الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النفس، ففيق مملكته على أصحابه، ولم يكن له من السلطنة غير الاسم، وكان حسن الأخلاق كثير المناح والانبساط مع الناس، فمن ذلك أن أتابك زنكي - صاحب الموصل - أرسل إليه القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله بن أبي القاسم الشهرزوري في رسالته، فوصل إليه، وأقام معه في العسكر، فوقف يوماً على خيمة الوزير حتى قارب أذان المغرب، فعاد إلى خيمته، فأذن المغرب - وهو في الطريق - فيأى إنساناً فقيهاً في خيمة، فنزل إليه فصلى معه، ثم سآله كمال الدين: من أين أنت؟ فقال: أنا قاضي مدينة كذا، فقال له كمال الدين: القضاة ثلاثة، قاضيان في النار، وهما أنا وأنت، وقاض في الجنة - وهو من لا يعرف أبواب هؤلاء الظلمة ولا يراهم - فلما كان من الغد أرسل السلطان، وأحضر كمال الدين إليه، فلما دخل كمال الدين عليه ورآه ضحك وقال: القضاة ثلاثة. فقال كمال الدين: نعم يا مولانا؛ فقال: والله صدقت؛ ما أسعد من لا يرانا ولا نراه.
سنة ثمان واربعين وخمس مائة
فيها خرجت الغز على أهل خراسان، وهم تركمان ما وراء اللهر، فالتقاهم سنجر، فاستباحوا عسكره قتلاً واسراً، ثم هجموا نيسابور، فقتلوا فيها قتلاً ذريعاً، ثم أخذوا بلخ، وأسر السلطان سنجر، فبقي في أيديهم -، وكانوا نحو مائة ألف - فلما ملكت الخطا ما وراء اللهر طردوا عنها هؤلاء الغز فنزلوا بنواحي بلخ، ثم ساروا وعملوا بخراسان ما لا يعمله الكفار من القتل والأسر والخراب والمصادرة والعذاب، ثم تجمع عسكر خراسان، فواقعوا الغز وقعات، كان الظفي في أكثرها للغز. وفي السنة المذكورة أخذت الفرنج عسقلان بعد عدة حصارات، وكان المصريون يمدونها بالرجال والذخائر، فاختلف عسكرها، وقتل منهم جماعة، فاغتنم الفرنج غفلتهم، فيكبوا الأسوار ودخلوها. وفيها توفي الزاهد ألفابد أبو العباس أحمد بن أبي غالب البغدادي الوراق. زاره السلطان مسعود في مسجده، فتشاغل عنه بالصلاة، وما زاده على أن قال: يا مسعود؛ اعدل وادع لي الله، أكبر وأحرم بالصلاة، فبكى السلطان، وأبطل المكوس والضرائب وتاب. وفيها توفي أبو الحسين إلىفاء أحمد بن منير الأطرابلسي ألفاعر المشهور. وكان رافضياً هجاء فائق النظم، وله ديوان.
وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن نصر المخزومي ألفالدي، المعروف بابن القيسراني ألفاعر المشهور ومن الشعراء المجيدين والأدباء المتفننين - وكان بينه وبين ابن منير المذكور معارضة كجرير والفيزدق في زمانهما، وبينهما مهاجاة ومكاتبات وأجوبة، وكانا مقيمين بحلب، ومتنافسين في صناعتهما كما جرت عادة التظراء، ومن شعر ابن المنير المذكور:
وإذا الكريم رأى الخمول نزيلهفي منزل فالحزم أن يترحلا
فالبدر لما أن تضاءل جد في
…
طلب الكمال فحازه متنقل
سفهاً لحلمك إن رضيت بمشربرنق ورزق الله قد ملأ الملا
ساهمت عيسك مر عيشك قاعداً
…
افلا فليت بهن ناصية الفل
فارق ترق كالسيف سل فبان في
…
متنيه ما أخفى القراب وأخمل
لا تحسبن ذهاب نفسك ميتة
…
ما الموت إلا أن تعيش مذلل
لا ترض من دنياك ما أرضاك مندنس وكن طيفاًجلى ثم انجل
وصل آلهجير بهجر قوم كلما
…
أمطرتهم شهداً جنوا لك حنظلا
لله علمي بالزمان وأهله
…
ذنب الفضيلة عندهم أن تكمل
طبعوا على لؤم الطباع فخيرهم
…
إن قلت قال وإن سكت تأولا
أنا من إذا ما الدهر هم بخفضه
…
سامته همته السماك الأعزلا
والطرابلسي نسبة إلى طرابلس، وهي مدينة بساحل الشام قريبه من بعلبك، وقد تزاد آلهمنة في أولها، فيقال: أطرابلس، وقوله:
سفهاً بحلمك إن رضيت بمشرب
…
رنق، ورزق الله قد ملأ المل
إلىنق: بإلىاء والنون وألفاف: قال في الصحاح: وإلىنق بالتحريك: مصدر قولك: رنق الماء بالكسر إذا تكدر، وعيش رنق: أي كدر، والله أعلم - ومن شعر ابن القيسراني:
والله لو أنصف العشاق أنفسهم
…
فدوك فيها بما عزوا وما صانوا
ما أنت حين تغشى في مجالسهم
…
إلا نسيم الصبا والقوم أغصان
وله هذا البيت من قصيدة وكان كثير الإعجاب به:
وأهوى الذي أهوى له البدر ساجداً
…
ألست تري في وجهه أثر الترب
ومن معانيه البديعة قوله من جملة قصيدة رائقة:
هذا الذي سلب العشاق نومهم
…
أما ترى عينه ملأى من الوسن؟
ألفالدي نسبة إلى خالد بن الوليد المخزومي. قال ابن خلكان هذا بزعم أهل بيته، وأكثر المؤرخين وعلماء الأنساب يقولون إن خألفا - رضي الله تعالى عنه - لم يتصل نسبه، بل انقطع منذ زمان - والله أعلم -. وفيها توفي أبو الفتح عبد الملك بن عبد الله الكروخي آلهرو، المشهور بالخير والصلاح، رحمه الله. وفيها توفي الزاهد الواعظ أبو الحسن علي بن الحسن، درس بالصادرية وقام عليه الحنابلة لأنه تكلم فيهم، وكان معظماً مفخماً في الدولة معرضاً عن الدنيا. وفيها توفي الملك العادل علي بن السلار الكردي ثم المصري وزير الظافي العبيدي صاحب مصر. وكان سنياً شافعياً، شجاعاً مقداماً، شهماً مائلاً إلى أرباب الفضل والصلاح، عمر بالقاهرة مساجد، وكان مع هذه الأوصاف ذا سيرة جائرة وسطوة قاهرة. يحكى أنه دخل يوماً على الموفق أبي الكرم بن المعصوم، فشكا إليه حآله من غرامة لزمته بسبب الولاية، فلما أطال عليه الكلام قال له: والله إن كلامك لا يدخل في أذني، فحقد عليه لذلك، فلما ترقى إلى درجة الوزارة طلبه، فخاف منه واستتر مدة، فنادى عليه في البلد وأهدر دم من يخفيه، فأخرجه الذي خبأه، فخرج في زي امرأة بإزار، وخف فعرف وأخمد، وحمل إلى الملقب بالعادل، فأمر بإحضار لوح خشب ومسمار طويل، وأمر به فألقي على جنبه، وطرح اللوح تحت أذنه، ثم ضرب المسمار في أذنه الآخرى وصار كلما صرخ يقول له: دخل كلامي في أذنك أم لا؟ ولم يزل كذلك حتى نفذ المسمار من الأذن التي على اللوح، ثم عطف المسمار على اللوح، ويقال إنه شنقه بعد ذلك، ثم آل الأمر إلى أن جهز عسكراً إلى جهة الشام، وجعل عليه عباس بن أبي الفتوح مقدماً، فكره المقدم المذكور فياق الديار المصرية وما هو عليه فيها من إلىاحة، وما يقاسيه في لماء العدو فيزق على العادل من قتله على فياشه في واقعة يطول ذكرها نسأل الله ألفافية من شر الدنيا وغوائلها. وفيها توفي أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني المتكلم على مذهب الأشعري، كان إماماً مبرزاً فقيهاً متكلماً، تفقه على أبي نصر القشيري وأحمد الخوافي وغيرهما، وبرع في الفقه، وقرأ الكلام على أبي القاسم الأنصاري، وتفيد فيه.
وصنف كتباً، منها نهاية الإقدام في علم الكلام: وكتاب الملل والنحل وتلخيص الأقسام لمذاهب الأنام في الكلام وكان كثير المحفوظ، حسن المحاورة، يعظ الناس. دخل بغداد وأقام بها ثلاث سنين، فظهر له قبول كثير عند العوام، وسمع الحديث من علي ابن المديني وغيره، وكتب عنه الحافظ أبو سعد عبد الكريم بن محمد السمعاني وذكره في كتاب الذيل. وشهرستان: بفتح السين المعجمة وإلىاء وسكون آلهاء بينهما والسين المهملة بعد إلىاء وقبل الألف المثناة من فوق وبعدها نون: وهو اسم لثلاث مدن: الأولى في خراسان بين نيسابور وخوارزم، وهي المشهورة، ومنها أبو الفتح المذكور، والثانية قصبة بناحية نيسابور من أرض فارس. والثالثة مدينة جي بأصبهان، بينها وبين مدينة أصبهان نحو ميل، وبها قبر الإمام إلىاشد بن المسترشد. وكان الشهرستاني المذكور يروي بالإسناد المتصل إلى النظام البلخي العالم المشهور ابراهيم بن بشار أنه كان يقول: لو كان للفياق صورة لارتاع لها القلوب، ولهدأ الجبال، ولجمر الغضا أقل توهجاً من حمله، ولو عذب الله أهل النار بالفياق لاستراحوا إلى ما قبله من العذاب. وكان يروي للدريدي أيضاً باتصال الإسناد إليه ومن قوله:
ودعته حين لا تودعه
…
روحي ولكنها تسير معه
ثم افترقنا وفي القلوب لناضيق مكان وفي الدموع سعه
ويروي أيضاً مسنداً إليه:
يا راحلين بمهجة
…
في الحب متلفة شقيه
الحب فيه بلية
…
وبليتي فوق البلية
كل ذلك رواه ابن السمعاني في الذيل. وفيها توفي الإمام العلامة محيي الدين محمد بن يحيى النيسابوري شيخ الشافعية وصاحب الغزالي. انتهت إليه رئاسة المذهب بخراسان، وقصده الفقهاء من البلاد، صنف التصانيف ودرس بنظامية بلده، واستفاد منه خلق كثير، وبرع علماً وزهداً، وصنف كتاب: المحيط في شرح الوسيط والإنصاف في مسائل الخلاف، وغير ذلك من الكتب. ذكره الحافظ عبد ألفافي ألفارسي في تاريخ نيسابور، وأثنى عليه وقال: كان له حظ في التذكير واستمداد في سائر العلوم، وكان يدرس بنظامية نيسابور، ثم درس بمدينه هراة في المدرسة النظامية، ومن جملة مسموعاته ما سمعت من الشيخ أحمد بن علي المعروف بابن عبدوس بقراءة الإمام أبي نصر عبد إلىحمن ابن الأستاذ أبي القاسم عبد الكريم القشيري في سنة ست وتسعين وأربع مائة: وحضر بعض فضلاء عصره، وسمع فوائده وحسن ألفاظه