المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر عدد الخلفاء الراشدين ومدة خلافتهم - مرآة الجنان وعبرة اليقظان - جـ ٣

[اليافعي]

فهرس الكتاب

- ‌سنة اثنتين واربع مائة

- ‌سنة ثلاث وأربع مائة

- ‌سنة أربع وأربع مائة

- ‌سنة خمس وأربع مائة

- ‌سنة ست واربع مائة

- ‌سنة سبع واربع مائة

- ‌سنة ثمان وأربع مائة

- ‌سنة تسع وأربعمائة

- ‌سنة عشر وأربع مائة

- ‌سنة احدى عشرة وأربع مائة

- ‌سنة اثنتي عشرة وأربعمائة

- ‌سنة ثلاث عشرة وأربع مائة

- ‌سنة أربع عشرة وأربع مائة

- ‌سنة خمس عشرة وأربع مائة

- ‌سنة ست عشرة وأربع مائة

- ‌سنة سبع عشرة وأربع مائة

- ‌سنة ثمان عشرة وأربع مائة

- ‌سنة تسع عشرة وأربع مائة

- ‌سنة عشرين واربع مائة

- ‌سنة احدى وعشرين واربع مائة

- ‌سنة واثنتين وعشرين واربع مائة

- ‌سنة ثلاث وعشرين واربع مائة

- ‌سنة اربع وعشرين واربع مائة

- ‌سنة خمس وعشرين واربع مائة

- ‌سنة ست وعشرين واربع مائة

- ‌سنة سبع وعشرين واربع مائة

- ‌سنة ثمان وعشرين واربع مائة

- ‌سنة تسع وعشرين واربع مائة

- ‌سنة ثلاثين واربع مائة

- ‌سنة ثلاث وثلاثين واربع مائة

- ‌سنة أربع وثلاثين وأربعمائة

- ‌سنة خمس وثلاثين واربع مائة

- ‌سنة ست وثلاثين واربع مائة

- ‌سنة سبع وثلاثين واربع مائة

- ‌سنة ثمان وثلاثين واربع مائة

- ‌سنة تسع وثلاتين وأربع مائة

- ‌سنة اربعين واربع مائة

- ‌سنة احدى واربعين واربع مائة

- ‌سنة اثنتين واربعين واربع مائة

- ‌سنة ثلاث واربعين واربع مائة

- ‌سنة أربع وأربعين وأربع مائة

- ‌سنة خمس وأربعين وأربع مائة

- ‌سنة ست واربعين واربع مائة

- ‌سنة سبع واربعين واربع مائة

- ‌سنة ثمان واربعين واربع مائة

- ‌سنة تسع واربعين واربع مائة

- ‌سنة خمسين واربع مائة

- ‌‌‌سنة احدى وخمسين واربع مائة

- ‌سنة احدى وخمسين واربع مائة

- ‌سنة ثلاث وخمسين واربع مائة

- ‌سنة أربع وخمسين واربع مائة

- ‌سنة خمس وخمسين واربع مائة

- ‌سنة ست وخمسين واربع مائة

- ‌سنة سبع وخمسين واربع مائة

- ‌سنة ثمان وخمسين واربع مائة

- ‌سنة تسع وخمسين واربع مائة

- ‌سنة ستين واربع مائة

- ‌سنة احدى وستين واربع مائة

- ‌سنة اثنتين وستين وأربع مائة

- ‌سنة ثلاث وستين واربع مائة

- ‌سنة اربع وستين واربع مائة

- ‌سنة خمس وستين واربع مائة

- ‌سنة ست وستين واربع مائة

- ‌سنة سبع وستين واربع مائة

- ‌سنة ثمان وستين واربع مائة

- ‌سنة تسع وستين واربع مائة

- ‌سنة سبعين وإربع مائة

- ‌سنة احدى وسبعين واربع مائة

- ‌سنة اثنتين وسبعين واربع مائة

- ‌سنة ثلاث وسبعين واربع مائة

- ‌سنة اربع رسبعين واريع مائة

- ‌سنة خمس وسبعين واربع مائة

- ‌سنة. ست وسبعين واربع مائه

- ‌سنة سبع وسبعين واربع مائة

- ‌سنة تسع وسبعين واربع مائة

- ‌سنة ثمانين واربع مائة

- ‌سنة احدى وثمانين واربع مائة

- ‌سنة اثنتين وثمانين وأربع مائة

- ‌سنة ثلاث وثمانين وأربع مائة

- ‌سنة اربع وثمانين واربع مائة

- ‌سنة خمس وثمانين واربع مائة

- ‌سنة ست وثمانين واربع مائة

- ‌سنة سبع وثمانين واربع مائة

- ‌سنة ثمان وثمانين واربع مائة

- ‌سنة تسع وثمانين وأربعمائة

- ‌سنة تسعين واربع مائة

- ‌سنة إحدى وتسعين وأربع مائة

- ‌سنة اثنتين وتسعين واربع مائة

- ‌سنة ثلاث وتسعين واربع مائة

- ‌سنة أربع وتسعين وأربعمائة

- ‌سنة خمس وتسعين واربع مائة

- ‌سنة ست وتسعين واربع مائة

- ‌سبع وتسعين واربع مائة

- ‌سنة ثمان وتسعين واربع مائة

- ‌سنة تسع وتسعين واربع مائة

- ‌سنة خمس مائة

- ‌سنة احدى وخمس مائة

- ‌سنة اثنتين وخمس مائة

- ‌سنة ثلاث وخمس مائة

- ‌سنة أربع وخمس مائة

- ‌سنة خمس وخمس مائة

- ‌سنة ست وخمس مائة

- ‌سنة سبع وخمس مائة

- ‌سنة ثمان وخمس مائة

- ‌سنة تسع وخمس مائة

- ‌سنة عشرة وخمس مائة

- ‌سنة احدى عشرة وخمس مائة

- ‌سنة اثنتي عشرة وخمس مائة

- ‌سنة ثلاث عشرة وخمس مائة

- ‌سنة أربع عشرة وخمس مائة

- ‌سنة خمس عشرة وخمس مائة

- ‌سنة ست عشرة وخمس مائة

- ‌سنة سبع عشرة وخمس مائة

- ‌سنة ثمان عشرة وخمس مائة

- ‌سنة تسع عشرة وخمس مائة

- ‌سنة عشرين وخمس مائة

- ‌سنة اثنتين وعشرين وخمس مائة

- ‌سنة ثلاث وعشرين وخمس مائة

- ‌سنة اربع وعثسرين وخمس مائة

- ‌سنة خمس وعشرين وخمس مائة

- ‌سنة ست وعشرين وخمس مائة

- ‌سنة سبع وعشرين وخمس مائة

- ‌سنة ثمان وعشرين وخمس مائة

- ‌سنة تسع وعشرين وخمس مائة

- ‌سنة ثلاثين وخمس مائة

- ‌سنة إحدى وثلاثين وخمس مائة

- ‌سنة اثنتين وثلاثين وخمس مائة

- ‌سنة ثلاث وثلاثين وخمس مائة

- ‌سنة أربع وثلاثين وخمس مائة

- ‌سنة خمس وثلاثين وخمس مائة

- ‌سنة ست وثلاثين وخمس مائة

- ‌سنة سبع وثلاثين وخمس مائة

- ‌سنة ثمان وثلاثين وخمس مائة

- ‌سنة تسع وثلاثين وخمس مائة

- ‌سنة أربعين وخمس مائة

- ‌سنة احدى واربعين وخمس مائة

- ‌سنة اثنتين وأربعين وخمس مائة

- ‌سنة ثلاث واربعين وخمس مائة

- ‌سنة أربع وأربعين وخمس مائة

- ‌سنة ست وأربعين وخمس مائة

- ‌سنة سبع وأربعين وخمس مائة

- ‌سنة ثمان واربعين وخمس مائة

- ‌سنة تسع وأربعين وخمس مائة

- ‌سنة خمسين وخمس مائة

- ‌سنة إحدى وخمسين وخمس مائة

- ‌سنة اثنتين وخمسين وخمس مائة

- ‌سنة ثلاث وخمسين وخمس مائة

- ‌سنة أربع وخمسين وخمس مائة

- ‌سنة خمس وخمسين وخمس مائة

- ‌سنة ست وخمسين وخمس مائة

- ‌سنة سبع وخمسين وخمس مائة

- ‌سنة ثمان وخمسين وخمس مائة

- ‌سنة تسع وخمسين وخمس مائة

- ‌سنة ستين وخمس مائة

- ‌سنة إحدى وستين وخمس مائة

- ‌ذكروالشيخ عبد ألفادر بن أبي صالح الزاهد

- ‌نسبه ومولده وصنعته رضي الله تعالى عنه

- ‌شيء من علمه وتسمية بعض شيوخه

- ‌سنة اثنتين وستين وخمس مائة

- ‌سنة ثلاث وستين وخمس مائة

- ‌سنة أربع وستين وخمس مائة

- ‌سنة خمس وستين وخمس مائة

- ‌سنة ست وستين وخمس مائة

- ‌سنة سبع وستين وخمس مائة

- ‌سنة ثمان وستين وخمس مائة

- ‌سنة تسع وستين وخمس مائة

- ‌سنة سبعين وخمس مائة

- ‌سنة احدى وسبعين وخمس مائة

- ‌سنة اثنتين وسبعين وخمس مائة

- ‌سنة ثلاث وسبعين وخمس مائة

- ‌سنة اربع وسبعين وخمس مائة

- ‌سنة خمس وسبعين وخمس مائة

- ‌سنة ست وسبعين وخمس مائة

- ‌سنة سبع وسبعين وخمس مائة

- ‌سنة ثمان وسبعين وخمس مائة

- ‌سنة تسع وسبعين وخمس مائة

- ‌سنة ثمانين وخمس مائة

- ‌سنة احدى وثمانين وخمس مائة

- ‌سنة اثنتين وثمانين وخمس مائة

- ‌سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة

- ‌سنة اربع وثمانين وخمس مائة

- ‌سنة خمس وثمانين وخمس مائة

- ‌سنة ست وثمانين وخمس مائة

- ‌سنة سبع وثمانين وخمس مائة

- ‌سنة ثمان وثمانين وخمس مائة

- ‌سنة تسع وثمانين وخمس مائة

- ‌فصل

- ‌انتهاء اللولة العبيدية واقامة الدولة العباسية

- ‌ذكر أئمة العبيديين وعدد سني دولتهم

- ‌ذكر خلفاء بني العباس وعدد سني دولتهم

- ‌ذكر ملوك بني أمية وعدد سني دولتهم

- ‌ذكر عدد الخلفاء الراشدين ومدة خلافتهم

- ‌سنة تسعين وخمس مائة

- ‌سنة احدى وتسعين وخمس مائة

- ‌سنة اثنتين وتسعين وخمس مائة

- ‌سنة ئلاث وتسعين وخمس مائة

- ‌سنة اربع وتسعين وخمس مائة

- ‌سنة خمس وتسعين وخمس مائة

- ‌سنة ست وتسعين وخمس مائة

- ‌سنة سبع وتسعين وخمس مائة

- ‌سنة ثمان وتسعين وخمس مائة

- ‌سنة تسع وتسعين وخمس مائة

- ‌سنة ست مائة

الفصل: ‌ذكر عدد الخلفاء الراشدين ومدة خلافتهم

ابن يزيد، ثم يزيد بن الوليد، ثم مروان بن محمد الجعدي، وهو آخر ملوك بني أمية. وأما مدة دولتهم فهي إحدى وتسعون سنة.

‌ذكر عدد الخلفاء الراشدين ومدة خلافتهم

هم المشار إلى خلافتهم بقوله عليه السلام: الخلافة بعدي ثلاثون سنة. وهم: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم الحسن بن علي وبه تمام الثلاثين من السنين المذكورة. رجعنا إلى ما كنا بصدده من ذكر بعض ما جرى في دولة السلطان صلاح الدين: فلما استولى على القصر الذي كان فيه العاضد وأمواله وذخائره اختار منه ما أراد، ووهب وباع ما شاء، وكان فيه من الجواهر والذخائر النفيسة ما لم يكن عند ملك من الملوك، مما جمع على طول السنين. ومن ذلك قضيب الزفرد طوله نحو قصبة ونصف، والخيل الياقوت - لعله بالخاء المعجمة ثم المثناة من تحت وفي الأصل ضبطه بالجيم والباء الموحدة والله اعلم - غير ذلك من الكتب المنتخبة بالخطوط الجيدة نحو مائة ألف مجلد. ولما خطب للمستضيء بأمر الله أرسل إليه نور الدين يعرفه ذلك، فحل عنده أعظم محل، وسير اليه الخلع الكاملة إكراماً له، وسيرت الأعلام السود لتنصب على المنابر، وكانت هذه أول هيئة عباسية دخلت مصر بعد استيلاء العبيديين عليها. ثم إنه وقع بين نور الدين وبين صلاح الدين وحشة يطول ذكر سنيها، فعزم نور الدين على الدخول إلى مصر وإخراج صلاح الدين عنها، فظهر لصلاح الدين ذلك، فجمع أهله كما تقدم - وفيهم أبوه وخاله وسائر الأمراء، وأعلمهم بما بلغه، واستشارهم فلم يجبه أحد بشيء، فقام تقي الدين ابن أخي صلاح الدين وقال: إذا جاء قاتلناه ومنعناه من البلاد. ووافقه بعض أهله، فشتمهم والد صلاح الدين، وأنكر ذلك واستعظمه، وشتم تقي الدين وقال له: اقعد. وقال لولده صلاح الدين: أنا أبوك، وهذا شهاب الدين خالك، أتظن في هؤلاء كلهم من يحبك ويريد لك الخير مثلنا؟! والله لو رأيته - أنا وخالك - لم يمكنا إلا أن نقبل الأرض بين يديه، ولو أمرنا بضرب عنقك لفعلنا، فإذا كنا نحن هكذا فما ظنك بغيرنا؟!!، وكل من تراه من الأمراء لو رأى نور الدين وحده لم يتجاسروا على الثبات على سروجهم، وهذه البلاد له، ونحن مماليكه، وقد أقامك فيها، فإن أراد عزلك سمعنا وأطعنا، والرأي أن تكتب إليه كتاباً وتقول: بلغني أنك تريد الحركة لأجل البلاد، وأي حاجة إلى هذا ترسل المولى فلاناً - وسماه يضع في رقبتي منديلاً ويأخذني، أو قال: ويجرني إليك، فما ها هنا ما يمتنع

ص: 339

عليك. وقال للجماعة كلهم: قوموا عنا، نحن مماليك نور اللين وعبيده، يفعل بنا ما يريد. فتفرقوا على هذا، وكتب أكثرهم إلى نور الدين بالخبر. فلما خلا أيوب بابنه صلاح الدين قال له: أنت جاهل قليل المعرفة، تجمع هذا الجمع الكثير وتطلعهم على ما في نفسك؟! وإذا سمع نور الدين أنك عازم على منعه البلاد جعلك أهم الأمور إليه، وأولاها بالقصد، ولو قصدك لم ير معك أحداً من هذا العسكر. وكانوا أسلموك إليه. وأما الآن بعد هذا المجلس فيكتبون إليه ويعرفونه قولي فاكتب أنت إليه وارسل إليه في المعنى، وقل: أي حاجة لك في قصدي أرسل إلي بأحد يأخذني بحبل يضعه في عنقي، فهو إذا سمع هذا عدل عن قصدك واشتغل بغيرنا، والأقدار تفعل عملها. والله لو أراد نور الدين قصبة من قصبة سكر مصر لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل. ففعل صلاح الدين ما أشار به، فترك نور الدين قصده، واشتغل بغيره، وكان الأمر كما ظنه نجم الدين أيوب. وكان هذا من أحسن الآراء وأجودها. ثم توفي نور الدين في سنة تسع وستين وخمس مائة كما تقدم في ترجمته، وبلغ صلاح الدين أن إنساناً يقال له الكنز، جمع بأسوان خلقاً عظيماً من السودان، وزعم أنه يعيد الدولة المصرية، وانضاف إليه المصريون، فجهز صلاح الدين إليه جيشاً كثيفاً وجعل مقدمه أخاه الملك العادل، فساروا والتقوهم وكسروهم، وذلك في سنة سبعين وخمس مائة. واستقر لصلاح الدين قواعد الملك، وكان نور الدين قد خلف ولده الملك الصالح، اسماعيل في دمشق، وكان شمس الدين بن الداية بقلعة حلب قد حدثته نفسه بأمور، فسار الملك الصالح من دمشق إلى حلب فوصل إلى ظاهرها ومعه سابق الدين، فخرج بدر الدين حسن بن الداية فقبض على سابق الدين، ولما دخل الملك الصالح القلعة قبض على شمس الدين بن الداية وأخيه حسن، وأودع الثلاثة السجن. وفي ذلك اليوم قتل أبو الفضل ابن الخشاب لفتنة جرت بحلب، وقيل بل قتل قبل أولاد الداية. ثم إن صلاح الدين بعد وفاة نور الدين علم أن الملك الصالح ولد نور الدين صبي لا يستقل بالأمر ولا ينهض باعباء الملك، فتجهز من مصر في جيش

كثيف، وترك بها من يحفظها، وقصد دمشق مظهراً أنه يتولى مصالح الملك الصالح، فدخلها بالتسليم في سنة سبعين وخمس مائة، وتسلم قلعتها، واجتمع الناس إليه وفرحوا به، وأنفق أموالاً عظيمة وأظهر السرور بالدمشقيين، وسار إلى حلب، فنازل حمص وأخذ مدينتها ولم يشتغل بقلعتها، وتوجه إلى حلب ونازلها. ثم إن سيف الدين غازي - صاحب الموصل - لما أحس بما جرى علم أن الرجل قد استفحل أمره وعظم شأنه، وخاف إن غفل عنه استحوذ على البلاد وتعدى الأمر إليه، فأنفذ عسكراً وافراً وجيشاً عظيماً، وقدم عليه أخاه عز الدين مسعود، وساروا يريدون لقاء صلاح الدين. فلما بلغه ذلك رحل عن حلب عائداً إلى حماة، ورجع إلى حمص فأخذ قلعتها، ووصل عز الدين إلى حلب وأخذ معه عسكر ابن عمه الملك الصالح، وخرجوا في جمع عظيم. ولما عرف صلاح الدين بمسيرهم سار حتى وافاهم على قرون حماة وراسلهم، واجتهد أن يصالحوه فما صالحوه، ورأوا أن صرف المصاف معه ربما نالوا به غرضهم، والقضاء يجر إلى أمور، هم بها لا يشعرون. فتلاقوا، فقضى الله تعالى أنهم انكسروا، فهزموا بين يديه، وأسر جماعة منهم، ثم سار ونزل على حلب، فصالحوه على أخذ المعرة وكفرطاب وماردين. ولما جرت هذه الواقعة كان سيف الدين غازي محاصراً أخاه عماد الدين - صاحب سنجار - لأنه كان قد انتمى إلى صلاح الدين، ثم جمع العساكر وسار، وخرج ابن عمه الملك الصالح إلى لقائه، فوصل إلى حلب وصعد قلعتها. وأرسل صلاح الدين إلى مصر يطلب عسكرها، فوصل إليه وسار به حتى نزل على قرون حماة، ثم تصافوا وجرى بينهم قتال عظيم، فانكسرت ميسرة صلاح الدين، فحمل صلاح الدين بسيفه فانكسر القوم، وأسر منهم جمعاً من كبار الأمراء، فمر عليهم وأطلقهم، وعاد سيف الدين إلى حلب، فأخذ منها خزائنه، وسار حتى عاد إلى بلاده. ومنع صلاح الدين أصحابه من تتبع القوم، ونزل على خيامهم وقسم الخزائن، وأعطى خيمة سيف الدين لابن أخيه عز الدين، وسار إلى منبج فتسلمها، ثم إلى قلعة عزاز فحاصرها، ووثب جماعة من الإسماعيلية على صلاح الدين فنجاه الله تعالى منهم وظفر بهم، ثم سار فنزل على حلب وأقام عليها مدة، ثم رحل عنها. وكانوا قد أخرجوا له ابنة صغيرة لنور الدين فسألته عزاز، فوهبها لها. ثم عاد صلاح الدين إلى مصر ليتفقد أحوالها، ثم تأهب للغزاة، وخرج يطلب الساحلثيف، وترك بها من يحفظها، وقصد دمشق مظهراً أنه يتولى مصالح الملك الصالح، فدخلها بالتسليم في سنة سبعين وخمس مائة، وتسلم قلعتها، واجتمع الناس إليه وفرحوا به، وأنفق أموالاً عظيمة

ص: 340

وأظهر السرور بالدمشقيين، وسار إلى حلب، فنازل حمص وأخذ مدينتها ولم يشتغل بقلعتها، وتوجه إلى حلب ونازلها. ثم إن سيف الدين غازي - صاحب الموصل - لما أحس بما جرى علم أن الرجل قد استفحل أمره وعظم شأنه، وخاف إن غفل عنه استحوذ على البلاد وتعدى الأمر إليه، فأنفذ عسكراً وافراً وجيشاً عظيماً، وقدم عليه أخاه عز الدين مسعود، وساروا يريدون لقاء صلاح الدين. فلما بلغه ذلك رحل عن حلب عائداً إلى حماة، ورجع إلى حمص فأخذ قلعتها، ووصل عز الدين إلى حلب وأخذ معه عسكر ابن عمه الملك الصالح، وخرجوا في جمع عظيم. ولما عرف صلاح الدين بمسيرهم سار حتى وافاهم على قرون حماة وراسلهم، واجتهد أن يصالحوه فما صالحوه، ورأوا أن صرف المصاف معه ربما نالوا به غرضهم، والقضاء يجر إلى أمور، هم بها لا يشعرون. فتلاقوا، فقضى الله تعالى أنهم انكسروا، فهزموا بين يديه، وأسر جماعة منهم، ثم سار ونزل على حلب، فصالحوه على أخذ المعرة وكفرطاب وماردين. ولما جرت هذه الواقعة كان سيف الدين غازي محاصراً أخاه عماد الدين - صاحب سنجار - لأنه كان قد انتمى إلى صلاح الدين، ثم جمع العساكر وسار، وخرج ابن عمه الملك الصالح إلى لقائه، فوصل إلى حلب وصعد قلعتها. وأرسل صلاح الدين إلى مصر يطلب عسكرها، فوصل إليه وسار به حتى نزل على قرون حماة، ثم تصافوا وجرى بينهم قتال عظيم، فانكسرت ميسرة صلاح الدين، فحمل صلاح الدين بسيفه فانكسر القوم، وأسر منهم جمعاً من كبار الأمراء، فمر عليهم وأطلقهم، وعاد سيف الدين إلى حلب، فأخذ منها خزائنه، وسار حتى عاد إلى بلاده. ومنع صلاح الدين أصحابه من تتبع القوم، ونزل على خيامهم وقسم الخزائن، وأعطى خيمة سيف الدين لابن أخيه عز الدين، وسار إلى منبج فتسلمها، ثم إلى قلعة عزاز فحاصرها، ووثب جماعة من الإسماعيلية على صلاح الدين فنجاه الله تعالى منهم وظفر بهم، ثم سار فنزل على حلب وأقام عليها مدة، ثم رحل عنها. وكانوا قد أخرجوا له ابنة صغيرة لنور الدين فسألته عزاز، فوهبها لها. ثم عاد صلاح الدين إلى مصر ليتفقد أحوالها، ثم تأهب للغزاة، وخرج يطلب الساحل

حتى وافى الفرنج على الرملة في أوائل سنة ثلاث وسبعين، وكانت الكسرة على المسلمين. فلما انهزموا لم يكن لهم حصن قريب يأوون إليه، فطلبوا جهة الديار المصرية وضلوا في

ص: 341

الطريق، وأسروا منهم جماعة، منهم الفقيه عيسى الهكاري، وكان ذلك وهناً عظيماً جبرها الله تعالى بوقعة بعدها. ثم التمس الروم منه الصلح فصالحهم، وتوفي الملك الصالح بن نور الدين في السنة المذكورة - أعني سنة ثلاث وسبعين - وكان قد استحلف أمراء حلب وأجنادها لابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل. فلما بلغ عز الدين المذكور موت الملك الصالح ووصيته له بحلب بادر إلى التوجه إليها خوفاً أن يسبقه صلاح الدين، فوصل إليها وصعد القلعة، واستولى على ما بها من الحواصل، وتزوج أم الملك الصالح، ثم قايض عز الدين أخاه عماد الدين صاحب سنجار، وخرج عز الدين عن حلب ودخلها عماد الدين، وجاء صلاح الدين وحاصره، ثم صالح عماد الدين صلاح الدين على أن ينزل له عن حلب ويعوضه عنها بسنجار والخابور ونصيبين وسروج، وحلف صلاح الدين على ذلك، وتسلم قلعة حلب، وجعل فيها ولده الملك الظاهر وكان صبياً. ثم سار صلاح الدين إلى أخيه الملك العادل - وهو بمصر يستدعيه ليجتمعوا على الكرك، فسار إليه بجمع كثير وجيش عظيم، واجتمعوا في شعبان سنة تسع وسبعين وخمس مائة. فلما بلغ الفرنج الخبر حشروا خلقاً كثيراً وجاؤوا إلى الكرك ليكونوا قبالة عسكر المسلمين، فخاف صلاح الدين على الديار المصرية، فسير إليها ابن أخيه تقي الدين، ورحل عن الكرك واستصحب أخاه الملك العادل معه، ودخل دمشق. وكان الملك الظاهر أحب أولاد أبيه إليه لما فيه من الخلال الحميدة. ولم يأخذ منه حلب إلا لمصلحة رآها في ذلك الوقت. ثم إن صلاح الدين رأى عود الملك العادل إلى مصر وعود الملك الظاهر إلى حلب أصلح - وكانت بيد أخيه - فأعطاها ابنه الملك الظاهر، ونزل صلاح الدين على الموصل وحاصرها ثلاث مرات، فلم يقدر على أخذها، وترددت الرسل بينه وبين صاحبها، ثم مرض صلاح الدين فسار إلى حران، فلحقته الرسل بالإجابة إلى ما طلب، وتم الصلح على أن يسلم إليه صاحب الموصل شهرزور وأعمالها وما وراء الفرات من الأعمال، وأن يخطب له على المنابر، وينقش اسمه على السكة. فلما حلفا أرسل صلاح الدين نوابه فتسلموا البلاد التي وقع الصلح عليها، وطال مرضه حتى أيسوا منه، فحلف الناس لأولاده - وكان عنده منهم الملك العزيز - وجاء أخوه العادل من حلب - وهو ملكها يومئذ - وجعله وصياً على الجميع، وأوصى لكل واحد منهم بشيء من البلاد، وكان عنده أيضاً ابن عمه ناصر الدين،

ص: 342

فأقطعه حمص والرحبة، وسلم السلطان صلاح الدين ولده الملك العزيز إلى الملك العادل، وجعله أتابكه. ثم كانت وقعة حطين المباركة على المسلمين في رابع شهر ربيع الآخر - سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة في يوم الجمعة، وكان كثيراً ما يقصد لقاء العدو في يوم الجمعة عند الصلاة تبركاً بدعاء المسلمين والخطباء على المنابر، وسار حتى نزل على بحيرة الطبرية - على سفح الجبل - ينتظر قصد الفرنج له، فلم يتحركوا ولا خرجوا عن منازلهم، فلما رآهم لا يتحركون ترك جريده على طبرية، وترك الأطلاب على حالها قبالة العدو، ونازل طبرية وهجمها، فأخذها في ساعة واحدة، وانتهت الناس بابها، وأخذوا في النهب والقتل والسبي والحرق، وبقيت القلعة محمية بمن فيها. ولما بلغ العذو ما جرى على طبرية قلقوا لذلك، ورحلوا نحوها، وبلغ السلطان ذلك فترك على طبرية من يحاصرها، ولحق بالعسكر فالتقى العدو على سفح طبرية، وحال الليل بين العسكرين، فناما على مصافهما ليلة الجمعة إلى بكرة يومها، واستمرت نار الحرب، واشتد الأمر وضاق الخناق بالعدو، وهم سائرون كأنهم يساقون إلى الموت، وهم ينظرون قد أيقنوا بالويل والثبور، وأنهم في غدهم من زوار القبور، ولم تزل الحرب تضطرم والفارس مع قرنه يضطرم، ولم يبق إلا الظفر ووقوع الوبال على من كفر، حتى حال بينهم الليل بظلامه، وبات كل واحد من الفريقين بمقامه إلى صبيحة يوم السبت، وتحقق المسلمون أن من ورائهم الأردن، ومن بين أيديهم بلاد العدو، وأنهم لا ينجيهم إلا الاجتهاد في الجهاد، فحملوا بأجمعهم عليه وصاحوا صيحة رجل واحد، فألقى الله الرعب في قلوب الكافرين، وكان حقاً علينا نصر المؤمنين. وأحاط المسلمون بالكافرين من كل جانب، وأطلقوا فيهم السهام، وحكموا فيهم السيوف القواضب، وأشعلوا حولهم النيران، وصدقوا فيهم الضرب والطعان، وضاق بهم الأمر حتى كادوا يستسلمون خوفاً من القتل، فأسر

ص: 343

مقدمهم وقتل الباقون. وقال بعض الرواة: حكى لي من

أثق به أنه رأى بحوران شخصاً واحداً معه نيف وثلاثون أسيراً قد ربطهم بطنب خيمة لما وقع عليهم من الخذلان، ثم رحل السلطان إلى عكا فأخذها، واستنقذ من كان بها من أسرى المسلمين، فكانوا أكثر من أربعة آلاف، واستولى على ما فيها من الأموال والذخائر والبضائع، لأنها كانت مظنة التجارة، وتفرقت العساكر في بلاد الساحل فأخذوا الحصون والقلاع والأماكن المنيعة، فأخذوا نابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصر. ولما استقرت قواعد عكا وقسمت أموالها صار يشن الغارة ويأخذ بلداً بعد بلد، فأخذ صيدا وعسقلان - والرملة والداروم والأماكن المحيطة بالقدس، ثم شمرعن ساق الجد والاجتهاد في قصد القدس المبارك، واجتمعت إليه العساكر التي كانت متفرقة في الساحل، فسار نحوه معتمداً على الله مفوضاً أمره إليه، ومنتهزاً الفرصة في فتح باب الخير الذي حث الله على انتهازه على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم لقوله:" من فتح له باب خير فلينتهزه، فإنه لا يعلم متى يغلق دونه ". وكان نزوله بالجانب الغربي، وكان مشحوناً بالمقاتلة من الخيالة والرجالة، وحزر أهل الخبرة من كان فيه من المقاتلة، فكانوا يزيدون على ستين ألفاً خارجاً عن النساء والصبيان، ثم انتقل لمصلحة رآها إلى الجانب الشمالي في يوم الجمعة العشرين من رجب، ونصب المجانيق، وضايق البلد بالزحف والقتال، حتى أخذ النقب في السور مما يلي وادي جهنم. ولما رأى أعداء الله ما نزل بهم من الأمر الذي لا مدفع له عنهم، وظهرت لهم أمارات الفتح وظهور المسلمين عليهم، وكانوا قد اشتد روعهم لما جرى على أبطالهم وحماتهم من القتل والأسر، وعلى حصونهم من التخريب والهدم، وتحققوا أنهم صائرون إلى ما صار أولئك إليه، فاستكانوا وأخلدوا إلى طلب الأمان، وحصل الاتفاق عليه بالمراسله من الطائفتين، وكان تسلم المسلمين القدس المبارك في يوم الجمعة الميمون السابع والعشرين من رجب المعظم - وليلته كانت ليلة المعراج على المشهور من الأقوال -، وكان فتحه عظيماً

ص: 344

شهده الأولياء والعلماء وخلق، وقصده أهل الخير من البلدان القريبة والبعيدة، وارتفعت الأصوات بالضجيج والدعاء والتهليل والتكبير، وصليت فيه الجمعة يوم فتحه، وتكسر الصليب التي كانت على قبة الصخرة، وكان شكلاً عظيماً، ونصر الله المسلمين على يدي صلاح الدين نصراً عزيزاً. وكان الفرنج قد استولوا عليه سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة، ولم يزل بأيديهم حتى استنقذه منهم السلطان صلاح الدين في التاريخ المذكور. وكانت قاعدة الصلح أنهم قطعوا على أنفسهم عن كل رجل عشرين ديناراً، وعن كل امرأة خمسة دنانير صورية، وعن كل صغير ذكراً وأنثى ديناراً واحدا. فمن أحضر قطيعته نجى بنفسه وإلا أخذ أسيراً، وأخرج - عن كل من كان بالقدس من أسارى المسلمين، وكانوا خلقاً، وأقام به يجمع الأموال ويفرقها على الأمراء والرجال، ويحبوها الفقهاء والعلماء والزاهدين والوافدين عليه، وقد تقدم بإيصال من قام بقطيعته إلى مأمنه، وهي مدينة عظيمة، ولم يرحل عنه ومعه من المال الذي جيء له شيء، وكان يقارب مائتي ألف ألف دينار وعشرين ألفاً. ولما فتح القدس حسن عنده قصد صور، وعلم أنه إن أخر أمرها ربما عسر عليها. فسار نحوها حتى أتى عكا، فنزل عليها. ونظر في أمورها، ثم رحل عنها متوجهاً الى صور، فنزل قريباً منها، وأرسل بإحضار آلات القتال، فلما تكاملت عنده نزل عليها، وقاتلها وضايقها في البر والبحر، ثم أسروا من المسلمين المقدم الرئيس وخمس قطع من المسلمين، وقتلوا خلقاً كثيراً من رجال المسلمين، فعظم ذلك على السلطان وضاق صدره - وكان الشتاء قد هجم وتراكمت الأمطار - وامتنع الناس من القتال لكثرة الامطار فجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا عليه بالرحيل ليستريح الرجال، ويتجمعوا للقتال. فرحلوا عنها وجمعوا من آلات الحصار ما أمكن وأحرقوا الباقي الذي عجزوا عن حمله. ثم خرج السلطان صلاح الدين وسار إلى بلاد العدو، ومعه عماد الدين صاحب سنجار، ومظفر الدين بن زين الدين، وعسكر الموصل قاصدين خدمته والغزاة معه، فسار نحو حصن الأكرا، ودخل بلاد العدو حتى وصل إلى طرطو، فوقف قبالتها ينظر إليها، والعساكر محدقة بها من البحر إلى البحر، وهي مدينة لها برجان كالقلعتين، فركبوا

ص: 345

وقاربوا البلد، وزحفوا واشتد القتال وباعثوها، وصعد المسلمون سورها، وأخذوها بالسيف، وغنموا

جميع من بها وما فيها، وأحرقوا البلد. ثم سار يريد جبل، فما استتم نزول العسكر حتى أخذوها، وقوتل في القلعة قتالاً شديداً، ثم سلمت بالأمان. ثم لم يزل يأخذ بلداً بعد بلد، وقلعة بعد قلعة، ويقتل ويأسر ويغنم حتى بلغ إلى برزية - وهي من الحصون المنيعة في غاية القوة يضرب بها المثل في بلاد الفرنج، تحيط بها أودية من جميع جوانبها، وعلوها خمس مائة ونيف وسبعون ذراعاً، فأخذها عنوة، ثم كذلك بلداً بعد بلد حتى قرب من أنطاكية، فراسله أهلها في طلب الصلح فصالحهم لشدة ضجر العسكر، وكان الصلح معهم إلى سبعة أشهر على أن يطلقوا كل أسير عندهم، فإن جاءهم من ينصرهم وإلا سلموا البلد. ثم رحل السلطان، فسأله ولده الملك الظاهر - صاحب حلب - أن يجتاز به، فأجابه إلى ذلك، فوصل حلب وأقام بالقلعة ثلاثة أيام - وولده يقوم بالضيافة حق القيام - ثم سار من حلب فاعترضه تقي الدين - ابن أخيه - وأصعده إلى قلعة حماة، وصنع له طعاماً، وأحضر له سماعاً من جنى سماع الصوفية، وبات ليلة واحدة، وأعطاه جبلة وبلدة أخرى، ثم سار على طريق بعلبك، ودخل دمشق وأقام بها أياماً، ثم سار يريد صف، فنزل عليها، ولم يزل القتال حتى تسلمها بالأمان، ثم سلمت له الكرك، ثم سار إلى كوك، وضايقوها وقاتلوها مقاتلة شديدة - والأمطار متواترة، والوحول متضاعفة، والرياح عاصفة، والعدو متسلط لعلو مكانه فلما تيقنوا أنهم مأخوذون طلبوا الأمان، فأجابهم إليه وتسلمها منهم. ثم نزل إلى الغو، وأقام بالمخيم مدة الأيام، وأعطى الجماعة دستوراً، وسار مع أخيه العادل يريد زيارة القدس ووداع أخيه في توجهه إلى مصر، فدخل القدس، وصلى بها عيد الأضحى، وتوجه إلى عسقلان لينظر في أمورها، وأخذها من أخيه العادل وعوضه عنها الكرك، ثم مر على بلاد الساحل يتفقد أحوالها، ثم دخل عكا فأقام بها معظم المحرم يصلح أحوالها، وأمر بعمارة سورها، ثم سار إلى دمشق فأقام بها شهر ربيع الأول ثم خرج إلى شقيف - وهي في موضع حصين - فخيم في مرج عيون بالقرب منه، وأقام أياماً يباشر قتاله - والعساكر تتواصل إليه - فلما تحقق صاحب شقيف أنه لا طاقة له به نزل إليه بنفسه، فلم يعشر به إلا وهو قائم على باب خيمته، فأذن له في دخوله إليه، واكرمه واحترمه، وكان من أكابر الفرنج وعقلائهم، وكان يعرف بالعربية وعنده الاطلاع على شيء من التواريخ والأحاديث، وكان حسن التأني لما حضر بين يدي السلطان، وأكل معه الطعام وخلابه، ذكر أنه مملوكه وتحت طاعته، وأنه يسلم إليه المكان من غير تعب، واشترط أن يعطى موضعاً يسكنه بدمشق، وإقطاعاً فيها يقوم به وبأهله، وشروط غير ذلك، فأجابه إلى مرامه. وفي أثناء شهر ربيع الأول وصله الخبر بتسليم الشوبك، وكان قد أقام عليه جمعاً يحاصرونه مدة سنة كاملة إلى أن نفد زاد من كان فيه، وسلموه بالأمان. ثم ظهر للسلطان بعد ذلك أن جميع ما قاله صاحب شقيف كان خديعة، فراسلهم عليه ثم بلغه أن الفرنج قصدوا عكا ونزلوا عليها، فسير صاحب شقيف إلى دمشق بعد الإهانة الشديدة، وأتى عكا ودخلها بغتة لتقوي قلوب من بها، ثم استدعى العسكر من كل ناحية، ثم تكاثر الفرنج، واستفحل أمرهم وأحاطوا بعكا، ومنعوا من يدخل إليها ويخرج، فضاق صدر السلطان لذلك، ثم اجتهدوا في فتح طريق إليها لتستمر المسايلة بالمسيرة والنجدة، وسار الأمراء فاتفقوا على مضايقة العدو لينفتح الطريق، ففعلوا ذلك وانفتح الطريق، وسلكه المسلمون ودخل السلطان عكا، فأشرف على أمورها، ثم جرى بين الفريقين مناوشات في عدة أيام، ثم جرت وقعات لا حاجة للتطويل بذكرها، وقيل للسلطان: إن الوخم قد عظم بمرج عكا، فإن الموت قد نشأ بين الطائفتين، فأنشده: يع من بها وما فيها، وأحرقوا البلد. ثم سار يريد جبل، فما استتم نزول العسكر حتى أخذوها، وقوتل في القلعة قتالاً شديداً، ثم سلمت بالأمان. ثم لم يزل يأخذ بلداً بعد بلد، وقلعة بعد قلعة، ويقتل ويأسر ويغنم حتى بلغ إلى برزية - وهي من الحصون المنيعة في غاية القوة يضرب بها المثل في بلاد الفرنج، تحيط بها أودية من جميع جوانبها، وعلوها خمس مائة ونيف وسبعون ذراعاً، فأخذها عنوة، ثم كذلك بلداً بعد بلد حتى قرب من أنطاكية، فراسله أهلها في طلب الصلح فصالحهم لشدة ضجر العسكر، وكان الصلح معهم إلى سبعة أشهر على أن يطلقوا كل أسير عندهم، فإن جاءهم من ينصرهم وإلا سلموا البلد. ثم رحل السلطان، فسأله ولده الملك الظاهر - صاحب حلب - أن يجتاز به، فأجابه إلى ذلك، فوصل حلب وأقام بالقلعة ثلاثة أيام - وولده يقوم بالضيافة حق القيام - ثم سار من حلب فاعترضه تقي الدين - ابن أخيه - وأصعده إلى قلعة حماة، وصنع له طعاماً، وأحضر له سماعاً من جنى سماع الصوفية، وبات ليلة واحدة، وأعطاه جبلة وبلدة أخرى، ثم سار على طريق بعلبك، ودخل دمشق وأقام بها أياماً، ثم سار يريد صف، فنزل عليها، ولم يزل القتال حتى تسلمها بالأمان، ثم سلمت له الكرك، ثم سار إلى كوك، وضايقوها وقاتلوها مقاتلة شديدة - والأمطار متواترة، والوحول متضاعفة، والرياح عاصفة، والعدو متسلط لعلو مكانه فلما تيقنوا أنهم مأخوذون طلبوا الأمان، فأجابهم إليه وتسلمها منهم. ثم نزل إلى الغو، وأقام بالمخيم مدة الأيام، وأعطى الجماعة دستوراً، وسار مع أخيه العادل يريد زيارة القدس ووداع أخيه في توجهه إلى مصر، فدخل القدس، وصلى بها عيد الأضحى، وتوجه إلى عسقلان لينظر في أمورها، وأخذها من أخيه العادل وعوضه عنها الكرك، ثم مر على بلاد الساحل يتفقد أحوالها، ثم دخل عكا فأقام بها معظم المحرم يصلح أحوالها، وأمر بعمارة سورها، ثم سار إلى دمشق فأقام بها شهر ربيع الأول ثم خرج إلى

ص: 346

شقيف - وهي في موضع حصين - فخيم في مرج عيون بالقرب منه، وأقام أياماً يباشر قتاله - والعساكر تتواصل إليه - فلما تحقق صاحب شقيف أنه لا طاقة له به نزل إليه بنفسه، فلم يعشر به إلا وهو قائم على باب خيمته، فأذن له في دخوله إليه، واكرمه واحترمه، وكان من أكابر الفرنج وعقلائهم، وكان يعرف بالعربية وعنده الاطلاع على شيء من التواريخ والأحاديث، وكان حسن التأني لما حضر بين يدي السلطان، وأكل معه الطعام وخلابه، ذكر أنه مملوكه وتحت طاعته، وأنه يسلم إليه المكان من غير تعب، واشترط أن يعطى موضعاً يسكنه بدمشق، وإقطاعاً فيها يقوم به وبأهله، وشروط غير ذلك، فأجابه إلى مرامه. وفي أثناء شهر ربيع الأول وصله الخبر بتسليم الشوبك، وكان قد أقام عليه جمعاً يحاصرونه مدة سنة كاملة إلى أن نفد زاد من كان فيه، وسلموه بالأمان. ثم ظهر للسلطان بعد ذلك أن جميع ما قاله صاحب شقيف كان خديعة، فراسلهم عليه ثم بلغه أن الفرنج قصدوا عكا ونزلوا عليها، فسير صاحب شقيف إلى دمشق بعد الإهانة الشديدة، وأتى عكا ودخلها بغتة لتقوي قلوب من بها، ثم استدعى العسكر من كل ناحية، ثم تكاثر الفرنج، واستفحل أمرهم وأحاطوا بعكا، ومنعوا من يدخل إليها ويخرج، فضاق صدر السلطان لذلك، ثم اجتهدوا في فتح طريق إليها لتستمر المسايلة بالمسيرة والنجدة، وسار الأمراء فاتفقوا على مضايقة العدو لينفتح الطريق، ففعلوا ذلك وانفتح الطريق، وسلكه المسلمون ودخل السلطان عكا، فأشرف على أمورها، ثم جرى بين الفريقين مناوشات في عدة أيام، ثم جرت وقعات لا حاجة للتطويل بذكرها، وقيل للسلطان: إن الوخم قد عظم بمرج عكا، فإن الموت قد نشأ بين الطائفتين، فأنشده:

اقتلاني ومالكاً

وإقتلا مالكاً معي

يريد بذلك أنه قد رضي أن أتلف إذا أتلف الله أعداءه. قيل: وهذا البيت له سبب، وذلك أن مالك بن الحارث المعروف بالأشتر النخعي تماسك هو وعبد الله بن الزبير يوم الجمل، وكل واحد منهما من الأبطال المشهورين، وكان ابن الزبير مع خالته عائشة - رضي الله تعالى عنها - والأشتر مع علي رضي الله عنه وكان كل واحد منهما إذا قوي على صاحبه جعله تحته، وفعلا ذلك مراراً وابن الزبير ينشد البيت المذكور، وقيل إن الأشتر دخل على عائشة - رضي الله تعالى عنها - بعد وقعة الجمل فقالت: يا أشتر، أنت الذي أردت قتل ابن أختي يوم الوقعة. فأنشدها:

ص: 347

أعايش؛ لولا أنني كنت طاوياً

ثلاثاً لألقيت ابن أختك هالكا

غداة ينادي والرماح تنوشه

بآخر صوت اقتلوني ومالكا

فنجاه مني أكله وشبابه

وخلوة جوف لم يكن متماسكا

وقيل إن عائشة رضي الله تعالى عنها أعطت البشارة على سلامة ابن الزبير من الأشتر

عشرة آلاف درهم، وان ابن الزبير قال: لاقيت الأشتر النخعي، وما ضربته ضربة إلا ضربني ستاً أو سبعاً. والله أعلم. رجعنا إلى ما كنا فيه. ثم إن الفرنج جاءتهم الأمداد من البحر، واستظهروا على المسلمين بعكا، فضاق المسلمون من ذلك، وعزموا على صلح الفرنج بأن يسلموا البلد وجميع ما فيه من الآلات والعدة والأسلحة والمراكب ومائتي ألف دينار وخمس مائة أسير مجاهيل ومائة أسير معينين من جهتهم، ويخرجوا بأنفسهم وما معهم سالمين من الأموال والأقمشة مختصة بهم، وذراريهم ونسأئهم، وكتبوا بذلك كتباً فلما علم السلطان أنكره إنكاراً عظيماً، وعظم عليه هذا الأمر وعزم على أن يكتب إليهم في الإنكار عليهم المصالحة على هذا الوجه، وبقي متردداً في هذا، فلم يشعر إلا وقد ارتفعت أعلام العدو وصلبانه وناره وشعاره على سور البلد، وصاح الفرنج صيحة واحدة، وعظمت المصيبة على المسلمين واشتد حربهم، ووقع فيهم الصياح والعويل والبكاء والنحيب. وذكر بعضهم أن الفرنج خرجوا من عكا قاصدين عسقلان ليأخذوها، وساروا على الساحل - والسلطان وعساكره قبالتهم، وكان بينهم قتال عظيم، ونال المسلمين منه وهن شديد - فاستشار السلطان أرباب مشورته في خراب عسقلان خوفاً من أن يصل العدو إليها ويستولي عليها وهي عامرة، ويأخذ بها القدس، وينقطع بها طريق مصر، فاتفق رأيهم على ذلك، فشرع في خرابها، فلحق الناس من خرابها حزن عظيم، واشتد على أهل البلد ذلك، وعظم فراق أوطانهم، وشرعوا في بيع ما لا يقدورن على حمله، فباعوا ما يساوي عشرة دراهم بدرهم، وباعوا اثني عشر طير دجاج بدرهم واحد، واختبط البلد وخرج الناس بأهلهم وأولادهم إلى المخيم، وتشتتوا، فذهب بعضهم إلى مصر وبعضهم إلى الشام وجرت عليهم أمور عظيمة. ثم وصل خبر من جانب الملك العادل أن الفرنج قد تحدثوا معه في الصلح، وطلبوا جميع البلاد الساحلية، فرأى السلطان أن ذلك مصلحة لما علم ما في النفوس من الضجر، وكثرة ما هم عليهم من الديون. وكتب إليه بالإذن بذلك وتفويض الأمر إلى رأيه، وحث الناس على العجلة في الخراب المذكور خوفاً من هجوم الفرنج، وأمر بإحراق البلد، فأضرمت النيران في بيوته، وكان سورها عظيماً، ولم يزل الحريق يعمل في البلد من عشرين

ص: 348

في شعبان إلى سلخه، وأمر ولده الملك الأفضل أن يباشر ذلك بنفسه وخواصه. قال بعض الرواة: ولقد رأيته يحمل الخشب بنفسه للإحراق، ثم خرج إلى اللد وأمر بإخرابها وإخراب القلعة التي بالرمل، ففعل ذلك، والتمس بعض أكابر ملوك الفرنج أن يجتمع بالسلطان صلاح الدين بعدما اجتمع بأخيه الملك العادل، فاستشار صلاح الدين أصحابه من أكابر دولته في ذلك، فوقع الاتفاق على أن ذلك يكون بعد الصلح، ثم قال السلطان صلاح الدين: متى صالحنا هم لم نأمن غائلتهم، ولو حدث لي حادث الموت كانت تجتمع هذه العساكر وتقوى على الفرنج، والمصلحة أن لا نزول عن الجهاد حتى نخرجهم من الساحل، أو يأتينا الموت. ثم ترددت الرسل بينهم في الصلح، وجرت وقعات كثيرة، ثم وقع الصلح بينهم، ثم أعطى العساكر الواردة عليه المنحدرة من البلاد البعيدة الدستور، فساروا عنه، وعزم على الحج لما فرغ باله من هذه الجهة، وتردد المسلمون إلى بلاد الفرنج، وجاؤوهم الى بلاد المسلمين، وحملت البضائع والمتاجر إلى البلدان، وحضر منهم خلق كثير لزيارة القدس، وتوجه السلطان إلى القدس، وأخوه الملك العادل إلى الكرك وابنه الملك الظاهر إلى حلب، وابنه الملك الأفضل إلى دمشق، وأقام هو في القدس يقطع الناس ويعطيهم دستوراً، ويتأهب إلى المسير إلى الديار المصرية وانقطع عزمه عن الحج، ثم قوي عزمه على أن يدخل الساحل جريدة ويتفقد القلاع ويدخل دمشق ويقيم بها أياماً، ويعود إلى القدس ومنه الى الديار المصرية. وقال ابن خلكان: قال شيخنا ابن شداد: وأمرني بالمقام في القدس إلى حين عوده لعمارة مارستان أنشأه به وتكميل المدرسة التي انشأها، فلما فرغ من افتقاده أحوال القلاع دخل دمشق وفيها أولاده: الملك الأفضل والملك الظاهر والملك الظافر مظفر الدين وأولاده الصغار، وجلس للناس يوم الخميس السابع والعشرين من شوال سنة ثمان وثمانين وخمس مائة، وحضروا عنده وبلوا شوقهم منه، وأنشد الشعراء فلم يتخلف منه أحد من الخاص والعام، وأقام بنشر جناح عدله وبهطل سحاب إنعامه وفضله، ويكشف عن مظالم الرعاياء. عمل الملك

الأفضل دعوة للملك الظاهر أظهر فيها من الهمم المالية ما يليق بهمته، وسأل السلطان الحضور فحضر عند الغلبة، وكان يوماً مشهوداً. وسار الملك العادل فوصل إلى دمشق، فخرج السلطان إلى لقائه، وأقام يتصيده وأخوه وأولاده، ويتفرجون في أراضي دمشق ومواطن الظباء - وكان ذلك كالوداع لأولاده ومراتع نزهه - ونسي عزمه إلى مصر، وركب يوم الجمعة الخامس عشر صفر ليلقى الحاج، وكان ذلك آخر ركوبه. ولما كانت ليلة السبت وجد كسلاً عظيماً، غشيته الحمى في أثناء الليل، ولم يظهر ذلك للناس وأثرها ظاهر عليه، ثم أخذ المرض يتزايد إلى أن توفي بعد صلاة الصبح للسابع والعشرين من شهر صفر من السنة المذكورة في أول ترجمته. وكان يوم موته يوماً لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله بعد الخلفاء الراشدين، وغشي القلعة والملك والدنيا وحشة عظيمة، ودفن بمقابر الشهداء بالباب الصغير. ولما أخرج تابوته ارتفعت الأصوات عند مشاهدته، وعظم الضجيج، وأخذ الناس في البكاء والعويل، وصلوا عليه إرسالاً، ثم أعيد إلى الدار التي في البستان، ودفن في الصفة الغربية منها على ما ذكره بعض المؤرخين وذكر بعضهم أنه بقي مدفوناً بقلعة دمشق إلى أن بنيت له قبة شمالية الكلاسة التي هي شمالي جامع دمشق، فنقل إليها في يوم عاشوراء - كان يوم الخميس من سنة اثنتين وتسعين وخمس مائة - ورتب عنده القراء ومن يخدم المكان وأنشد في آخر سيرته بيت أبي تمام. ل دعوة للملك الظاهر أظهر فيها من الهمم المالية ما يليق بهمته، وسأل السلطان الحضور فحضر عند الغلبة، وكان يوماً مشهوداً. وسار الملك العادل فوصل إلى دمشق، فخرج السلطان إلى لقائه، وأقام يتصيده وأخوه وأولاده، ويتفرجون في أراضي دمشق ومواطن الظباء - وكان ذلك كالوداع لأولاده ومراتع نزهه - ونسي عزمه إلى مصر،

ص: 349

وركب يوم الجمعة الخامس عشر صفر ليلقى الحاج، وكان ذلك آخر ركوبه. ولما كانت ليلة السبت وجد كسلاً عظيماً، غشيته الحمى في أثناء الليل، ولم يظهر ذلك للناس وأثرها ظاهر عليه، ثم أخذ المرض يتزايد إلى أن توفي بعد صلاة الصبح للسابع والعشرين من شهر صفر من السنة المذكورة في أول ترجمته. وكان يوم موته يوماً لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله بعد الخلفاء الراشدين، وغشي القلعة والملك والدنيا وحشة عظيمة، ودفن بمقابر الشهداء بالباب الصغير. ولما أخرج تابوته ارتفعت الأصوات عند مشاهدته، وعظم الضجيج، وأخذ الناس في البكاء والعويل، وصلوا عليه إرسالاً، ثم أعيد إلى الدار التي في البستان، ودفن في الصفة الغربية منها على ما ذكره بعض المؤرخين وذكر بعضهم أنه بقي مدفوناً بقلعة دمشق إلى أن بنيت له قبة شمالية الكلاسة التي هي شمالي جامع دمشق، فنقل إليها في يوم عاشوراء - كان يوم الخميس من سنة اثنتين وتسعين وخمس مائة - ورتب عنده القراء ومن يخدم المكان وأنشد في آخر سيرته بيت أبي تمام.

ثم انقضت تلك السنون وأهلها

فكأنها وكأنهم أحلام

تغمده الله تعالى برحمته، كان من محاسن الدنيا وغرائبها. ومن مصالح الأمور الدينية، ودفع نوائبها، وذكر بعضهم أنه لم يخلف في خزائنه ذهباً ولا فضة سوى سبعة وأربعين درهماً مصرية وخرصاً واحداً من الذهب صورياً، ولم يخلف ملكاً ولا داراً ولا عقاراً ولا مزرعة ولا بستاناً. وفي ساعة موته كتب القاضي الفاضل إلى والد الملك الظاهر صاحب حلب بطاقة مضمونها رسالة بديعة مشتملة على معان رفيعة مع الإيجاز الفائق والنطق الرائق، في حالة يذهل فيها الإنسان عن نفسه، والخطب الذي صير الضرغام في رمسه، وهي: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، إن زلزلة الساعة شيء عظيم، كتبت إلى مولانا السلطان الملك الظاهر أحسن الله عزاه وجبر مصابه وجعل فيه الخلف - في الساعة المذكورة، وقد زلزل المسلمون زلزالاً شديداً، وقد حفرت الدموع المحاجر، وبلغت القلوب الخناجر، وقد ودعت أباك ومخدومي وداعاً لا تلاقي بعده، وقد قبلت وجهه عني وعنك، وأسلمته إلى الله تعالى مغلوب الحيلة ضعيف القوة راضياً عن الله تعالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وبالباب من الجنود المجندة والأسلحة المغمدة ما لا يدفع البلاء ولا يملك رد القضاء. ويدمع العين ويخشع القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا عليك يا يوسف لمحزونون. وأما الوصايا فما يحتاج إليها، والآراء فقد شغلني المصاب عنها، وأما لائح الأمر فإنه إن وقع

ص: 350

اتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم، وإن كان غيره فالمصائب المستقبلة أهونها موته وهو الهول العظيم - والسلام. وقد تقدم ذكر أولاده وهم: الأفضل والظاهر والعزيز - وهو الملقب بالظافر فيما تقدم - ويعرف بالمشمر لأن أباه لما قسم البلاد بين أولاده الكبار قال: وأنا مشمر، فغلب عليه هذا اللقب، وتوفي في سنة سبع وعشرين وستمائة بحران عند ابن عمه الملك الأسرف بن الملك العادل، ولم يكن الأشرف يومئذ ملكاً. ثم إن ولده الملك العزيز لما أخذ دمشق من أخيه الملك الأفضل بنى إلى جانب القبة المذكورة المدرسة العزيزية، ووقف عليها وقفاً جيداً، ولما ملك السلطان صلاح الدين الديار المصرية عمر بالقرافة الصغرى المدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي - رضي الله تعالى عنه -. وبنى مدرسة بالقاهرة في جوار المشهد المنسوب إلى الإمام الحسين بن علي - رضي الله تعالى عنهما - وجعل على ذلك وقفاً جيداً، وجعل دار سعيد السعداء خادم المصريين خانقاً، ووقف عليها وقفاً طائلاً، وجعل دار عباس بن السلار مدرسة للحنفية وعليها وقف جيد أيضاً والمدرسة التي بمصر المعروفة بزين النجار وقفاً على الشافعية وقفاً جيداً أيضاً، وله بمصر أيضاً مدرسة للمالكية، وبنى بالقاهرة داخل القصر مارستان، وله وقف جيد، وله بالقدس مدرسة وقفها كثير خانقة بها. قلت: وصلاح الدين كاسمه لما فتح من بلاد الكفار وعمرها بالإسلام، وما له من محاسن الأحكام، وفعل من المعروف في الأوقاف العظيمة ما تضمن النفع العام - فالله تعالى يقدس روحه وينور ضريحه - مع أن كثر هذه الوقوفات من المدارس وغيرها غير منسوبة إليه في الظاهر، ولا يعرف أنه أنشأها إلا من له اطلاع على علم التواريخ. قالوا: وكان مع هذه المملكة المتسعة والسلطنة العضيم والمرتبة المرتفعة كثير التواضع واللطف، قريباً من الناس رحيم القلب، كثير الاحتمال والمداراة، وكان يحب العلماء وأهل الخير ويحسن إليهم، ويميل إلى الفضائل ويستحسن الأشعار الجيدة ويرددها في مجالسه، حتى قيل إنه كان كثيراً ما ينشد قول أبي منصور محمد بن الحسين الحميري، وقيل إنه قول أبي محمد أحمد بن خيران الشامري:

وزارني طيف من أهوى على حذر

من الوشاة، وداعي الصبح قد هتفا

فكدت أوقظ من حولي به فرحاً

وكاد يهتك سر الحب بي شغفا

ثم انتبهت، وآمالي تخيل لي

نيل المنى، فاستحالت غبطتي أسفا

قيل: وكان يعجبه ايضاً إنشاد أبي الحسن المعروف بابن المنخم.

ص: 351

وما خضب الناس البياض لقبحه

فأقبح منه حين يظهر ناضله

ولكنه مات الشباب فسودت

على الرسم من حزن عليه منازله

فكان يمسك بكريمته وبنظر إليها ويقول: إي والله، مات الشباب. وأرسل إليه بعض الشعراء بقصيدتين من بغداد، قال في آخر إحداهما:

يا سلم، إن ضاعت عهودي عندكم

فأنا الذي استودعت غير أمين

أوعدت مغبوناً فما أنا في الهوى

لكم بأول عاشق مغبون

ومن البلية أن تكون مطالبي

جدوى نخيل أو وفاء خؤون

ليت الظنين على المحب بوصله

أخذ السماحة من صلاح الدين

ومما قيل فيه لبعض شعراء المشرق.

الله أكبر جاء القوس باريها

ورام أسهم دين الله راميها

فكم لمصر على الأمصار من شرف

بيوسفين وهل أرض تدانيها؟

فبابن يعقوب هزت جيدها طرباً

وبابن أيوب هزت عطفهاتيها

قل للملوك تخلي عن ممالكها

فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها

فلما أنشده إياها أعطاه ألف دينار. ومدحه المهذب أبوحفص عمر بن محمد المعروف بابن الشحنة الموصلي الشاعر المشهور بقصيدته التي أولها.

سلام مشوق قد يراه التشوق

على خيره الحي الذي يتفرق

وعدد أبياتها مائة وثلاثة عشر بيتاً، وفيها البيتان السائران اللذان ثمثل بهما مدعي الأشجان مع بعد المكان، أحدهما.

وإني امرؤ أحببتكم لمكارم

سمعت بها والأذن كالعين تعشق

وهذا البيت أخذه من قول بشار:

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة

والأذن تعشق قبل العين أحيانا

والبيت الثاني من قصيدة ابن الشحنة:

وقالت لي الأيام إن كنت واثقاً

بأبناء أيوب فأنت الموفق

وقد مدحه خلق كثير من الشعراء تغمده الله تعالى برحمته وأسكنه بحبوحة جنته.

ص: 352