الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفيها توفي أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد الأندلسي القرطبي صاحب التصانيف. كان من جهابذة المحدثين وحفاظهم، جمع ما لم يجمعه أحد من أهل عصره بالأندلس، وكان يملي من حفظه. وقيل: إن كتبه بيعت بأربعين ألف دينار قاسمية ولي القضاء والخطابة، وعزل بعد تسعة أشهر، وله كتاب أسباب النزول في مائة جزء وكتاب فضائل الصحابة والتابعين في مائتين وخمسين جزءاً. وفيها توفي الإمام أبو الحسن بن اللبان الفرضي، محمد بن عبد الله البصري. روى سنن أبي داود، وسمعها منه القاضي أبو الطيب. قال الخطيب: انتهى إليه علم الفرائض، وصنف فيها كتباً. وروى عنه بعضهم أنه قال: ليس في الأرض فرضي إلا من أصحابي أو أصحاب أصحابي إلا ويحسن شياً. وكان إماماً في الفقه والفرائض، صنف فيهما كتباً نفيسة، وبه وبالإمام أبي حامد الاسفرائيني تفقه الحاقظ محمد بن يحيى المعروف بابن سراقة والقاضي الإمام أبو عبد الله الجعفي الكوفي الحنفي المعروف بابن النهرواني.
سنة ثلاث وأربع مائة
فيها أخذ الركب العراقي وفيها توفي الإمام الكبير الفقيه الشهير القاضي أبو عبد الله الحسين بن الحسن الحليمي الجرجاني البخاري الشافعي، صاحب التصانيف المستحسنة والآثار الحسنة والفضائل المتفقة وهو صاحب وجه في المذهب، تفقه على أبي بكر الأودن، وأبي بكر القفال. ثم صار إماماً معظماً مرجوعاً إليه في ما وراء النهر. وفيها توفي شيخ الحنابلة القاضي أبو يعلى صاحب المصنفات في أنواع مختلفات. وفيها توفي الوليد بن محمد بن يوسف الأزدي الأندلسي القرطبي الحافظ المعروف بابن الفرضي. كان فقيهاً عالماً في فنون العلم من الحديث وعلم الرجال والأدب البارع، وله من التصانيف تاريخ علماء الاندلس، وله كتاب حسن في المؤتلف والمختلف وفي مشتبه النسبة وكتاب في أخبار شعراء الأندلس وغير ذلك، ورحل من الأندلس إلى المشرق، فحج وأخذ عن العلماء، وسمع منهم، وكتب من إمامهم. ومن شعره:
أسير الخطايا عند بابك واقف
…
على وجل مما به أنت عارف
يخاف ذنوباً لم يخف عنك عيبها
…
ويرجوك فيها فهو راج وخائف
فمن ذا الذي يرجى سواك ويتقي
…
وما لك من فضل القضاء مخالف
فيا سيدي، لا تخزني في صحيفتي
…
إذا نشرت يوم الحساب الصحائف
وكن مؤنسي في ظلمة القبر عندما
…
يصد ذوو القربى ويحفوا الموالف
فإن ضاق عني عفوك الواسع الذي
…
أرجي لإسرافي فإني لتالف
قلت ما أحسسن هذه الأبيات إذا تضرع فيها بقلب وجلة الرجل المتوجه إلى الله عز وجل، إلا أن فيها شيئين: احدهما قوله أنت عارف والله تعالى لا يقال له عارف وإنما يقال: عالم وفيه بحث يطول موضع ذكره في كتب الأصول. والثاني أن في الأصل المنقول منه يخاف ذنوباً لم يخف عنك عيبها بتقديم لم وهو مكسور، ولعله من غلط الكاتب، وصوابه على ما ذكرته. توفي شهيداً، قتلته البربر رحمه الله يوم فتح قرطبة، وروي عنه أنه قال: تعلقت بأستار الكعبة فسألت الله الشهادة. وفيها توفي سيف السنة وناصر الملة الإمام الكبير الحبر الشهير، لسان المتكلمين وموضح البراهين، وقامع المبتدعين وقاطع المبطلين، القاضي أبو بكر محمد بن الطيب المشهور بابن الباقلاني الأصولي المتكلم المالكي الأشعري المجدد به دين الأمة على رأس المائة الرابعة على القول الصحيح. وقد أوضحت ذلك، وذكرت طرفاً من مناقبه في الشاش المعلم شاؤش كتاب المرهم ومناقب مائة إمام من أعيان أئمة الأشعرية، وإنه كانت محاسن القاضي أبي بكر المذكور الباطنة أكثر من محاسنه الظاهرة، وكان كل ليلة إذا قضى ورده كتب خمساً وثلاثين ورقة تصنيفاً من حفظه. وكان فريد عصره في فنه. وله التصانيف الكبيرة المسندة الشهيرة، وإليه انتهت الرئاسة في هذا العلم، وكان ذا باع طويل في بسط العبارة، مشهوراً بذلك، حتى إنه جرى بينه وبين أبي سعيد الهاروني مناظرة يوماً، فأطال قاضي أبو بكر فيها الكلام، ووسع في العبارة، وزاد في الإسهاب، وبالغ في الإيضاح الإطناب، ثم التفت إلى الحاضرين وقال: اشهدوا على أنه إن أعاد ما قلت لأغير الايضاح، ولم أطالب بالجواب، فقال الهاروني: اشهدوا على أنه إن أعاد كلام نفسه سلمت له ما قال.
وقال الحافظ أحمد بن علي الخطيب البغدادي: محمد بن الطيب أبو بكر القاضي معروف بابن الباقلاني، المتكلم على مذهب الأشعري، وكان ثقة، أعرف الناس بعلم الكلام وأحسهم خاطراً وأجودهم لساناً، وأصحهم عبارة، وله التصانيف الكثيرة في الرد على المخالذين من الرافضة والمعتزلة والجهمية والخوارج وغيرهم، وقال: حدثت أن ابن المعلم شيخ الرافضة ومتكلمها حضر بعض مجالس النظر مع أصحابه، فأقبل القاضي أبو بكر الأشعري، فالتفت ابن المعلم إلى أصحابه وقال: قد جاءكم الشيطان، فسمع القاضي كلامه وكان بعيداً فلما جلس أقبل على ابن المعلم وأصحابه، وقال: قال الله تعالى " أنا ارسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً " - مريم 83 -.
وقال الشيخ أبو القاسم بن برهان النحوي: من سمع مناظرة القاضي أبي بكر لم يستلذ بعدها لسماع كلام أحد من المتكلمين والفقهاء والخطباء والمترسلين، ولا الأغاني أيضاً لطيب كلامه وفصاحته وحسن نظامه وإشارته. وله التصانيف الكثيرة في الرد على المخالذين من المعتزلة والرافضة والخوارج والمرجئة والمشبهة والحشوية. وحكى الحافظ ابن عساكر عن أهل العلم أنه قال: كان القاضي أبو بكر فارس هذا العلم مباركاً علي هذه الأمة، يلقب سيف السنة ولسان الأمة، وكان مالكياً فاضلاً متورعاً ممن لم يحفظ عليه زلة قط، ولا تنسب إليه نقيصة. وذكر الإمام القاضي أبو المعالي بن عبد الملك، عن الشيخ الإمام أبي الحاكم القزويني قال: كان الإمام أبو بكر الأشعري يضمر من الورع والديانة والزهد والصيانة أضعاف ما كان يظهره، فقيل له في ذلك فقال: إنما ظهر ما أظهره غيظاً لليهود والنصارى والمبتدعين المخالذين، لئلا يستحقروا علماء الحق والدين. وقال الحافظ ابن عساكر: كان الانتساب إلى الاعتزال فاشياً منتشراً، وكل من كان متسنناً مستخفياً مستتراً إلى أن قام القاضي أبو بكر بنصرة المذهب، واشتهر في المشرق والمغرب. وكان مظهره بدار السلام التي هي قبة الإسلام، فلم يظهر لذلك تغيير من الأنام، ولا نكرة من العلماء والعوام بل كان الكل يتقلدون منه المنة من العوام، والأئمة يلقبونه بأجمعهم سيف السنة ولسان الأمة. وكان بينه وبين جماعة من الحنابلة مخالطة ومؤانسة واجتماع ومجالسة. ونقل الحافظ ابن عساكر بسنده إلى أبي بكر الخوارزمي قال: كل مصنف ببغداد، إنما ينقل من كتب الناس إلى تصانيفه، سوى القاضي أبي بكر، فإن صدره يحوي علمه وعلم الناس. وروى الحافظ الخطيب أنه كان القاضي أبو بكر يهم أن يختصر ما يصنفه، فلا يقدرعلى ذلك لسعة علمه وكثرة حفظه. ولما توفي حضر الشيخ أبو الفضل التميمي الحنبلي حافياً مع إخوانه وأصحابه، وأمر أن ينادي بين يدي جنازته: هذا ناصر السنة والدين، هذا إمام المسلمين، هذا الذي كان يذب عن سنة الشريعة المخالذين، هذا الذي صنف سبعين ألف ورقة ردا على الملحدين. وروى الحافظ أبو القاسم بسنده إلى القاضي أبي الفخر قال: سمعت الطائي يقول: كنت أشتهي أن أرى القاضي الإمام أبا بكر في النوم، فلم يتفق لي، فنمت ليلة، وصليت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألف مرة، وسألت الله تعالى ونمت، فلما كان وقت السحر، رأيت جماعة حسنة ثيابهم، بيضاء وجوههم، طيبة
روائحهم، ضاحكة أسنانهم، فقلت لهم: من أين جئتم؟ فقالوا: من الجنه. فقلت: ما فعلتم؟ فقالوا: زرنا القاضي الإمام أبا بكر الأشعري، فقلت: وما فعل الله به؟ فقالوا: غفر له، ورفع له في الدرجات. قال: ففارقتهم، ومشيت، وكأني رأيت القاضي أبا بكر، وعليه ثياب حسنة، وهو جالس في رياض خضرة نضرة، فهممت أن أساله عن حاله، وسمعته يقرأ " أفهو في عيشة راضية في جنة عالية " - الحاقة 21 - 22 - فهالذي ذلك فرحاً، وانتبهت. ولما توقني رثاه بعضهم في هذين البيتين:
انظر إلى جبل تمشي الرجال به
…
وانظر إلى القبر ما يحوي من السلف
انظر إلى صارم الإسلام منغمداً
…
وانظر إلى درة الإسلام في الصدف
قلت: لقد ضمن هذين البيتين مدحاً عظيماً يليق بجلالة الإمام المذكور، ويناسب حاله المشهور، ولكن لو أبدل لفظين من بيته كان أحسن وأنسب - فيما أرى - أحدهما قوله ما يحوي من السلف لو قال: من الشرف، والثاني قوله درة الإسلام لو قال: درة التوحيد، لتغاير بين اللفظين، فإنه قد قال في هذا البيت: صارم الإسلام والتوحيد. وإن كان الإسلام داخلاً فيه، فالمغايرة بين الألفاظ وإن اتحدت معانيها أحسن وأبعد من كراهة التكرير ومن قصيدة مدحه بها أبو الحسن السكري، قال بعد ذكر الغزل:
ملكت محبات القلوب ببهجة
…
مخلوقة من عفة وتخبب
فكأنما من حيثما قابلتها
…
شيم الإمام محمد بن الطيب
اليعربي بلاغة وفصاحة
…
والأشعري إذا اعتزى للمذهب
قاض إذا التبس القضاء على الحجى
…
كشفت له الآراء كل مغيب
لا تستريح إذا الشكوك تخالجت
…
إلا إلى لب كريم المنصب
وصلته همته بأبعد غاية
…
أعني المريد بها سلوك المطلب
أهدي له ثمر القلوب محبة
…
وحباه حسن الذكر من لم يحبب
ما زال ينصر دين أحمد صارعاً
…
بالحق يهدي لطريق الأصوب
والناس بين مضلل ومضلل
…
ومكذب فيما أتى ومكذب
حتى انجلت تلك الضلالة فاهتدى
…
الساري وأشرق جنح ذاك الغيهب
وفيها توفي الأمير شمس المعالي أبو الحسن قابوس بن أبي طاهر الجيل، أمير جرجان وبلاد الجيل وطبرستان. قال الثعالبي في اليتيمة: أختم هذا الكتاب بذكر خاتم الملوك، وغرة الزمان، وينبوع العدل والإحسان، ومن جمع الله سبحانه له إلى عزة العلم
بضبطه القلم، وإلى فضل الحكم فصل الحكم. ومن. مشهور ما ينسب إليه من الشعر قوله:
قل للذي بصروف المصر عيرنا
…
هل حارب الدهر إلا من له خطر
أما ترى البحر يعلو فوقه جيف
…
ويستقر بأقصى قعره الدرر
فإن تكن عبثت أيدي الزمان بنا
…
ونالنا من تمادي بؤسه ضرر
ففي السماء نجوم ما لها عدد
…
وليس يكسف إلا الشمس والقمر
وله من النظم والنثر أشياء مستحسخة، وكذلك كان خطه في نهاية من الحسن. وكان الصاحب ابن عباد إذا رآه قال: هذا خط قابوس أم جناح الطاوس؟ وينشد قول المتنبي:
في خطه من كل قلب شهوة
…
حتى كأن مداده الأهواء
ولكل عين قرة في قربه
…
حتى كأن مغيبه الأقذاء
وكان الأمير المذكور صاحب جرجان وتلك النواحي، وكانت من قبله لأبيه، ثم انتقلت مملكة جرجان عنهم إلى غيرهم، وشرح ذلك يطول. وكان ملك قابوس المذكور لها في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وكانت المملكة قد انتقلت إلى أبيه من أخيه. قالوا: وكان قابوس من محاسن الدنيا وبهجتها، غير أنه على ما خص به من المناقب والرأي البصير بالعواقب من السياسة لا يساغ كأسه، ولا تؤمن سطوته وبأسه، يقابل زلة القدم، ولا يذكر العفو عند الغضب على من أجرم، فما زال على هذا الخلق قابوس حتى استوحشت منه النفوس، وانقلبت عنه القلوب، وتجافى الصاحب عن المصحوب، فأجمع أهل عسكره على خلعه عن ولايته، ونزع الأيدي عن طاعته، وحالوا بينه وبين جرجان، وملكوها، وبعثوا إلى ولده أبي منصور ليعقد البيعة له، فأسرع في الحضور. فلما وصل إليهم أجمعوا على طاعته أن خلع أباه، فلم يسعه في تلك الحال إلا المداراة، فأجابهم خوفاً على خروج الملك عن بيتهم ولما رأى قابوس هذا المرام، توجه بمن معه من خواصه إلى ناحية بسطام، لينظرما يستقر عليه الأمر. فلما سمعوا بخروجه حملوا ولده على قصده وإزعاجه عن مكانه، ومقابلته بالشر. فسار معهم مضطراً إلى أبيه، فتلاقيا، وتباكيا لما جرى من تغير الحال، وتشاكيا، وعرض الولد نفسه أن يكون حجاباً بينه وبين أعاديه، فلو قوبل بالقتال لقتل، وذهب نفسه فيه. ورأى الوالدان ذلك لا يجدي، ولا توجد نجدة، وأن ولده أحق بالولاية والملك بعده، فسلم إليه خاتم المملكة، واستوصاه خيراً بنفسه ما زال في قيد الحياة واتفقا على أن يكون الوالد في بعض القلاع إلى حلول أجله والأنسلاخ من الحياة والانقطاع، أو فناء أعاديه من البلاد والقلاع. فانتقل إلى قلعة