الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفيها توفي قاضي القضاة أبو حامد محمد ابن قاضي القضاة أبي الفضل محمد بن عبد الله الشهرزوري الشافعي، له مع فضائله أشعار جيدة، منها قوله في وصف جرادة:
لها فخذا بكر وساقا نعامة
…
وقادمتا نسر وجؤجؤه ضيغم
خبتهاأفاعي الرمل بطناً وأنعمتعليها جياد الخيل بالرأس والفم
ويحكى عنه رئاسة جسيمة ومكارم عظيمة.
سنة سبع وثمانين وخمس مائة
فيها اشتدت مضايقة الفرنج لعكا وقلة الأقوات على المسلمين بها، فسلموها بالأمان. وفيها توفي أبو المعالي عبد المنعم بن عبد الله بن محمد بن الفضل الفراوي النيساوري مسند خراسان، سمع من جده وجماعة. وفيها توفي صاحب حماة الملك المظفر عمر ابن شاهنشاه بن أيوب أحد الأبطال ابن أخي السلطان صلاح الدين. كان شجاعاً مقداماً منصوراً في الحروب، مؤيداً في الوقائع، له مشاهد مشهورة مع الفرنج، وآثار حميدة في المضافات دلت عليه التواريخ، وله في أبواب البر معروف متسع، منها مدارس شافعية ومالكية وأوقاف كثيرة، وكثرة إحسان إلى العلماء والفقراء وأرباب الخير، وناب عن عمه صلاح الدين بالديار المصرية في بعض غيباته عنها، ثم استدعاه صلاح الدين إليه في الشام ورتب في الديار المصرية ولده العزيز الملك عثمان ومعه الملك العادل، فشق ذلك على الملك المظفر المذكور، وعزم على دخول بلاد المغرب، وقبح عليه أصحابه ذلك فامتثل قول عمه، وحضر إلى خدمته وخرج صلاح الدين فالتقاه، وفرح به وأعطاه حماة، فتوجه إليها ورتب فيها بعده ولده الملك المنصور أبو المعالي الملقب ناصر الدين. وفيها توفي الفقيه نجم الدين محمد بن الموفق الصوفي الزاهد الفقيه الشافعي. تفقه على الإمام محمد بن يحيى تلميذ حجة الاسلام، وكان يستحضر كتابه المحيط في شرح
الوسيط، وألف كتاباً سماه تحقيق المحيط، في ستة عشر مجلداً. روى ودرس وأفتى، وكان صلاح الدين يعتقد فيه ويبالغ في احترامه، وعمر له مدرسة الشافعية، وكان يبالغ في ذم العبيديين، ولما هاب صلاح الدين من الإقدام على قطع خطبة العاضد وقف قدام المنبر، وأمر أن يخطب الخطيب لبني العباس، ففعل ولم يقع، إلا الخير. قال الذهبي: ثم عمد إلى قبر ابن الكيزاني - من غلاة السنة وأهل الأثر - فنبشه وقال: لا يكون صديق وزنديق في موضع واحد. يعني: هو والشافعي، فثارت حنابلة مصر عليه، ووقعت الفتنة وصار بينهم حروب. قلت: وقوله من غلاة السنة وأهل الأثر: أي ممن يتغالى في تقرير الظواهر وعدم تأويلها، وإنما قال الذهبي: وغلاة أهل السنة، لأنه كثيراً ما يشير إلى أن الظاهرية هم أهل السنة، مفهماً بذلك أن اعتقاده موافق لأهل الظاهر - والله أعلم بالسرائر - ولما توفي المذكور في السنة المذكورة دفن في قبة تحت رجلي الإمام الشافعي رضي الله عنه وبينهما شباك. وكان أصحابه يصفون فضله ودينه، وأنه كان سليم الباطن قليل المعرفة بأحوال الدنيا. وفيها توفي الحكيم شهاب الدين يحيى بن حبش بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة وبالشين المعجمة - السهروردي المقتول بحلب. كان بارعاً في الحكمة وعلوم الفلسفة والأصول الفقهية وعلم الكلام - وشيخه وشيخ فخر الدين الرازي واحد، وهو مجد الدين الجيلي، وكان الحكيم المذكور مفرط الذكاء فصيح العبارة، مناظراً محجاجاً متزهداً، وكان علمه أكثر من عقله، ويقال إنه كان يعرف السيمياء. حكي أنه خرج من دمشق مع جماعة، فلما وصلوا إلى القابون لقوا قطيع غنم مع تركماني، فقال أصحابه: زيد رأساً من هذا الغنم، فأخذوا رأساً بعشرة دراهم كانت معه، فقال صاحب الغنم: خذوا رأساً أصغر منه، فقال: امشوا وأنا أقف معه وأرضيه، فتقدموا، وبقي يتحدث معه ويطيب قلبه، فلما بعدوا قليلاً تبعهم وتركه، وبقي التركماني يمشي خلفه ويصيح به، فلم يلتفت إليه حتى لحقه وجذب يده اليسرى وقال: أين تروح وتخلفني؟ وإذا بيده قد انخلعت من عند كتفه وصارت في يد التركماني، ودمها يجري، فبهت التركماني وتحير، ورمى اليد وخاف وهرب، وأخذ هو تلك بيده اليمنى، ولحق أصحابه وهو يلتفت إليه حتى غاب عنه. ولما وصل إلى أصحابه رأوا في يده اليمنى منديلاً لا غيره. قال ابن خلكان: ويحكى عنه مثل هذا أشياء كثيرة - انتهى والله أعلم بصحتها. قلت: ومثل هذا ما سمعته ممن يحكى عمن صاحب ابن سينا إلى جبل حراء أنه أخذ
من بدوي شاة في الطريق، فذبحها هو وأصحابه، وشووها وأكلوها، فجاء البدوي إلى رأس الجبل يطالبه بالثمن، فجلس معه في مكانه بعيداً عن رفقائه، وتمدد بين يدي البدوي، فنظر إليه ذلك البدوي فإذا هو مذبوح، ففزع البدوي وهرب. قلت: وهذه الأفعال وأشباهها يئست من أفعال، وبئس من يفعلها، وبئس المعلم - الموصل إليها.
رجعنا إلى ذكر الحكيم السهروردي، له تصانيف عديدة كالتنقيحات في أصول الفقه، والتلويحات، وكتاب الهياكل، والرسالة الغريبة وغير ذلك. ومن كلامه: حرام على الأجساد المظلمة أن تلحق في ملكوت السماوات، فوحد الله تعالى وأنت بتعظيمه ملآن، واذكره وأنت من ملابس الأكوان عريان، ولو ما كان في الوجود شمس لأظلمت الأكوان، وأبى النظام أن يكون غير ما كان، فخفت حتى قلت لست بظاهر، وظهرت من سعيي على الأكوان، اللهم خلص لطيفي من هذا العالم الكثيف. وتنسب إليه أشعار، فمن ذلك:
جعلت هياكلها تجرعلى الحمى
…
وصبت لمغناها القديم تشوقا
وتلفتت نحو الديار فشاقها
…
ربع عفت أطلاله فتمزقا
وقفت تسائله فرد جوابها
…
رجع الصدى أن لا سبيل إلى اللقا
فكأنها برق تآلف بالحمى
…
ثم انطوى وكأنه ما أبرقا
ومن شعره المشهور:
أبداً تحن إليكم الأرواح
…
ووصالكم ريحانة والراح
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم
…
وإلى لقاء جمالكم ترتاح
وارحمتا للعاشقين تحملوا
…
ثقل المحبة والهوى فضاح
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم
…
وكذا دماء البائحين تباح
فإذا هم كتموا فحدث عنهم
…
عند الوشاة المدمع السحاح
وبدت شواهد للسقام عليهم
…
فيها لمشكل أمرهم إيضاح
خفض الجناح لكم وليس عليكم
…
للصب في خفض الجناح جناح
فإلى لقاكم نفسه مرتاحة
…
وإلى رضاكم طرفه طماح
عودوا بنور الوصل من غسق الدجى
…
فالهجر ليل والوصال صباح
صافاهم فصفوا له قلوبهم
…
في نورها المشكاة والمصباح
ركبوا على سفن الهوى ودموعهم
…
بحر وشدة شوقهم ملاح
والله ما طلبوا الوقوف ببابه
…
حتى دعوا وأتاهم المفتاح
لا يطربون بغير ذكر حبيبهم
…
أبداً وكل زمانهم أفراح
حضروا وقد غابت شواهد ذاتهم
…
فتهتكوا لما رأوه وصاحوا