الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جـ-
حكم المال المغلول
لما كان المال المغلول من المكاسب التي حرمها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم رأيت أن أكتب بعض ما قاله العلماء فيه.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى (حديث آخر) قال أحمد حدثنا أبو سعيد حدثنا عبد العزيز بن محمد حدثنا صالح بن محمد بن زائدة عن سالم بن عبد الله أنه كان مع مسلمة بن عبد الملك في أرض الروم فوجد في متاع رجل غلولا قال: فسأل سالم بن عبد الله فقال حدثني أبي عبد الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من وجدتم في متاعه غلولا فأحرقوه (1)»
قال: وأحسبه قال (واضربوه) قال: فأخرج متاعه في السوق فوجد فيه مصحفا فسأل سالما؟ فقال بعه وتصدق بثمنه. وكذا رواه علي بن المديني وأبو داود والترمذي من حديث عبد العزيز بن محمد الدراوردي. زاد أبو داود وأبو إسحاق الفزاري كلاهما عن أبي واقد الليثي الصغير صالح بن محمد بن زائدة به، وقال علي بن المديني والبخاري وغيرهما: هذا حديث منكر من رواية أبي واقد هذا، وقال الدارقطني: الصحيح أنه من فتوى سالم فقط، وقد ذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث الإمام أحمد بن حنبل ومن تابعه من أصحابه. وقد رواه الأموي عن معاوية عن أبي إسحاق عن يونس بن عبيد عن الحسن قال: عقوبة الغال أن يخرج رحله فيحرق على ما فيه. ثم روى عن معاوية عن أبي إسحاق عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن علي قال: (الغال يجمع رحله فيحرق ويجلد دون حد المملوك ويحرم نصيبه). وخالفه أبو حنيفة ومالك والشافعي والجمهور فقالوا: لا يحرق متاع الغال، بل يعزر تعزير مثله: وقد قال البخاري وقد
(1) سنن أبو داود الجهاد (2713)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 22)، سنن الدارمي السير (2490).
امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة على الغال، ولم يحرق متاعه والله أعلم (1) انتهى المقصود مما ذكره ابن كثير رحمه الله تعالى.
وعند تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (2)
ذكر القرطبي رحمه الله تعالى حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال: «لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك (3)» . . .) الحديث.
ومن كلام القرطبي على هذا الحديث قال:
الرابعة: وفي هذا الحديث دليل على أن الغال لا يحرق متاعه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرق متاع الوجل الذي أخذ الشملة، ولا أحرق متاع صاحب الخرزات الذي ترك الصلاة عليه " ولو كان حرق متاعه واجبا لفعله صلى الله عليه وسلم ولو فعل لنقل ذلك في الحديث، وأما ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا وجدتم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه (4)» فرواه أبو داود والترمذي من حديث صالح بن محمد بن زائدة وهو ضعيف لا يحتج به. قال الترمذي: سألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فقال: إنما روى هذا صالح بن محمد وهو أبو واقد الليثي، وهو منكر الحديث.
وروى أبو داود أيضا عنه قال: (غزونا مع الوليد بن هشام ومعنا سالم بن عبد العزيز بن عمر وعمر بن عبد العزيز، فغل رجل متاعا فأمر الوليد بمتاعه فأحرق وطيف به ولم يعطه سهمه، قال أبو داود: وهذا أصح الحديثين، وروي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه. قال أبو داود
(1) تفسير ابن كثير، جزء (1)، صفحة 423.
(2)
سورة آل عمران الآية 161
(3)
صحيح البخاري الجهاد والسير (3073)، سنن أبو داود الزكاة (1658).
(4)
سنن الترمذي الحدود (1461)، سنن أبو داود الجهاد (2713)، سنن الدارمي السير (2490).
وزاد فيه علي بن بحر عن الوليد ولم أسمعه منه- ومنعوه سهمه. قال أبو عمر قال بعض رواة هذا الحديث: واضربوا عنقه واحرقوا متاعه. وهذا الحديث يدور على صالح بن محمد وليس ممن يحتج به. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث (1)» وهو ينفي القتل في الغلول. وروى ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس على الخائن ولا على المنتهب ولا على المختلس قطع (2)» . وهذا يعارض حديث صالح بن محمد، وهو أقوى من جهة الإسناد.
الغال خائن في اللغة والشريعة وإذا انتفى عنه القطع فأحرى القتل.
وقال الطحاوي: لو صح حديث صالح المذكور احتمل أن يكون حين كانت العقوبات في الأموال؛ كما قال في مانع الزكاة: "إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات الله تعالى" وكما قال أبو هريرة في ضالة الإبل المكتومة: فيها غرامتها ومثلها معها، وكما روى عبد الله بن عمرو بن العاص في التمر المعلق غرامة مثليه وجلدات نكال، وهذا كله منسوخ، والله أعلم.
الخامسة: فإذا غل الرجل في المغنم ووجد أخذ منه، وأدب وعوقب بالتعزير.
وعند مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والليث لا يحرق متاعه، وقال الشافعي والليث وداود إن كان عالما بالنهي عوقب، وقال الأوزاعي يحرق متاع الغال كله إلا سلاحه وثيابه التي عليه وسرجه، ولا تنزع منه دابته، ولا يحرق الشيء الذي غل، وهذا قول أحمد وإسحاق
(1) صحيح البخاري الديات (6878)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1676)، سنن الترمذي الديات (1402)، سنن النسائي تحريم الدم (4016)، سنن أبو داود الحدود (4352)، سنن ابن ماجه الحدود (2534)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 181)، سنن الدارمي الحدود (2298).
(2)
سنن الترمذي الحدود (1448)، سنن النسائي قطع السارق (4971)، سنن أبو داود الحدود (4391)، سنن ابن ماجه الحدود (2591)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 380)، سنن الدارمي الحدود (2310).
وقاله الحسن إلا أن يكون حيوانا أو مصحفا، وقال ابن خويز منداد: وروي أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ضربا الغال وأحرقا متاعه، قال ابن عبد البر، وممن قال يحرق رحل الغال ومتاعه مكحول وسعيد بن عبد العزيز، وحجة من ذهب إلى هذا حديث صالح المذكور. وهو عندنا حديث لا يجب به انتهاك حرمة، ولا إنفاذ حكم؛ لما يعارضه من الآثار التي هي أقوى منه. وما ذهب إليه مالك ومن تابعه في هذه المسألة أصح من جهة النظر وصحيح الأثر. والله أعلم.
السادسة: لم يختلف مذهب مالك في العقوبة على البدن، فأما في المال فقال في الذمي يبيع الخمر من المسلم: تراق الخمر على المسلم، وينزع الثمن من يد الذمي عقوبة له؛ لئلا يبيع الخمر من المسلمين. فعلى هذا يجوز أن يقال: تجوز العقوبة في المال، وقد أراق عمر رضي الله عنه لبنا شيب بماء.
السابعة: أجمع العلماء على أن للغال أن يرد جميع ما غل إلى صاحب المقاسم قبل أن يفترق الناس إن وجد السبيل إلى ذلك، وأنه إذا فعل ذلك فهي توبة له، وخرج عن ذنبه واختلفوا فيما يفعل به إذا افترق أهل العسكر ولم يصل إليه، فقال جماعة من أهل العلم يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي. هذا مذهب الزهري ومالك والأوزاعي والليث والثوري. وروي عن عبادة بن الصامت ومعاوية والحسن البصري وهو يشبه مذهب ابن مسعود وابن عباس؛ لأنهما كانا يريان أن يتصدق بالمال الذي لا يعرف صاحبه وهو مذهب أحمد بن حنبل، وقال الشافعي ليس له الصدقة بمال غيره، قال: أبو عمر فهذا عندي فيما يمكن وجود صاحبه والوصول إليه أو إلى ورثته، وأما إن لم يمكن شيء من ذلك فإن الشافعي لا يكره الصدقة حينئذ إن شاء الله تعالى. وقد أجمعوا في اللقطة على جواز الصدقة بها بعد التعريف وانقطاع صاحبها، وجعلوه إذا جاء مخيرا
بين الأجر والضمان، وكذلك المغصوب، وبالله التوفيق (1).
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في الكلام على هذه المسألة ما نصه:
المسألة السابعة: اختلف العلماء في حرق رحل الغال من الغنيمة والمراد بالغال من يكتم شيئا من الغنيمة، فلا يطلع عليه الإمام ولا يضمه مع الغنيمة.
قال بعض العلماء: يحرق رحله كله إلا المصحف وما فيه روح وهو مذهب الإمام أحمد، وبه قال الحسن وفقهاء الشام، منهم مكحول والأوزاعي، والوليد بن هشام، ويزيد بن زيد بن جابر، وأتى سعيد بن عبد الملك بغال فجمع ماله وأحرقه، وعمر بن عبد العزيز حاضر ذلك فلم يعبه.
وقال يزيد بن جابر: السنة في الذي يغل أن يحرق رحله، رواهما سعيد في سننه، قال ابن قدامة في المغني:
ومن حجج أهل هذا القول: ما رواه أبو داود في سننه عن صالح بن محمد بن زائدة قال أبو داود: وصالح هذا أبو واقد قال: دخلت مع مسلمة أرض الروم فأتي برجل قد غل فسأل سالما عنه فقال: سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وجدتم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه (2)» . قال: فوجدنا في متاعه مصحفا فسأل سالما عنه- فقال بعه وتصدق بثمنه. انتهى بلفظه من أبي داود.
وذكر ابن قدامة أنه رواه أيضا الأثرم وسعيد وقال أبو داود أيضا: حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى الأنطاكي، قال: أخبرنا أبو إسحاق عن صالح بن محمد، قال غزونا مع الوليد بن هشام، ومعنا سالم بن
(1) تفسير القرطبي، جزء (4)، من صفحة 258 حتى صفحة 261.
(2)
سنن الترمذي الحدود (1461)، سنن أبو داود الجهاد (2713)، سنن الدارمي السير (2490).
عبد الله بن عمر، وعمر بن عبد العزيز فغل رجل متاعا، فأمر الوليد بمتاعه فأحرق وطيف به ولم يعطه سهمه. قال أبو داود: وهذا أصح الحديثين رواه غير واحد أن الوليد بن هشام أحرق رحل زياد بن سعد، وكان قد غل وضربه.
حدثنا محمد بن عوف: قال حدثنا موسى بن أيوب، قال حدثنا الوليد بن مسلم، قال حدثنا زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه (1)» .
قال أبو داود: وزاد فيه علي بن بحر عن الوليد - ولم أسمعه منه- ومنعوه سهمه قال أبو داود: وحدثنا الوليد بن عتبة، وعبد الوهاب بن نجدة، قالا حدثنا الوليد عن زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب قوله ولم يذكر عبد الوهاب بن نجدة الحوطي منه سهمه، انتهى من أبي داود بلفظه، وحديث صالح بن محمد الذي ذكرنا عند أبي داود أخرجه أيضا الترمذي، والحاكم والبيهقي.
قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقد سألت محمدا عن هذا الحديث فقال: إنما روى هذا صالح بن محمد بن زائدة الذي يقال له أبو واقد الليثي، وهو منكر الحديث.
قال المنذري: وصالح بن محمد بن زائدة: تكلم فيه غير واحد من الأئمة، وقد قيل: إنه تفرد به. وقال البخاري عامة أصحابنا يحتجون بهذا في الغلول، وهو باطل ليس بشيء، وقال الدارقطني أنكروا هذا الحديث على صالح بن محمد. قال: وهذا حديث لم يتابع عليه، ولا أصل لهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمحفوظ أن سالما أمر بذلك وصحح أبو داود وقفه فرواه موقوفا من وجه آخر، وقال: هذا أصح كما قدمنا، وحديث عمرو بن شعيب الذي ذكرنا عند أبي داود أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي، وزهير بن محمد الذي ذكرنا في إسناده الظاهر أنه هو
(1) سنن أبو داود الجهاد (2715).
الخراساني. وقد قال فيه ابن حجر في (التقريب) رواية أهل الشام عنه غير مستقيمة فضعف بسببها، وقال البخاري عن أحمد كان زهير الذي يروي عنه الشاميون آخر.
وقال أبو حاتم: حدث بالشام من حفظه فكثر غلطه. انتهى.
وقال البيهقي: ويقال إنه غير الخراساني، وإنه مجهول. انتهى.
وقد علمت فيما قدمنا عن أبي داود أنه رواه من وجه آخر موقوفا على عمرو بن شعيب، وقال ابن حجر: إن وقفه هو الراجح.
وذهب الأئمة الثلاثة، مالك، والشافعي، وأبو حنيفة: إلى أنه لا يحرق رحله، واحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم لم يحرق رحل غال، وبما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، عن عبد الله بن عمرو، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسه ويقسمه، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال: يا رسول الله هذا فيما كنا أصبناه من الغنيمة، فقال: أسمعت بلالا ينادي ثلاثا قال نعم. قال ما منعك أن تجيء به فاعتذر إليه فقال: كن أنت تجيء به يوم القيامة. فلن أقبله عنك (1)» . هذا لفظ أبي داود. وهذا الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري وأخرجه الحاكم وصححه.
وقال البخاري: قد روي في غير حديث عن الغال، ولم يأمر بحرق متاعه. فقد علمت أن أدلة القائلين بعدم حرق رحل الغال أقوى، وهم أكثر العلماء (2).
وبعد ما ساق رحمه الله تعالى آراء العلماء في هذه المسألة وأدلتهم على ما رأوه فيها بين رأيه الذي يرجحه فيها فقال:
قال مقيده -عفا الله عنه- والذي يظهر لي رجحانه في هذه المسألة: هو ما اختاره ابن القيم في زاد المعاد بعد أن ذكر الخلاف المذكور في
(1) سنن أبو داود الجهاد (2712)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 213).
(2)
أضواء البيان، جزء (2)، من صفحة 404 إلى 407.