الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال: يا ولدي؛ ما اختارك الله لهذا الأمر إلا وأنت أهل له، ولا ينبغي أن تغير موضع السعادة. ولم يزل عنده حتى استقل صلاح الدين بمملكة البلاد - كما سيأتي في ترجمته - ثم خرج صلاح الدين إلى الكرك ليحاصرها، وأبوه بالقاهرة، فركب يوماً ليسير على عادة الجند فخرج من باب النصر - أحد أبواب القاهرة - فشبت به فرسه، فألقاه، وبقي متألفا أياماً، ثم توفي - رحمه الله تعالى -. وفيها توفي ملك النحاة أبو نزار الحسن بن صافي البغدادي. كان نحوياً بارعاً، أصولياً متكلماً، رئيساً ماجداً، قدم دمشق واشتغل بها، وصنف في الفقه والنحو والكلام، وعاش ثمانين سنة. وسمع الحديث، وقرأ مذهب الإمام الشافعي وأصول الدين على أبي عبد الله القيرواني، والخلاف على أسعد الميهن، وأصول الفقه على أبي الفتح بن برهان صاحب الوجيز والوسيط في أصول الفقه، وقرأ النحو على الفصيحي، والفصيحي قرأ على عبد القاهر الجرجاني صاحب الجمل الصغير، وسافر إلى خراسان وكرمان وغزنة، ورحل إلى الشام، واستوطن دمشق وتوفي بها. وله مصنفات كثيرة في الفقه والأصلين والنحو، وله ديوان شعر، ومدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقصيدة، ومن شعره:
سلوت بحمد الله عنها فأصبحت
…
دواعي الهوى من نحوها لا أجيبها
على أنني لا شامتإن أصابهابلاء، راض لواش بعيبها
ولقب نفسه ملك النحاة وكان يسخط على من يخاطبه بغير ذلك وأخذ عنه جماعة ادباء كثيراً واتفقوا على فضله ومعرفته.
سنة تسع وستين وخمس مائة
فيها توفي الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي، كان ملكاً عادلاً زاهداً عابداً ورعاً متمسكاً بالشريعة مائلاً إلى الخير مجاهداً في سبيل الله كثير الصدقات، بنى المدارس في بلاد الإسلام الكبار مثل دمشق وحلب وبعلبك ومنبج والرحب، وبنى بمدينة الموصل الجامع النوري، وبحماة الجامع الذي على نهر العاصي، وجامع
الره، وجامع منبج، ومارستان دمشق، ودار الحديث بها، وله من المناقب وألفاثر والمفاخر ما يستغرق الوصف، وكان في الأولياء معدوداً من الأربعين، وصلاح الدين من الثلاث مائة، ذكر ذلك بعض الشيوخ العارفين. لما قتل أبوه سار في خدمته صلاح الدين محمد بن أيوب وعساكر الشام إلى مدينة حلب وحماة وحمص ومنبج وحران فملكها، وملك أخوه سيف الدين الموصل وما والاها، ثم إن نور الدين نزل على دمشق محاصراً لها - وصاحبها يومئذ مجير الدين أتابك الملك رواق بن تتش بالمثناة من فوق مكررة ثم الشين المعجمة السلجوقي - وكان نزول نور الدين عليها ثالث صفر سنة تسع واربعين وخمس مائة، وملكها يوم الأحد تاسع الشهر المذكور، ثم استولى على بقية بلاد الشام من حمص وحماة وبعلبك - وهو الذي بنى سورها - ومنبج وما بين ذلك، وافتتح من بلاد الروم عدة حصون منها مرعش وبهنسا وتلك الأطراف، وافتتح أيضاً من بلاد الفرنج أيضاً حارم وعزاز وبانياس وغير ذلك مما يزيد عدته على خمسين حصناً، ثم سير الأمير أسد الدين عم صلاح الدين إلى مصر ثلاث مرات، وملكها السلطان صلاح الدين في المرة الثالثة نيابة عنه، وجعل اسمه في الخطبة والسكة.
وكان بينه وبين أبي الحسن سنان بن سليمان بن محمد الملقب راشد الدين صاحب قلاع الإسماعيلية ومقدم الفرقة الباطنية - وإليه تنسب الطائفة السنية مكاتبات ومحاورات بسبب المحاورة - فكتب إليه نور الدين في بعض الأزمنة كتاباً يهدده فيه ويتواعده بسب اقتضاء ذلك، فشق على سنان، فكتب جوابه أبياتاً ورسالة:
يا ذا الذي بقراع السيف هددنا
…
لا قام مصرع جنبي حين تصرعه
قام الحمام إلى البازي يهدد
…
فاستيقظت لأسود البر أصيعه
أضحى يسدفم الأفعى بإصبعهيكفيه ما قد تلاقي منه إصبعه
وقفنا على تفصيله وحمله وعلمنا ما هددنا به من قوله وعمله، فيا لله العجب من ذبابة تطن في أذن فيل وبعوضة تعد في التماثيل، ولقد قالها من قبلك قوم آخرون فدمرنا عليهم ما كان لهم من ناصرين، أو للحق تدحضون وللباطل تنصرون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. وأما ما صدر من قولك في قطع رأسي وقلعك لقلاعي من الجبال الرواسي فتلك أماني كاذبة وخيالالت غير صائبة، فإن الجواهر لا تزول بالأعراض كما أن الأرواح لا تضمحل بالأمراض، كم من قوي وضعيف، ودنيء وشريف، فإن عدنا إلى الظواهر والمحسوسات، وعدلنا عن البواطن والمعقولات فلنا أسوة رسول - الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله:" ما أوذي نبي ما أوذيت "، وقد علمتم ما جرى على عترته وأهل بيته وشيعته، والحال ما حال والأمر ما زال، ولله الحمد في الآخرة والأولى إذ نحن مظلومون لا ظالمون، ومغصوبون لا غاصبون، وإذا " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً "، وقد علمتم ظاهر حالنا وكيفية رحالنا، وما يتمنوه من الفوت ويتقربون به إلى حياض الموت قل " فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين "، - الجمعة 6و7 - وفي أمثال العاقة السائرة: أو للبط تهددون بالشط؟ فهيىء للبلايا جلباباً، وتدرع للرزايا أثواباً، فلأظهرن عليك منك ولأتعبنهم فيك عنك، فتكون كالباحث عن حتفه بظلفه، والجادع مارن أنفه بكفه، وما ذلك على الله بعزيز. وفي رواية: فإذا وقفت على كتابنا هذا فكن لأمرنا بالمرصاد ومن حالك على اقتصاد، واقرأ أول النحل وآخر ص. والصحيح أنه كتب هذا اللفظ إلى السلطان صلاح الدين بن أبي أيوب، وبالجملة فإن محاسن نور الدين كثيرة، وسيرته في حسنها شهيرة. وكانت وفاته - رحمه الله تعالى - بعلة
الخوانيق، وأشار عليه الأطباء بالقصد فامتنع، وكان مهيباً فما روجع ودفن في بيت بقلعة دمشق كان يلازم الجلوس فيه والمبيت أيضاً، ثم نقل إلى تربته بالمدرسة التي أنشأها عند باب سوق الخواصين. وروي عن جماعة أن الدعاء عند قبره مستجاب، وكانت ولادته سنة إحدى عشرة وخمس مائة، فجميع عمره نيف وخمسون سنة، وكان قد عهد بالملك إلى ولده الملك الصالح اسماعيل، فقام من بعده، وخرج السلطان صلاح الدين من مصر، وملك دمشق وغيرها في بلاد الشام، وتركه في مدينة حلب، ولم يزل بها حتى توفي سنة سبع وسبعين وخمسمائة. وكان لموته وقع عظيم في قلوب الناس، وتأسفوا عليه لأنه كان محسناً محمود السيرة - رحمه الله تعالى -. وفيها وعظ الشهاب الطوسي ببغداد فقال: ابن ملجم لم يكفر بقتل علي - رضي الله تعالى عنه - فرجموه بالآجر، وهاجت الشيعة، فلولا العلماء لقتل، وحرقوا منبره، وهيؤوا له للمعياد الآتي قوارير النفط - ليحرقوه، ولامه نقيب النقباء، فأساء الأدب، فنفوه، فذهب إلى مصر وارتفع بها شأنه وعظم. وفيها توفي الحافظ أبوعلي العطار الحسن بن أحمد الهمداني المقرىء الأستاذ، شيخ همدان وقارئها وحافظها. رحل وحمل القراءات والحديث، قرأ بواسطة علي القلانسي، وببغداد على جماعة، وسمع من ابن بيان وطبقته، وبخراسان من الفراوي وطبقته، وبرع على حافظ زمانه في حفظ ما يتعلق بالحديث من الأنساب والتواريخ والأسماء والكنى والقصص والسير، وله تصانيف في القراءات والحديث والرقائق في مجلدات كبيرة، منها كتاب زاد المسافر خمسون مجلداً. وكان إماماً في العربية، وحفظ في اللغة كتاب الجمهرة، وأخرج جميع ما ورثه، وكان أبوه تاجراً، وسافر مراراً ماشياً يحمل كتبه على ظهره، ويبيت في المساجد، ويأكل خبز الدخن إلى أن نشر الله تعالى ذكره في الآفاق. قال ابن النجار: هو إمام في علوم القرآن والحديث والأدب والزهد والتمسك بالأثر. وفيها توفي سعيد بن المبارك البغدادي النحوي المعروف بابن الدهان، صاحب التصانيف الكثيرة، ألف شرحاً للإيضاح في ثلاثة وأربعين مجلداً، وكان سيبويه زمانه. وفيها توفي المسمى بعبد النبي ابن المهدي، الذي تغلب على اليمن، وتلقب
بالمهدي. وكان أبوه أيضاً قد استولى على اليمن، فظلم وغشم وذبح الأطفال، وكان باطنياً من دعاة المصريين بني عبيد، وهلك سنة ست وستين، وقام بعده ولده المذكور فاستباح الحرائر وتمرد على الله فقتله شمس الدولة كما مضى. وفيها توفي الفقيه عمارة بن علي بن زيدان الحكمي المذحجي اليمني الشافعي الفرضي نزيل مصر وشاعر العصر. كان شديد التعصب للسنة أديباً
ماهراً، ولم يزل يماشي الحال في دولة المصريين إلى أن ملك صلاح الدين فمدحه، ثم إنه شرع في أمور وأخذ مع رفاق من الرؤساء في التعصب للعبيديين وإعادة دولتهم، فنقل أمرهم - وكانوا ثمانية - إلى صلاح الدين، فسبقهم في رمضان. ذكر في بعض تآليفه أنه من قحطان، وأن وطنه من تهامه اليمن: مدينة يقال لها برطان، من وادي سباع، وبعدها من مكة في مهب الجنوب أحد عشر يوماً. واشتغل بالفقه في زبيد مدة أربع سنين، وحج سنة تسع وأربعين وخمس مائة، وسيره قاسم بن هاشم صاحب مكة - شرفها الله تعالى - إلى الديار المصرية - وصاحبها يومئذ الفائزين الظافر - ومدحه ووزيره بقصيدة يقول فيها: هراً، ولم يزل يماشي الحال في دولة المصريين إلى أن ملك صلاح الدين فمدحه، ثم إنه شرع في أمور وأخذ مع رفاق من الرؤساء في التعصب للعبيديين وإعادة دولتهم، فنقل أمرهم - وكانوا ثمانية - إلى صلاح الدين، فسبقهم في رمضان. ذكر في بعض تآليفه أنه من قحطان، وأن وطنه من تهامه اليمن: مدينة يقال لها برطان، من وادي سباع، وبعدها من مكة في مهب الجنوب أحد عشر يوماً. واشتغل بالفقه في زبيد مدة أربع سنين، وحج سنة تسع وأربعين وخمس مائة، وسيره قاسم بن هاشم صاحب مكة - شرفها الله تعالى - إلى الديار المصرية - وصاحبها يومئذ الفائزين الظافر - ومدحه ووزيره بقصيدة يقول فيها:
الحمد للعيش بعد العزم والهمم
…
حمداً يقوم بما أوليت من نعم
لا أجحد الحق عندي للركاب به
…
تمنيت اللجم فيها ريتة الخطم
قرير، بعد مرار العيش من نظري
…
حتى رأيت إمام العصر من أمم
وأجري من الكعبة البطحاء والحرم
…
السامي إلى كعبة المعروف والكرم
إلى أن قال:
أقسمت بالفائز المعصوم معتقداً
…
فوز النجاة، وأجري البر في القسم
لقد حمى الدين والدنيا وأهلهم
…
وزيره الصالح الفراج للغمم
خليفة ووزير مد عدلهما
…
ظلاً على مفرق الإسلام والأمم
زيادة النيل نقص عند فيضهما
…
فما عسى تتعاطى منية الديم
فاستحسنا قصيدته، وأجز لاصلته، ثم رجع متوجهاً إلى مكة، ثم منها إلى زبيد في سنة إحدى وخمسين، ثم حج من عامه، فأعاده صاحب مكة المذكور في رسالة إلى مصر