لا يرجى معرفة صاحبها ولا القدرة على إيصالها إليه فهذا مثل إتلافها. فإن الإتلاف إنما حرم لتعطيلها من انتفاع الآدميين بها، وهذا تعطيل أيضا. بل أهو أشد منه من وجهين.

(أحدهما): أنه تعذيب للنفوس بإبقاء ما يحتاجون إليه من غير انتفاع به.

(الثاني): أن العادة جارية بأن مثل هذه الأمور لا بد أن يستولي عليها أحد من الظلمة بعد هذا إذا لم ينفقها أهل العدل والحق فيكون حبسها إعانة للظلمة، وتسليما في الحقيقة إلى الظلمة فيكون قد منعها أهل الحق، وأعطاها أهل الباطل، ولا فرق بين القصد وعدمه في هذا فإن من وضع إنسانا بمسبعة فقد قتله، ومن ألقى اللحم بين السباع فقد أكله، ومن حبس الأموال العظيمة لمن يستولي عليها من الظلمة فقد أعطاهموها، فإذا كان إتلافها حراما وحبسها أشد من إتلافها تعين إنفاقها، وليس لها مصرف معين فتصرف في جميع جهات البر والقرب التي يتقرب بها إلى الله؛ لأن الله خلق الخلق لعبادته وخلق لهم الأموال ليستعينوا بها على عبادته. فتصرف في سبيل الله والله أعلم.

ص: 230

وخلاصة ما سبق من كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:

أن الأموال التي يجهل أصحابها ومستحقوها إما لكونها قبضت ظلما إما بغصب ونحوه من أنواع الجنايات كالسرقة والنهب والغلول، وإما لكونها قبضت بعقد فاسد من ربا أو ميسر ونحوهما. فمذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة ومالك وعامة السلف إعطاء هذه الأموال لأولى الناس بها. والشافعي يرى أنها تحفظ مطلقا ولا تنفق بحال حتى يظهر أصحابها كسائر الأموال الضائعة، ويقول في العين التي عرفت لأحد رجلين يوقف الأمر حتى يصطلحا. ومذهب أحمد وأبي حنيفة فيما جهل مالكه أنه يصرف عن أصحابه في المصالح كالصدقة على الفقراء ونحو ذلك. وفي مال الميت الذي لا وارث له معلوم فماله يصرف في مصالح المسلمين. أقول: وما قيل عن الصدقة بهذه الأموال التي جهل أصحابها أو صرفها في مصالح المسلمين هو الأولى في نظري والله أعلم؛ لأنها إما أن تحبس، وإما أن تتلف وإما أن تنفق.

فأما إتلافها فإفساد لها {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (1) وهو أيضا إضاعة لها وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن إضاعة المال- اللهم إلا ما كان من العقوبة بإتلاف المال أحيانا لما فيه من التنكيل على الجريمة من المصلحة ما فرع له ذلك كما يفعل بأوعية الخمر ومحل الخمار ونحو ذلك. وكما يقوله الإمام أحمد رحمه الله تعالى في متاع الغال والله أعلم.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه- اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم - تحت عنوان (ما تصنع البغي إذا تابت بما عندها من أجر البغاء) ما نصه:

نعم البغي والمغني والنائحة ونحوهم إذا أعطوا أجورهم ثم تابوا هل يتصدقون بها. أو يجب أن يردوها إلى من أعطاهموها فيها قولان

(1) سورة البقرة الآية 205

ص: 231

أصحهما أنا لا نردها على الفساق الذين بذلوها في المنفعة المحرمة، ولا يباح الأخذ بل يتصدق بها. وتصرف في مصالح المسلمين، كما نص عليه أحمد في أجرة حمل الخمر.

ومن ظن أنها ترد على الباذل المستأجر: لأنها مقبوضة بعقد فاسد فيجب ردها عليه كالمقبوض بالربا أو نحوه من العقود الفاسدة، فيقال له: المقبوض بالعقد الفاسد يجب فيه التراد من الجانبين فيرد كل منهما على الآخر ما قبضه منه. كما في تقابض الربا عند من يقول: المقبوض بالعقد الفاسد لا يملك كما هو المعروف من مذهب الشافعي وأحمد. فأما إذا تلف المقبوض عند القابض فإنه لا يستحق استرجاع عوضه مطلقا. وحينئذ فيقال: إن كان ظاهر القياس يوجب ردها، بناءا على أنها مقبوضة بعقد فاسد، فالزاني ومستمع الغناء والنوح قد بذلوا هذا المال عن طيب نفوسهم، واستوفوا العوض المحرم: والتحريم الذي فيه ليس لحقهم، وإنما هو لحق لله تعالى، وقد فاتت هذه المنفعة بالقبض، والأصول تقتضي: أنه إذا رد أحد العوضين يرد الآخر، فإذا تعذر على المستأجر رد المنفعة لم يرد عليه المال.

وأيضا فإن هذا الذي استوفيت منفعته عليه ضرر في أحد منفعتيه وعوضهما جميعا منه، بخلاف ما لو كان العوض خمرا أو ميتة فإن ذلك لا ضرر عليه في فواتها. فإنها لو كانت باقية أتلفناها عليه.

ومنفعة الغناء والنوح لو لم تفت لتوفرت عليه، بحيث كان يتمكن من صرف تلك المنفعة في أمر آخر أعني من صرف القوة التي عمل بها. فيقال على هذا: فينبغي أن يقضوا بها إذا طالب بقبضها.

قيل: نحن لا نأمر بدفعها ولا بردها، كعقود الكفار المحرمة، فإنهم إذا أسلموا على القبض لم نحكم بالقبض. ولو أسلموا بعد القبض لم نحكم بالرد، ولكن في حق المسلم تحرم هذه الأجرة عليه، لأنه كان

ص: 232

معتقدا لتحريمها بخلاف الكافر. وذلك لأنه إذا طلب الأجرة قلنا له: أنت فرطت، حيث صرفت قوتك في عمل محرم، فلا يقضى لك بأجرة. فإذا قبضها ثم قال الدافع: هذا المال اقضوا لي برده فإنما أقبضته إياه عوضا عن منفعة محرمة قلنا له: دفعته بمعاوضة رضيت بها فإذا طلبت استرجاع ما أخذه فرد إليه ما أخذته. إذا كان له في بقائه معه منفعة فهذا ومثله يتوجه فيما يقبض من ثمن الميتة والخمر.

وأيضا فمشتري الخمر إذا أقبض ثمنها وقبضها وشراها ثم طلب أن يعاد إليه الثمن كان الأوجه أن يرد إليه الثمن ولا يباح للبائع ولا سيما ونحن نعاقب الخمار بياع الخمر بأن نحرق الحانوت التي تباع فيها. نص على ذلك أحمد وغيره من العلماء فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حرق حانوتا يباع فيها الخمر، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حرق قرية يباع فيها الخمر، وهي آثار معروفة، وهذه المسألة مبسوطة في غير هذا الموضع؛ وذلك لأن العقوبات المالية عندنا باقية غير منسوخة (1).

وسئل أيضا رحمه الله تعالى عن امرأة كانت مغنية واكتسبت في جهلها مالا كثيرا وقد تابت وحجت إلى بيت الله تعالى وهي محافظة على طاعة الله تعالى فهل المال الذي اكتسبته من حلي وغيره إذا أكلت وتصدقت منه تؤجر عليه؟

فأجاب: المال المكسوب إن كانت عين أو منفعة مباحة في نفسها، وإنما حرمت بالقصد مثل من يبيع عنبا لمن يتخذه خمرا أو من يستأجر لعصر الخمر أو حملها فهذا يفعله بالعوض لكن لا يطيب له أكله، وأما إن كانت العين أو المنفعة محرمة كمهر البغي وثمن الخمر. فهنا لا يقضى له به قبل القبض. ولو أعطاه إياه لم يحكم برده. فإن هذا معونة لهم على المعاصي: إذا جمع لهم بين العوض والمعوض ولا يحل هذا المال للبغي

(1) انظر اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، صفحة 247، 248.

ص: 233

والخمار ونحوهما لكن يصرف في مصالح المسلمين. فإن تابت هذه البغي وهذا الخمار وكانوا فقراء جاز أن يصرف إليهم من هذا المال مقدار حاجتهم، فإن كان يقدر يتجر أو يعمل صنعة كالنسيج والغزل أعطي ما يكون له رأس مال، وإن اقترضوا منه شيئا ليكتسبوا به، ولم يردوا عوض القرض كان أحسن.

وأما إذا تصدق به لاعتقاده أنه يحل عليه أن يتصدق به فهذا يثاب على ذلك، وأما إذا تصدق به كما يتصدق المالك بملكه فهذا لا يقبله الله- إن الله لا يقبل إلا الطيب فهذا خبيث كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«مهر البغي خبيث (1)» (2).

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كلامه عن حقوق العباد وصورها في مسائل إلي أن قال:

فصل: المسألة الثانية إذا عاوض غيره معاوضة محرمة، وقبض العوض كالزاني والمغني وبائع الخمر، وشاهد الزور ونحوهم، ثم تاب والعوض بيده، فقالت طائفة: يرده إلى مالكه. إذا هو عين ماله ولم يقبضه بإذن الشارع ولا حصل لربه في مقابلته نفع مباح.

وقالت: طائفة بل توبته بالتصدق به، ولا يدفعه إلى من أخذه منه.

وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو أصوب القولين، فإن قابضه إنما قبضه ببذل مالكه له، ورضاه ببذله، وقد استوفى عوضه المحرم فكيف يجمع له بين العوض والمعوض، وكيف يرد عليه مالا قد استعان به على معاصي الله، ورضي بإخراجه فيما يستعين به عليها ثانيا وثالثا؟ وهل هذا إلا محض إعانته على الإثم والعدوان؟ وهل يناسب هذا محاسن الشرع أن يقضى للزاني بكل ما دفعه إلى من زنى بها طوعا أو كرها. فيعطاه وقد نال عوضه، وهب أن هذا المال لم يملكه الآخذ، فملك صاحبه قد زال

(1) صحيح مسلم المساقاة (1568)، سنن الترمذي البيوع (1275)، سنن النسائي الصيد والذبائح (4294)، سنن أبو داود البيوع (3421)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 464)، سنن الدارمي البيوع (2621).

(2)

الفتاوى الجزء (29)، صفحة 308 - 309.

ص: 234

عنه بإعطائه لمن أخذه، وقد سلم له ما في قبالته من النفع، فكيف يقال ملكه باق عليه ويجب رده إليه؟ وهذا بخلاف أمره بالصدقة به، فإنه قد أخذه من وجه خبيث برضى صاحبه وبذله له بذلك، وصاحبه قد رضي بإخراجه عن ملكه بذلك، وألا يعود إليه فكان أحق الوجوه به: صرفه في المصلحة التي ينتفع بها من قبضه ويخفف عنه الإثم ولا يقوى الفاجر به ويعان، ويجمع له بين الأمرين.

وهكذا توبة من اختلط ماله الحلال بالحرام، وتعذر عليه تمييزه أن يتصدق بقدر الحرام، ويطيب باقي ماله. والله أعلم (1).

وقال أيضا: في كسب الزانية فإن قيل فما تقولون في كسب الزانية إذا قبضته ثم تابت هل يجب عليها رد ما قبضته إلى أربابه أم يطيب لها، أم تتصدق به؟

قيل: هذا ينبني على قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وهي أن من قبض ما ليس له قبضه شرعا ثم أراد التخلص منه، فإن كان المقبوض قد أخذ بغير رضى صاحبه ولا استوفي عوضه رده عليه. فإن تعذر رده عليه قضى به دينا يعلمه عليه، فإن تعذر ذلك رده إلى ورثته، فإن تعذر ذلك تصدق به عنه، فإن اختار صاحب الحق ثوابه يوم القيامة كان له وإن أبى إلا أن يأخذ من حسنات القابض استوفى منه نظير ماله، وكان ثواب الصدقة للمتصدق بها كما ثبت عن الصحابة، وإن كان المقبوض برضى الدافع، وقد استوفى عوضه المحرم كمن عاوض على خمر أو خنزير أو على زنا أو فاحشة فهذا لا يجب رد العوض على الدافع؛ لأنه أخرجه باختياره واستوفى عوضه المحرم فلا يجوز أن يجمع له بين العوض والمعوض فإن في ذلك إعانة له على الإثم والعدوان وتيسير أصحاب المعاصي عليه، وماذا يريد الزاني وصاحب الفاحشة إذا علم أنه ينال غرضه ويسترد ماله؟ فهذا

(1) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، جزء (1)، صفحة 391 وص 392.

ص: 235

مما تصان الشريعة عن الإتيان به، ولا يسوغ القول به، وهو يتضمن الجمع بين الظلم والفاحشة والغدر، ومن أقبح القبيح أن يستوفي عوضه من المزني بها ثم يرجع فيما أعطاها قهرا، وقبح هذا مستقر في فطر جميع العقلاء فلا تأتي به شريعة. ولكن لا يطيب للقابض أكله. بل هو خبيث كما حكم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن لخبث مكسبه لا نظلم من أخذ منه، فطريقة التخلص منه وتمام التوبة بالصدقة، فإن كان محتاجا إليه فله أن يأخذ قدر حاجته ويتصدق بالباقي فهذا حكم كل كسب خبيث؛ لخبث عوضه عينا كان أو منفعة، ولا يلزم من الحكم بخبثه وجوب رده على الدافع فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بخبث كسب الحجام ولا يجب رده على دافعه (1). أقول: وخلاصة ما سبق فيما يتعلق بما تصنعه البغي إذا تابت، وماذا يفعل من اختلط ماله الحلال بالحرام؟

أ- أن الأموال التي بذلت في المنفعة المحرمة كأجرة الزانية أو المغنية لا ترد إلى الفساق الذين بذلوها ولا يباح لهم أخذها كما لا يحل هذا المال للباغية أو المغنية ونحوهما بل يتصدق بها وتصرف في مصالح المسلمين؛ لأن في ردها إلى الفساق الذين بذلوها معونة لهم على المعاصي إذا جمع لهم بين العوض والمعوض.

ب- ومن اختلط ماله الحلال بالحرام وتاب من الكسب الحرام وتعذر عليه تمييز الحلال فإن عليه أن يتصدق بقدر الحرام ويطيب باقي ماله إذا تاب مما عمل وندم على ما فات وعزم على ألا يعود والله أعلم.

جـ- النقولات الآتية الواردة في هذا البحث مثل ما ذكره النووي عن

(1) زاد المعاد في هدي خير العباد، جزء (4)، صفحة 251 وما بعدها والكلام مستوفى هناك.

ص: 236

الغزالي وكذا ما أضفته أيضا في هذا البحث من كلام الغزالي وما ذكره أبو يعلى في كتابه طبقات الحنابلة وما قاله ابن رجب في الذيل على طبقات الحنابلة وما قاله الشيخ ملا علي القارئ في كلامه عن التوبة وأركانها ونحو ذلك مما ورد في آخر البحث لا تحتاج إلى خلاصة؛ لأنها في الغالب إما فروع أو مسائل مختصرة أو مترابطة يفهمها ويدركها كل من قرأها والله أعلم.

وقال النووي رحمه الله تعالى (فرع)

قال الغزالي: لو كان في يده مغصوب من الناس معين فاختلط بماله ولم يتميز وأراد التوبة فطريقه أن يترضى هو وصاحب المغصوب بالقسمة، فإن امتنع المغصوب منه من ذلك رفع التائب الأمر إلى القاضي ليقبض منه، فإن لم يجد قاضيا حكم رجلا متدينا. لقبض ذلك، فإن عجز تولى هو ذلك بنفسه، ويعزل قدر ذلك فيه الصرف إلى المغصوب منه سواء أكان دراهم أو حبا أو دهنا أو غيره من نحو ذلك، فإذا فعل ذلك حل له الباقي، فلو أراد أن يأكل من ذلك المختلط وينفق من قبل تمييز قدر المغصوب فقد قال قائلون يجوز ذلك ما دام قدر المغصوب باقيا، ولا يجوز أخذ الجميع، وقال آخرون: لا يجوز له أخذ شيء حتى يميز قدر المغصوب بنية الإبذال والتوبة.

(فرع) من ورث مالا ولم يعلم من أين كسبه مورثه؟ أمن حلال أم حرام؟ ولم تكن علامة فهو حلال بإجماع العلماء، فإن علم أن فيه حراما وشك في قدره أخرج قدر الحرام بالاجتهاد.

(فرع) قال الغزالي: إذا كان معه مال حرام وأراد التوبة والبراءة منه فإن كان له مالك معين وجب صرفه إليه أو إلى وكيله، فإن كان ميتا وجب دفعه إلى وارثه، وإن كان لمالك لا يعرفه ويئس من معرفته فينبغي

ص: 237

أن يصرفه في مصالح المسلمين العامة، كالقناطر والربط والمساجد ومصالح طريق مكة، ونحو ذلك مما يشترك المسلمون فيه، وإلا فيتصدق به على فقير أو فقراء وينبغي أن يتولى ذلك القاضي إن كان عفيفا فإن لم يكن عفيفا لم يجز التسليم إليه؛ فإن سلم إليه صار المسلم ضامنا بل ينبغي أن يحكم رجلا من أهل البلد متدينا عالما، فإن التحكيم أولى من الانفراد فإن عجز عن ذلك تولاه بنفسه، فإن المقصود هو الصرف إلى هذه الجهة.

وإذا دفعه إلى الفقير لا يكون حراما على الفقير بل يكون حلالا طيبا، وله أن يتصدق به على نفسه وعياله إذا كان فقيرا؛ لأن عياله إذا كانوا فقراء فالوصف موجود فيهم، بل هم أولى من يتصدق عليه. وله هو أن يأخذ منه قدر حاجته؛ لأنه أيضا فقير. وهذا الذي قاله الغزالي في هذا الفرع ذكره آخرون من الأصحاب وهو كما قالوه، ونقله الغزالي أيضا عن معاوية بن أبي سفيان وغيره من السلف عن أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وغيرهما من أهل الورع؛ لأنه لا يجوز إتلاف هذا المال ورميه في البحر، فلم يبق إلا صرفه في مصالح المسلمين، والله سبحانه وتعالى أعلم (1).

أقول: وقد فصل الغزالي الكلام على هذا الموضوع في كتابه (الإحياء) في الجزء الثاني منه تحت عنوان- باب كيفية خروج التائب عن المظالم المالية- فذكر كيفية التمييز والإخراج والمصرف فارجع إليه لمزيد. ومن مسائله التي ذكرها ما يلي:

(1) المجموع شرح المهذب، جزء (9)، صفحة 342 و 343.

ص: 238

ومن أوضح ذلك ما جاءت به شريعتنا الإسلامية من تعاليم، مما لم يكن في الشرائع السابقة مما يحتاج إليه الناس في حياتهم اليومية وفي روابطهم الشخصية ومعاملاتهم لبعضهم البعض، فردية كانت هذه المعاملات أو جماعية، كبيان نظم البيع والشراء والإيجار في العقارات والمنافع. . . وغير ذلك من ضروب المعاملات.

وهذا الاختلاف بشتى صوره، إنما يقتضيه ما لله تعالى من الحكمة البالغة والحجة الدامغة في اختلاف صور العبادات والشرائع باختلاف استعداد الأقوام ومقتضيات الزمان والمكان (1).

وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى كثير من هذه المعاني، فقال عن عيسى عليه السلام {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} (2)، وقال عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (3){يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (4).

ثم وضع قاعدة عامة، فقال سبحانه {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (5).

فلكل أهل ملة وجهة هو موليها، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني بذلك أهل الأديان، يقول لكل أهل ملة قبلة يرضونها، ووجه الله- تبارك وتعالى اسمه- حيث توجه المؤمنون.

(1) انظر: حجة الله البالغة للدهلوي 1/ 86.

(2)

سورة آل عمران الآية 50

(3)

سورة الأعراف الآية 157

(4)

سورة المائدة الآية 15

(5)

سورة البقرة الآية 148

ص: 235