الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فوق المادة، ومن خصائصه الأولى ألا يعتريه البلى الذي يعرض للجسد، بل ينفصل عنه بمجرد انحلال عناصره الحسية، ليواصل وجوده في كينونة أخرى مناسبة له. . وذلك هو السر الذي يطالعنا في مواطن كثيرة من كتاب الله ومن حديث رسوله الأمين صلوات الله وسلامه عليه.
ذلك هو الإنسان
.
1 -
ففي القرآن العظيم يقول ربنا تبارك اسمه {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (1).
فهاهنا أنفس يتوفاها الله بالموت فيمسكها عن العودة إلى الحياة، وأخرى يسكب عليها غيبوبة النوم إلى حين، ثم يطلقها لمواصلة العيش، حتى تستوفي مدتها التي قدرها لها.
والتوفية في كلتا الحالتين إنما هي، والله أعلم، استيفاء المقدار الذي حدد للموت والنوم من قبل القادر الحكيم، الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات والأرض، لأن كل شيء عنده بمقداره ومثل هذا المدلول للتوفية هو المعني في رثاء طرفة على لسان أخته:
عددنا له ستا وعشرين حجة
…
فلما توفاها استوى سيدا ضخما
وفي هذا التعبير القرآني دلالة قاطعة على أن للنفس كيانا خاصا قد عين له نطاق محدود من الزمن يقضيه في صحبة الجسد، فإذا استوفاه أمسك بأمر ربه كما يشاء وحيث يشاء إلى حين يشاء.
2 -
ويقول ربنا جل جلاله عن نهاية العصاة الذين لم يمنعهم إيمانهم من المقام في مستنقعات الكفر، الذي يعرضهم وأبناءهم للانحراف عن
(1) سورة الزمر الآية 42
هذا الحوار بين ملائكة الموت وأولئك الخاضعين لأحكام الطواغيت. . إنما يجري بين الفريقين بعد أو أثناء انفصال أرواح هؤلاء عن أبدانهم. ويستحيل أن يحدث ذلك لو كان الموت قد أصاب هذه الأرواح كما أصاب أجسامها، وهو حوار واع يؤكد أن لها كل خواص (الإنسان) الذي كانت تحتل صورته قبل الموت، ولا تفسير لذلك إلا أن هذا المتحدث إنما هو نفسه (الإنسان) الذي تفصل المنية بينه وبين أجزائه الترابية التي انتهت مهمتها.
3 -
وعن الشهداء الذين صدقوا الله ما وعدوه يرينا المولى تباركت أسماؤه هذه الصور السعيدة {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (2){فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3).
فالشهداء أحياء عند ربهم مرزوقين فرحين مستبشرين. . وهذه أحوال لا يمكن تصورها إلا في أحياء يحتفظون بكل وعيهم الذي عاشوا به من قبل، وإن اختلف النوع بين الحياتين اختلاف العالمين اللذين تنقلوا بينهما. . وفي صحيح مسلم أن «أرواحهم في جوف طير خضر (4)» ، وفي أثر آخر أنها في حواصل طير خفر تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش. وذلك من إكرام ربهم لهم، على حين تكون أرواح الكفرة والفسقة في مقارها المناسبة لها، كما هو الحال بالنسبة إلى آل فرعون الذين يصور لنا الله مصيرهم بقوله الحق {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (5).
(1) سورة النساء الآية 97
(2)
سورة آل عمران الآية 169
(3)
سورة آل عمران الآية 170
(4)
صحيح مسلم الإمارة (1887)، سنن الترمذي تفسير القرآن (3011)، سنن ابن ماجه الجهاد (2801)، سنن الدارمي الجهاد (2410).
(5)
سورة غافر الآية 46