الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المؤمن على تملكه، فملكوا. وذكر بعض المؤرخين أنه افتتح الأندلس وغيرها، وتهيأ له من ذلك ما لا يتهيأ لأبيه، وهادن ملك صقلية على جزية تحملها، وكان يملي أحاديث الجهاد بنفسه على الموحدين، فتجهز لغزو النصارى، واستنفر في سنة تسع وسبعين ودخل الأندلس، ثم تكلموا في الرحيل، فتسابق الجيش حتى بقي أبو يعقوب في قلة من الناس، فانتهزت الفرنج الفرصة، وخرجوا فحملوا على الناس فهزمزهم، وأحاطت الفرنج بالمخيم فقتل على بابه طائفة من أعيان الجند وخلصوا إلى أبي يعقوب، وطعن في بطنه، ومات بعد أيام يسيرة في رجب، وبايعوا ولده يعقوب.
سنة احدى وثمانين وخمس مائة
فيها نازل صلاح الدين الموصل، وكانت قد سارت إلى خدمته ابنة الملك نور الدين محمود زوجة عز الدين - صاحب البلد - وخضعت له، فردها خائبة وحصر الموصل، فبذل أهلها نفوسهم وقاتلوا أشد قتال، فندم وترحل عنهم لحصانتها، ثم نزل على ميافارقين، فأخذها بالأمان، ثم رد إلى الموصل وحاصرها أيضاً، ثم وقع الصلح على أن يخطبوا له وأن يكون صاحبها طوعه، وأن يكون لصلاح الدين شهرزور وحصونها، ثم رحل فمرض واشتد مرضه بحران حتى أرجفوا بموته، وسقط شعر لحيته ورأسه. وفيها هاجت الفتنة العظيمة بين التركمان وبين الأكراد في الجزيرة، وقتل من الفريقين خلق لا يحصون. وفيها توفي صدر الإسلام أبو الطاهر اسماعيل بن بكر المعروف بابن عوف الزهري الإسكندراني المالكي. تفقه على أبي بكر الطرطوسي، وسمع منه ومن أبي عبد الله الرازي. برع في المذهب وتخرج به الأصحاب، وقصده السلطان صلاح الدين وسمع منه الموطأ. وعاش ستاً وتسعين سنة. وفيها توفي البهلول محمد شمس الدين صاحب أذربيجان وعراق العجم، ويقال: كان له خمسة آلاف مملوك. وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير صاحب الكرامات الخارقة والأنفاس الصادقة والأحوال الفاخرة والأنوار القاهرة، والمقامات العالية والمناقب السامية، والمواهب الجزيلة والأوصاف الجميلة، والطور العالي، في الحقائق والمعراج الرفيع في المعارج، والترقي في
درجات السابقين والسبق إلى منازل المقربين: حيوة بن قيس الحراني - رضي الله تعالى عنه - كان من أجلاء المشايخ العارفين وأعيان الصفوة المحققين، أحد أركان هذا الشأن وعلم العلماء الأعيان، صاحب التصريف النافذ في الوجود، والقدم الراسخ وعظيم الفضل النابع من عين الوجود، وهو أحد الأربعة الذين قال فيهم الشيخ أبو الحسن القرشي: إن أربعة من المشايخ يتصرفون في قبورهم كتصرف الأحياء: الشيخ معروف الكرخي، والشيخ عبد القادر الجيلي، والشيخ عقيل المنبجي، والشيخ حيوة بن قيس الحراني - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - انتهت إليه رئاسة هذا الأمر علماً وحالاً وزهداً واجلالاً، تزكى في تربيته كثير من المريدين بالرياضات، وتخرج بصحبته غير واحد من أهل المقامات، وتلمذ له جماعة كثيرة من أصحاب الأحوال والكرامات، وأشار إليه المشايخ والعلماء وغيرهم بالتبجيل، وانتهى إليه عالم عظيم ونال العطاء الجزيل. ومن كلامه رضي الله عنه: قيمة القشور بلبابها وقيمة الرجال بألبابها، وعز العبيد بأربابها وفخر المحبة بأحبابها. ثم قال: آثار المحبة إذا بدت أماتت قوماً وأحيت أسراراً، ونفت أشراراً وأنارت أسراراً. ثم أنشد:
وإذا الرياحمع العشي تناوحتأسهرن حاسده وهجن غيورا
وأمتن ذا بوجود وجد دائم
…
وأقمن ذا، وكشفن عنه ستورا
ومنه المحبة تعلق القلب بين الهيبة والأنس، وهي سمة الطائفة وعنوان الطريقة، ووسيلة إلى رؤية المحبوب وهيمان إلى لقاء المطلوب. وكان رضي الله تعالى عنه يتمثل بهذه الأبيات:
مواجيد حق، أوجد الحق كلها
…
وإن عجزت عنها فهوم الأكابر
وما الحب إلا خطرة ثم نظرة
…
ينشي لهيباً بين تلك السرائر
إذا سكن السر السريرة ضوعفت
…
ثلاثة أحوال لأهل البصائر
فحال بعيد السر عن كنه وجده
…
ويحضره للشوق في حال حائر
حاول به رمت ذرى السر وانثنت
…
إلى منظراً فناه عن كل ناظر
قلت هكذا في الاصل ثلاثة أحوال، والمفسر منها حالان دون الثلاث. وله رضي الله تعالى عنه من الكرامات وعجائب الآيات ما يذهل العقول وذكر اليسير منه يطول. من ذلك ما حكى الشيخ الصالح غانم بن يعلى التكريتي قال: سافرت مرة من اليمن في البحر المالح، فلما توسطنا بحر الهند وغلب علينا الريح أخذتنا الأمواج من كل جانب، وانكسرت بنا السفينة، فنجوت على لوح منها، فألقاني إلى جزيرة، فطفت فيها،
فلم أر فيها أحداً، وإذا هي كثيرة الخيرات. رأيت فيها مسجداً فدخلته فإذا فيه أربعة نفر، فسلمت عليهم فردوا علي السلام، وسألوني عن قصتي فأخبرتهم، وجلست عندهم بقية يومي ذلك، فرأيت من توجههم وحسن إقبالهم على الله تعالى أمراً عظيماً. فلما كان وقت العشاء دخل الشيخ حيوة الحراني فقاموا يبادرون إلى السلام عليه، فتقدم وصلى بهم العشاء، ثم استرسلوا في الصلاة إلى طلوع الفجر، فسمعت الشيخ حيوة يناجي ويقول: إلهي؛ لا أجد لي في سواك مطمعاً، ولا إلى غيرك منتجعاً، قد أنخت ببابك ناظراً إلى حجابك، متى تكشف لي عن تفريج الكربة، والترقي إلى مجلس القرية، وقد أوثقت نفسي عن السرور بك فوسمتها بذكرك، ولي فيها كوامن أفراح ترتاح إليها صبابات أشواقي، ولي معك أحوال سيكشفها اللقاء يا حبيب التائبين، ويا سرور العارفين، ويا قرة عين العابدين، ويا أنس المنفردين، ويا حرز اللاجين ويا ظهر المنقطعين، ويا من حنت إليه قلوب الصديقين، ويا من أنست به أفئدة المحبين، وعليه عكفت همة الخاشعين. ثم بكى بكاء شديداً، ورأيت الأنوار قد حفت بهم وأضاء ذلك المكان كإضاءة القمر ليلة البدر، ثم خرج الشيخ حيوة من المسجد وهو يقول:
سير المحب إلى المحبوب إعجال
…
والقلب فيه من الأحوال بلبال
أطوي المهامة من قفر على قدم
…
إليك يدفعني سهل وأجبال
فقال ولي أولئك النفر: اتبع الشيخ، فتبعته، وكانت الأرض برها وبحرها وسهلها وجبلها يطوي تحت أقدامنا طياً. كنت أسمعه كلما خطا خطوة يقول: يا رب حيوة كن لحيوة، وإذا نحن بحران في أسرع وقت، فوافينا الناس يصلون بها صلاة الصبح. سكن حران واستوطنها إلى أن توفي بها رحمه الله تعالى. وفيها توفي الفقيه الفاضل محمد بن زكريا المدرس في الشويرا: بضم الشين المعجمة وفتح الواو وسكون المثناة من تحت وفتح الراء من بلاد اليمن. توفي وله ولد خلفه يفضل عليه في العلم، خلفه في التدريس اسمه ابراهيم، تفقه بأبيه المذكور، وكان يختم في رمضان في كل يوم وليلة. وفيها توفي المهذب بن الدهان عبد الله بن أسعد بن علي الموصلي الفقيه الشافعي الأديب الشاعر النحوي ذو الفنون. توفي بحمص وكان مدرسايها. وفيها توفي الحافظ عبد الحق بن عبد الرحمن الأزدي الإشبيلي المعروف بابن الخراط، أحد الاعلام، مؤلف الأحكام الكبرى، والصغرى، والجمع بين الصحيحين،
وكتاب الغريبين في اللغة، وكتاب الجمع بين الكتب الستة. نزل ببجاية، وولي خطابتها، وتوفي بها بعدما لحقه محنة من الدولة، وكان مع جلالته في العلم قانعاً متعففاً موصوفاً بالصلاح والورع ولزوم السنة. وفيها توفي الإمام الحافظ العلامة المشهور أبو زيد عبد الرحمن ابن الخطيب عبد الله ابن الخطيب أحمد الخثعمي السهيلي الأندلسي المالقي صاحب كتاب الروض الأنف في شرح سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكتاب التعريف والإعلام فيما أبهم في القرآن من الأسماء الأعلام، وكتاب نتائج الفكر ومسألة رؤية الله تعالى في المنام ورؤية النبي عليه الصلاة والسلام، ومسألة السر في أعور الدجال، ومسائل كثيرة مفيدة وقال ابن دحية: أنشدني وقال: إنه ما سأل الله تعالى بها حاجة إلا أعطاه إياها:
يا من يرى ما في الضمير ويسمع
…
أنت المعد لكل ما يتوقع
يا من يرجى للشدائد كلها
…
يا من إليه المشتكى والمفزع
يا من خزائن رزقهفي قول كنامنن فإن الخير عندك أجمع
ما لي سوى فقري إليك وسيلة
…
فبالافتقار إليك فقري أدفع
ما لي سوى قرعي لبابك حيلة
…
فلئن رددت فأي باب أقرع؟
من ذا الذي أدعو وأهتف باسمه
…
إن كان فضلك عن فقيرك يمنع؟
حاشا لمجودك أن تقنط عاصياً
…
الفضل أجزل والمواهب أوسع
قلت: قوله: فإن الخير عندك أجمع: يحتاج إلى تأويل في إعرابه، والإلزم أن يكون من الإقواء المعيب في الشعر، فإن أجمع تأكيد للخير وهو منصوب فيكون منصوباً وله أشعار كثيرة نافية، أخذ القراءة عن جماعة، وروى عن ابن العربي والكبار، وبرع في العربية والنحو واللغة وفي الأخبار والآثار. وكان ببلده يتصف بالعفاف، ويتبلغ بالكفاف، حتى نما خبره إلى صاحب مراكش، فطلبه إليها وأحسن إليه، وأقبل بوجه الإقبال عليه، وأقام بها نحو ثلاثة أعوام، وتوفي بها. والسهيلي نسبة إلى قرية بالقرب من مالقة سميت باسم الكوكب لأنه لا يرى في جميع بلاد الأندلس إلا من جبل مطل عليها. ومالقة: بفتح الميم واللام والقاف مدينة كبيرة بالأندلس. وغلط السمعاني في قوله أنها بكسر اللام.