الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأثنى عليه أيضاً الفقيه عمارة اليمني في كتاب النكت العصرية في أخبار الوزراء - المصرية. وقيل: إن كتبه بلغت مائة ألف مجلد، وكان له آثار جميلة وأفعال حميدة وديانة متينة وأوراد كثيرة. وكان دخله في السنة من مغله دون خمسين ألف دينار، وكان عمره بضعاً وستين سنة. وفيها توفي الشهاب الطوسي أبو الفتح محمد بن محمود نزيل مصر شيخ الشافعية. درس وأفتى ووعظ وصنف وتخرج به الأصحاب، وكان رئيساً معظماً ينبه على الملوك لصنعه، يركب بالغاشية والسيوف المسلولة - وبين يديه ينادي هذا الملك العلماء - وكان صاحب صولة في القيام على الحنابلة ونصرة الأشاعرة. وفيها توفي أبو الفتوح عبد المنعم بن أبي عبد الوهاب بن سعد الملقب شمس الدين الحراني الأصل البغدادي المولد، الحنبلي المذهب. كان تاجراً، وله في الحديث السماعات العالية، وانتهت الرحلة إليه من أقطار الأرض، وألحق الصغار بالكبار، لا يشاركه في شيوخه ومسموعاته أحد، توفي في بغداد ودفن بمقبرة الإمام أحمد - رضي الله تعالى عنه - وكان صحيح الذهن والحواس إلى أن مات، وتسرى بمائة وثمان وأربعين جارية.
سنة سبع وتسعين وخمس مائة
فيها كان الجوع والموت بالديار المصري، وجرت أمور تتجاوز الوصف ودام ذلك إلى نصف الشام الثاني، حتى قيل - أو قال قائل: مات ثلاثة أرباع أهل البلد المذكور لما أبعد والذي دخل تحت قلم الحشرية في مدة اثنتين وعشرين شهراً مائتا ألف وإحدى عشر ألفاً بالقاهرة، وهذا قليل في جنب من هلك بمصر والحواضر وفي البيوت والطرق ولم يدفن - وكله يسير في جنب من هلك بالإقليم. وقيل إن مصر كان فيها تسع مائة منسج، فلم يبق إلا خمسة عشر منسجاً. فقس على هذا - وبلغ الفروخ مائة درهم، ثم عدم الدجاج بالكلية لولا ما جلب من الشام. وأما أكل لحم الآدميين فشاع واستفاض، وقيل: تواتر. وفي شعبان منها كانت الزلزلة العظمى التي عمت أكثر الدنيا. قال أبو شامة: مات
بمصر خلق تحت الهدم قال: ثم هدمت نابلس، وذكر خسفاً عظيماً، وأحصى من هلك في هذه السنة فكان ألف ألف ومائة ألف. وفيها كانت مراسلات الأمراء من مصر للأفضل والظاهر، وكرهوا العادل، وتطيروا بكعبة أسرع الأفضل إلى حلب، فخرج معه أخوه واتفقا على أن تكون دمشق للأفضل، ثم يسيران إلى مصر، فإذا ملكاها استقر بها الأفضل وتبقى الشام كلها للظاهر. فنازلوا دمشق وبها المعظم، وقدم أبوه إلى نابلس، فاستمال الأمراء وأوقع بين الأخوين - وكان من دهاة الملوك - فترحلوا. وكان بخراسان فتن وحروب عظيمة على الملك. وفيها توفي الإمام العلامة الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي المعروف بابن الجوزي البغدادي التميمي البكري نسبة إلى أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - كان علامة عصره وإمام وقته في أنواع العلوم من التفسير والحديث والفقه والوعظ والسير والتواريخ والطب وغير ذلك. ووعظ من صغره وعظاً فاق فيه الأقران، وحصل له القبول التام والاحترام. حكي أن مجلسه حزر بمائة ألف، وحضر مجلسه الخليفة المستضيء مرات من وراء الستر. وصنف في فنون عديدة منها زاد المسير في علم التفسير أربعة أجزاء اتى فيها بأشياء غريبة - وله في الحديث تصانيف كثيرة، وله: المنتظم في التاريخ، وهو كتاب كبير، وله: الموضوعات، في أربعة أجزاء ذكر فيها كل حديث موضوع. وله تنقيح فهوم الأثرة على وضع كتاب المعارف لابن قتيبة - وبالجملة فكتبه أكثر من أن تعد، وكتب بخطه شيئاً كثيراً، والناس يغالون في ذلك. قال ابن خلكان حتى نقلوا أن الكراريس التي كتبها جمعت وحبست مدة عمره، وقسمت الكراريس على المدة فكان ما خص كل يوم تسع كراريس. قال: وهذا شيء عظيم لا يقبله العقل. قلت: وهو كما قال: ويقال إنه جمعت براية أقلامه التي كتب بها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحصل منها شيء كثير. وأوصى أن يسخن الماء الذي يغسل به - بعد موته - بها، فكفت وفضل منها. وله أشعار لطيفة،....منها قوله معرضاً بأهل بغداد:
عذيري من فتية بالعراق
…
قلوبهم بالجفا قلب
يرون العجيب كلام الغريب
…
وقول القريب فلا يعجب
ميادينهم أن تبدت بخير
…
إلى غير جيرانهم تقلب
عذرهم عند توبيخهم
…
مغنية الحي ماتطرب
وله أشعار كثيرة. وكانت له في مجالس الوعظ أجوبة نادرة، من ذلك ما يحكي أنه وقع النزاع ببغداد بين السنية والشيعية في المفاضلة بين أبي بكر وعلي - رضي الله تعالى عنهما - فرضي الكل بما يجيب عنه الشيخ أبو الفرج، وأقاما شخصاً سأله عن ذلك وهو على الكرسي في مجلس وعظه فقال: أفضلهما من كانت ابنته تحته ونزل في الحال حتى لا يراجع في ذلك، فقالت السنية: هو أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - لأن ابنته عائشة تحت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالت الشعية: هو علي، لان فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحته، وقال: وقال ابن خلكان: وهذا من لطائف الأجوبة، ولو حصل بعد الفكر التام وإمعان النظر كان في غاية الحسن فضلاًعن البديهة. انتهى. قلت: ومن نوادره ما سمعت من بعض أهل العلم: يحكى أن الخليفة غضب على إنسان من حاشيته، فأراد أن يعاقبه، فهرب فلزم أخاه، وصادره وأخذ له مالاً، فشكى ذلك المصادر إلى ابن الجوزي، وذكر له القضية فقال له: إذا انقضى مجلس وعظي فقم قدامي حتى تذكرني - وكان الخليفة يسمع وعظه من خلف الستر - كما تقدم فلما كان أول مجالسته الوعظ بعد ذلك - وانقضى المجلس - قام ذلك الإنسان المصادر، فلما رآه الشيخ أبو الفرج أنشد معرضاً يكون البريء، لا يؤاخذ بذنب الجزىء، محرضاً للخليفة على العدل والإحسان، وأن يعاد المال المأخوذ على ذلك الإنسان.
قفي ثم اخبرينا يا سعاد
…
بذنب الطرف لم سلب الفؤاد؟
وأي قضتة حكمت إذا ماجنى زيدبه عمرو يقاد؟!
يعاد حديثكم فيزيد حسناً
…
وقد يستحسن الشيء المعاد
فقال الخليفة من وراء الستر: يعاد، يعني: المال، فأعيد على ذلك الشخص ماله وانجبر حاله. قلت: وكلام ابن الجوزي، وإن افتخر، فهو بالنسبة إلى كلام القطب عبد القادر محقر، ولو سلم من طعنه وإنكاره على المشايخ علماء الباطن لبقي مكتسباً يحلل الحاسن. وقد قدمت ذكر ذلك الإنكار وأنشدت في الفرق بين الكلام أبياتاً من الأشعار، ذكرت ذلك في تاريخ سنة خمس وتسعين وخمس مائة التي أخرج فيها من السجن، وفي سنة إحدى وستين التي فيها ترجمة الشيخ عبد القادر رضي الله تعالى عنه. وكانت ولادة ابن الجوزي سنة ثمان، وقيل عشر وخمس مائة تقريباً، وتوفي ليلة الجمعة ثاني عشر شهر رمضان ببغداد بباب حرب. والجوزي بفتح الجيم وسكون الواو وفي آخره زاي وياء النسبة - إلى موضع يقال له فرضة
الجوز. قال ابن النجار: وكان أبوه يعمل الصفر، وكان ولده محيي الدين يوسف محتسب بغداد. وتولى تدريس المستنصرية لطائفة الحنابلة، وكان يتردد في الرسائل إلى الملوك، ثم صار أستاذ دار الخلافة. وكان سبطه شمس الدولة - أبو المظفر يوسف الواعظ المشهور - له صيت وسمعة في مجالس وعظه، وقبول عند الملوك وغيرهم. وصنف تاريخاً كبيراً. قال ابن خلكان: رأيته بخطه في أربعين مجلداً أسماه: مرآة الزمان في تاريخ الأعيان. وفي السنة المذكورة توفي أبو شجاع بن المقرون البغدادي، أحد أئمة الإقراء. كان صالحاً عابداً ورعاً مجاب الدعوة، من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وكان يتقوت من كسب يده. وفيها توفي العماد الكاتب الوزير الفاضل، أبو عبد الله محمد بن محمد الأصبهاني الفقيه الشافعي تفقه بالمدرسة النظامية وأتقن الخلاف وفنون والأدب، وسمع من الحديث، ولما حصل تعلق بالوزير يحيى بن هبيرة فولاه النظر بالبصرة ثم بواسط، ثم انتقل إلى دمشق، - وسلطانها يومئذ الملك العادل نور الدين محمود بن أتابك زنكي - فتعرف به، وعرفه السلطان صلاح الدين ووالده، ونوه بذكره القاضي كمال الدين السهروردي عند السلطان نور الدين وعدد عليه فضائله، وأهله لكتابة الإنشاء. قال العماد: فبقيت متحيراً في الدخول فيما ليس من شأني ولا وظيفتي. وقال غيره: لم يكن قد مارس هذه الصناعة، فجبن عنها في الابتداء، فلما باشرها هانت عليه وأجاد فيها، وأتى فيها بالغرائب. وكان ينشىء الرسائل باللغة العربية والعجمية أيضاً. وحصل بينه وبين صلاح الدين مودة أكيدة امتزاج تام، وعلت منزلته عند نور الدين، وصار صاحب سره وسيره رسولاً في أيام الخليفة المستنجد، فلما عاد فوض إليه التدريس في المدرسة المعروفة، ثم رتبه في إشراف الديوان، ثم لما تسلم صلاح الدين قلعة حمص حضر بين يديه وأنشده قصيدة، ثم لازمه وترقى عنده حتى صار في جملة الصدور المعدودين والأماثل الممجدين، يضاهي الوزراء ويجري في مضمارهم. وكان القاضي الفاضل في أكثر الأوقات ينقطع عن خدمة السلطان صلاح الدين بالقيام بالمصالح، والعماد ملازم للباب، وهو صاحب السر المكتوم. وصنف التصانيف النافعة، من ذلك: خريدة القصر وجريدة أهل العصر، جملة ذيلاً على زينة الدهر تأليف أبي المعالي سعد بن علي الوراق الخطيري، والخطيري جعله ذيلاً على دمية القصر وعصرة أهل العصر للباخرزي، والباخرزي جعل كتابه ذيلاً على يتيمة الثعالبي، والثعالبي
جعل كتابه ذيلاً على كتابه البارع لهارون المنجم. وذكر العماد المذكور الشعراء الذين كانوا بعد المائة الخامسة إلى سنة اثنتين وسبعين وبعدها، وجمع شعراء العراق والعجم والشام والجزيرة ومصر والعرب ولم يترك إلا النادر. كتابه المذكور عشر مجلدات، وصنف كتاب: البرق الشامي في سبع مجلدات، وهو مجموع تاريخ، ووسمه بالبرق لسرعة انقضاء تلك الأيام. وصنف كتاب الفتح القسي في الفتح القدسي في مجلدين يتضمن كيفية فتح البيت المقدس. وكتاب السيل على الذيل جملة ذيلاً على الذيل لابن السمعاني الذي ذيل به تاريخ بغداد للحافظ أبي بكر الخطيب. وكتاب نصرة الفترة وعصرة الفترة في اخبار الدولة السلجوقية. وله ديوان رسائل، وديوان شعر في أربع مجلدات. وكانت بينه وبين القاضي الفاضل مكاتبات ومحاورات لطائف. فمن ذلك ما يحكى عنه أنه لقيه يوماً وهو راكب على فرس فقال له: سر، فلا كبابك الفرس، فقال له الفاضل: دام علاء العماد. فأتى كل واحد منهما بألفاظ تقرأ على ترتيبها المذكور، وتقرأ مقلوباً، أعني من آخر حروفها مرتبة إلى
أولها، واللفظ والمعنى لا يتغيران. اجتمعا يوماً في موكب السلطان - وقد انتشر من الغبار لكثرة الفرسان ما سد الفضاء - فتعجبا من ذلك، وأنشد العماد في الحال: ها، واللفظ والمعنى لا يتغيران. اجتمعا يوماً في موكب السلطان - وقد انتشر من الغبار لكثرة الفرسان ما سد الفضاء - فتعجبا من ذلك، وأنشد العماد في الحال:
مما اثارته السنابك
…
والجو منه مظلم
لكن أثارته السنابك
…
يا دهر لي عبد الرحيم
فلست اخشى مس نابك.........................
فاتفق له الجناس في الأبيات الثلاثة مكتسياً حلة الحسن. قلت: وأما رسالته إلى القاضي الفاضل لما رجع من الحج - التي استحسنها ابن خلكان - فليست بحسنة من جهة لدين ولا من جهة البيان، فإنه بالغ فيها مبالغة محرجة لشعائر الله تعالى المنظمة إلى حد الامتهان، حيث قال: راكباً فرس البيان في ميدان بلاغة الإنسان الراكض، جواد اللسن الحاصل من نتائج جبلة الجنان وجرأة اللسان. طوبى للحجر والحجون من ذي الحجر والحجى منيل الجدى - ومنير الدجى، ولندى الكعبة من كعبة الندى، وللهدايا المشعرات من مشعر الهدى، وللقائم الكريم من مقام الكريم، ومن حاطم فقار الفقر للحطيم، ومتى هرم لمنى الحرم، وحاتم الكرم لمائح زمزم، ومتى ركب البحر البحر وسلك البر البر، ولقد عاد قيس إلى عكاظه، وعاد قيس لحفاظه، ويا عجباً للكعبة!! يقصدها كعبة الفضل والأفضال، والقبلة يستقبلها قبلة القبول والإقبال. قلت: وليس كما قال غيره في مدح بعض الأولياء، فإنهم من احباب الله تعالى الأصفياء.